الفصل الرابع
استفاقت لبنى من نومها غير راغبة بالنهوض من سريرها الدافئ الذى يضم جسدها الفتى , رافضة السماح لأشعة الشمس المتسللة برفق عبر ستائر النافذة الزجاجية أن تزعجها لتستقبل يوما جديدا يخبئ لها المجهول.
عليها أن تتماسك وتحتفظ برباطة جأشها فاليوم ستواجه الوحش ذو الوجه الصخرى الذى لا يبتسم بسهولة وبالرغم من ذلك يظل وسيما جذابا بصورة غير عادية , فله حضورا مميزا يطغى على ما حوله وكأن هالة من السيطرة تشع من عينيه الرماديتين واللتين تشبهان الفضة السائلة .
نفضت صورته التى تطاردها بانزعاج والحاح جعلها تلوم نفسها على الاسراف فى التفكير به .
كان هناك ما يشغلها أكثر , فعليها مواجهة خالتها بعد ليلة أمس العاصفة وأحداثها الكئيبة التى أثّرت على نومها فجعلته متقطعا تتخلله الأحلام المزعجة , واستعادت ذكرى الحلم الذى طارد خيالها ... وعادت لذات العينين اللتين تعذبانها باستمرار, لم تقابله سوى بالأمس ولم يتبادلا سوى الاتهامات , والتفتت الى المنبه بجوارها لتجد عقارب الساعة تشير الى السابعة والنصف , أمامها فقط نصف الساعة لتغتسل وترتدى ثيابها وترتب أغراضها بحقيبة السفر الوحيدة التى تملكها , لقد أخبرها البارحة لا بل أمرها بطريقة غير مباشرة بألا تتأخر عن موعدهما فى الثامنة صباحا.
على كل حال لن تستغرق وقتا طويلا فلا حاجة بها لتناول الافطار مع خالتها , ولن تزعج السيدة نفسها بتحضير الطعام لها بعد مشادتهما , لو فعلت لوفرت عليها عناء الوداع المزعج .
انسلت من غرفتها بخفة القطة متوجهة نحو الحمام .
وعادت منه الى غرفتها فأغلقت الباب برفق وظلت ممسكة بمقبضه حتى لا يحدث صوتا عاليا وهى تكتم أنفاسها.
لا تود ازعاجها بعد الآن , ما أقسى الحياة لقد صارت هى وخالتها غريبتين بعد عشرة أعوام طويلة سويا.
أخذت من أغراضها الأشياء الضرورية فقط فلم تكف حقيبة واحدة لكل متعلقاتها الشخصية .
وفتحت باب غرفتها الذى أحدث صريرا منخفضا وكأنه يعترض عليها وعلى تصرفها الغير اللائق.
-هل سترحلين بدون أن تودعينى؟
لهجة السيدة الرقيقة المعاتبة بهدوء لسعت لبنى بشدة وكأنها ضربتها بسوط من نار
-كلا , أنا فقط لم أشأ أن أسبب لك ازعاجا
-لن ألومك يا لؤلؤتى فلك كل الحق فى غضبك منى , وعليك أن تتذكرى أننى أحبك , وسأنتظرك حتى يهدأ غضبك الجامح.
شعرت الفتاة بالخجل من نفسها ومن تصرفها فتلعثمت بالرد
-أنا ... لا أعرف ماذا حل بى؟
ثم ألقت بنفسها بدون وعى بين أحضانها التى دائما كانت تحتويها عندما تضيق بها الحال وتخفف عنها أحزانها, وقامت خالتها بالمسح على شعرها الناعم الكثيف بأصابع تمرست على هذه الحركة التى تفضلها لبنى كثيرا وتخفف من آلامها.
-لؤلؤتى , علينا أن نتحدث قبل أن ترحلى وتبدأى فصلا جديدا فى حياتك.
وقد أخذت تخبرها بماضى والديها بعد تردد دام لبرهة وتحاول أن تزيل عنها الأوهام التى تعشش برأسها وتستوطن خيالها.
لم يجعلها ما سمعته مرتاحة البال أبدا , بل على العكس أثار لديها رغبة انتقامية عنيفة من هذه العائلة التى ظلمت أمها وحرمتها من الدفء الأسرى والرعاية التى كانت واجبا عليهم تجاهها.
