أوقف سيف سيارته الفارهة أمام منزل مها القديم فى تناقض متباين, وقد استرعى انتباهها أنه قد تذكر العنوان منذ المرة الماضية ولم يستفسر منها عن الاتجاه على الرغم من أن الطريق يمتلئ بكثير من المنحنيات يمينا ويسارا ,قاد الرجل ببراعة منقطعة النظير أظهرت خبرة واضحة فى قيادة السيارات فى طرقات وعرة ,لم تكن مها بحاجة الى مساعدة لتدرك أنها قد قطعت شوطا لا بأس به نحو تقدم علاقتها بهذا الرجل الثرىّ الذى ينتمى للعائلة التى تكن لها أشد مشاعر الحقد والكره قسوة .
-ألن تنزلى من السيارة ؟ لقد وصلنا .
وأشار لبيتها الذى يربض منتظرا لدخولها ,فشعرت بخيوط المصيدة تضيق شيئا فشيئا لتحكم الحصار حول جسدها الخائف ,ممِ تخشى ؟ من ردة فعله الغير متوقعة اذا ما أدرك نواياها السيئة ؟ أم أنها تخشى من افلات السيطرة على قلبها ,فهى ليست محصنّة ضد سحره الرجولىّ الطاغى ,قررت بعد تردد دام لحظات أن تهبط من السيارة شاقة طريقها بصعوبة نحو مدخل المنزل ,ولم تلتفت الى مقعد السائق الذى كان شاغرا من وجوده فى ثانية واحدة.
تبعها ببطء وهى ترتقى درجات السلم ,كانت تجد مشقة بالغة فى التقدم وكعب حذائها مكسور فاضطرت الى خلع فردة الحذاء الأخرى والا كان مصيرها السقوط لا محالة ليدق عنقها الجميل ,شعرت بانزعاج مما هى مقدمة عليه فكيف تسمح لنفسها بالتمادى فى لعبتها التى سوف تحطمها وحين تنتهى منها لن يصبح لحياتها أدنى قيمة ,أخذت تفتش حقيبتها مطولا بحثا عن المفتاح وأخذت تلعن وقد تناثرت بضعة أغراض وافترشت الأرض التى بهت ملاطها من كثرة جريان المياه فوقها ,تدّخل سيف باللجظة الحاسمة وهو يلتقط المفتاح من بين أصابعها المرتعشة قائلا بثقة :
-اسمحى لى.
وأولجه بالقفل ثم أداره بحنكة فأصدر تكتين وانفتح الباب مصدرا صريرا قويا أجفلها ,أفسح لها مجالا حتى تتقدمه وكأنه بيته هو الخاص لا بيتها مشيرا لها :
-تفضلى.
كانت تجر قدميها جرا نحو مفتاح النور حتى تضيئه ليتغلّب على العتمة المغلّفة للمكان ,فانتشر الضوء ساطعا ليكشف عن صالة ضيقة تعج ببضعة قطع من الأثاث البالى ,أريكة تتسع لفردين ,وأربعة مقاعد يشكلون نصف دائرة .
أجال سيف بصره فى أنحاء القاعة بنظرة حادة ثاقبة ولم يغفل ملاحظة القماش البالى الذى اهترأ كاشفا عن الجزء الداخلى من الأثاث.
-لقد حاولت تحذيرك بأن المكان لن يعجبك من قبل , آسفة ان كنت قد خيّبت آمالك.
نبرتها الهازئة وهى تحاول مواربة مشاعرها الحقيقية التى أخفتها بمهارة ,فالخجل يجتاحها من مجرد التفكير فى أنها تسكن بهذا المكان القذر بينما هو وعائلته ينعمون بالعز والجاه ,أيقظت بداخله الوحش النائم ,فانقضّ عليها قابضا على رسغيها بيد واحدة بينما يده الأخرى حرة لترتفع الى عنقها الأبيض الرخامىّ ,وهو يهددها بنعومة:
-لسانك السليط هذا سيورطك بمشكلات لا قبل لك بها ذات يوم .
شلّ الرعب حركتها وحاولت أن تصرخ مستنجدة الا أن صوتها قد انحشر بحلقها وهى تجاهد لتخلّص نفسها من قبضته الفولاذية .
