الفصل الثالث عشر
حينما عاد رفيق من مشواره الى المنزل كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا , وكان الهدوء مخيما على أرجاء البيت الفسيح , فاختطف درجات السلم الرخامى سريعا بخفة ورشاقة غير متوقعة بالنسبة لضخامة حجمه وهم بالولوج الى غرفته الا أن هناك من استوقفته بحركة يديها التى جذبت طرف كم قميصه وهمست باسمه برقة:
-رفيق , انتظر.
تراجع الى الخلف ليرى لبنى واقفة أمامه مرتدية ثوبا قطنيا فيما يلتف حول قدها النحيف معطفا منزليا أنيقا قامت بعقد حزامه حول خصرها باحكام,وهى تنشد اهتمامه الذى تصاعد بقلق ,وهو يسألها بهدوء وجمود:
-ما الذى يبقيك مستيقظة حتى هذا الوقت المتأخر ؟
تطلعت نحوه متعجبة وترددت بضعة لحظات قبل أن تجيبه:
-وما الذى يجعلك تخرج فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ؟
أخذ ينظر لها وهو يحاول سبر أغوارها وتساءل بنفسه ما الذى يجعلها تهتم لأمر خروجه , وهل كان تحت قيد المراقبة ولم يشعر بها , تنحنح قبل أن يبتسم بخبث:
-وهل كنت تراقبيننى ؟
-أنا ؟ ولماذا أراقبك ؟
-اذن كيف عرفتى أننى خرجت ؟
نظرت اليه واشارت بصمت الى ملابسه , ثم خرج صوتها متهما:
-أنت ترتدى ملابس الخروج كما أننى قد سمعت باب غرفتك وهو ينفتح من قبل وكنت ساهرة فعرفت أنك تستعد لمغادرة المنزل.
ارتفع حاجباه بسخريته المعتادة قبل أن يقول بمرح:
-اذن أنت تراقبيننى كما قلت , لماذا يا لبنى ؟
تراجعت خطوتين الى الوراء من جراء تحديقه بها حتى اصطدم ظهرها بالحائط البارد من خلفها وشعرت بالتهديد الماثل أمامها , وسألت نفسها لم تهورت هكذا ؟ وأخذت تنظر الى الرواق الخالى الا منهما فقد كانت بقية الغرف تبعد عن غرفتيهما المتجاورتين وبدأت تشك فى حماقة تصرفها الأرعن ,وخاصة حينما بدا على رفيق التسلية بما يحدث لها وهو يتقدم منها وفى عينيه نظرة احتارت فى تفسيرها , الا أن موجة شجاعة فارغة قد سرت بعقلها محاولة شن الهجوم بغرض الدفاع:
-هل كنت فى موعد مع فتاة ؟
جلجلت ضحكته القوية فى حلقه ,وأخذ يتمعن فى النظر الى الفتاة الواقفة أمامه تستجوبه وكأن لديها الحق فى ذلك ثم أجابها ببرود أغاظها كثيرا:
-وان يكن ؟ هل لديك مشكلة ما ؟
-لا ليس لدى مشكلة , فأنت حر فى تصرفاتك , ولكنك لست محتاجا لأن تقابل حبيبتك فى منتصف الليل هكذا وكأنكما تسرقان , هل تخشى شيئا ما ؟
-أنت حقا فتاة غريبة الأطوار ,لماذا تهتمين ان كنت على موعد مع ... حبيبتى ... ليلا أو حتى فجرا ؟
اشاحت بوجهها بعيدا عن نظرات عينيه المدققة بعناية والتى لا تفوتها شاردة ولا واردة كعينى صقر قنّاص ,ولكنه أجبرها على النظر اليه بطرف اصبعه تحت ذقنها بتسلط واضح وهو يستطرد بخفوت:
-هل تغارين ؟
تلاقت أعينهما فى نظرات طويلة متألقة وكأنها رسالات صامتة تعبر عن مدى التوتر المتنامى بينهما ,ولم تستطع الافلات من حصار عينيه الفضيتين اللتين أسرتاها بقيود غير مرئية ,فحاولت الهروب من الاجابة عن سؤاله المفاجئ فقالت بتوتر :
-رفيق , لقد تأخر الوقت ,ولم يعد مريحا بقاؤنا هكذا فى الرواق على مرأى ومسمع من أى عابر.
