-ها قد أتت ريم ,تعالى يا حبيبتى , اقتربى .
كانت هذه هى كلمات جدتها السيدة شريفة التى تجلس محتضنة حفيدتها العائدة من المشفى باصرار عجيب وكأنها تخشى من فقدانها مرة أخرى ,ومدت يدها نحو حفيدتها الأخرى لتستقبلها بحفاوة بالغة , لم تستطع ريم أن تتجاهل دعوتها المفتوحة فألقت بنفسها بين ذراعيها وصارت الفتاتان قريبتين جدا من بعضهما ,همست لها مغمغة باعتذار ضعيف:
-آسفة حقا لما اصابك ,لم يكن لدى النية ...
-هشش , لا داعى للتبرير فأنا موقنة بأنه لا يد لك فيما صار , انه خطأى أنا لم أنتبه لوقوفى قريبة من درجة السلم.
دفاع أميرة المستميت عنها أشعرها بالذنب الهائل وهى التى أذاقتها اتهامات باطلة بدون وجه حق ,وفاض الدمع من عيون السيدات الأكبر سنا واللاتى تأثرن من هذا المشهد الدافئ المفعم بالعواطف ,فيما اقترب رفيق من شقيقته الوحيدة مقبلا خدها بمحبة وهو يعتذر لها على مرأى ومسمع من الجميع الذين شهدوا على اهانته السابقة لها , فصفت النفوس وعادت المياه الى مجاريها.
ثم التفت الى حبيبته المرهقة وابتسم لها بمغزى وهو يجلس بالجانب الآخر من الفراش محتضنا كفها الصغير بين يديه متجاهلا لنظرات الاستفهام التى تلتمع فى عيون الآخرين عدا أربعة منهم كانوا على دراية بنيته ,طبع قبلة رقيقة على أطراف أناملها وشاهد تورد وجنتيها خجلا حين قال بنبرة واثقة قوية معترفا:
-أود بمناسبة اجتماعنا اليوم احتفالا بسلامة أميرة ,أن أعلن لكم خبرا هاما أخفيته عنكم افترة طويلة ...
تعلقت العيون بشفتيه وهو ينطق بالسر الذى طال كتمانه:
-ان أميرة هى زوجتى.
-من هى أميرة هذه ؟
-تزوجتها متى ؟
-لا يعقل.
تباينت ردود الأفعال وانهالت الأسئلة المتعجبة كسيل مندفع على عاتق رفيق الذى أخذ يضحك بمرح وهو يشير لهم بالتزام الصمت والهدوء حتى يستطيع اجابتهم:
-أولا , أريدكم أن تتعرفوا على هذه الفتاة الجميلة والتى تنتمى لعائلتنا من الجهتين , أميرة , ابنة عمتى فريال.
شهقت جدته وهى تضع اصابعها على شفتيها المرتجفتين وتردد متمتمة:
-أهذا صحيح ؟
وتطلعت نحو ابنتها فريال التى كانت تحاول الاختفاء عن أنظار الجميع ,محرجة من صدمتهم لدى معرفة الحقيقة , كانت تتوق لهذه اللحظة بشدة ومنذ عرفت بوجود ابنتها الى جوارها تنتظر بفارغ الصبر نظرة من وحيدتها تقضى على عذاب الانتظار المرير ,وها هى الآن تقف مرتعبة من ردة فعلها , هل ستتقبل ببساطة كونها الأم الحقيقية لها ؟ أم سترفض الاعتراف بهذه المشاعر ؟
-أمى , لقد اشتقت لمعرفة من هى أمى طوال السنوات الماضية , أخفوا عنى الحقيقة حتى خا .. السيدة مديحة لم تصرح لى بها , ربما خوفا علىّ من الصدمة وربما لسبب آخر , وقد جاءت اللحظة يا أمى , أرجوك لا تتركيننى أنتظر.
