الفصل الرابع عشر
لم يكد أبناء العم الثلاثة يصلون الى مقر الشركة متتابعين حتى اجتمعوا سويا فى مكتب رفيق بناءا على رغبة منه ,وفيما اكتفى كريم بالصمت وهو يشعر بالثورة تكاد تتفجر من عينيه اللتين تقدحان شررا وهو يكتم غيظه بقوة هائلة وقدرة عظيمة على السيطرة على النفس ,وأخذ سيف يعبث بالسلسلة الفضية الرفيعة التى تحيط بعنقه والتى يختفى معظمها تحت قماش قميصه الناعم ,استقام رفيق فى جلسته خلف المكتب الخشبى الأنيق وهو ينقل بصره بين ابنى عميه وصديقى طفولته ويفكر هل يستطيع ائتمانهما على سره الخطير ؟لقد فاض به الكيل وبدأ يشعر بالانزعاج من تصرفات أفراد عائلته الغير معقولة وفى نفس الوقت لم يعد قادرا على تحمل المشكلات التى تنبثق من العدم وتأخذ فى التضخم حتى تصير معضلة عويصة ,واكن أكثر ما يزعجه هو تصرفه تجاه أخته الوحيدة , لم يشعر بنفسه الا وكفه يهوى على خدها الرقيق فى تهور أحمق لم يكن عليه الانجراف اليه ,هى من بدأت باستفزازه متعمدة وأثارت موضوعا من لا شئ وأنهت تحديها له باهانتها لأميرة ووصفها لها بأنها صائدة ثروات حقيرة , كان هذا فوق طاقته على الاحتمال وانفلت زمام السيطرة على الأمور من بين يديه ,والنتيجة أنه يشعر بالاحتقار لذاته فهو مؤمن بمبدأ أن من يضرب امرأة لا يعد رجلا.
تنفس بعمق وهو يحاول أن يسترخى بلا جدوى فقلبه منقبض لسبب ما , لا بد أن يصالح ريم فور أن تهدأ وتستقر الأوضاع التى تركها مشتعلة بالمنزل فقد كان مشهد الصفعة على مرأى ومسمع من أبيه وجدته التى لن ترحمه ولن تغفر له أبدا ,أخذ الاثنان كريم وسيف يتبادلان نظرات ذات معانى فقد بدآ يتساءلان عن الغرض من حضورهما الى مكتبه فيما هو غارق بأفكاره الخاصة بعيدا عنهما مئات الأميال ,تنحنح سيف متعمدا وهو يلوح بيديه أمام عينى رفيق اللامعتين كالفضة الشائلة ويقول :
-نحن هنا , رفيق فيما أنت شارد ؟
انتفض رفيق من ذهوله وهو يتساءل بتعجب:
-ماذا هناك يا سيف ؟
-أنت الذى طلبت منا المجئ الى مكتبك لأمر ضرورى , ولا أعتقد أنك تريد أن نشهد على أحلام اليقظة الخاصة بك ,هل تود التحدث بخصوص ريم ؟
-لماذا ؟ هل هناك ما يخصها ؟
توتر سيف قليلا وهو يشعر بأنه قد تورط بأمر غير محمود:
-ربما أردت الفضفضة أو تفسير سبب تصرفك الغريب نحوها
نظر له رفيق بعدائية واضحة وهو يكتف ذراعيه أمام صدره , ثم قال بنفور:
-ليس هذا هو وقت التسلية ولعبة الصراحة ,كما أننى لست بحاجة لمن يحاسبنى على تصرفاتى , وبالتأكيد لن يكون ايا منكما.
كان كريم يحاول السيطرة على انفعالاته المتضاربة وانسلت منه الكلمات بدون أن يعى:
-حتى قضاؤك لليل مع لبنى المزعومة بغرفتك لا يستحق التفسير ,وتسللها صباحا الى غرفتها بدون علم أحد لا يستوجب التبرير,وصفعك لشقيقتك الوحيدة لمجرد أنها قد تجرأت وتطاولت عليها لا يستدعى الشك.
تفجرت الصدمة فى وجه سيف الذى كان لا يصدق ما تسمعه أذناه وهو يضرب كفا بكف متعجبا ويردد متمتما:
-لا حول ولا قوة الا بالله , لا حول ولا قوة الا بالله , ما الذى يجرى ؟
أشعر كأننى فى حلم سخيف !
أجابه كريم بطريقة استفزازية وهو يحاول أن يرى رد فعل رفيق على كلامه:
-الأوقع أن تقول أننا نمثل فيلما سخيفا من الدرجة الثالثة ,فقد استحالت حياتنا الى جحيم منذ دخلت هذه المخلوقة المزيفة الى بيتنا مدعية أنها ابنة عمنا.
-اخرس !
