كاتب الموضوع :
سيمراء
المنتدى :
رومانسيات عربية
رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية
الفصل السادس والعشرين
انتفضت هند واقفة وهي تقول باستنكار : "ماذا ؟!! ماذا تقول عماه ؟ّ! أتريد أن يكذب حسين ويدعي أن هذا الحقير خاله كان يحاول أخذ المدية منه وأنه أصابه عرضا دون قصد ..أتريده أن يبرأه ؟ كيف هذا ؟"
استغفر الحاج محمد مقطبا وهو ينظر لوجه أكرم المقطب باستنكار صامت ...لكنه كعادته ينتظر باقي حديث أبيه..ليعود للنظر لملامح هند الغاضبة بثورة رافضة ...يعذرها بها تماما .. ليقول لهما مفسرا :
"يا ابنتي ...لو كان الأمر بيدي ..أو حتى يتعلق بهذا السعيد وحده لتمنيت أن يتعفن باقي عمره بالسجن ...لكن المشكلة أن الموضوع متشابك ...زوجة أبيك رغم خطأها واستحقاقها للعقاب ...لكنها تظل أم أخوتك ...سجنها سيؤثر عليهم ..بل ويكسرهم بقوة ..أنت رأيت حالتهم الفترة السابقة ...رغم عودتك للإقامة معهم بشقتكم ...لكنهم منهارون ..لا يكفون عن البكاء وطلب أمهم ...حتى حسين نفسه ..ما أن أفاق حتى سأل عن أمه ...رغم غضبه منها تظل أمه ...ولن يتحمل سجنها بسببه ...والمشكلة أن هذا الحقير أخبر الأستاذ مصطفى أنه مقابل شهادة أهل الحي و تنازل أخته وادعائها أن إصابته لحسين لم تكن مقصودة... سيتنازل عن حقه و سيدعي أن إصابة نبيلة له جاءت عن طريق الخطأ حيث أنها اندفعت ناحية ابنها بحالة هسترية وهي تولول لتتعسر وتقع فوقه وأنه لحظتها كان يمسك المدية التي استخرجها من أخيك لتنغرس فيه بطريق الخطأ:
لتنظر هند له باستنكار وتقول بسخرية:
"عماه !! ما هذا الفيلم الهندي ..إن ما تقوله غير منطقي ولا يقنع مخلوق ...حسين طُعن خطأ ..وبعدها مباشرة من طعنه يُطعن خطأ ؟!! هل هذا منطقي ...من سيصدق هذا الهراء..ومن سيشهد بذلك؟!! " ليبتسم الحاج محمد قائلا بهدوء :
"حتى لو لم يكن منطقي أو لم يصدقه المحقق لكن تصميم كل الأطراف وهو ما يرتبه السيد مصطفى.. على نفس الأقوال لن يدع له مجال لبناء قضية جنائية ..وتصميم كل الأطراف على التنازل عن أي حق سيجعل القاضي مضطرا لتخفيف العقوبة... غالبا ستكون الأحكام مخففة السيد مصطفى أخبرني أن نبيلة من الممكن أن يكون الحكم عليها مجرد غرامة أو في أسوء الأحوال حكما بالسجن لستة أشهر ...بينما سعيد ونتيجة ما حدث لحسين من إصابة أدت لفقدانه كليته.... فقد يتراوح الحكم عليه ما بين ستة أشهر لثلاث سنوات بأقصى تقدير لأنه سيحاكم على إصابة خطأ أدت لعاهة مستديمة "
ليقاطعها قبل أن تتحدث وهو يقف أمامها قائلا باستدراك:
