الفصل السادس عشر
حينما أتم الطبيب كشفه على أميرة كانت تشعر بضيق بالغ من جو الغرفة المعبق برائحة المطهرات القوية كما أنها تألمت حين أزالت الممرضة سن المحقن الخاص بالمحلول الذى كان يمدها بالعقاقير اللازمة حتى تستقر حالتها ,هز رأسه برضا وهو يقول ببشاشة:
-ما شاء الله لقد تحسنت كثيرا فى خلال فترة بسيطة والدليل على هذا هو نقلها الى غرفة عادية ,والحمد لله أننا قد عوضنا الفاقد من الدماء التى نزفتها .
ثم التفت محدقا بوجه رفيق المضطرب وهو يهنئه على سلامتها ثم استطرد بفضول:
-أليست مصادفة غريبة أن تكون فصيلة دمكما واحدة ؟ هذا لأن هذه الفصيلة أصلا نادرة جدا !
ابتسم رفيق مجاملة للطبيب الشاب وتملص من الاجابة على سؤاله بدبلوماسية حين باشر بسؤاله:
-متى يمكنها أن تخرج من المستشفى يا دكتور؟
لم يكف الطبيب عن توزيع ابتساماته وهو يمارس عمله فى تسجيل بعض الملاحظات عن الحالة ويضيف أسماء العقاقير الجديدة المطلوبة ولكنه أجاب بسماجة:
-لا يمكن , ليس بهذه السرعة يا سيد رفيق , لا تنس أن الوقعة ربما تكون قد تركت آثارا غير واضحة الآن فعلينا أولا أن نتأكد من سلامتها قبل السماح لها بالمغادرة.
أنّت أميرة بخفوت حين غرست الممرضة محقنا فى ذراعها المكشوفة طبقا لأوامر الطبيب المعالج , فالتفت اليها رفيق متعاطفا وهو يقترب من فراشها محتويا كفها الرقيق بيديه حتى يلهيها عن الألم ,وانتهت الممرضة من عملها وبقيت تنتظر تعليمات الطبيب الجديدة بخصوص المريضة وكانت تهز رأسها بدون أن تناقشه فانشغلا عما يدور بين أميرة ورفيق,ثم تبعته الى الخارج.
كان رفيق ما زال على وضعه وهو يعتصر أصابعها حتى يتأكد من أنها حقيقية أمام عينيه وتبتسم له بحب كما كانا بالماضى البعيد قبل أن تنهال عليهما الحوادث الواحدة تلو الأخرى ,كان بعينيها الكثير من التساؤلات الصامتة ,وظلت متعلقة به كطفل صغير وجد أمه التى ضاع منها ,جذب كرسيا معدنيا ليستقر الى جوارها قريبا منها ولم يكن يجرؤ على افلات يديها ,ويبدو أنها كانت سعيدة بتمسكه هذا وبدأت تتساءل عن كيفية وقوع الحادث وكأنها لا تتذكر:
-ماذا حدث يا رفيق ؟ هل وقعت أم تعثرت ؟أنا أكاد لا أتذكر شيئا ... سوى أننى كنت أتحدث مع ريم و...
لم تكمل جملتها فقاطعها رفيق هائجا:
-ريم ؟ وما دخلها بما حدث ؟
توترت أميرة وخشيت من انفعاله الواضح فانكمشت على نفسها وهى تردد بأسى:
-لا أدرى ,كانت تقول .. لا يهم .. فلست أتذكر ولكنها كانت غاضبة منى أو من شئ ما ,وبعدها سقطت فى ظلام دامس ... رأسى تؤلمنى بشدة, آه.
هدأ من لهجته الثائرة فلا مجال لها بهذا الوقت وربت على كتفها بحنان وهو يحاول بث الطمأنينة فى نفسها:
-حبيبتى , أرجوك لا فائدة ترجى من محاولة استرجاع هذه الذكرى المريرة ,انسها ,يكفينا أنك عدت لنا سالمة معافاة.
لم يبد على وجهها دلائل الانفراج من أزمتها الدائرة بعقلها فهزت رأسها لتبعد عنها ذكريات محزنة أخرى فقالت بقلق:
-ولكننى أتذكر أحداثا أخرى مختلطة بهذا الحادث , سيارة ,,, ارتطام وكنا سويا, أليس كذلك ؟
حاول أن يتجاهل حديثها وهو ينبهها الى ضرورة التزام الهدوء وعدم تحريك رأسها بعنف فالطبيب ما زال غير متأكدا من عدم اصابتها بارتجاج بالمخ كما أن الجرح قد توقف عن النزيف ولكنه قد يعاودها مرة أخرى ,فاستسلمت لارادته وهى حائرة ثم سألته عن خالتها:
-ولكن أين هى خالتى مديحة ؟ ألم تخبرها بعد , لا بد أنها قلقة على غيابى.