اندفعت فريال لاهية عما حولها ترى فقط ابنتها التى تحتاج الى حضنها الدافئ الذى حرمت منه وهى رضيعة ,وعادت اليه وهى شابة ناضجة ,أزاحت رفيق لتضم أميرة بقوة بين ذراعيها تكاد تعتصر ضلوعها من شدة لهفتها ,اختزلت آلام السنين ومرارة الذكريات فى ثانية لتتحول الى سعادة متعاظمة وحنين لا ينضب الى أن يتمازج كيانيهما فهى جزءا لا يتجزأ منها ,وأخذت تغمرها بقبلات متتالية لكل خلية بوجهها ودموعهما تختلط سويا ,بادرتها أميرة بالسؤال لتنهى عذاب الحيرة:
-لماذا لم تصارحيننى يا أمى منذ عرفتى بالحقيقة ؟
كانت فريال تشهق من بين دموعها:
-أنا كنت خائفة من رفضك لى ,أخشى ألا تعترفى بأمومتى الضائعة, كلما حاولت بدء الحديث معك أتراجع , وتختفى الكلمات من عقلى , كيف أبرر لك ما حدث , وأنا مثلك ضحية , كنت عاجزة عن حمايتك ,وهربت بعيدا حينما تملكنى اليأس.
-لن يفرقنا أى مخلوق ولن تبعدنا المسافات مرة أخرى , أنا معك وسأظل الى جوارك للأبد يا ماما.
-ماما , ما أحلى هذه الكلمة من بين شفتيك يا طفلتى , كنت أراك بعين الخيال وأنت تكبرين يوما وراء يوم ودائما ما كنت أسمعها بصوتك الذى لم أعرفه ,ماما , حبيبتى لا تتوقفى عن ترديدها لأتأكد أنك هنا معى.
وأخذت أميرة تعيدها على مسامعها مرات ومرات حتى ترتوى من نبع الحنان المنهمر والذى يتمثل فى هذه الكلمة السحرية.
-أخبرونى كيف يصدف أن تكون أميرة هى لبنى ؟
كانت الجدة العجوز ما زالت تحت تأثير الصدمة فلم يتجاوز عقلها هذا الاستفسار وكأن ما يشغلها فقط هو معرفة كيف تحولت لبنى الى أميرة.
أما باقى أفراد العائلة فكانوا أشد ذهولا منها ولم يجرؤ أيا منهم على التفوه بكلمة ساكنين بانتظار التفسير الكامل لما يدور أمام أعينهم.
قام رفيق بازاحة الهم الكامن على صدورهم فى كلمات وجيزة واستهل حديثه قائلا بتصميم:
-ما سأقصه عليكم الآن يعد دربا من الخيال ان لم أتأكد منه بنفسى لكنت انضممت اليكم متشككا مما حدث أمامى وبداية أحب أن أنوّه الى الدور العظيم الذى لعبه السيد مجدى العمراوى للحفاظ على صغيرتك يا عمتى.
كان ذكر اسمه كفيلا بأن يهز كل كيانها ويخترق حجب الصمت التى تغلف بها الجو ,وتنبهت كل خلية من خلايا ذهنها لما سوف يقوله ابن أخيها والذى يبدو أنه على دراية بجميع خيوط القصة ,وبدأت الحكاية:
-أخبرنى مجدى ذات يوم بقصة غريبة ,وهو نفسه اليوم الذى استوقفتنى فيه يا أميرتى عائدا الى المنزل ليلا . أتذكرين ؟
وغمز لها بطريقة صبيانية جعلتها تبتسم رغما عنها وخففت من توترها فقد كانت متلهفة لمعرفة الأسرار الخفية , واستطرد بتمهل:
-حدثنى عن قصة زواج عمتى فريال من ابن عمها ناجى ,خالك يا كريم ,نعم , لا تتعجب فأميرة هى ابنة خالك كما أنها ابنة عمتك ,وكان هذا طبعا دون ارادة من جدى - رحمه الله - ربما لأسباب منطقية تتعلق به وحده ,ولكنه ما أن علم بنبأ حملها حتى توجه الى شقتهما الصغيرة فى يوم كان ناجى غائبا عن البيت واصطحب عمتى معه بدون رغبتها.
توقف قليلا ليلتقط أنفاسه فيما أعادت الذكرى لفريال شعور بعدم الأمان وهى ترى بعينيها شريط ذكرياتها يدور لتجد نفسها وحيدة بلا معين تواجه غضب ابيها الاعمى وسطوته القوية ,بعد أن استغل والدها فرصة سفر زوجها ليحبسها بمنزله حتى تضع مولودها ,وأخذت تتلمس وجنة ابنتها القريبة منها لتتأكد أنها موجودة فكان مجرد ذكر اسم والدها يثير بنفسها الرهبة.