"لكنه إن استطاع النفاذ من تلك القضية... وقبلنا نحن أن نخضع له لأجل إخوتك وأمهم فهذا لا يعني أن عقاب الله لن يطاله ..وفي الدنيا قبل الآخرة ...هو لن يحاكم على قضية أخيك فقط ...بل أيضا سيحاكم على تهمة أخرى شاء الله أن يجعله يقع فيها ليدفع ثمن جرائمه ...فالغبي كان يضع كمية من مخدر الهيروين بجيبه ...ويبدو أن الكمية ليست بقليلة ...لقد باع دراجته حسب ما فهمت واشترى بثمنها كله هذا السم الذي يتعاطاه ...الأستاذ مصطفى يقول أن المحامي الذي وكلته له عائلته يحاول أن يؤكد على كونها قضية تعاطي وليس اتجار ، وخاصة مع نتيجة تحليل دمائه التي أثبتت وجود هذا المخدر به ، أي أنه بجميع الأحوال سيحاكم ويأخذ حكما رادعا ...وينال جزائه العادل ... ربك يمهل ولا يهمل ...وحقك سيعود يا ابنتي ...فكما سخر الله لك نبيلة بنفسها التي كانت سببا فيما حدث لك لتبرئك بلسانها ...فسيعيد حقك من أخيها ...فسامحي ..وتخطي ما حدث ..لأجل نفسك ..وأجل أخوتك ...فالأمر مر وانتهى"
لتنظر له بعيون دامعة وهي تقول بألم :
"وهل أنتهى حقا عماه ؟!! أتقول أنك لم تسمع همزات ولمزات أهل الحي علي ..أتقول أن خالتي أم أكرم لم تخبرك عن أحاديثهم التي ما زالوا يلوكون بها سمعتي ...لكن هذه المرة بدلا من هند اللعوب التي فرطت بشرفها وكانت على علاقة بجارها ...أصبحت هند التي تعدى على شرفها شقيق زوجة أبيها ..وأن أكرم تزوجها لمداراة الفضيحة وسترا لها "
لينتفض أكرم لحظتها هاتفا باستنكار:
"ماذا؟!! ماذا تقولين هند؟!! ...من تجرأ وقال هذا الكلام المشين ..اخبريني وقسما لأقطعن لسانه "
لتنظر له هند بعيون ممتلئة دمعا وهي تقول بألم ساخر:
"ستقطع لسان من أو من ...معظم أهل الحارة يقولون ذلك ...لقد وصلتني الهمزات ...حتى أن بعض النساء لم يستنكرن أن يقلنها بوجهي وهن يدعين الشفقة علي ..وإخباري أنني كنت محظوظة لقبولك بي وسترك علي"
ليقول أكرم بثورة :
"خسئ لسان من يلوك سيرتك بحرف ...سأواجههم جميعا ...سأقطع السنة من..."
ليقاطعه أبيه وهو يقول لكلاهما بحسم:
"بل ستتجاهلان كلاكما الأمر تماما ..أسمعا يا بني ...الناس أو معظمهم يميلون لتضخيم كل ما يرونه ويسمعونه ..لن يصمتوا ولن يتوقفوا عن الحديث عن غيرهم ..نهش السمعة والأعراض للأسف هو تسلية الكثيرين ...ونحن علينا النصح والإعراض عن تلك الذنوب ..لكننا لن تستطيع منع السنة الناس التي اعتادت النميمة رغم عظم ذنبها ...لكننا بتجاهلها ستموت بعد فترة ...سينسوها وينشغلوا بشيء جديد ...وخاصة إن لم يهتم أصحاب الشأن أو يعيروهم أذنا أو اهتمام ...ويوما عندما يشاهدنكما معا ...يوما بعد يوم... وعاما بعد عام ...زوجين سعيدين ناجحين ..راضيين سيتشاغلون بحسدكما عن نهش سمعتكما "
لتقول له هند باستنكار:
"أتقول عماه أن لا اهتم ..أن لا أرد على هذا البطلان بحقي ..أنا أعيش وسطهم ...وكذا إخوتي ..وسيظلون ينغزونهم بكلماتهم المسيئة يوما بعد يوم حتى يدمرون نفسيتهم "
ليقول الحاج محمد بنفي :