-سأراك لاحقا يا ... خالتى
بالرغم من اعتراف هذه السيدة الذى حوّل مسار حياتها الا انها لا تستطيع أن تقسو عليها فمهما كان لقد تولت رعايتها بكفاءة وحب, وهى التى اختارت أن تترك هذا العش الصغير الدافئ الملئ بالسكينة والهدء لتدخل الى عش الدبابير , غير مبالية بلسعاتهم المؤلمة.
-سأنتظرك مهما طالت غيبتك عنى
واطمأنت الى أن حسام سيأتى لاصطحابها معه الى منزله بعد أن يفرغ من عمله, وستغلق الشقة الى أجل غير مسمى.
انتزعها من دفء الأحضان صوت بوق سيارة يدوى فى أنحاء الشارع الخالى فى مثل هذا الوقت ينم عن فروغ صبر صاحبه.
وأيقنت أنها تأخرت عن موعدها , وضحكت فى نفسها من هذه الكلمة ( الموعد ) , وهل يصح أن تطلق على مقابلتها لهذا المتكبر المغرور موعدا؟
كادت أن تتهور وتتلكأ فى نزولها حتى يمل ويذهب بعيدا ولكنها خشيت من اثارة غضبه فقد يتصرف بطريقة غير متوقعة ربما تؤدى لأذى أكبر لها من مرافقته الى حيث مقر عملها كما طلب منه والده.
كانت حقيبتها ثقيلة الوزن فقد حشرت بها كل ما يلزمها من ضروريات حتى أصبحت تنوء بحملها .
حملتها بيد واحدة وثبتت حقيبة كتفها بيدها الأخرى وهى تتوجه نحو مدخل البيت , ورأته واقفا بسيارته الحديثة وينتظرها بضيق , أدركت انزعاجه من طريقته فى تدخين سيجارته بعصبية على الرغم من أن عينيه كانتا تختفيان وراء نظارة شمسية سوداء فقد لاحظت أنه كان يراقبها وهى تعانى تحت وطأة ثقل حقيبتها ولم يحاول أن يلحق بها عارضا عليها المساعدة كأى رجل محترم حقيقى , بل بدا مستمتعا بمعاناتها واكتفى بأن فتح لها حقيبة سيارته الخلفية بجهاز التحكم عن بعد
-لقد تجاوزت الساعة الثامنة بعشرة دقائق , ألا توجد امرأة تلتزم بموعدها ؟ ما الذى أخّرك كل هذا؟
-ألا ترى أن الحقيبة ثقيلة جدا ولا أستطيع النزول مهرولة بها لألحق بموعد سعادتك!
-آه , هذا التأفف مرده الى أننى لم أعرض عليك حمل حقيبتك التى ملأتها بأغراض لا فائدة منها , كان يكفيك حقيبة أصغر من هذه عشرة مرات , ولكنت وفرت على نفسك وعلىّ كل هذا اللف والدوران.
فكرت لبنى .. كيف يفكر هذا الرجل ؟ ما هذا الالتواء العجيب فى منحنى أفكاره حولها؟ هل يظن أنها تعمدت ملء حقيبتها بالأشياء الغير ضرورية لتجعله يتحمل عبئها؟
-الحقيبة بها أغراضى التى لا أستغنى عنها, والبقية ما زالت بالشقة.
أخذ منها الحقيبة وحملها بيسر وسهولة حسدته عليهما , وألقاها باهمال فى حقيبة السيارة.
-أهى ممتلئة بملابسك القديمة التى لا قيمة لها ؟ أم بها دميتك المفضلة التى لا تنامين بدونها؟
كان يهزأ منها بدون رحمة , بينما أخذ مكانه خلف عجلة القيادة وانتظرها قليلا حتى تغلبت على صدمتها وركبت بجواره فانطلق مسرعا فى الشارع الواسع ليأخذ طريقه الى مقر عملها.
كانت تجهز ردا على تهكمه الغير مستساغ فقالت:
-بالطبع فملابسى لا تقارن بملابس السيد الغالية الثمن والتى تكلّف والدك ثروة طائلة بالاضافة الى أن ثمن سيارتك هذه تكفى لسد جوع نصف أبناء هذا الحى الفقراء.