رأى رفيق الجميع يحدقون به متعلقين بما يخرج من بين شفتيه من حديث أغرب من الخيال فاستطرد بلهجة تقريرية:
-وجاء اليوم الموعود وضعت عمتى طفلة جميلة فى يوم شتوى ممطر ,ولم يكذب جدى خبرا فانتزعها منها بلا رحمة ,وطالب مجدى بوضع الصغيرة فى ملجأ للأيتام فلم يحاول وقتها مناقشته أو اثارة غضبه ,على أمل أن يتأكد بنفسه من سوء قراره حين تهدأ فورة المشاعر الغاضبة ,واستطاع أن يضع الطفلة بين يدى أمها لترضعها وكانت هذه هى المرة الوحيدة ...
قاطعته فريال بشرود وكأنها تعيد تمثيل الموقف من جديد قائلة بصوت مهزوز بأسى:
-وقد توسلته ليترك لى أميرة وقد أطلقت عليها هذا الاسم لأنه كان لقب التدليل الخاص بى ,وكنت قد اتفقت مع ناجى على اختياره ,ولكنه وعدنى بمساعدتى وطالبنى بالتمسك بالصبر ...
التقط رفيق طرف الحوار ليكمل القصة:
-ولكن لسوء الحظ يبدو أن أحدا كان يتنصت على حديثهما ,وأخبر جدى بالأمر ,ففوجئ به فى اليوم التالى يقصيه من تولى موضوع الطفلة ,فلم يجد بدا من مسايرته حتى لا يشك فى أمره اذا أصر على التعاطى بنفسه مع الأمر ,وكان عمى عادل هو من أخرج الطفلة من المنزل ليلا متخفيا عن عيون الجميع ... ووضعها على باب دار للأيتام بعيدة عن المنزل ..
قاطعه عمه عادل محتدا بعنف لا يتناسب مع شخصيته الضعيفة:
-هذا كذب وافتراء , أنا لست ...
-لا تكذب يا عادل فقد رأيتك بعينىّ , وكنت أراقبك ليلتها لأعرف كيف ستتعامل مع الطفلة.
أخرسته كلمات المحامى القاطعة وقد شلته المفاجأة بعد ظهوره الغير متوقع على باب الغرفة ,وقد اتجهت اليه أنظار الجميع فتنحنح معتذرا:
-أستمحيكم عذرا لمقاطعتى الحديث ودخولى المفاجئ.
وتعلقت عيناه بعينى فريال التى كانت منكمشة تتشبث بابنتها بخوف غير مبرر فقد اجتمعت بها ولن يفرقهما أيا كان.
اتخذ مجدى مجلسا دون انتظار دعوة فيبدو أن الكل منشغل بالحديث ولا وقت للمجاملات الاجتماعية وواصل سرد الحكاية كما سبق وأخبر رفيق بها:
-وضعها عادل على باب الملجأ وقرع الجرس ليفر بعدها هاربا دون أن يلتفت ورائه فهرعت نحوها ألتقطها وجريت نحو سيارتى , أخذت أقود كالمجنون وبكاء الصغيرة يتزايد حتى يكاد يصم آذانى ,ولم أدرِ أين أتوجه فقد ضاقت بى الدنيا ثم تذكرت وجدى , وجدت أنه الحل الأمثل بأن أطلب مشورته فبالنهاية كانت هذه ابنة أخته ,وبالتأكيد لن يتخلى عنها مثلما فعل أبوه وشقيقه من قبل ,كان صديقى المخلص منذ طفولتنا ولم نكن نفترق الا فيما ندر , لم أرَ من هو أكثر منه حنانا وطيبة لم يكن ليؤذى نملة ,وللمصادفة بذات اليوم كانت زوجته مهجة تلد ,ولكنها فقدت الطفلة بعد ساعات قليلة من وضعها ,فما كان أمامه الا أن يستبدل طفلته بطفلة فريال ولو مؤقتا وكان ينوى اخبارها عن طريقى بأنها بأمان تام معه ,الا أن القدر لم يمهلنا فرصة فقد قام جدكم باقصائها الى بلد بعيد ليدارى الفضيحة كما ادّعى ولتستكمل دراستها بجامعة عريقة ,على ألا تعود وألا يعرف أحد من العائلة بمكان تواجدها ,ولم يكن وجدى قد استخرج شهادة وفاة لابنته فكانت المسكينة خير تعويض له ولزوجته , ولم يكن ممكنا وقتها أن أعود لأخبر جدكم بالحقيقة فقد خشيت أن يتهور ويؤذى أميرة أو وجدى ,وهكذا انتهى بك الأمر فى بيت خالك بعيدا عن الخطط الشيطانية التى كادت تبعدك عن حضن أمك وعائلتك للأبد يا أميرة.