كانت تعنى أن الوقت متأخر وأنها تود الذهاب لتنام الا أنه قد اساء تفسير كلماتها عن عمد فقال بغموض:
-معك حق .
وسحبها ورائه عنوة الى غرفته التى فتح بابها بتمهل ثم أغلقه بذات الطريقة فوجدت الفتاة نفسها فجأة حبيسة ذراعيه القويتين بداخل الغرفة المظلمة ,الا من صوء القمر الخافت الذى يتسلل على استحياء من النافذة الزجاجية وقد كان القمر بدرا مكتملا فاستطاعت أن ترى انعكاس الضوء على ملامح مرافقها الحادة وقد جعلته اشبه بقرصان من الأزمنة الغابرة يتمسك بصيده الثمين ,وابتلعت ريقها بخوف وهى تتساءل ماذا يريد منها ؟ وهل من سبيل للنجاة ؟
لم يتردد رفيق طويلا قبل أن يضع اصبعه على زر الاضاءة لتغمر المكان بلمحة سريعة فأعادت الى نفس الفتاة بعض الطمأنينة وهى تؤكد لنفسها أن رفيق غير قادر على ايذائها فقد وعدها بالحماية ؟ ولكنها لم تكن تخشى الأذى البدنى ,بل كانت تدرك جيدا أن مشاعرها المتضاربة نحوه هى أسوأ ما يمكن أن تواجهه بهذه اللحظة كما أنها لا تعرف ردة فعله المتوقعة فى مثل هذا الموقف وهى وحيدة معه.
ثم أدار المفتاح فى قفل الباب مغلقا اياه فأصدر التكة المعروفة والتى انبأتها بأن اسوأ كوابيسها قد بدأ يتحقق امام عينيها المذهولتين ,وأخفى رفيق المفتاح بجيب قميصه وأخذ يتجول بغرفته بحرية مشيرا لها بالجلوس فلم تجد مفرا من الاستجابة له وسمعته يقول بعد أن أولاها ظهره :
-سوف أتوجه لأخذ حماما ساخنا ولن أتأخر عليك , نصيحتى لك أن تبقى ساكنة وديعة وألا تثيرى ضجة فالجميع كما تعرفين نيام.
وتركها تتخبط بحيرتها متوجها نحو غرفة الحمام الملحقة بغرفته والتى يفصلها عنها جزء صغير مغلق بباب خشبى آخر مما أتاح لها فرصة للانزواء بعيدا عن نظراته الأخيرة لها قبل أن يختفى تماما .
لم يستغرق رفيق أكثر من عشرة دقائق قضتها الفتاة فى تفكير عميق بتخمين ما سوف يحدث لاحقا ,ووجدت من يشغل محور تفكيرها ماثلا أمامها مرتديا بنطلونا أسود اللون فوقه قميص قطنى بلون مماثل ,وتقطر المياه من خصلات شعره المبلل فيما تسللت رائحة عطره القوى الى أنفها ,كان مثالا للوسامة المدمرة والجاذبية المميتة.
جلس الى جانبها وأخذت يداه تتلاعب بخصلات شعرها المتناثرة على ظهرها فارتعشت بدون ارادة منها لتسأله عما يدفعه ليتصرف معها بطريقة غريبة:
-ماذا تريد منى يا رفيق ؟
حدق بها باعجاب واضح وهمس لها:
-أنا من يتعين عليه سؤالك , ماذا تريدين أنت منى ؟
لم تستغرق أكثر من ثانية لتجيبه بخفوت:
-أنا لا أريد شيئا الا الابتعاد عن هنا , فلا أشعر بالراحة فى وجودى بغرفتك.