اصابته فى مقتل لأنه التفت اليها ورمقها بنظرة غاضبة وقد احتقن وجهه من شدة انفعاله:
-استمعى الىّ أيتها الفتاة الحمقاء السخيفة .. اذا أردت السلامة مدة اقامتك لدينا فى البيت فلا بد وأن تتعلمى آداب الحديث وخاصة معى.
ثم ضغط بشدة على مكابح السيارة فأصدرت صريرا مخيفا وكادت هى أن تصطدم بالتابلوه أمامها الا أنها تمسكت بمقعدها بنجاح
-ولا تقومى باستفزازى مرة أخرى لأن ردة فعلى غير مأمونة ولن تعجبك نتائج أفعالك
وتباطأ فى حديثه بصورة متعمدة ليرى تأثير كلامه عليها :
-أولنقل أنك تنتظرى رد الفعل هذا وربما أنت متضايقة لأننى لم أتأثر مثل الاخرين بنظراتك البريئة المصطنعة التى تصوبينها نحوهم فيشعرون على الفور بالانجذاب نحوك
-كفى ! من فضلك احتفظ بتحذيراتك لفتياتك اللواتى يتساقطن تحت قدميك فأنا لست منهن , ولن أكون يوما ما.
-حسنا اذا كنا متفقين ويعرف كلا منا مشاعر الآخر نحوه فعلينا الآن المضى فى طريقنا.
وأكمل فى طريقه بعد أن استعاد سيطرته على نفسه بسرعة بالغة فى حين أنها لم تستطع منع نفسها من الارتجاف بعد أن ألقت كلماتها الغاضبة عليه.
وللمرة الثانية لم يسألها عن الطريق الى المكتب الذى تعمل به وبدا أنه يسلك الطريق الصحيح , هل يعرف هذا الرجل كل شئ !
وأثبت لها أنه ليس خصما هينا , ولن يتوانى عن فعل أى شئ اذا ما حاولت اثارة استفزازه مرة أخرى.
اذا انتهت مهمته اليوم فى هدوء وسلاسة لن تعود مجددا لرؤيته ولن يكون مضطرا لمصاحبتها , فلتتحمل لساعة أخرى وتنتهى هذه المواجهات الدامية بينهما .
-أعتقد أنه يمكنك الانتظار هنا قليلا بينما أنهى أوراقى فى المكتب.
قالتها لبنى وهو منشغل عنها يبحث عن مكان خال لركن سيارته أمام العمارة التى تضم المكتب الذى تعمل به.
كان الصبى الصغير الذى يقف فى هذه البقعة لينظم وقوف السيارات ويستقطع من سائقيها نقودا هى كل مصدره للرزق قد لمح رفيق وهو يتوجه للمكان الخالى بين سيارة السيد فهمى مدير المكتب وسيارة أخرى وأسرع نحوه ليحاول منعه من الوقوف , فأشفقت عليه مما ينتظره اذا حاول الصدام مع هذا الرجل الفولاذى.
أخذ ينقر على زجاج السيارة فتصاعد غضب رفيق حتى وصل الى الذروة وقفز خارجا من سيارته وهو يشير الى لبنى لتتبعه وتحدث الى الفتى الذى كان يرتدى بنطلونا ممزقا من عند الركبة وقميصا متسعا يغطى عظامه البارزة
-أنت يا هذا تعالى الى هنا , خذ وانتبه جيدا للسيارة لا أريد أن يصيبها خدشا صغيرا ولو كان بحجم نملة
ومد يده فى جيب قميصه لينقده ورقة من فئة العشرة جنيهات مباغتا اياه حتى تعجبت لبنى منه فقد ابتلع ما كان سيقوله ككل يوم من أن هذا المكان مخصص للسيد فلان الذى يملك مكتبا بالدور الثالث
كما أنه قد عرف قدر من يحادثه بلهجته الواثقة المسيطرة التى تفيض رجولة وتكبرا.
صعدت معه الى المكتب وهى متوجسة من نواياه
-ألم يكن من الأفضل أن تنتظرنى بالسيارة؟
لم يلتفت ولو بنظرة واحدة لها وأشار لها بمرافقته بصمت وقد وضع أصبعه أمام فمه.
أهانها للمرة العاشرة وهى تشعر بأنها تحت رحمته وكأنه القائد وهى التابع , ان هذا هو شأنها الخاص
-أنا أستطيع التعامل
-حقا! أنا متأكد بأن لك لسانا حادا كالموسى ولكن ما نحتاجه هنا هو الدبلوماسية فقط.