قاطعه رفيق بعنف وهو ينهض من مقعده بخفة النمر ليصل اليه فى ثوانى معدودة ويمسك بتلابيبه بقسوة مهددا اياه والشرر يتطاير من عينيه , فيما حاول سيف أن يهدئ الوضع المشتعل بينهما وهو يبعدهما الواحد عن الآخر واضعا جسده الطويل حاجزا بينهما ,أما كريم فلم يفلح تهديد رفيق فى اسكاته بل استطرد بصوت أعلى:
-لا , لن أصمت بعد الآن , فى البداية كنت أثق بك ثقة عمياء فآثرت السكوت حتى أدع لك الفرصة لتوضح لى ما يجرى من ألاعيب ولكنك تماديت هذه المرة يا ابن عمى العزيز وأصبحت تتصرف بغرابة شديدة ,وكل هذا ولا تريد أن تعطينا اجابات شافية على الأسئلة التى تدور بأذهاننا.
وجه سيف نظرات اتهام الى رفيق منتظرا أن ينفى عن نفسه التهم التى يلقيها بوجهه كريم فى اندفاع وكان صمته الدليل الكافى على صدق هذه الادعاءات.
-لا أصدق ما يحدث ! وما الذى يعنيه بأن لبنى مدعية كاذبة ؟ هل هذا صحيح ؟
-أنا لا أكذب يا صديقى ,فهى التى اعترفت لى بنفسها منذ اول يوم لها بالشركة بل وطالبتنى بالتعاون معها فى خطتها الحقيرة للنيل من العائلة , انها تسعى فقط للانتقام ,ولا أعرف حتى سبب رغبتها هذه.
-فقط اهدآ وسوف أشرح لكما كل شئ.
تهالك رفيق على أقرب مقعد وقد ظهرت على ملامح وجهه آثار التعب والارهاق ,فلم يعد هناك بدا من الاعتراف بالحقيقة , الحقيقة الكاملة ,ربما آن الآوان لأن يأخذ كل ذى حق حقه ,وهذا أفضل للجميع.
فيما كانا الرجلان الواقفان الى جواره يستعدان للجلوس حتى يستمعا اليه بصدر رحب , رن جرس هاتفه المحمول , كاد أن يتجاهل رنينه المتواصل أو يغلقه فى وجه المتصل الا أنه أدرك هويته فأجاب بصوت منخفض يشوبه آثار من الارهاق :
-آلو , نعم يا أبى .
أنصت باهتمام الى صوت أبيه الحزين وهو يخبره عن الحادث الذى ألم بابنة عمه , ولم يتمالك رفيق نفسه من الانزعاج وهو يهتف بأسى:
-ما الذى تقوله ؟ كيف حدث هذا ؟ ومتى ... أين هى ؟ بأى مستشفى ؟
سأكون حالا عندكم.
ألقى بالهاتف فى جيبه وأسرع نحو سلسلة مفاتيحه يلتقطها برشاقة وهو يسارع بالخروج الا أن كريم استوقفه بقلق:
-ماذا جرى ؟ هل عمى بخير ؟
-نعم , انه بخير , ولكنها أميرة ... سقطت من فوق الدرج , علىّ أن ألحق بهم فى المستشفى.
هم سيف باللحاق به وقد بدا متوترا منزعجا:
- هل اصابتها خطيرة ؟
-لا أعرف , ولكنها فاقدة للوعى.
-حسنا , هيا لنذهب جميعا.
هم رفيق بأن يرفض مرافقتهما له الا أنه وجد كل كيانه ينهار دفعة واحدة وتيقن بأنه لن يقوى على قيادة السيارة , فما أخبره به والده غير مبشر بالخير , فحالتها غير مستقرة سقطت من على الدرج وأصيبت بنزيف فى الدماغ ,هل ستكون هذه هى النهاية ؟ لا يمكن , ليس بعد دخولها الى حياته مرة أخرى , ألن يمهله القدر فرصة للاعتراف بحقيقة مشاعره نحوها ؟
خرجوا من غرفة المكتب مسرعين الى الخارج ولكن سيف التفت الى مها التى كانت جالسة تنهى بعد الأوراق المطلوبة على جهاز الكمبيوتر ونظر لها مطولا ثم أخبرها بصوت عادى:
-الغى كل اجتماعات السيد رفيق لليوم ,وأبلغى السيد منير بغيابنا لأمر طارئ فعليه أن يتولى هو زمام الأمور.
شعرت بحاستها السادسة أن لغياب مديرها سبب خطير فحاولت أن تعرفه بفضول المرأة الذى لا ينضب:
-هل كل شئ على ما يرام ؟ أعنى أتمنى ألا يكون غيابكم ...
وتوترت شفتاها بعد أن اخترقتها نظراته المدققة بشغف حاول أن يشغل نفسه بالقضية الأهم فابتعد عنها متجاهلا:
-لا عليك , فقط أبلغيه بما أخبرتك به .
وتركها وعلامات الاستفهام تتطاير برأسها الجميل , كانت تتمنى لو تستطيع أن تغير من مبادئها التى تربت عليها وتحاول أن تسلك طرقا ملتوية لتحقيق غاياتها , ولكن هيهات فمن شب على شئ شاب عليه , وان غدا لناظره قريب , انتظروا انتقامى يا عائلة الشرقاوية.
واعتدلت بجلستها لتجرى اتصالا هاتفيا بمكتب السيد منير كما أمرها سيف بنبرته المتسلطة التى تشع سيطرة وعنفوانية.
***************