الفصل الحادى والعشرون
مرت عدة أسابيع منذ تواجهت فريال مع مجدى متهمة ايّاه بالكذب ومحاولة النيل من ذكرى زوجها ناجى ,حاولت أن تتلّهى عن وجيب قلبها الذى علا وأحال لياليها نهارا مؤرقة من كثرة التفكير ,لم يخفف عنها سوى قضائها معظم الوقت بجوار ابنتها أميرة التى تعافت تماما من أثر الحادثة ,وصارت بحالة أفضل من الأول ,كانتا تخرجان سويا لشراء ملابس جديدة فقد أغدقت فريال على ابنتها بالكثير من المال ,وكأنها تعوّضها به عن سنوات الحرمان القاسية ,وبعدها تتناولان الافطار باحدى المطاعم القريبة ,تجربان كل ما هو جديد ,وتجدّد الروتين اليومىّ لهما بذهابهما الى النادى لممارسة رياضة الجرى فى المضمار ,وكل من يراهما معا .. يبتسم لوضوح مدى التشابه بين روحيهما فعلى الرغم من أن أميرة لا تشبه والدتها كثيرا فقد ورثت عينى خالها وجدى ,أما بقية الملامح فقد تباينت ما بين ما أخذته من أبيها ناجى وأفراد العائلة الآخرين ,ببساطة تتصرف أميرة وأمها بنفس الكيفية ,تسيران بنفس طريقة المشية المعتدة ,وحتى اشارات اليد للتعبير عن الانفعالات واحدة ,كما يتطابق ذوقيهما فى تناول الطعام ,فلم تجدا صعوبة فى التقرّب من بعضهما البعض ,والأدهى أن فريال لم تكن تسمح لرفيق بالانفراد بزوجته وحدهما ,فلا بد أن تكون ثالثهما ,وكانت حجتها الغير مقنعة أنها توّد استخراج فتوى من مشيخة الأزهر بجواز علاقتهما الجديدة على أساس أن صفتها قد تغيّرت اضافة الى اسمها ,مما دفع رفيق الى الاسراع لحل هذه المعضلة حتى ينعم بالسعادة مع حبيبته التى طال فراقه عنها.
بدأ أولا اجراءات اثبات البنوّة الى عمته وزوجها الراحل ,ولم يكن هذا الاجراء مستحيلا حيث أن الطرفين موجودين وكلاهما موافق على عمل تحليل البصمة الوراثية -أى فريال وأميرة - فكانت خطوتهم الأولى فى طريقها نحو التنفيذ.
كانت اللحظات التى تفصلهما عن معرفة النتيجة قاتلة ,أما فريال فكانت تشعر بترقب لما يمكن أن تصير اليه حياتها اذا أكّد التحليل غير ما تشعر به من رابط قوىّ تجاه هذه الفتاة التى اتضح أنها ابنتها الضائعة ,ولم تكن متأهبة للقاء مجدى فى هذا الوقت ,الا أن وجود محامٍ الى جانبهم كان ضروريّا لانهاء الاجراءات القانونية المتعلّقة بالموضوع ,حينما تلاقت أعينهما بالقرب من الغرفة المعدّة للتحاليل حيث تم سحب عينتى دم من كلا المرأتين منذ عدة أيام ,فيما وقفت أميرة تستند الى ذراعى زوجها رفيق وهو يحاول مساندتها حتى ترتاح بعيدا عن هذا المكان فحينما رنت ببصرها نحو أمها ووجدتها شاحبة ترتجف كأنها رأت شبحا لتوها فأصرّت على الرفض ,فيما اقترب مجدى من فريال بخطوات بطيئة متأنّية وهو يلقى عليها التحية ببرود:
-مرحبا فريال , كيف حالك ؟
حاولت أن ترسم ابتسامة واهنة على طرفى شفتيها وهى تجاهد لتجد صوتها فتخرج الكلمات متعثّرة على لسانها الجاف :
-مرحبا ... أنا بخير.
-أرى هذا.