-أنت دبلوماسى!
كانت ترد له الصاع صاعين فانقلب السحر عليها , فتوقف عن متابعة سيره وجذبها من يديها لتواجهه :
-انصتى الىّ يا مصدر الازعاج , أنا مكلف بهذه المهمة شئنا أم أبينا أنا مضطر للتدخل فى شؤونك الخاصة يا حلوة فاغلقى فمك الجميل على لسانك الطويل حتى أنهى المسألة بسرعة وأناقة.
قالت بتململ وقد آلمتها قبضته القوية التى تلهب جلدها الرقيق:
-ألا تستطيع التعامل برفق وآدمية مع البشر؟ اترك يدى انها تؤلمنى
أفلتها وقد انتبه لمعالم الألم المرتسمة على وجهها
-هذا يلقنك درسا بأن تلتزمى فى تعاملك معى بما سبق وأخبرتك به
-يا لك من وقح...
وقبل أن تكمل جملتها صاح بانفعال وصل الى درجة الغليان:
-أنت مصرة على أن ألقنك درسا فعليا .أليس كذلك؟ حسنا أعدك بهذا ولكن لا هذا هو الوقت ولا المكان المناسبين.
تنفست الصعداء بعد أن أنقذتها العناية الالهية من الغضب النارى للتنين.
ما أن دخلا الى المكتب حتى التفتت ليلى اليهما تحدق فى وجه رفيق الأسمر الوسيم وهى لاهية عن وجود لبنى التى ألقت عليها تحية الصباح فتجاهلتها ووجهت حديثها الى الرجل المذهل الذى يرمقها باستعلاء:
-بم أخدمك يا سيدى؟
-أريد مقابلة السيد فهمى لأمر ضرورى
وفوجئت لبنى بها تسأله:
-حالا سأخبره
بالرغم من أنه لا بد وأن يكون لديه موعدا سابقا معه
وقامت على الفور غير متباطئة من مقعدها خلف المكتب لتتوجه نحو غرفة المدير قبل أن تتذكر شيئا فعادت مسرعة لتقف بمحاذاة رفيق وقد اقتربت منه جدا حتى أنها تنسمت عطره الفواح بقوة وسألته:
-أرجو المعذرة ولكن ما اسمك يا سيدى حتى أطلعه عليه؟
-لا عليك فهو ينتظر حضورى , أخبريه بأننى قد جئت من أجل لبنى.
استفاقت السكرتيرة من أحلامها لدى سماعها اسم لبنى وتذكرت وقوف زميلتها بجوار هذا الوسيم , وليس هذا فقط لقد تنبهت الى انها جاءت بصحبته وهو ينوى التحدث الى المدير بخصوص شأنها.
فغمزت لها بسرعة وغادرت بدون أن تلمح نظرة رفيق الممتعضة من تصرفها.
مسكينة أنت يا ليلى , لو تعرفين مع أى رجل تتعاملين لكنت غيرتى من طريقتك كثيرا ... قالتها لبنى فى نفسها
ومرت دقيقة واحدة بدت كأنها دهرا على لبنى حتى خرجت ليلى من غرفة السيد فهمى وهى تشير بيدها لرفيق أن يتقدم للدخول:
-تفضل يا سيدى انه بانتظارك .
تبعته لبنى بصمت وان كان قد أشار لها بعدم الدخول
-انتظرى أنت هنا , لا داعى لتواجدك .