اختتم حديثه موجها اياه للفتاة الباكية بمرارة عما فقدته من سنوات عمرها بعيدا عن كنف والديها الحقيقيين , وما لبثت أن تنهدت بحرقة وهى تسأل عن أبيها:
-وأين هو أبى ؟ أين ناجى الشرقاوى ؟
أجابتها السيدة هناء بعزم حاقد:
-لقد انقطعت أخباره عنا منذ سفره الأخير , وان كان معلوما بدون شك للجميع أن وراء اختفائه كان عمى ,أعلمونا فيما بعد بخبر وفاته والتى ما زلت أشك فى صدق تفاصيلها.
ونظرت بأسى الى أبناء عمومتها تلقى بالتهمة البشعة فى وجوههم:
-لقد استطاع عمى بنفوذه أن يغلق التحقيق فى قضية مصرع أخى ,لتقيّد ضد مجهول.
-لا يمكن , هل تريدين القول بأن جدى قد قتل أبى ؟
بدا أن أميرة لن تفيق من الصدمات التى تجد طريقها اليها بدون ارشاد وهى تهز رأسها نفيا ,فقام محمد لأول مرة بالحديث نافيا هذه التهمة البشعة عن أبيه بقوة واصرار:
-لا يا هناء , الى هذا الحد وكفى , أعرف بأن أبى قد ظلمكما أنت وناجى ,عندما فرض عليك الزواج من أخى لتنالى حصتك بالميراث ثم نكص بعهده ,وحرم ناجى من حقه الشرعى , ولكن لا تنسى أن أخاك قد لعب بقذارة عندما غرر بشقيقتى ليتزوجها بدون علمنا حتى يساوم أبى فيما بعد على نصيبه بالثروة.
-هذا كذب وافتراء.
دافعت هناء بشراسة عن ذكرى أخيها الراحل ,ولم ينتبها الى صمت فريال وتحديقها بشقيقها عادل الذى تخاذل على نفسه بعد انكشاف دوره الحقير بحرمانها من صغيرتها ثم وجدت نفسها تقول بصوت لا حياة فيه:
-أنت يا عادل ! أنت تفعل هذا دونا عن الجميع , لماذا ؟ ما الذى جنيته بحقك ؟ لقد كنت دوما سندا لك كما كنت لوجدى , ألا تذكر أننى وقفت الى جانبك عندما أصررت على الارتباط بمن أحببتها على الرغم من رفض أبى وقتها لأنها كانت تعمل سكرتيرة لدينا , ألا تذكرين هذا يا منى ؟
امتعضت المرأة من ذكرها لوظيفتها السابقة وقد شعرت بنظرات استعلاء من فريال فقاومت شعور جارف بالدونية وأشاحت بوجهها بعيدا عنها رافضة اعطائها الاجابة الشافية , فيما بقى عادل شاخصا ببصره الى الفضاء لا يجرؤ على الاتيان بحركة أو التفوه بحرف واحد بعد أن سقطت صورته المثالية أما عينى ابنه الذى كان مشمئزا من والديه وتصرفاتهما الغير أخلاقية ,حتى أنهت فريال لومها قائلة باستسلام:
-حسبى الله ونعم الوكيل ! لن تتذوق طعم الراحة منذ الآن يا عادل , فيكفى أن حقيقتك البشعة قد ظهرت للجميع .