أجفلتها لهجته الخشنة وهو يرمقها بنظرات ناريّة محاولا تجنّب الحديث معها بعد ذلك ,ثم أخذ ينظر الى ساعته الغالية الثمن ذات الماركة العالمية وهو يعد الدقائق متأففّا من التأخير,فما ملكت نفسها لتستثيره بقولها بلهجة متعالية:
-لم يكن ضروريا أن تزعج نفسك بالحضور الى هنا ,كان يمكنك أن ترسل أى محامى لديك فى المكتب ينوب عنك بهذه المهمة, وهذا بالتأكيد لن يقلّل من قيمة أتعابك المرتفعة.
كانت تلمّح الى ارساله لمحامٍ صغير يعمل بمكتبه حينما جاءت هى وابنتها أول مرة لاجراء التحليل وحينها كانت مشتاقة لرؤيته هو بالذات بعد مقاطعتهما الطويلة ,وأخذت تتبّع كافة تفاصيله من رأسه حتى أخمص قدميه بدءا من تصفيفة شعره الأنيقة , مرورا بملامح وجهه التى تغيّرت وكأن خطوط التجاعيد قد ازدادت حول عينيه فى هذه الفترة وانتهاءا ببزته الداكنة الباهظة الثمن وحتى حذائه الأسود اللامع وكأن لم يمر عليه ذرة غبار واحدة.
تأملها بنظرات متألمة من اهانتها المتعمدة له ولكنه أخفى هذا بلمحة خاطفة وعاد لبروده وهو يجيبها بمهنية مضيّقا عينيه:
-كان علىّ أن أنجر أعمالى بنفسى حتى أتأكد من أننى أستحق الأموال التى أتقاضاها نظير خدماتى لكم ,فأنا مضطر لكسب لقمة عيشى ولست كبعض الناس أعتمد على أموال ورثتها دون قطرة عرق ,وعلى هذا فأنا أستحق كل قرش يُدفع لى.
-اذا لم تكن تطيق وجودك هنا فالأفضل لك أن ترفض مثل هذا العمل.
وأشاحت بوجهها بعيدا عنه فباغتها بأن أمسكها بقوة من ذراعها وهو يشدّد من قبضته عليها مجبرة ايّاها على الالتفات اليه وهو يهدر منذرا:
-لا عليك يا سيدة فريال ,فقط كونى متأكدة أن هذا هو لقائنا الأخير فقد تحمّلت منك ومن عائلتك ما يكفى عمرا بأكمله ,فأنا بالفعل كنت قد اعتذرت عن أية قضايا تخصكم منذ فترة اذا غاب هذا عنك ,ولكن رفيق هو من أصرّ على وجودى الى جانبكم الآن ,ولم أستطع أن أرفض طلبه فهو صديق لى قبل أن يكون موكّلى ,وليست من عاداتى أن أخذل أى شخص يعتمد علىّ ,كما أننى لست بالرجل الذى يهرب من مسؤولياته ليلقيها على كتف غيره.
ثم تركها فجأة وابتعد متجها نحو رفيق قبل أن تجد ردا مناسبا على هجومه الرادع ,فعضّت على شفتيها بقوة حتى كادت تدميهما نادمة على سوء تصرفها ,قالت تحدث نفسها بأنها تستحق أكثر من هذا ,ولو لم يكن مجدى شخصا مهذبا لتصرف معها بطريقة مغايرة أشد قسوة وايلاما.