همت بالاعتراض لولا أنها رأته يتحدث الى ليلى ويقول:
-اهتمى براحة صديقتك واسأليها ماذا تشرب؟
- طبعا
خضوع السكرتيرة المبالغ فيه واستسلامها لكل أمر منه أثارغيظ لبنى وكادت أن تخنقها عندما أن اختفى هو بداخل غرفة المدير بعد أن أمرها بأن تنتظره فى مكانها لا تبرحه
-واااو . لبنى من هو هذا الرجل الرائع ؟ أهو خطيبك ؟ هل ستتزوجان قريبا؟
وتدفق سيل من الأسئلة على لسان السكرتيرة الفضولية وأسكتتها لبنى باشارة من يدها:
-رويدك يا ليلى . انه ليس بخطيبى . اطمئنى لقد جئت فقط لتقديم استقالتى
-حسنا اطمأننت بما انه ليس خطيبك , ما زال أمامى فرصة
وغمزت ثانية بعينها حتى استوعبت ما تفوهت به زميلتها
-تقدمين استقالتك من العمل ؟ لماذا؟ هل وجدتى عملا اخر؟ وما دخل هذا الرجل بك؟ هل هو حبيبك ؟
-أوف يا ليلى , أنا لن أجيبك عن أى سؤال أيتها الفضولية , ونصيحة لك لا تتعلقى بحبال الهوى الذائبة , فرفيق لا ينظر اليك ولا الىّ الا بنظرات الاستعلاء فنحن لسنا بمستوى سعادته
-اسمه رفيق , ولكن لديه كل الحق فيبدو عليه الثراء الشديد.
كان هذا هو مقياس ليلى الوحيد لتقييم الرجل طبعا بعد الوسامة.
-حسنا , دعينى أذهب لأودع خالد و...
ترددت قليلا
-وأجمع أغراضى بالمكتب
ولم تنتظر حتى تمطرها زميلتها بسيل آخر من أسئلتها اللحوحة التى لا نهاية لها.
صباح الخير .. أخيرا طلت علينا شمس النهار-
حيّاها زميل العمل البشوش خالد وهو ينظر اليها بمرح مبالغ فيه فلم تفلح فى رسم التكشيرة المصطنعة التى تمازحه بها كل يوم فهو قد بدد قليلا من توترها لهذا اليوم الذى بدأ معها بداية غير مبشرة بالخير, لتقل أن عالمها انقلب رأسا على عقب , هذا هو التعبير الأنسب.
وقبل أن تمنع نفسها دنت من مكتب جاسر وألقت عليه تحية الصباح بهدوء:
-صباح الخير يا جاسر
ولم تنتظر لترى دهشته البالغة ومعالم الحيرة التى ارتسمت بوضوع على وجهه العابس , ولكنه رد عليها :
-صباح الخير, يا لبنى
لم يثر فى نفسها اى مشاعر تلفظه باسمها وهى التى كانت تزداد ضربات قلبها عندما كان ينظر اليها ويحدثها حديثا عاديا
وبدأت تفتح أدراج مكتبها الواحد تلو الآخر ثم تفرغها على سطحه وهى متعجلة حتى لا يسبقها رفيق الى هنا فآخر ما كان ينقصها أن تجده واقفا على رأسها أمام زميليها .
اندهش الرجلان التى كانت واقفة بينهما تعمل بجد وعجلة ولم يمسك خالد لسانه عن التعليق فقد كان يشبه السكرتيرة فى فضولها ان لم يفوقها:
-ماذا تفعلين يا لبنى ؟
-أخلى مكتبى
-ولماذا ؟ هل ستنتقلين الى فرع آخر؟
خمن هو بذكاء وفطنة لم يصب منهما شبرا واحدا
-لا بل سأقدم استقالتى
وقالت تحدث نفسها .. ربما يكون رفيق قد أنهى كافة الاجراءات الآن وأصبحت حرة
فغر خالد فاه تعبيرا عن دهشته الكبيرة فى مشهد يصلح أن يكون فيلما كوميديا بالأبيض والأسود , أما جاسر فقد أسقط فى يده فلم يجرؤ على ابداء مشاعره الحقيقية وأن كان بداخله بركانا يكاد ينفجر فى وجه أول شخص يقابله.
-ألم تنته بعد ؟
وحدث ما كانت تخشاه وتحسب له ألف حساب ها هو الغول واقفا على باب الغرفة التى تتشاركها مع زميليها وهو يستعجلها فهو ينتظر الخلاص منها بفارغ الصبر وشعرت بأن انزعاجه قد ازداد عندما رأى جاسر يحملق فيه وتبادل الرجلان نظرات غير ودية على الاطلاق.
-أكاد أنجز ما تبقى , ان تفضلت وجلست هنا لتنتظرنى قليلا سأكون ممنونة.
شعرت بنفاد صبره وقال وكأنه يعامل طفلة صغيرة:
-ألم أطلب منك البقاء مع ليلى؟
هكذا عرف اسمها , لا بد أنها قد انتظرته لتحاول تجربة سحرها على الوافد الجديد.