انهار عادل مبتعدا عنهم فى صمت خجلا من نظراتهم المحتقرة , لم يحاول حتى طلب السماح من أخته , كان متخاذلا بحق نفسه وحق الآخرين ,اتخذ الفرار وسيلته المفضلة بدلا من المواجهة , فيما لحقت زوجته به دون أن تنطق بكلمة على غير عادتها ,وبعدها حاول سيف الانسحاب هو الآخر الا أن كريم استوقفه جاذبا اياه الى جواره ليربت على كتفه مؤازرا , ولم تمض ثانية الا وكان رفيق هو الآخر بجانبه يحاوره بمنطقية:
-الى أين تريد الذهاب يا ابن عمى ؟
أطرق سيف برأسه متواريا وهو يغمغم:
-أعتقد أنه لا مكان لى بينكم بعد ما عرفته عن أبى.
لكزه رفيق بقوة وهو ينهره عن مثل هذا القول:
-توقف عن الرثاء لنفسك ,فما حاجتك لهذا ,ان ما قام به عمى هو الوحيد المسؤول عنه ,وأنت لا ذنب لك فيه كما لا ذنب لأى منا فيما قام به جدى من ظلم بيّن لعمتى وعمى ,ولا أريدك أن تفكر بهذه الطريقة بعد الآن , نحن واحد يا سيف , أتفهم ؟
قامت سوسن بمراقبة ابنها عن كثب ولم تلبث أن ضاقت عيناها وهى تلمحه ينظر لها بالمثل ويقول فى محاولة منه لاذابة الجليد وهو يدرك أنها تموت شوقا لمعرفة حقيقة اعترافه السابق:
-أعتقد أن الجزء الناقص لدىّ , وهو ما يتعلق بكون أميرة زوجتى , هل أحكيه أنا أم تروى أنت تفاصيله يا أبى ؟
نظر بأمل الى أبيه لعله يريحه من عبء هذه المهمة الشاقة فوافقه بهزة من رأسه:
-حسنا يا بنى , كما تريد سأروى أنا بقية الحكاية أو بدايتها ...
وبدأ ...يقص عليهم كيف ظل على صلة دائمة بأخيه وجدى حتى بعد طرد أبيه له من بيت العائلة لزواجه من أخرى ,وأنه كان يصطحب معه فى زيارته لأخيه كريم ورفيق بحجة التنزه ,حتى صارا مقربين منه فلم يحرم وجدى من رؤية ابنه وتوثقت علاقتهما بلبنى الصغيرة ووقتها لم يكن قد صارحه وجدى بحقيقتها ربما خوفا من افشاء السر وتفاقم الامور ,وفيما بعد وقبل وفاة أخيه بقليل طالب بلقائه هو وابنه رفيق , ثم أفضى اليهما بسر خطير : لبنى ليست ابنته وأنها فتاة متبنّاة وقد طالبهما برعايتها والعناية بها ,ومنذ وقعت الحادثة انقطعت زياراتنا لها فقد انتقلت الى منزل السيدة مديحة حيث استقرت بكنفها هى وزوجها يهتمان بكافة شؤونها ولولا خوفهما من غضب الجد ورفضه لأى صلة تربطهما بوجدى أو ابنته لاصطحباها لتعيش معهم بالفيلا ,وبعد فترة توفى زوج السيدة مديحة تاركا اياها وحيدة مع ابنها حسام وابنة أختها لبنى ,وما لبثت مضايقات حسام لابنة خالته كما كان يظن أن ازدادت فصار يلاحقها حتى توافق على الاقتران به ...
استعادت أميرة ذاكرتها بوضوح لترى نفسها صغيرة ملاحقة من جانب الشاب اللجوج الذى اثبت أنه نذل بجدارة فقد استغل تواجدها بمنزلهم ليضيّق عليها الخناق مطالبا اياها بالزواج منه ظنا منه أنها ستخجل من رفضه عرفانا بجميل أسرته عليها ,فأخبرها بأنه ابن خالتها وأنه أولى الناس بها , كأنها قطعة من الاثاث تورث لا رأى لها ,فما كان منها الا أن لجأت الى رفيق ابن عمها والذى كانت تميل كثيرا اليه ,كان حنونا لطيفا فى معاملتها ,لم يبخل عليها بمساندته ومشورته فى أى أمر ,ابتسمت حين تذكرت حوارهما ذلك اليوم حين انهارت باكية أمامه حين سألها عن حالها.
-ما بك يا لبنى ؟
أجابته وهى تغالب دموعها:
-لا شئ , فقط حسام .. ابن خالتى ...