ما الذى جعل لسانها ينفلت بهذه الاتهامات الجارحة ,لقد قصدت اهانته حتى ترد على تجاهله التام لوجودها ونفوره من الحديث معها ,يمكنها أن توهم الجميع بأنها فى قمة سعادتها حيث عادت ابنتها لأحضانها ولكنها ليست مكتفية ,قلبها النائم أيقظه من سباته عودة مجدى الى عالمها ومساندته لها أذابت الطبقة الجليدية السميكة التى كانت تغلّفه ,أما رقته وحنانه فقد أصابا عقلها بدوار شديد ,وأعاد لحياتها معانى الحب والمشاعر الجميلة الأخرى التى ظنّت أنها قد نسيتها الى الأبد , لم يكن يستحق منها أبدا هذه المعاملة المتطرفة من جانبها , فليس ذنبه أنها أساءت الاختيار من قبل حين ارتبطت بناجى مفضلة ايّاه على مجدى ,الرجل الدمث الخلق الذى وقف بجانبها دون تردد ودون مقابل ,كل ما كان يرجوه منها أن تعطيه قدرا من اهتمامها و... حبها,نعم انها تعشقه الى حد الجنون ,وليس هذا العشق وليد اللحظة ,فقد كانت تهيم به منذ أيام مراهقتها الأولى حين تفتّحت زهرة أنوثتها ومعها انبثقت مشاعر الحب الطاهر الذى لا يعرف حدودا ولا يميز الفوارق ,فقط لو لم تستسلم لاغراء ناجى القوىّ ,كان ساحرا بكل ما فى الكلمة من معنى ,لم يكن فقط وسامته الشكلية هى ما جذبتها اليه ,بل حديثه المعسول الكلمات ونظراته الدافئة ,وقدرته على جذب اهتمام الآخرين بسرعة الصاروخ ,فات أوان الندم .
لم تكن أميرة بأقل توترا من أمها القلقة ,ومالت الى زوجها تستند الى جسده القوىّ وقد أحاطها بساعده يلفه حول كتفها مشيعا بنفسها الاطمئنان والأمان ,وهو يهمس لها بعشق:
-لا تقلقى حبيبتى , فكلها بضعة دقائق وينتهى هذا الاشكال تماما.
ابتسمت وهى ترفع رأسها نحوه ,ممتنة لوجوده الى جوارها تمتمت :
-شكرا لوجودك معى ,لا أعرف كيف سأتصرف اذا أظهر التحليل شيئا غير ما نتوقع.
داعب أنفها بقوة مؤنبا وهو يحذرها بلهجة قوية:
-لا أريد أن أسمعك تتحدثين هكذا مرة أخرى ,كما لا أريدك أن تكونى متشائمة ... ثم تعالى هنا ما موقع كلمة شكرا من الاعراب بيننا ,هل توجد امرأة فى العالم تشكر زوجها لأنه يقف بجوارها ,هذا مكانى الأصلى يا حمقاء ,واذا كنت قد ابتعدت مسبقا فلم يكن بخاطرى ,كنت مضطرا لمصلحتك أنت ,وحتى لا أغضب السيدة مديحة فقد وعدتها بالحفاظ عليكِ ...
ثم توقف فجأة ليسألها باهتمام:
-صحيح ... منذ فترة لم أسمعك تحدثينها ,ترى ما السبب ؟
-ألم أخبرك أنها قد سافرت ؟
رفع حاجبيه مندهشا وهو يغمغم:
-سافرت ! الى أين ؟
اعتدلت أميرة وهى تعيد على مسامعه ما دار بآخر مكالمة لها مع السيدة مديحة:
-لقد أخبرتنى أن ابنها حسام قد وجد فرصة عمل باحدى دول الخليج ,وكان عرضا لا رفضه فسافر الى هناك مصطحبا معه زوجته ووالدته ,وأصرّت على توديعى فرحت أقابلها بناءا على رغبتها و... قد أعطتنى هذه قائلة أنها كانت تحتفظ بها الى أن يحين الوقت المناسب.
-ما هذه؟
سألها رفيق وقد أثارت فضوله بهذا الحديث الذى يسمعه للمرة الأولى فأشارت الى سلسلة باللون الفضىّ معلقّة بجيدها مخرجة ايّاها من مخبئها لتعرض اللؤلؤة البيضاء المتوسطة الحجم أمام عينيه المنبهرتين والتى يحيط بها من جوانبها فصوص صغيرة لامعة تشكّل منظر وردة ,فلامسها بأنامله بوجل وقد انفرجت أساريره قليلا ليقول بغموض:
-ها هو دليل آخر على بنّوتك لعمتى .