تعرف أنهما أصبحا محور اهتمام الجالسين الى جوارها تاركين عملهما ليشاهدا المبارزة الكلامية بينهما.
-فكرت بأن أختصر الوقت فيبدو أنك مستعجلا
لم تشأ أن تقول أنه يبدو متلهفا للابتعاد عنها مثلما هى متشوقة لغيابه.
-لا , يمكننى الانتظار بالطبع
واقترب منها لدرجة أصبحت تشعر معها بانعدام الأمان فقد تجاوز المسافة المسموحة بين أى اثنين ثم وضع يدا على كتفها وهو يقول بجد:
-كنت أسألك انتظارى حتى أساعدك يا عزيزتى
بان الغباء على وجهها الجميل وقد شعرت بأنها لا بد حالمة بما يحدث وأنها تطير فوق السحاب .. هل هو يحاول مغازلتها؟ أم حمايتها؟
استبعدت الاحتمال الأول سريعا وبقى الثانى عالقا بعقلها الذى كان يعمل بسرعة الصاروخ لايجاد تفسير مناسب لتصرفه الغريب يحميها ممن؟
أزاحت يده برفق عن كتفها وشعرت بأن ثقلا كبيرا قد انزاح عن كاهلها فقد كانت ذراعه حقا ثقيلة فوق كتفها النحيل , بينما لم يبد عليه أنه قد تضايق من لفتتها وأصرّ على أن يحمل لها الصندوق الكرتونى الذى عبأته بأغراضها المتناثرة فى كل مكان .
فكرت فى أنه أبعد ما يكون عن موقفه من حقيبتها هذا الصباح.
هل يعانى رفيق من انفصام الشخصية ؟ أم أنه يمثل دور دكتور جيكل الآن؟
-هل انتهى كل شئ؟ هل تقبل السيد فهمى استقالتى ؟
-كل شئ تم انجازه
-هل سيقبل باعطائى شهادة الخبرة؟
-عزيزتى , أنا واثق بأنه يمكننا الانتظار حتى نصبح وحدنا قبل أن نكمل حديثنا الخاص
وحملت نظرته العابثة ألف معنى ومعنى لكلماته المبطنة, وشهقت لبنى عندما رأت تأثير كلماته على رفيقيها وخاصة جاسر الذى رمقها بنظرة احتقار وغيرة.
لو يعرف الحقيقة فقط ! ومن يكون رفيق !
هل ستهتم باخباره؟ لا السؤال الأصح هو هل سيهتم بتفسيرها والأدهى أنه سيظن أنها ما زالت تكن له المشاعر الحميمة.
هل شفيت من داء الحب ؟ استعجبت من نفسها لأنها لم تعد مهتمة بردة فعله.
ربما يستحق أن يتألم ولو قليلا ليتذوق من نفس الكأس التى سبق وأذاقها لها.
دفعها رفيق أمامه بلطف زائد وكأنه يحاول حمايتها من عينى جاسر المؤذيتين وبهذا يؤكد له بما دار فى ذهنه من أفكار غير حقيقية عن طبيعة علاقتها برفيق.
واستغلت هى الفرصة لتثبت هذه الأفكار وتجعلها قيد التنفيذ فابتسمت بحساب لرفيق ودست يدها فى ذراعه وهى تودّع خالد وجاسر معا
-الى اللقاء يا شباب . أراكم على خير, هل نذهب يا عزيزى؟
لوهلة شعرت بعضلات رفيق تتوتر تحت تأثير لمستها الغير متوقعة ورأت ابتسامته تتجمد على شفتيه قبل أن يستعيد سيطرته مرة أخرى ويشد على يدها بينما يده الأخرى مشغولة بحمل الصندوق الخاص بها.
-هيا يا ممثلتى الصاعدة , أهنئك على دورك البارع فقد نجحتى بصب الثلج فوق رأسه بتصرفاتك.
-ماذا تقصد؟
جذبت ذراعها من قبضته الحديدية وهو لم يحاول الاستئثار بها أكثر من هذا ووقفت لتتحداه , وقد نالت ما تتمنى فلم يمهلها حتى أجابها بخشونة:
-هذا المسكين الغارق بغرامك حتى أذنيه؟ لقد لقنته لتوك درسا قاسيا لن ينساه
نسيت أن رفيق لا يعلم بصلتها بجاسر وعلاقتهما السابقة فزل لسانها بالاعتراف:
-جاسر؟ أنت من بدأ هذا كله !