شدد من احكامه حولها فشعرت بالحائط البارد ملامسا لظهرها يتغلغل الى جلدها من خلال قماش ثوبها الرقيق ,فيما واصل سيف تهديده:
-أنت مجرد فتاة مغفلة حقا ,هل اعتقدت أنك استطعت خداعى بمثل هذه البساطة ؟ كل تصرفاتك كانت واضحة تشى بغباء لا حدود له ... والآن أجيبينى صراحة ما الذى تسعين نحوه ؟
هزت رأسها بخوف مغمغمة:
-لا أفهمك .
داعبت ابتسامة صغيرة ركن شفته وقد تراقصت الغمازة بالقرب منها وهو يقهقه بلا مرح:
-ما زلت تلعبين دور البريئة , أليس كذلك يا آنسة مها كمال الراوى ؟
لم تفهم تلميحه واشارته الى اسمها الكامل ,وكان جسدها قد بدأ ينتفض بقوة تحت ضغط جسده فوقها فتلامسهما أثار بها اضطرابا واضحا كادت تشعر بالاغماء وهى ترجوه بمذلة:
-أرجوك يا سيف , دعنى فأنا أشعر ... بدوار رهيب.
سخر من محاولتها اليائسة للهروب:
-لا مجال لأن أتركك الآن ,أنت تريدين الفرار منى.
هزت رأسها بحركة عنيفة جعلت خصلات شعرها الذهبية تتمايل لتلامس بشرته الخشنة حيث ذقنه النامية لم تحلق ,وهى تجاهد لتتنفس بصورة طبيعية ,بدأ الدوار يتملّكها شيئا فشيئا حتى كادت تهوى أرضا لولا أن تلقفّتها الذراعين القويتين اللتين حملتاها بسهولة فهى خفيفة الوزن لدرجة مذهلة , كما أخذ يحدث نفسه وهو حائر الى أين يتوجه ,لا يعرف أين تقع الغرف فى هذا المنزل الصغير ,سار وراء حدسه نحو الممر القصير الذى وجده يمينا ودفع أول باب صادفه بركلة من قدمه ليجدها غرفة نوم كما كان يأمل ,فأزاح عن كاهله الحمل وأراحها على الفراش الكائن بوسط الغرفة ,أخذ يفتش حوله عن عطر يمكنه أن يرشه على أنفها حتى تستفيق ,فوجد ضالته المنشودة قابعا على منضدة الزينة ذات المرآة المكسورة من جانبها فاختطف الزجاجة وضغط عليها عدة مرات حتى تأكد من اختوائها على سائل ذى رائحة نفّاذة ,تنبهت حواسه الى هذا العطر ,انه خاص بها ,يميّز وجودها ويدير رأسه كلما مرت بالقرب منه تسير بدلال ,فأبعد ذهنه عن مسار التخيلات الذهنية التى باتت تشكّل خطرا على سلامة عقله ,وقلبه ,ورشّ عدة مرات على منديله ثم قرّبه نحو أنفها الدقيق ,ليترك لها مجالا للاستنشاق ,بينما يربّت بيديه بحركات عنيفة على خديها ,كانت دقات قلبه تتسارع كأنها فى سباق عالمى ,ناداها باسمها ملتاعا عدة مرات:
-مها , مها , أرجوكِ أفيقى ,مهااااااا...
لمح جفونها تتحرك ثم بدأت ترفرف برموشها عدة مرات قبل أن تعود الى وعيها كاملا وهى تتمتم بضعف:
-آآآه .. آآآه ..
صاح هاتفا يحمد الله وهو يباشرها حتى رأت الاهتمام والقلق باديين بوضوح على محياه فقلما تخطئ هذه اللهفة الحارقة وهو يعترف بصدق:
-لقد أرعبتنى حقا ,مضت لحظات رهيبة اعتقدت أنك لن تفتحى عينيك مجددا ,رحماك يا ربى !
نظرت له بوميض من الفرح ,فهى وان كانت بموقف لا تحسد عليه الا أنها المرة الأولى منذ وقت طويل التى تشعر فيها بأن هناك من يهتم لأمرها ويعتنى بها ,انها بحاجة اليه ,لم يعد هناك مدعاة للشك ,هل يمكن أن يتجلّى خلاصها على يد معذبها ,همست باسمه:
-سيف ...
