-ولماذا لم تقوما باطلاعنا على هذا السر بعد وفاة جدى ؟
طرح كريم سؤاله بهدوء وقد سيطرت مشاعر غامضة عليه ,فهل يشعر بالفرح لأن لبنى أو أميرة على الرغم من أنها ليست شقيقته ولكنها قريبة جدا له ,ربما أكثر من أى فرد آخر فصلة القربى بينهما مزدوجة ,أم يغضب لاخفائهم الأمر عنه وكأنه شخص غريب عنهم ,تضاربت الافكار برأسه فى انتظار رصاصة الرحمة التى أطلقها رفيق ليخرج الجميع من دائرة الحيرة فيجيب برصانة وهو يتأمل زوجته بحب صريح :
-لأن أميرة كانت فاقدة للذاكرة.
واستطرد بلهجته العقلانية الحازمة:
-تعرضنا لحادث سيارة أنا وهى ,وعلى اثره فقدت جزءا كبيرا من ذاكرتها القريبة ,ربما أخذ عقلها الباطن يلفظ كل ما يثير ضيقها ويمحو الذكريات السيئة التى عايشتها بعد وفاة والديها كما كانت تعتقد ,أما بالنسبة لى ... فيبدو أنها قد تأثرت كثيرا حتى تقرر أن تضعنى بركن بعيد جدا من ذاكرتها , فحينما رأتنى بعد الحادث نظرت لى باستغراب وسألت خالتها عنى:
-من هذا الرجل يا خالتى ؟
حين واجهت سؤالها شعرت بطعنة عميقة فى كبريائى ,واكننى حاولت التماسك لأسأل الطبيب عن حالتها فأخبرنى بضرورة مساعدتها بالابتعاد عن كل ما يزعجها حتى تستعيد ذاكرتها كاملة ,وألا نحاول الضغط على أعصابها المتوترة ,فاخترت الانسحاب بعيدا حتى يتم شفاؤها.
ونظر الى أميرة التى كانت تبحث عن أجوبة لأسئلتها الكثيرة وقال بمغزى مفهوم:
-وهذه هى اجابتى على استفسارك بشأن تركى لك بمفردك طوال هذه الفترة ,كما أن خالتك لم تكن تعلم شيئا عن ارتباطنا ولم أقدر على مواجهتها بالحقيقة بعد أن رجتنى أن أنساك الى الأبد ,ظنا منها أننى حين أعرف بحقيقة كونك ابنة عمى بالتبنى سأتخلى عنك ,كان لديها العذر لأنها تدرك كيف يفكر جدى وما كان بمقدوره أن يفعل اذا اشتم خبرا ,لقد سبق له أن أحال حياة عمى وجدى وزوجته الى جحيم حقيقى.
أمنّت أميرة على كلام زوجها حيث قالت بنبرة مصدومة:
-حينما عدت من زيارتى للفيلا لأول مرة وأوصلتنى أنت يا رفيق ,واجهت السيدة مديحة بحقيقة كون أمى ... مجرد خاطفة للرجال حين علمت بنبأ زواجه الأول الذى أخفاه عنى طوال حياته ,وحتى معرفتى القصيرة بكريم ورفيق توقفت لدى عمر صغير ,مجرد ذكريات ضبابية عن طفلين يكبراننى كثيرا ولطالما تمنيت لو أستطيع أن أرى وجهيهما بوضوح .
هز محمد رأسه ليؤكد صدق كلامها فقال بأسى:
-لقد نما الى علم جدك أننى أصطحب كريم لرؤية والده ,وبالتالى قام بحرمانه من مرافقتى وحيدا, فيما قلت زياراتى لوجدى كثيرا حتى لا أثير غضب جدكم ,وبعد فترة انتقل هو الى الاسكندرية هربا من بطشه حتى يعيش هو وأسرته بأمان.
تنهدت السيدة سوسن بمرارة وهى تنقل بصرها بين زوجها وابنها وتقول بأسف:
-كل هذه الخفايا لا أعلم عنها شيئا , أبعد هذه العشرة الطويلة يا محمد ولا تأتمننى على أسرارك ؟ وأنت يا رفيق تتزوج دون أن تعلمنى حتى ؟ لا أصدق نفسى , لقد عشت فى وهم سنوات طويلة أننى جزء من هذه العائلة لأفاجأ اليوم بأننى مجرد دخيلة.