-لا تشعرين بالراحة فى غرفتى أم بسبب تواجدك معى ؟
-لا أنكر أنك تربك تفكيرى ,وأشعر بعدم التوازن فى حضورك ,كما أننى أجهل نواياك تجاهى فبعد أن عرفت أنك تخفى حقيقتى عن العائلة خاصة وأنك لم تتفاجئ بما حدث فى الشركة ,أود أن أفهم سبب تصرفك نحوى.
-أود حمايتك , ولا أريد لك أن تتأذى أبدا , هل تصدقيننى ؟
-جزء منى يؤمن بك ويصدق كل ما تتفوه به , ولكن ... دوافعك هى التى تحيرنى.
ابتسم لها برقة وما زالت اصابعه تتغلغل بعمق فى شعرها الحريرى الطويل متلاعبة بعواطفها الأسيرة:
-أنا نفسى أشعر أحيانا بأننى لا أفهم سر تعلقى بك ,على الرغم من تأكدى بتآمرك علينا , الا أننى أراك ضحية ولست جانية ,أتفهم سبب رغبتك بالانتقام .
حاولت مقاطعته لتوضح له سرها:
-أنا لا ...
-دعينى أكمل حديثى : الانتقام ليس هو السبيل للراحة , بل أؤكد لك أنه سيؤذيك أنت أكثر مما سيؤذى الآخرين , لا أريد لبرائتك ونقائك أن يتلوثا بمثل هذه الخطط القذرة ,اذا كان الماضى يعنيك أكثر من الحاضر والمستقبل فلا ضرورة لمتابعة هذا الحوار.
فجأة شعرت بضباب كثيف يشوش عليها التفكير السليم ,وأخذ رأسها ينبض بألم قوى فأمسكت بجبينها براحة يدها وهى تتأوه بخفوت مما جعل رفيق يحنى رأسه نحوها ليسألها عما ألم بها:
-ما الذى حدث ؟
أجابته بصوت مهزوز من أثر الألم:
-لا .. لا شئ فقط هذا الصداع الذى يباغتنى بين الحين والآخر.
وأخذت تتسارع الصور فى خيالها ,مخيفة ,مقلقة ,متباعدة ,حتى صارت تحاول الفرار منها بتحريك رأسها يمينا ويسارا كأنها تنفضهم عنها ,فقام رفيق بضمها الى أحضانه ليستقر رأسها الصغير على صدره وهو يضغط بكفه على جبينها محاولا ايقاف الدق المؤلم كأنه طبول زاعقة فى حفل صاخب ,وسألها برفق:
-هل أحضر لك قرصا مسكنا ؟
هزت رأسها بالنفى فلم تقو على الرد ولكنها استطاعت أخيرا أن تنطق:
-ليس مجديا مع هذا النوع من الصداع ,كل هذا بسبب الحادث.
بدأ يجرى لجبهتها تدليكا باصابعه القوية مثيرا بداخلها نوعا من الارتياح المؤقت وكانت أصابعه خبيرة دقيقة تعرف طريقها بدون ارشاد فتناغمت مع حركاتها الدائرية العميقة وبدأت ضربات قلبها المتزايدة تهدأ وانتظم تنفسها حتى بات عميقا وانهار رأسها متهاويا على كتفه فتطلع نحوها بفضول ليجدها قد استغرقت بنوم عميق ,فلم يتردد كثيرا وحملها بين ذراعيه فأرقدها بسريره وقام بتغطيتها بدثار سميك ووقف ينظر لها بشوق أخذ يقاومه ممنيا نفسه باقتراب اللحظة الموعودة ولكن عليه أن يصبر قليلا حتى تستقيم الأمور وتصير له كما أراد,وفيما بعد استلقى على الأريكة الوثيرة واضعا وسادة قطنية تحت رأسه ولم يطل بها المقام حتى غلبه الارهاق فغط فى النوم غافلا عما حوله.
*************