أسقط فى يده بعد ذكرها للخالة مديحة وأخذ يحاور نفسه: ما الذى يتعين عليه القيام به الآن ؟ يبدو أنها ما زالت مشوشة التفكير من اثر الحادث ,فقد بدأت الاحداث تختلط عليها ,مرة تتذكر ريم , وتارة أخرى تفكر بالحادث الأول الذى تعرضا له منذ أربعة سنوات مضت وفقدت على اثره ذاكرتها القريبة فقط ,أخبره الطبيب النفسى وقتها الذى تولى علاج حالتها أنها تتذكر ماضيها جيدا وكل الأحداث التى مرت على حياتها منذ وعت على الدنيا الا أنها أسقطت من ذاكرتها البضعة سنوات القريبة ,وكان هذا معناه أنها لا تستطيع أن تتذكره ولا ظروف زواجهما السرى الذى لم يعلم به أحد ولا حتى خالتها ,وحين عرفت السيدة مديحة بأنها كانت معه بسيارته أثناء وقوع حادث الاصطدام قامت بتوبيخه بعنف وطردته من حياتهما شر طردة وخاصة أنها كانت تحاول حماية الابنة التى تركتها أختها وزوجها بعهدتها ,ولم يكن هناك مفرا من الابتعاد المؤقت عنها حتى تسترد ذاكرتها المفقودة ,وظل يتابعها من بعيد حتى يطمئن على سلامتها ,وبدأت بعمل جديد كان هو من قام بتوفيره لها بمكتب السيد فهمى الذى كان على معرفة وثيقة به ,ودون أن تعرف طبعا فقد كان بالنسبة اليها مجرد رجل غريب لا تعرفه ,وطال انتظاره حتى تتحسن حالتها ويبدو أنها مارست حياتها بشكل طبيعى فتعرفت على زميل لها , جاسر ,ذلك الشاب الذى كان يعمل معها بذات المكان وتوطدت أواصر العلاقة بينهما ,لم ينس أبدا السكين التى انغرزت بصدره حين رآها تخرج برفقته أكثر من مرة وهو غير قادر على التدخل لمنعها ,الا اذا أراد أن تنتكس حالتها الصحية أو يتسبب لها بفضيحة علنية اذا ما أعلن خبر زواجهما ,وفى وقتها لم يكن مستعدا لمجابهة جده ورفضه القاطع لأى صلة بوجدى أو ابنته حتى بعد وفاة عمه لم يتزحزح عن موقفه الرافض لها لأنها ابنة المرأة التى اختطفت ابنه من بيته وأسرته ,فأخذ يراقبهما بعين لا تغفل خشية تطور العلاقة بينهما الى أمر آخر .
-رفيق ... أين سرحت بأفكارك ؟
-هه ... لا شئ , آخ.. لقد نسيت أن أطمئنهم على حالتك , لا بد أن القلق قد استبد بهم.
-من هم هؤلاء الذين تتحدث عنهم ؟ وأين هى خالتى ؟
-حبيبتى , لا تشغلى بالك ,سأذهب لأخبرهم بأنك قد استعدتى وعيك ,واذا أردت أن أخبر السيدة مديحة فسوف أفعل ولكن ليس الآن لأنها اذا رأتك على هذه الحالة فسوف تنهار لن تتحمل أبدا , صدقينى.
-لا تذهب وتتركنى وحدى , أنا خائفة.
كان صوتها المرتعش وقسمات وجهها الجميلة التى تغضنت بفعل تكشيرها أكثر مما يحتمل فعاد الى جوارها وهو يحتضنها برفق حتى لا يؤلمها من فورة مشاعره التى انفجرت بعد طول كتمان فلم يعد قادرا على السيطرة عليها وهمس لها بعشق:
-أميرتى ,أنت تعرفين أنك أغلى وأقرب الناس الى قلبى , ولا يمكننى أبدا أن أتخلى عنك ,فقط ثقى بى يا حبيبتى ,دعينى فقط أذهب لبرهة قصيرة وسوف أعود سريعا.
تشبثت به وهى تشعر بالأمان الذى افتقدته طويلا بعد أن ناداها باسم التدليل المحبب اليه ( أميرتى ) وكأنها تعود الى منزلها بعد غياب سنوات وترددت قبل أن تتركه يغادر وهى تسأله باستعطاف:
-هل تعدنى ؟
-أعدك يا ملاكى.
ثم كوّر أصابعه أمام شفتيه وألقى لها بقبلة فى الهواء ,ثم انصرف تاركا الفتاة حائرة مرتبكة .
*****************