"لا ...لن نتركهم ..أنا وحماتك نفينا تلك الحقارة لكل من سألنا ..والشيخ مرسي .. أيضا.... بل وخطب ثانية يوم الجمعة عن عقوبة الله لمن يغتاب غيره..كما جمع رجال الحي بعد الصلاة وأوضح لهم أن ما يحدث من انتهاك سمعتك بالغيبة والنميمة وخاصة من نسائهم كبيرة...بل وقذف محصنة ...وأقسم أمامهم أن الله أنجاك قبل أن يمسك سعيد بسوء ...وطلب منهم إيصال الأمر لنسائهم..وأمرهم بكف ألسنتهم عنك ..فهذا السعيد لم يلحق أن يلمسك "
ليرد أكرم بحمية :
"ولو كان لمسك يا هند لكنت قاتله ..قسما بربي ما كنت تركته يوما يتنفس هواء الحياة ...وكنت قتلته ..وتزوجتك وسلمت نفسي بعدها ...أنت أطهر فتاة عرفتها هند ..لن يدنسك حقير كسعيد مهما فعل صغيرتي ...كما لن يمسك كلام حاقد أو جاهل وينال منك ...الطهارة ليست عذرية جسد فقط ...فكم من نساء وفتيات فقدنها قصرا وقهرا ..لكنهن ظللن طاهرات عفيفات ...ففارق بين من تُقهر غصبا بفعلة حقير كأشباه سعيد ..ومن تفرط بنفسها عمدا ..تظل الأولى طاهرة رغما عن أنف كل من يقول العكس ..ومهما قال الناس ..أنا لا أهتم بالناس ولا بما يقولون "
ليقاطعه أبيه معترضا وهو يقول:
"لا بني ...صحيح أن رضا الناس غاية لا تدرك ...وأن الإنسان لا يجب أن يرهن حياته أو يوقفها على إرضائهم لأنه لن ينال رضا الجميع مهما فعل ...فالناس لن تتفق على أمر واحد مهما حدث ...لكن هذا لا يعني أن نتجاهلهم ..أو لا نراعيهم بتصرفاتنا ...لكن لا نجعلهم أكبر همنا نراعيهم دون إفراط ...بل يكون الخوف من الله سابق على الخوف من الناس ...فمن خاف ربه كفاه شر الناس ... ولو ناله منهم شيء رد ربك الظلم عنه وأعاد حق من ظُلم ولو بعد حين ...نحن نعيش وسط الناس ...نرعى حقهم فالله أمرنا أن نرعى حق الجار ...وأن لا نهين أو نظلم ...أن نكون بشوشي الوجه حسني اللسان مع الجميع ...تلك حقوقهم علينا ...نؤديها كحق لهم ..لكن لا نعيش لإرضائهم ...أتفهمون الفرق؟! "
لينظر كلاهما له وهما يومئان بإيجاب ..ليقول لهما ...سأذهب لحجرة حسين وافهمه الوضع ...والحقا بي بعد قليل لتقنعاه معي "
ليتركهما معا ..وما أن أغلق الباب خلفه ..حتى أقترب أكرم من هند المنكسة رأسها بألم ..ليرفع وجهها إليه قائلا بحب فاض من حدقتيه لصغيرته التي لا تكف المآسي عن ضربها من كل صوب ...ليعيد القسم لها بخفوت وهو يقبل جبينها:
"لن يمسك شيء طالما بي نفس يتردد ...أرفعي رأسك حبيبتي ..اجعليه دوما مرفوعا يعانق السماء ...أنظري بعين قوية لكل من يؤذيك بكلمة أو نظرة ..وأنت واثقة أن زوجك يراك الأنقى والأجمل ..وأن ما يقولوه فهو من قبيل الغيرة ..لأن أيا منهم لن يحصل على ما لديك"
لتنظر له بانكسار وهي تقول بخفوت :
" وماذا لدي أكرم؟!! "
ليقول ببطء وهو يضمها بحنان:
"لديك الكثيييييير ....لديك زوج محب يذوب قلبه عشقا من نظرة لعينيك ..لديك أخوة يعشقوك كاد أكبرهم يموت دفاعا عنك ...لديك مستقبل يفتح لك ذراعيه ...فستكونين أول طبيبة بحينا ...لديك أسرة تعدك ابنة لهم وتحترمك وتقدرك فيها أخ أكبر يدعى سامح ...أحمق ومتهور بعض الشيء... لكنه سيفديك بحياته دون تردد إن احتجته ...وأخت تدعى همس من الممكن أن تنزع السنة نساء الحي واحدة واحدة إذا علمت أن هناك من تضايقك منهن ...لديك والدين أبدلك الله بهما عمن اختارهما ربك لجواره يرياك كابنة لهم لا فقط زوجة ابن ....لديك الكثير مما يجعل الناس تغار منك ... فلا تهتمي ..اشمخي برأسك عاليا ...بكل كبرياء وثقة ...أنت نجمة لن يصلوا إليها أو يطالوها مهما أطلقوا عليها نيران ألسنتهم ..أنت أعلى وأرقى ..أنت الأغلى يا حبيبتي ..أنت حبيبة أكرم محفوظ وزوجته ...هل تفهمين من أنت!! وما أنت !! "
ليميل مقبلا عينيها الدامعة الناظرة له بعشق وضعف ..ويهبط لشفتيها يلثمها برقة ...قبل أن يبعدها بتردد قائلا :
"يجب أن نذهب لأبي لأني لا أضمن نفسي إن بقيت معك أكثر "
لتحمر بخجل وهو يمسك يدها بحنو ساحبا إياها خلفه ليخرجا من غرفته ليلحقا بأبيه....
-------------------
ابتسم بمكر وهو يلمس يدها بشقاوة وهى تناوله كوب الشاي ..لتنظر له بلوم ووجهها يحمر خجلا قبل أن تبتعد وهي تكمل توزيع أطباق الحلوى والشاي لتعود بعدها للجلوس بارتباك بجوار شقيقتها...سعيد هو بإرباكها ...يعجبه أن يرى احمرار وجهها خجلا من همساته أو لمساته المسروقة لها عندما يكون ياسر أو عائلة شقيقتها لديهم وهو ما يكاد يكون طقسا يوميا منذ أقاموا بجوارهم ... يشعر أنه يعود معها مراهقا ...يعيش مشاعر لم يعشها قبلا ...يقوم بتصرفات لم يتخيل أن يقوم بها يوما ...لكنه راغب بتعويض كل ما فاته معها حتى أفعال المراهقة ...ليخرجه من شروده بها صوت مسعد وهو يسأله :
"ألا ترى أن المبلغ المطلوب بها مبالغ فيه "
لينتبه هو للحديث الذي كان يجريه معه حول الشقة التي جاءهم بها السمسار العقاري وذهبوا لمشاهدتها صباحا.... ليرد عليه بنفي قائلا:
"بالعكس حسب كلامكم ووصفكم أرى سعرها مناسبا جدا وخاصة أن مساحتها كبيرة ...لا تنسى أن المنطقة هنا ارتفعت أسعار العقارات بها بشدة في الفترة السابقة ...وأيضا الشقة كاملة التشطيب والتجهيزات ...بل وأيضا الرجل عرض عليكم شرائها بالأثاث ...ومها تقول أن الأثاث جديد ومختار بذوق رفيع "
لتقاطعه مها بحماس وهي تقول:
"أنه رائع جدا ...لو كنت لأختار بنفسي لم أكن لأختار ما هو أفضل ...حتى الديكورات والستائر ...شديدة التناسق والجمال .....الشقة كلها أجمل مما تخيلت ...لقد أخبرنا السمسار أن صاحبها جهزها على أعلى مستوى لعروسه ...لكن حدث بينهما خلاف قبل الزفاف مباشرة أدى لإلغاء الزيجة ...فقرر صاحبها بيعها بكل ما بها ...حقا مصائب قوم عند قوم فوائد ...الشقة فرصة بكل المقاييس ...ليس فقط لكونها قريبة منكم فهي بنفس الشارع ...بل أيضا أنها ستوفر علينا مجهود تجهيز وفرش أي شقة جديدة نختارها غيرها... ويمكن أن ننتقل إليها فورا لو وافق مسعد على شرائها ..أرجوك أقنعه ..لقد أحببتها أنا والأولاد "