-وأنت لم تعترضى ولا قيد أنملة , فقد راق لك المشهد كثيرا
وفتح حقيبة سيارته ثم ألقى بصندوقها ليجاور حقيبتها قبل أن يغلق الصاج بعنف ويتوجه لمقعد السائق.
تأففت لبنى وهى حائرة لا تجرؤ على الاعتراض ولا تستطيع نفى اللوم الذى يقع عليها لأنها حقا استغلت رفيق لاثارة غيرة جاسر.
مجرد رغبة طفولية لرد الأذى الذى طالها على يديه.
ولكن رفيق لم يكن بالرجل الهيّن الذى يتشكل فى يد امرأة مهما كانت درجة جمالها ودلالها.
ركبت بجواره باستسلام راضية بأن تضع نفسها تحت سيطرته القوية حتى تنال ما تستحقه على فعلتها.
فما فائدة المقاومة الا أن تزداد آلامها حتى يهدأ غضبه المتقد؟
توقعت أن يقود بتهور كالعادة كلما كانت الى جواره , فعاكس توقعاتها وكان هادئا رزينا يتبع ابسط قواعد الأمان والسلامة ثم سألها دون أن ينظر اليها فقد كان منشغلا بالطريق أمامه:
-أين تحبين أن نتناول القهوة؟
لم يكن بالسيارة سواهما فلا بد أنه يتحدث اليها وانعقد لسانها فلم تحر جوابا:
-هل ابتلعت لسانك يا عزيزتى؟
وضغط على حروف كلمة عزيزتى ليذّكرها بمشهدهما التمثيلى القصير فى المكتب .
-لا أرغب بتناول القهوة فأنا لا أحبها.
كذبت على الرغم من عشقها للقهوة التركية ولكنها رغبت فى معاكسته بأى شكل , أرادت أن تثير غضبه أكثر .
-حسنا ولكننى لا أستطيع أن أكمل يومى بدونها , وأنت شئت أم أبيت سترافقيننى.
-تستطيع بالتأكيد الاسغناء عنى ولو لربع ساعة.
حاولت تقليد سخريته منها , محاولة الثأر لكرامتها الجريحة فذرّ هو الملح على جرحها النازف وضغط على نقطة ضعفها:
-بعد أن ساعدتك لتثيرى صديقك التافه أنت مجبرة أن توافقيننى على ما أقوله وأفعله , هذا دين عليك يا حلوة.
لفظة التحبب لم تكن بمحلها فقد قصد أن يهينها بعد ادانته لموقفها من جاسر.
قالت لنفسها ... وما الضرر فى بضعة دقائق يستغرقها ليحتسى قهوته وتنتهى من مرافقتها له الى الأبد.
استسلمت بهدوء لمشيئته:
-لا بأس .
-هكذا تكون فتاتى المطيعة.
هنّأها على استجابتها له فى انتصار أضافه لقائمته الطويلة منذ أن التقاها وهو يملى عليها ارادته فتتحرك كدمية بأصابعه يوجهها أينما شاء.
توقفا عند مقهى شهير يقع بوسط البلد , وأدركت أنه معتاد على التردد عليه عندما رأت ابتسامة النادل وهو يستقبله بترحاب شديد ويقوده الى طاولة منعزلة بعيدا عن ضوضاء الرواد الذين شغلوا معظم الأماكن.
كانت تسير بجانب رفيق عندما شعرت بأعراض الدوار تسيطر على رأسها لتحاول اغراقها فى دوائر صفراء متلاحقة واحساس ببرودة فائقة يتسلل الى اطرافها وأصبح مجرد محاولتها لأن تفتح عينيها هو العذاب بذاته , توقفت فجأة تبحث عما تستند اليه فالتفت رفيق اليها بذات اللحظة ليتلقاها بين ذراعيه القويتين قبل أن تسقط أرضا.
أسندها الى أقرب مقعد لها وأخذ يحاول منعها من أن تفقد الوعى وكان صوته الرجولى العميق غاضبا عنيفا:
-هل تناولت أفطارك اليوم؟
ردت بضعف:
-لا , فقد كنت متعجلة للحاق بك فى الموعد
-أيتها البلهاء الصغيرة , ما ينقصنى طفلة صغيرة فاقدة للوعى بين ذراعىّ.