-ما به ذلك الفتى ؟ أضايقك بكلمة ما ؟
لم تجد بدا من اخباره بالحقيقة كاملة فلم تعد تقوَ على المقاومة وحدها فصرحت له:
-انه يطالبنى بالزواج منه.
انتفض رفيق حين سمع كلمة زواج ونظر لها باشفاق ولكنه أراد التأكد من صدق احساسه برفضها:
-هل أنت موافقة ؟
- كلا , طبعا.
شعر بالراحة تغمره فكيف كان سيتصرف اذا ما أخبرته بما يخشى الاعتراف به ,هل سيأتى اليوم وتكون لغيره ؟
لقد أراد أن يتزوجها طبعا ولكنه لم يصارحها بهذه الرغبة بعد لأسباب كثيرة , أولها : جده وخوفه عليها من غضبه ,اصافة الى صغر سنها فى هذا الوقت ولم تكن قد أتمت دراستها الجامعية , لم تفتر مشاعره نحوها بعد اعتراف عمه بأنها مجرد فتاة متبناة بل تعمقت هذه المشاعر ليحاول حمايتها فأعد نفسه مسؤولا عنها بالكامل.
-حسنا , ما عليك سوى اخباره برفضك ليبتعد عنك و..
قاطعته متأملة أن يريحها من عذاب الانتظار:
-لن يتركنى لحالى , لقد أصبح يطاردنى فى كل مكان , واصبحت أخشى خروج خالتى لأى مكان حتى لا أكون وحيدة معه.
-ألهذه الدرجة ؟ هل تجاوز حدوده معك هذا الحقير ؟
أجابته سريعا حتى لا يتضايق:
-لا , ولكنه لحوحا ,لم أعد أطيق البيت ,وأفكر جديا بالهروب.
-ماذا تقولين يا لبنى ؟ الهروب ؟ كيف قادك تفكيرك لهذا الطريق ؟
-وماذا أفعل ؟ لم يعد بيدى حيلة.
كانت يائسة وحيدة بلا معين تلجأ اليه خائفة من مصارحة خالتها بالحقيقة لأنها بنظرها صاحبة فضل عليها ولا تريد أن يزداد الشقاق بينها وبين ابنها , فيكفيها شجارهما المتواصل بسبب أنانيته المفرطة وعدم قدرته على تحمل المسؤولية على الرغم من تخرجه بكلية الهندسة ,ورفضه للبحث عن عمل مناسب حتى يساهم فى مصروف البيت ,وبقيت تنتظر فارسها الأمين ليخلصها من تعاستها.
فجأة خطرت بباله فكرة جهنمية ولكنه ما لبث أن توقف ليفكر قليلا هل حقا يمكن تنفيذها وبدأ يشرح لها باستفاضة خطته:
-اسمعى جيدا يا لؤلؤتى ,لا يوجد أى حل الآن الا أن يصير لديك مانعا شرعيا للارتباط به ؟
-وما هو هذا المانع ؟ لا يوجد شئ الا أن نكون اخوة فى الرضاعة , وهذا مستحيل طبعا لأنه يكبرنى بعدة أعوام.
ابتسم من سعة خيالها المفرطة وضحك عاليا بمرح جعلها تنظر له مغضبة وهى تقول بطفولية بحتة:
-لماذا تضحك ؟ هل تسخر منى يا رفيق ؟ أنا سوف أخاصمك , هه.
وكشرت كما كانت عادتها وهى طفلة عندما يزعجها أمر ما , فأخرج رفيق من جيبه علكة من نوعها المفضل ومازحها قائلا:
-هيا يا طفلتى , خذى هذه العلكة , انها من النوع المفضل لديك.
ومدت يدها فورا لتختطفها من بين يديه الا أن أصابعه قد تمسكت بها وهو يقول بمكر:
-ليس بهذه البساطة , انتظرى.
ارتعشت لدى احساسها بلمسة أصابعه على يدها وقد ساورها شعور غامض بأنها كان يقصد ملامستها ولم يكن تصرفه عفويا ,فحاولت الانسحاب بعيدا ,فتركها بسهولة ويسر حتى يعتدل بجلسته وهو يقول بجدية:
-لبنى , لا يوجد سوى حل واحد.
-ما هو ؟
-أن نتزوج.
*****************