وقبل أن يرد عليها احدهما فوجئ الجالسين بباب الشقة يفتح بعنف بينما يدلف ياسر وتقى بأصوات مرتفعة وهما يتشاجران كالعادة ....ليتبادل الجالسين النظرات بملل من اعتادوا المشهد ..فحتى والدي تقى وإخوتها اعتادوا المشاحنات اليومية بين ياسر وتقى على أي وكل شيء ..لينظروا لهم متابعين الحوار الدائر دون تدخل خاصة وقد توقف كلاهما متواجهين بمنتصف الصالة متخصرين بتحدي بينما تقول تقى بغضب:
"أنت أهنتني بتصرفاتك... لا أدري لما كلما حضر آسر بك للمكتب لمقابلة خالد بك تظل تحوم حول مكتبي بشكل محرج لي ...مئة مرة أخبرتك أن لا شأن لك بي ...لا تتدخل لا بحياتي .. ولا بعملي "
ليرد عليها بحدة وهو يقول:
"وأنا أخبرتك مئة مرة أنني سأتدخل رغما عنك إن رأيت ما لا يعجبني ...فأنت ابنة خالتي ..شئت أم أبيت ...وهذا الرجل الوقح بالذات إن رأيته مرة ثانية يتحدث معك بتلك الطريقة سأضربه ولن يهمني حتى لو فصلت من العمل ...نظراته لك وطريقته بالحديث معك لا تعجبني ..كما أنه يتعمد إغاظتي ..أراها بعينيه كلما نظر لي كأنه يتعمد إثارة غضبي عمدا "
لترد صارخة عليه بغضب:
"أيها الغبي الأحمق ...آسر بك لم يقل أو يفعل شيئا ...لقد جلس بمكتبي قليلا حتى ينهي خالد بك اجتماعه مع رؤساء الإدارات والذي طال عن موعده قليلا ..وهو كان لديه موعد معه ...أنت من اقتحمت مكتبي بلا سبب ..وجلست أمامه بلا أي مبرر ..وظللت تنظر له بطريقة مستفزة كما لو كنت تحرسه حتى لا يسرق أثاث المكتب .. بينما هو لم يفعل شيئا وكان مهذبا جدا ولم يتخط حدوده !!"
ليرد عليها بسخرية غاضبة :
"حقا ؟!! وهل كل عميل أو ضيف يأتي لمكتب خالد بك يطلب أن تصنعي له قهوة بيديك لأن قهوتك طعمها مميز ولا تنسى!!! "
لترد عليه بدفاع وهي تقول:
"كانت مجاملة لم يقصد بها شيء ..أنت فقط ذو رأس متحجر وأفكار قذرة ...تظن الناس كلهم مثلك ..بعيون زائغة على الإناث "
ليفتح عينيه هاتفا باستنكار :
"ماذااااا؟! أنا ؟أنا بعيون زائغة على الإناث أيتها الكاذبة"
لترد بغل وهي تضرب الأرض بغضب وطفولية:
"نعم أيها المغازل الوقح ..وأنا لست كاذبة ...لقد رأيتك أثناء استراحة الغذاء ..وأنت تقف مع تلك الفتاة من قسم شئون العاملين ...تلك الوقحة ذات الملابس الكاشفة والزينة المبهرجة ..وكانت تضحك معك بميوعة وأنت تنظر لها بوله وابتسامة سخيفة كأحمق لم يرى أنثى ...يا زائغ العينين ..على الأقل أختار فتاة جيدة لتنظر لها ..زوقك ردئ ..."