ونهضت غاضبة لتنصرف بعد أن استأذنت من حماتها:
-عن اذنك يا ماما أنا متعبة وأريد الذهاب الى غرفتى.
أومأت لها السيدة شريفة برأسها مواسية للصدمة التى تلقتها للتو , هى نفسها تشعر بما قالته ولكنها لا تجرؤ على اظهار ضعفها وقلة حيلتها ,أيقنت هى الأخرى أنها مجرد صورة بهذا البيت , طوال فترة زواجها من عبد العظيم والحواجز ترتفع بينهما ,واحدا وراء الآخر حتى صار بنيانا ضخما يحول بين الوفاق المألوف بين أى زوجين ,تربطهما أواصر المودة والرحمة ويجمعهما الأبناء , الا أن الأمور انعكست تماما.
لحق محمد بزوجته ملهوفا عليها لا يلوِ على شئ , فهى محقة بضيقها وهو يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية , ما كان عليه أن يوافق على مثل هذه الزيجة وبهذه الطريقة المشينة وكأنهما يختلسان ما ليس حق لهما,فبما بقى رفيق غير قادر على الاتيان بأى تصرف ,فالخيوط قد تشابكت وتعقدت أكثر مما كان يتصور ,وكلما انحلت عقدة تكوّنت أخرى أكبر منها ,ربما اعتقد أن فى استرجاع أميرة لذاكرتها المفقودة ومعرفتها بأمها الحقيقية سوف يعيدان التوازن الى حياته , فانقلبت رأسا على عقب.
وحذت حذوها السيدة شريفة لتعلن أنها مرهقة وتود أن تنال قسطا من الراحة فعرضت عليها ريم مرافقتها الى غرفتها حتى تساعدها على هبوط الدرج ولكنها استوقفتها باشارة من يدها وهى تخبرهم بأنها بخير وقادرة على العناية بنفسها.
قالت فريال لتقطع الصمت المخيم على الغرفة بعد انصراف أمها وأخويها: -لا تتكدروا هكذا ,لا أريد أن أرى أحدا متضايقا بعد اليوم , يكفى أننا قد اجتمعنا سويا , شمل العائلة قد اكتمل بنا وبعودة أميرة الينا , أليس كذلك يا مجدى ؟
-هه ؟ هل تحدثيننى ؟
انتبه المحامى من شروده على صوتها الحبيب يناديه فأسرع يلتفت نحوها وهو لا يقوَ على مقاومة مشاعره الدفينة:
-أعتذر منك يا فريال , ربما سرحت بأفكارى قليلا , فما حدث اليوم كان مفاجأة لأغلبنا ,والله وحده يعلم ما الذى سوف تؤول اليه الأمور.
أجابته فريال وقد بدأ وجهها يشرق بالأمل والتفاؤل بعد أن أنطفأت ابتسامتها لمدة طويلة:
-لا يهم , كل شئ سيكون على ما يرام ,ولا تقلق يا رفيق فأمك قد تكون غاضبة منك الأن ولكنك تعرف أن لها قلب أم حنون رؤوف , لن تلبث أن تتقبل الأمر وتسامحك على ما أخفيته عن الجميع.
كانت كلماتها تحمل المواساة مع لمحة خفيفة من التأنيب , هى محقة فى لومها الموجه له فها هى ابنتها الوحيدة قد تزوجت دون أن تعرف عن ظروف زيجتها وقد حرمت من فرحتها برؤيتها ترتدى الفستان الأبيض وتسلمها الى عريسها كما تحلم كل أم ولكنها تشعر بارتياح بالغ لأنها اختارت رفيق ابن أخيها فهو بالرغم مما يبدو عليه من جمود ولا مبالاة الا أنه شخص يعتمد عليه وقادر تماما على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه اضافة الى أن مشاعره القوية نحو ابنتها قد أعلنت عن نفسها جلية حينما كانت راقدة بالغيبوبة ,وفجأة رنت برأسها نحوه وهى تسأله بفضول:
-رفيق , لم تجب عن سؤالى حين كنا بالمستشفى , كيف تصادف أن كانت فصيلة دمكما واحدة وكيف عرفت ؟
جذب هذا السؤال انتباه أميرة وهى غارقة فى حضن أمها لتمطره بوابل من الأسئلة بدورها:
-هل فصيلة دمنا واحدة يا رفيق ؟ ولماذا تسألك أمى عن هذا من الأساس؟
أشار الرجل بيده علامة التمهل وقال بهدوء:
-رويدكما أنتما الاثنتين ,اجابة على سؤال عمتى :فقد تكرر هذا الأمر من قبل حين وقع لنا حادث السيارة منذ أربعة سنوات واحتاجت أميرة الى نقل للدم ,ونبهتنى الممرضة وقتها أن فصيلة دم زوجتى تعد نادرة جدا وأنه علىّ سرعة التصرف , ولحسن الحظ فقد كانت هى نفسها فصية دمى ,أما عن سؤالك حبيبتى :فالاجابة هى نعم ,وقد احتجتى لنقل الدم مرة ثانية.