اقترب منها أكثر وهو يجيبها بحرارة:
-نعم ...
-لا تتركنى وحدى ,هل يمكنك أن تبقى قليلا ؟
وكأنه يستطيع الابتعاد عنها خاصة وهى فى حالتها تلك ,البلهاء الجميلة لا تملك ذرة واحدة من العقل فى رأسها الصغير ,أنها بحاجة ماسة الى رعايته ,تهيب به أن يرعاها ويحنو عليها ,وهو سيكون ملعونا اذا ما أنكر وجود هذا الرابط الخفىّ بينهما ,الذى يتسلل رويدا حتى يقبض على روحه ,هل يعيد الزمن نفسه ؟ ألم تلقنه الحياة درسا قاسيا دفع ثمنه غاليا ؟
ربّت بيده على كتفها مهدئا بلمسات حانية آسرة فيما بدأ يستجوبها بخشونة تسللت الى صوته رغما عنه وقد انحسر ثوبها القصير عن ركبتيها فعمد الى النظر بعيدا:
-ما سبب هذه الاغماءة ؟ هل كنت تشعرين بالخوف منّى ؟ ألهذه الدرجة تهيّأ لكِ أننى وحش مفترس ؟
هزّت رأسها نفيا ببطء بينما تحاول ستر جسدها المكشوف بغطاء خفيف على مقربة منها وهى تسارع لتوضيح الأمر له بصوت خفيض يفوح منه رائحة اليأس:
-أنا ... مصابة بفقر حاد فى الدم ,وعلى فترات متباعدة تصيبنى حالات اغماء ... كل ما فى الأمر أنه حين ينخفض مستوى الأكسجين بالمكان أشعر بأعراض الدوخة ... فقط.
لم تغب عن عينيه المتقدتين شررا حركتها وأجابها شاعرا بالاختناق لدى استعادته للمشهد السابق:
-ينخفض مستوى الأكسجين ! ليس الى هذه الدرجة من المبالغة فالبيت وان كان ضيقا فهو جيد التهوية .
كانت تفكر برويّة أنه لا يعى مقدار جاذبيته المغناطيسية فوجوده فى ذات المكان أشعرها بأن الهواء قد سُحب تماما ولم تعد قادرة على التقاط أنفاسها.
عاد الى حدته فى الحديث معها وهو يقول:
-ولماذا لا تتعالجين من فقر الدم ؟ وأرجوكِ لا تخبريننى قصصا عن غلاء أسعار الدواء والقصة القديمة المستهلكة منذ عشرات السنين ,فمرتبك يكفى لتغطية نفقات أسرة بأكملها ,خاصة بعد المكافأة التى نلتها قريبا بتوصية من رفيق.
تراقصت ابتسامة متلاعبة على شفتيها المكتنزتين ولم تستطع مقاومة رغبتها فى الاندفاع للرد عليه فانبرت تقول على الرغم من شعورها بالوهن:
-لا يا سيد سيف لا أشكو الآن من ضيق ذات اليد ,وأعرف جيدا أن المال متوفر لشراء الأدوية المطلوبة ,ولكن لتنظر حولك ... لمن أعيش ؟ ولمِ أكترث بالحياة ؟ أننى وحيدة كما ترى ... فلا أسرة لترعانى ولا زوج ليحبنى ..
وترقرقت الدموع فى عينيها تجاهد لكبحها والسيطرة عليها بعد أن فضحت مشاعرها الدفينة فى لحظة ضعف ,وهى التى تتقن تمثيل دور المرأة القوية المسيطرة التى لا تحتاج الى أحد ,وخاصة الرجال ...
ضرب كفا بكف وهو يقول منفعلا:
-استغفر الله العظيم , ألا يمكنكن أن تتعاملن بدون سلاحكن الفتّاك هذا , لماذا الدموع الآن ؟ وما هذا الهراء الذى تتفوّهين به ؟ اذا كنت وحيدة الآن فلا يمكن أن يطول بك الحال على نفس المنوال ,ذات يوم ستتزوجين وتؤسسين أسرتك الصغيرة , زوج محب وأبناء صغار يحيطون بك ,والسعادة تغمرك من كل جانب ,فما حاجتك لمقاومة العلاج ؟ انصتى الىّ ... هل زرت الطبيب من قبل ؟ أم ..