وقبل أن يرد عليها ياسر وقف أشرف هاتفا بهما:
"كفا كلاكما... اصمتا قليلا ...لقد صدعتما رؤوسنا كل يوم بشجاراتكما التي لا تنتهي ...لكن أنا لدي حل يريحنا جميعا!! "
ليلتفت لمسعد ومها وهو يقول:
"مسعد أنا أطلب يد ابنتك الحمقاء تقى ..لأبني الأكثر منها حماقة ياسر ...صدقني لن يجد أيا منهما من يناسبه مثل الآخر ...وللعلم ..هذا الأحمق الذي يقف فاتحا فاه هو من طلب مني خطبتها من عدة أيام فهو يحبها ...وقد طلبت منه التمهيد لها وسؤالها رأيها قبل أن أفاتحك ...لكنه غبي يعبر عن هذا الحب بطريقة رديئة ولو انتظرناه ليحسن التصرف فسنشيب ونموت قبل أن يجد الطريقة المناسبة لمفاتحتها بالأمر .. وأظنها أيضا تبادله شعوره فغيرتها عليه واضحة كغيرته عليها"
- أبــــــــي!...عمـــــــاه! _
..ليتجاهل هتافهما معا ...
"لقد كنت راغبا بتأخير الأمر حتى تجدوا شقة وتنتقلوا لها منعا لأي إحراج قد تشعرون به ...لكني حقا قد اكتفيت من كلاهما ...أرجوك وافق ولنزوجهما ليكملا شجاراتهما بعيدا عنا..."
-----------------------
كانت ماهي تنظر لأبيها بوجل ...فاقدة للقدرة على الحركة والكلام فقط اختضاض جسدها الذي جعل سامح يقطب وهو يناظر كلاهما بقلق غاضب ليترك يديها ويستدير بكليتيه لهذا الرجل الذي ينادي خطيبته بلفظ حبيبتي ...ورغم شعوره بغضب عارم يكفي في العادة لجعله ينقض على من يتجاوز أمامه عليها بنظرة أو حرف ..إلا أن هناك شعورا مبهما بتوقع القادم قيده عن رد فعل عنيف يموج بداخله ليرد عليه بصوت خشن:
"لماذا لا تعرفني أنت بنفسك؟!! فزوجتي ( قالها متعمدا الضغط على حروفها من بين أسنانه ) تبدو متفاجأة بوجودك لدرجة أفقدتها القدرة على تعريفنا"
لينظر له الرجل بابتسامة مبهمة وهو يقول له بغموض أربكه:
"تبدو رجلا حامي الدماء...رجلا بحق ...أنا سعيد بأن ماهي اختارت رجلا مثلك ..وليس واحدا من شباب النادي التافهين ..ولو أني كنت أتمنى أن أكون أنا من تتقدم له طالبا يدها ...لكنه عقابي أن لا أكون وليها في العقد كما كان ينبغي أن يحدث"
كان سامح حائرا بكلمات الرجل عندما فوجئ بانفجار ماهي خلفه بهستريا وهي تصرخ بوجه الرجل أمامه:
"بأي حق؟!! ...بأي حق تريد أن تكون وليا لي ...بأي حق تطالب بأن يكون لك دور بحياتي ...أنت فقدت حقك هذا منذ هربت وتركتنا ...منذ تركتني طفلة تمسك دميتك التي أهديتها وتسألها عنك وعن سبب غيابك؟!! طفلة تنتظرك يوما بعد يوم ..وعاما بعد عام ...في كل عيد تمنى نفسها بأنك قادم... في كل حفلة لعيد ميلادها تظل تنظر للباب تنتظر دخولك..فأنت دوما كنت تصنع لي أجمل احتفال ..وتحضر لي أحلى الهدايا ..وترفعني أمام الجميع حتى تحسدني صديقاتي على أبي الذي يناديني أميرة فيجعلني أشعر حقا أني أملك الدنيا وما فيها ..لكن تاج الأميرة كسر وهم يخبروها أنك تركتها ...هجرتها ..حرمتها حضنك ..وحبك ..وأمانك ...أنك كرهتها ...لم تعد تهتم بها ...وتُكذب الجميع ...لا تصدق أن من كان يجعلها أميرة ...من دللها مخبرا إياها أنها الأغلى والأهم لديه سيهجرها يوما بتلك الطريقة..حتى صدقت في النهاية ..أتعرف أني توقفت عن الاحتفال بعيد مولدي؟!! ..مسحت تاريخه من ذاكرتي عمدا حتى لا يذكرني بك ..كما مسحتك من حياتي... أنت لم تعد تعنيني ...لم تعد تهمني ...لم أعد أريدك ...أخرج .. ...لا تعود ...لا تريني وجهك ثانية ...لم أعد أريدك "
تسمر سامح مكانه وهو يناظر انهيار ماهي وعقله يجمع الخيوط معا ليصل لحل هذا اللغز .. أن الواقف أمامه أبيها ...الذي أخبروه أنه مهاجر منذ سنوات طويلة ...من تهربت دوما من الحديث عنه كلما سألها ... ليرتبك بقلق وهو يرى الرجل يحاول الاقتراب منها فتنتفض مبتعدة عن كلاهما لآخر الحجرة وهي تطالبه أن يبتعد ولا يلمسها بينما يقول الرجل مهادنا بتوسل:
"أميرتي فقط أسمعيني ..كان رغما عني ..أمك.."