قالت أميرة بصوت حالم:
-أهذا يعنى أنك قد أنقذت حياتى مرتين ؟
اقترب رويدا من زوجته التى كانت تبدو كطفلة صغيرة وهى متعلقة بأمها وحركت مشاعر الحماية بداخله الى أقصى درجة فها هى تعود طفلته المدللة التى كان يحلو لها التشبث بملابسه خوفا من سخافات كريم وهو يحاول مضايقتها ,وتذكر يوم عقد قرانهما حين بدت ضعيفة تائهة الى أن أعلن المأذون أنهما قد صارا زوجين وبارك لهما والده فتألقت ابتسامتها الخجول وهى تتلقى تهنئته الخاصة عندما طبع قبلة دافئة على جبينها ,وجلس بقربها مكان جدته الخالى ,وأخذ يمسح على شعرها بحنان بالغ وقال بصوت ينضح بالمشاعر البدائية التى طالما قاومها فى الماضى حتى لا يؤلمها:
-لقد أخبرتك وأنت بعد صغيرة أنك أميرتى ,لقد اعتدت أن أدللك بهذا اللقب , هل تتذكرين يا حبى ؟
ابتعدت عن أمها قليلا لتميل الى زوجها وهى تنظر له بعشق كأنهما وحدهما فى المكان:
-لقد تذكرت يا حبيبى , كل شئ ,لا أعرف كيف احتملت طوال هذه السنوات ابتعادى عنك ؟ وكيف صبرت أنت على تجاهلى ؟
-لم يكن الأمر بيديك , فهو خارج عن ارادتك ,وكان الله بعونى حينما اتخذت قرار الابتعاد دونا عن رغبتى ولكنه كان لمصلحتك.
-وكيف سمحت لخالتى , أعنى السيدة مديحة أن تقصيك عن حياتى بهذه البساطة ؟ كان عليك أن ترفض وتبقى بجانبى.
-لم يكن ممكنا وقتها , ولكننى قايضتها .. نعم لا تتعجبى , لقد أخبرتها بكل مضايقات ابنها السخيفة لك ووعدتها بأن أبتعد عنك مقابل أن تكف يده عنك.
-لم أكن أتذكر شيئا عنه هو الآخر.
-وهل ضايقك بعدها ؟ هلا تخبريننى بالحقيقة.
كانت نبرته الغيور الغاضبة ونظراته النارية تنبئ بما لا يحمد عقباه اذا لم تسرع بتهدئته فطمأنته بقولها:
-فى الحقيقة كانت علاقتى به باردة الى أقصى حد فى هذا الوقت , كل ما كنت أذكره هو التجاهل من جهتى ونظرات البغض من جهته الى أن أعلن بعد فترة قصيرة من استلام عمله أنه بصدد اعلان خطبته على فتاة ما وحتى لم يستشر أمه فى الأمر , كأن مجرد اعلامها بموعد الخطبة كافٍ ولم تحضر حتى تفاصيل الاتفاق على الزفاف , أراد منها فقط أن تتصرف كصورة مكملة للمنظر العائلى.
-هذا أمر رائع ومثالى.
كانت سخرية سيف واضحة للعيان وقد أخذ يصفق بيديه وهو يستطرد هازئا:
-ها قد عاد الفارس الشجاع الى منزله حاملا بيديه أميرته المدللة والتى اتفق أنها هى ذاتها سندريلا ابنة عمتى المفقودة وليس هذا فقط بل كانت تمثل دور بياض الثلج التى أنقذها الأمير بقبلة من الساحرة الشريرة, هذا شئ عظيم , فلنصفق معا تكريما لابن عمى المغوار.
