الفصل الثانى والعشرون
وجدته جالسا بركن قصىّ يتأمل المشهد الرائع لنهر النيل فى ذلك المطعم الشهير المطل على الكورنيش والذى يقع فى الطابق العلوىّ ,وما أن اقتربت من منضدته حتى التفت اليها ناهضا من مقعده ليستقبلها بترحاب ,وهو يمد كلتا يديه يحتضن كفيها بين راحتيه الدافئتين ثم يزيح لها مقعدا مقابلا له حتى تجلس عليه وعاد الى مجلسه بحركة رشيقة,
تطلّع الى عينيها الباسمتين وهو يبثها شوقه الواضح:
-اشتقت لكِ كثيرا.
أخفضت عينيها حياءا وهى تتصنّع الانشغال بهاتفها بينما وجد فى نفسه الجرأة ليسحبه من بين يديها ويضعه جانبا ليضيف بتأنى:
-لا أريد أن يشغلك عنّى أى شئ ,وأنت معى انسِ العالم بأكمله.
ناظرته متطلعة وهى تحاول سبر أغوار عينيه الغامضتين مرددة بتعجب:
-لم أتخيل ابدا هذا ,أكاد لا أصدق ما يحدث لى.
شعر بصدق اعترافها العفوىّ فطعنته براءتها بالصميم وهو يؤكد لها:
-أنا أيضا أكاد لا أصدق حظى السعيد .. فقد تحقق حلمى الغالى أخيرا ,وها أنا أراكِ أمامى ولا أعرف ما الذى قمت به فى حياتى حتى أنال اهتمام انسانة رائعة مثلك ؟
احمرّت وجنتاها خجلا من اطرائه المنمّق فأجابته محدقة بوجهه:
-ليس الى هذه الدرجة , أنت تبالغ كثيرا ,أنا مجرد فتاة عادية جدا ,أحيا مثل الكثيرات على هامش الحياة بلا فائدة حقيقية ,ربما أنتمى لعائلة عريقة ومعروفة ... بيد أننى لا أمثّلها على الاطلاق.
استند بمرفقه الى الطاولة وهو يشعل سيجارا ليدخنّها مدققا النظر الى الفتاة الهادئة أمامه وهى تعترف ببساطة أنها مجرد نكرة فأجابها بحدة :
-لا أعتقد أنك تعرفين قيمتك الحقيقية , ولا ما كنتِ تفوّهتى بهذه الحماقات.
انتفضت خوفا من نبرته الحادة الغير متوقعة فقالت متوترة:
-ما الذى يضايقك فى اعترافى ,أنها الحقيقة مجرّدة من أى تزويق ,لقد تخرجت من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ أربعة أعوام بتقدير جيد جدا وحتى الآن لا أعمل شيئا سوى متابعة بعض المسلسلات التافهة التى تعرض على شاشة التلفاز ,وربما أتسلّى قليلا بقراءة الروايات الرومانسية حتى أغرق نفسى فى عالم وهمىّ لا وجود للشر بداخله ,فقط مجرد خيالات لا نسمح بها على أرض الواقع .
لم يرق له تقليلها من شأن نفسها ,الا أنه أدار الحديث جانبا بعيدا فسألها:
-هل تقرأين لاحسان عبد القدوس ؟
زوت ما بين حاجبيها وهى تتساءل عن كيفية تحويله لمسار الحوار بهذه القدرة الفائقة وهى تجيبه:
-نعم ,انه أحد الكتّاب المفضّلين لدىّ.
-قرأت معظم رواياته.
-ليس معقولا ,فغالبية متابعيه من النساء والفتيات.
أشار بيده نافيا وعيناه تلمعان بغموض:
-هذا تقدير خاطئ لقدر الرجل ,لقد اشتهر عنه أنه أفضل من جسّد مشاعر المرأة فى قصصه ولا يعنى هذا أن قرّاءه من الجنس اللطيف فقط
-كلما تعمّقت معرفتى بك أجدنى أكتشف عنك اشياء جديدة لا أتوقعها منك.
-مثل ماذا ؟
-لقد فاجأتنى بأنك تدّخن.
وأشارت الى السيجارة بين شفتيه يمتص تبغها المحترق مثيرا ضبابة كثيفة من الدخان حوله زادت من الغموض الذى يلّف شخصيته ,فقام بسحقها على الفور فى المنفضة بعد أن سحب آخر نفس بها فى حركة أثارت قلقها على الرغم من بساطتها فها هو قد تخلّص منها بعد أن أنهى متعته.
تقلّص فمه المتصلّب وهو يقول:
-فى الحياة مفاجآت كثيرة ,عليكِ أن تعتادى على تقبّلها بصدر رحب حتى لا تتألمى.
ممِ كان يحاول تحذيرها ,أو ربما ينذرها من تعلّقها به ,فغيّرت مجرى الحديث حينما سألته:
-لقد أخبرتنى أنك تعمل بمكتب للتسويق الـعقـارى , أليس كذلك ؟
هز رأسه موافقة فى انتظارها لتكمل حديثها:
-هل يمكنك أن تسدى لى خدمة ؟
اتسعت ابتسامته وقد اثارت فضوله بشدة:
-أنا تحت أمرك فى أى طلب.