لتقاطعه صارخة :
"لا يهمني ...لا يهمني ...لا يوجد ما يمكن أن يجبرك على تركي ...على هجري ...لا شأن لي بخلافاتك مع أمي ...بطلاقك لها ..العديد من الآباء ينفصلون عن زوجاتهن لكن لا يهجرون أبنائهم ...أبتعد عني ..أنا أكرهك ...ابتعد .."
توقفت يدي عز معلقة في الهواء ..لينكسها مع رأسه بانكسار رآه سامح بوضوح ينضح من كل مسامات جسد الرجل ..لكنه لحظتها لم يكن مهتما به بقدر اهتمامه بتلك الباكية بجوار الحائط ...تسند رأسها إليه بينما تحتضن جسدها بيديها بانهيار جعل قلبه يلتوي ألما عليها ولها ..ليقترب هو منها بهدوء ويجذبها إليه رغم ممانعتها الضعيفة ضاما إياها لصدره لتنهار بالبكاء على كتفه بينما ينظر لوجه والدها الذي رفع إليه عينين مغرقتين بدمع يأبى النزول ونظرة تحمل مزيجا من الأسى والندم والرجاء ..رجاء قرأه بوضوح في عينيه التي تخبره أن يعتني بها ..وكأنه يحتاج لمن يطلبها منه ..إنها نبض قلبه ..ضلعه الناقص .. ليراه يعود لتنكيس رأسه قبل أن يستدير باتجاه الباب بقدمين غير ثابتتين ليفتحه قليلا ...قبل أن يستدير نصف استدارة مميلا وجهه باتجاههم قائلا بخفوت حزين:
" أرجوك بني ..أقنعها أن تمنحني فرصة لتسمع ما لدي ...قد لا يكون مبررا كافيا لهجري لهما ..وغالبا لن يقنعها ...لكن على الأقل سيمنحها راحة المعرفة لما حدث"
ليخرج مغلقا الباب خلفه بهدوء تاركا الحجرة غارقة بصمت لا يقطعه سوى صمت نشيجها الباكي على كتفه ..الذي تحاول هي كتمه بيدها وهي تدفن وجهها أكثر ملقية بثقل جسدها المتهاوي عليه ليسندها هو أكثر لافا ذراعيه حولها لدقائق حتى بدأ نشيجها يهدأ .. لتبتعد عنه بتردد وهي تقول بأسف حزين بينما تنظر لكتفه بحرج:
"عفوا سامح لقد أفسدت ملابسك ..قميصك أصبح متسخا بالدموع وبقايا من زينة وجهي "
ليدير وجهه ناظر لقماش قميصه ذي اللون السماوي والذي أصبح كتفه ملطخا بألوان ما بين الأحمر والأسود ليبتسم بجانب فمه وهو يقول بمزاح ساخر :
"لا تهتمي حبيبتي ...غالبا هي دعوة همس الحمقاء علي أن لا أهنأ بملابسي بعد زواجها ...بعد أن ظننت أني تخلصت منها ومن سرقتها لملابسي "
لتنظر له بعدم فهم ليهز رأسه بلا اهتمام وهو يسألها:
"هل أنت بخير "
ردت بادعاء وهي تحاول مسح وجهها ببعض المناديل الورقية :
"نعم ...شكرا ..آسفة على ما حدث ...أنا.."