-كفى يا سيف , أنت لا تدرى ماذا تقول.
قاطعه كريم هادرا بصوت غاضب وهو بحاول السيطرة على انفعاله اللا ارادى ,فأسكته رفيق بيده وهو ينظر الى سيف بلوم:
-اتركه يا كريم يخرج ما بداخله ,هيا يا سيف قل ما بدا لك.
هز رأسه بعنف وهو يقول كمن يهذى:
-نعم سأخبرك بما يعتمل فى نفسى , لقد صار والدى هو الرجل الشرير بالقصة بعد أن قام المحامى الطيب بفضح أمر فعلته الشنعاء , أليس كذلك ؟ وسوف ينال السيد مجدى طبعا مكافأته من عمتى الحبيبة لأنه قد حافظ على ابنتها الغالية.
لم يحتمل مجدى سخريته واستهزائه المبالغ فيهما فقاطعه بحزم وصرامة:
-اياك وأن تمس عمتك أو ابنتها فى فورة غضبك مما قام به أبوك , اذا أردت أن تلقى بلومك على أحد فهذا الشخص قد انتقل الى رحمة الله ولم يعد باقيا له سوى عمله الطيب.
-وأى عمل طيب ؟ ما عرفته منذ وفاته يكفينى لسنوات أن أؤمن بأنه لا يوجد من هو أسوأ منه على وجه الأرض.
-الله وحده من يملك محاسبته على أفعاله , وما نحن الا بشر مثله ولسنا أنبياء , فكل منا له أخطائه وعيوبه , من منا طاهر برئ بلا خطايا !
لا أحد , أعيدها على مسامعك .. لا أحد يا سيف ,وقبل أن تحاسب اباك على فعلته , اسأله أولا لماذا تصرف هكذا , لا بد وأنه يملك تفسيرا.
شعر سيف بدوامة الحقد تبتلعه بداخلها وهو يلعن بمرارة:
-كفى ! لا يوجد مبرر واحد لمثل هذا التصرف ,وأرجو منكم ألا تلتفتوا لهذيانى ولا تدعوننى أقاطع احتفالكم البهيج بعودة الأميرة ,حمدا لله على سلامتك يا .. أميرة.
واندفع خارجا يتخبط بحيرته وشقائه فلحق به كريم وهو يطمئن الجميع:
-لا تقلقوا عليه , أنا سألحق به ولن أتركه وحيدا.
-نعم يا بنى , فابن عمك يحتاجك أكثر من أى وقت مضى , اذهب ولا تعد الا ويدك بيده.
كانت لهجة أمه المواسية والمشجعة له دوما هى خير معين له فابتسم لها بصعوبة وهو يقول مؤكدا:
-طبعا يا أمى لن أتخلى عنه فهو كأخى.
وهرول لاحقا بابن عمه المحبط.
تلجلجت هناء وهى تشعر بكونها دخيلة على هذا الجو الأسرى فقالت متمتمة:
-حمدا لله على سلامتك يا بنت أخى , مبارك رجوعها لأحضاننا يا فريال , استأذنكما لأذهب الى غرفتى , لم يعد من اللائق بقائى هنا.
-ابقى يا هناء , فأنت ابنة عمى ,وعمة ابنتى , لست بغريبة عنا , هذا هو مكانك وسطنا.
قالت فريال بصدق متمنية أن تعود المياه الى مجاريها مع ابنة عمها والتى كانت مقربة جدا منها وساهمت أفعال والدها ومصائب الزمن فى التفريق بينهما.
-وأين سأذهب يا فريال ؟ ليس لى مكان الا هنا ,ولكننى أشعر بتعب مفاجئ ,ساذهب لأستريح قليلا.
-هل أنت بخير يا تنت هناء ؟ أأستدعى لك طبيبا ؟
سألتها ريم بقلق وهى ترى شحوب وجهها وارتجافة يديها , فقامت هناء بمسح دموع ترقرقت فى عينيها وهى تغمغم:
-لا أنا بخير يا ريم , لا تشغلى بالك , مجرد حاجة الى بعض النوم , تصبحون على خير.
انصرفت ترافقها تمنياتهم القلبية لها بالسلامة والخير.
*************************