كشّرت أميرة وهى تنظر له بتساؤل:
-ماذا تعنى ؟
-ليس هذا وقته يا حبى , سأخبرك فيما بعد.
وبهذه اللحظة قاطعهما مجدى الذى تفاجآ لوجوده ,فيما قام بمعانقة رفيق بقوة وقد أخذ يربت على ظهره ,مد يده الى أميرة يصافحها بحرارة وهو يسألها عن حالها فأجابته بعفوية:
-بخير , بأفضل حال وأنا الى جانبكم.
ونقلت نظراتها بين الرجلين المتشابهين فى تصرفاتهما ,ولم يخفِ عليها دلائل الاهتمام فى علاقته بأمها ,وقد تكّهنت أن الأمر يتجاوز مجرد صداقة ومعرفة قديمة كما أوهمتها فريال ,فباتت تأمل لو أن الأمر يتطور بينهما الى حب وزواج ,فهذه السيدة التى تعرّفت عليها حديثها على أنها عمتها ثم اتضح أنها الأم التى تبحث عنها منذ زمن تستحق مكافأة على صبرها وتحمّلها لمأساتها المبكرة ,ومن أفضل من رجل حقيقىّ مثل هذا المحامى اللامع ... مجدى العمراوى.
انتحى مجدى جانبا برفيق معتذرا من أميرة بضرورة ملحّة لحديث شخصى ,فأومأت لهما برأسها واندفعت الى حيث كانت أمها تترنح بوقفتها فألقت بنفسها بين ذراعيها وهى تعانقها بقوة قائلة:
-ماما ... مهما كانت النتيجة فأنا أشعر بأنك أمى حقا ,ولا يهمنا الاثبات بمجرد ورقة عليها ختم لا قيمة لها أمام ما نشعر به فى قلبينا.
كانت محاولتها لالهاء والدتها عن عبء انتظار النتيجة ناجحة فقد اشتعلت وجنتاها باحمرار غزير وهى متأثرة لدرجة أن دموعها قد بدأت تتساقط على شعر ابنتها لتبلله فهزت أميرة رأسها رفضا وهى تقول بفخر:
-ماما ... كفكفى دموعك ... فنساء عائلة الشرقاوى تتحمل هموما كالجبال لا يقوَ عليها أعتى الرجال ,وكما سبق واتفقنا لن يغيّر هذا التحليل حقيقة ما نحس به.
مسحت على رأس ابنتها بمحبة وهى تتماسك من جديد مرددة كلماتها:
-نعم حبيبتى لن يغير من حقيقة ما نحس به , وأنا أكيدة أنك ابنتى ... فقلبى يستشعر احساسا مألوفا للغاية حينما أحتضنك وكأننى أضم مولودتى الصغيرة لأرضعها.
كان مجدى متجهما وهو يتحدث الى رفيق:
-انصت الىّ جيدا ,حينما ينتهى الأمر وتصبح ورقة الاثبات فى أيدينا ,أريد منك أن تسدى لى معروفا.
-تحت أمرك يا مجدى.
-أتوافق هكذا دون أن تعرف نوع المعروف الذى ستؤديه الىّ ؟
ربّت رفيق على كتفه وهو يجيبه متلطفا:
-علنا نرد لك جزءا بسيطا من جمائلك العديدة يا متر.
-أريدك أن تعفينى هذه المرة نهائيا من أية خدمات أو استشارات قانونية تخص عائلتك.
تجهّم رفيق بدوره وهو يستفسر منه بضيق:
-ما هذا الكلام الذى أسمعه ؟ وهل هذا يشمل عمتى فريال أيضا ؟
-بالأخص عمتك فريال ,أما عنك أنت فأنا حاضر دائما لأفديك ولو بعنقى.
حاول رفيق أن يجادله فيما يطلبه بلا جدوى فأذعن بنهاية الأمر لرغبة المحامى الذى عرفه منذ نعومة أظفاره الشخص المؤتمن على أسرار جده والموثوق به من جانب أفراد العائلة جميعهم.
*********************