قاطعته سريعا مجيبة :
-نعم , منذ ما يقرب من ستة أشهر وقد وصف لى عقــارا لعلاج الأنيميا.
-عظيم ,وأين هى التذكرة ؟
-لماذا تسأل عنها ؟
أجابته بغباء يتنافى مع التفكير السليم فشخر ساخرا:
-لأننى أريد زيارة هذا الطبيب ليعالجنى أنا أيضا ,أف .. طبعا لأشترى لكِ الدواء المطلوب .. مها ... ألن تخبريننى ؟
أجابت مترددة وهى تتلفت حولها لتجد ضالتها المنشودة بلا جدوى:
-أنها بحقيبة يدى .
حاولت القيام لتبحث عنها فأدرك نيتها بلمحة البصر وأسرع يمنعها من مغادرة الفراش ,فأسندها بقوة حيث أعادها الى مكانها الدافئ فى الفراش وهو يعيد ترتيب الغطاء على جسدها.
-لا ترهقى نفسك ,سوف آتيك بها.
أغمضت عينيها استسلاما وهى تسمع وقع خطواته المبتعدة ,ثم عادت الخطوات الرجولية الواثقة ليستقر بجانبها مادا يديه بحقيبتها ففتحتها لتخرج من محفظتها ورقة بيضاء مطوية ,ناولته ايّاها بدون أن تغفل عن تأمله لوجهها بغموض وكأنه يفكر فى خطوته التالية .
-هل توجد صيدلية قريبة من هنا ؟
اومأت برأسها موضحة بصوتها الذى أصبح يتغلغل فى أعماقه مخترقا كافة الحواجز التى بناها على مر السنوات بعد انهائه لعلاقة الحب التى جمعته بليلى ,وهى تصف له المكان بدقة واختتمت قولها:
-وان كنت أظن أنه لا داعٍ لأن تتعب نفسك معى ,فاذا شعرت بتحسن لن ...
-هل تعرفين كيف تبقين فمك الجميل مغلقا ؟ أم أن أتصرف أنا بطريقتى ؟
رمقها بنظرات مقيّمة أشعرتها برغبة فى الفرار من حصاره حيث تهدلت خصلات شعره العسلية على جبهته العريضة فقاومت اندفاع طائش لتعيدها الى مكانها ,وحاولت الالتهاء عن مراقبته التى لم تدم فيبدو أنه هو أيضا كان يصارع رغباته الداخلية ليوجّه اهتمامه نحو حقيبتها فسألته باندهاش عما يريده ,فأجابها ببساطة:
-مفتاح الشقة اذا لم تمانعى ,فلا أريدك أن تنهضى من الفراش لأى سبب كان حتى آتيك بالدواء.
ومد يده اليها بسلطة مؤثرة ,ما نفع المقاومة مع مثل هذا الرجل القوىّ الشكيمة الذى اعتاد أن يأمر فيطاع ,ناولته سلسلة مفاتيحها التى لا تزيد عن ثلاثة مفاتيح معلّقة بها وأشارت الى الوحيد المختلف الشكل بينهم وهى تقول:
-هذه هو المفتاح.
-حسنا , لن أتأخر عليكِ.
وكافأها بابتسامة ساحرة هذه المرة فيما هى تتطلع الى ظهره الذى أولاه لها منصرفا ,وقد أظهر قميصه الناصع البياض المفصّل بدقة عليه عضلاته المقسّمة بتناسق وكان مثالا للرجل الرياضىّ الذى يحافظ على رشاقة جسده اضافة الى قامته الفارعة فأخذت تلوم نفسها على تسرعها فى التفكير به وهى تلتقط هاتفها المحمول لتجرى مكالمة مستعجلة قبل أن يعود سيف ,لديها مساحة لا بأس بها من الوقت فقد أرسلته الى أبعد صدلية تقع بالحى المجاور لهم ,وهو بدوره لم يشكّ بها على الاطلاق.
************