ثم اشار للنادل بأن يحضر لها افطارا وكوبا من العصير على وجه السرعة.
ناولها كأسا من الماء البارد وأمرها بشربه على الفور فلم تقو على معارضته, وقد أنعشتها قليلا, فيما أخذت تتخيل نفسها بين ذراعيه وفجأة انتفضت بعنف لتبعد هذه الصورة عن ذهنها وقد اعتقد رفيق أنها ترتعش من الارهاق فبدا عليه بعض التعاطف معها.
-هل تشعرين بأنك أفضل قليلا؟
-نعم , شكرا لك
أحضر النادل لها افطارا متكاملا لا ينقصه أى شئ ووضع فنجانا من القهوة التركية ذات الرائحة النفاذة أمام رفيق وانحنى له احتراما ثم انصرف وهو يتمنى السلامة للآنسة.
كانت رائحة الطعام زكية تثير الشهية وكانت هى جائعة جدا فالتهمت معظم ما فى طبقها وتجرعت عصير الفواكه الطازج بنهم .
وراقبها رفيق باهتمام بينما يحتسى قهوته بتمهل واستمتاع.
-هل حقا تخشين اثارة غضبى أكثر من اهتمامك بصحتك ؟
-ليس هذا صحيحا, كانت هناك عدة عوامل ساهمت فيما حدث
-نورينى اذن
هل يطلب منها تفسيرا؟ أم أنه يسخر من جديد؟
-لقد اعتدت أن أتناول افطارى بالمنزل مع .. خالتى , هى من كانت تعده لى.
-آه , فهمت
رنة السخرية من جديد ترددت فى أذنيها
-أنا أستطيع أن أعده لنفسى ولم تكن لدى شهية هذا الصباح.
-أتعنين أن مصاحبتك لى قد سدت شهيتك.
قهقه ضاحكا وهو يستريح فى جلسته أكثر ويشعل سيجارة ليدخنها بأريحية تامة ثم أكمل:
-ولكنك الآن لا يمكنك اتهامى بانعدام شهيتك , فقد أنهيتى كل الطعام تقريبا بسرعة قياسية.
شعرت هى بالخجل , وغزا اللون الأحمر خديها فباتت أكثر جمالا وجاذبية لم تكن تدرى ما تثيره رؤيتها فى نفوس الأخرين.
-أنت تحمرين خجلا!
قالها بتعجب وكأنه لم ير فتاة خجولا من قبل.
ازداد احمرار خديها حتى شعرت باشتعالهما وهى تحاول تلطيف الجو من حولها بأن طلبت منه:
-هل يمكنك أن تجعله يحضر لى فنجانا من القهوة التركية بدون اضافة سكر؟ رائحة القهوة زكية جدا
-هل أعجبتك قهوتى لهذه الدرجة؟ ألم تكونى منزعجة من قبل بسببها؟
-لا فأنا أدمن على احتسائها قبل أن تمر الساعة العاشرة والا أصابنى صداعا قاتلا.
-لا يمكن أن نجازف باصابة هذا الرأس الجميل بالصداع
احتست قهوتها وأثنت على جودة صنعها .
-كان من دواعى سرورى راحة الآنسة الفاتنة.
ما هو السر وراء تغير طريقة معاملته لها ؟ كانت تتأمله بعينيها وهو يدفع الحساب وقد ترك بقشيشا سخيا للنادل .
-هل أنت مستعدة للانصراف الآن؟
اومأت له برأسها فشبك ذراعها بذراعه دون أن يترك لها مجالا للاعتراض :
-حتى أضمن أنك لن تسقطى مرة ثانية.
كان مبررا واهيا فقد أصبحت على ما يرام , وهى أيضا أمتعت نفسها بهذا الاحساس الجديد من الحماية الذى أسبغه عليها ابن عمها ... وفكرت انه قريبى .. فلم لا نتعامل برفق ولين ؟
يا ترى هل سيصبحان صديقين يوما ما؟
لم تشغل بالها بالاجابة على هذا السؤال الملّح فى ذهنها , يكفيها أن تعيش اللحظة ولا يهمها ما ينتظرها غدا.
************