-هل لديك معارف بوزارة الاسكان ... أعنى هل لكم اتصالات بهم ؟
فكّر قليلا قبل أن يجيبها متمهلا:
-هذا يتوقف على نوع الخدمة ,ونوع المعرفة .
-أريد وساطة للحصول على شقة باسكان محدودى الدخل.
-هل تنوين الانتقال اليها ؟ ولكننى أحذرك فأنت لا يمكن اعتبارك من محدودى الدخل أبدا.
همّت بالرد عليه بحدة حينما أدركت من لهجته ونظرة عينيه أنه يمزح معها فتألقت ابتسامتها من جديد وهى تضحك بفرح غامر:
-لا ليس لى , أنا أسكن مع عائلتى ولا أعتقد أنهم ينوون طردى قريبا , انها لسعد وسماح.
قاطعهما وصول النادل لاستلام طلباتهما فصرفه جاسر متعجلا بعد أن سأل ريم عما تفضله ,وطلب لنفسه مثلها ثم تابع استفساره:
-سعد وسماح !!
أومأت برأسها ايجابا وهى تستفيض فى الشرح:
-سماح .. الفتاة التى تقوم بشؤون المنزل ,وسعد ... انه شاب مكافح يساعد أحيانا الطبّاخ فى بعض الأعمال ... انهما يحبّان بعضهما وينويان الارتباط عن قريب ,ولكنهما ... أعنى ظروفهما المادية كما خمنّت أكيد لا تسمح لهما بامتلاك شقة فى أى مكان ولو كان شعبيّا ,كما أنهما لا يقويان على أسعار الايجارات المرتفعة ,ففكرت أنه يمكنك أن تساعدهما اذا كان هذا ممكنا طبعا ولا يضايقك.
كان يتطلّع نحوها منبهرا ولم يخفِ اعجابه بمحاولتها مد يد العون لأشخاص قد يمر الجميع أمامهم ولا يلفتوا النظر اليهم ,واسترعى انتباهه أنها لم تشر الى سماح على أنها خادمة فهتف مشدوها بها:
-لا يضايقنى بالتأكيد , هذا أمر بسيط للغاية ولا يحتاج أصلا الى وساطة فاذا كانت ظروفهما كما تقولين فالأمر سوف يتم بالطرق الشرعية .. ولن يحتاج الى تدّخل من جانبنا.
-أعرف ولكنهما ... متعجلان .. احممم ... أنت تعرف هما شابين صغيرين و...
أعفاها من حرجها وهو يكمل عبارتها:
-وهما غارقان فى العشق فلا داعى للانتظار لاتمام الزواج ,أنت محقة يا ريم.
قارنت بين ردة فعله وردة فعل كريم حينما طالبته بالمساعدة فظهر الفارق شاسعا , لشتى ما تظلم المظاهر أصحابها ,كان يمكن لكريم بمنتهى البساطة وبدون أدنى مجهود أن يساعدهما ولكنه تكبّر حين علم بأن صاحب المصلحة هو مجرد مساعد للطبّاخ ... سعد المسكين ... يا لها من نظرة دونيّة للبشر ,فهم بالنهاية أرواح تستحق الحياة ... الفقراء كالأغنياء ... يمتلكون ذات الحقوق.
-كل ما أحتاج اليه من أوراق سوف أبلّغك بها فى الوقت المناسب حتى يتقدم بالطلب ,وأعتقد أنه مستوفي لجميع الشروط المطلوبة ما دامت ظروفه المادية كما تقولين.
-نعم هو شاب لطيف ومكافح ولا يشكو أبدا من ضيق حاله ولا يتذمر من كثرة الأشغال ,كما أن سماح فتاة رقيقة للغاية ولها قلب صافٍ ,شخصية وديعة ستحبها حتما اذا تعرّفت عليها , أننى أعتبرها صديقة لى.
هزّ رأسه بعدم تصديق من الأريحية التى تتحدث بها عن مجرد خادمة تعمل لديهم واصفة ايّاها بالصديقة فتغيّرت تعابير وجهه كليا وهو يخبرها هامسا:
-يكفينى أن أحب صديقتها ,فهى لا تقل طيبة عنها بل أنها تمتلك قلبا من ذهب ,لقد أذهلتنى بجد.
أخذت تحاول الهرب بعينيها بعيدا عن تطلعات عينيه التى سيطرت على مشاعرها بعد اعترافه الصريح وغمغمت:
-أعتقد أننى قد تأخرت ,لا بد أن أرحل ...
ونهضت تلملم أغراضها فتلمست الطريق نحو هاتفها ,فلم يحاول جاسر استبقاءها ككل مرة بل أشار الى النادل حتى يأتى بالفاتورة ,ولم يلحّ عليها حتى يقلّها هذه المرة بل تركها تغادر حرة.
***************