لتصمت بارتباك لا تدري ما تقوله له
بينما ظل ينظر لها بهدوء لا يعكس ما بداخله قبل أن يتجه للمقعد المواجه لمكتبها ليجلس عليه وهو يسألها:
"متى عاد أبيك من السفر؟!!"
لتشيح بوجهها متهربة من عينيه وهي تزدرد لعابها بينما تصمت للحظات محاولة استجماع شتاتها قبل أن ترد بخفوت مرتعش:
"لست متأكدة ...أظن عشرة أيام تقريبا ... لا أعرف ولا أهتم أن أعرف ..أرجوك سامح ...انس ما حدث منذ قليل ...ولا داعي لنتحدث عنه ..هذا الرجل انتهى من حياتي منذ سنوات ولا..."
لينتفض سامح من كرسيه غاضبا ليقول بحدة أجفلتها لتتراجع خطوة وهي تنظر لوجهه الثائر بقلق:
"لا عزيزتي ...سنتحدث ..وسأفهم ..أظنه سبب حالتك الغريبة التي كنت عليها طوال الأيام السابقة ...حالتك التي جعلتك تتهربين مني رافضة أن أعرف ما بك ..أن أشاركك ما يؤرقك ويحزنك ...نأيت عني بحزنك ومشاكلك وألمك ...فلما؟!! ...ما هو دوري بحياتك ..إن لم أساندك ..وأشاركك ..إن لم نكن معا في السراء والضراء ...كيف تكونين زوجتي وتخفين عني جزءا مهما من حياتك ..جزءا يجرحك ويوجعك ..لما لم تخبريني؟! ...لما تجاهلتني؟! ..إلي هذا الحد أنا نكرة بحياتك ولا أعني لك شيئا؟!!"
لتهز رأسها نفيا باستنكار ملتاع وهي تقترب منه مادة يديها محاولة تلمس صدره بأصابعها باستجداء وهي تقول:
"لا...لا ..كيف تقول ذلك سامح ..أنا أحبك ..أنت تعني لي كل شيء ..أنا فقط لم أكن أرغب بأن أتحدث عنه ...هو انتهى من حياتي منذ سنوات طويلة ...منذ هجرني وأخي عندما كنت طفلة متعلقة به بجنون ...أرجوك سامح ...لا أريد الحديث عنه ..أنسه ..هو لا يمثل شيئا لنا ..هو.."
ليقاطعها صارخا :
"هو أبيك ..أيا كان ما فعله هو أبيك ...لا يمكننا محوه من تاريخنا ...فهو جزء منه شئنا أم أبينا ...سيكون جد أبنائنا "
لتقاطعه بانفعال وهي تنهت بغضب وتبعد يديها عن صدره لتضمها لصدرها:
" لا ...لن يكون ...لن أسمح له بالاقتراب ...لن أسامحه ...هو لا شيء ...لا شيء ..أتفهم ..أنسه هو لا يعنيك ولا يعنيني "
ظل ينظر لها للحظات دون حديث بينما تنظر هي له بتحدي ممزوج بغضب لكنه رأى خلف هذا الغضب المزعوم طفلة حزينة متألمة ...طفلة تتوق لأبيها ...أبيها التي عشقته ويكاد يجزم أنها ما زالت تعشقه رغم كل ادعاءاتها بكرهه ...ليقترب منها قليلا وهو يقول له بخفوت :
"لا يمكننا الهرب من ماضينا ...على الأقل اسمعيه ..أعرفي منه ما حدث ...إن أردت حقا إغلاق صفحة الماضي ..فيجب أن تكشفي غموضها أولا حتى تستريحي ...قابليه واسمعي ما لديه وبعدها قرري ما تريدين ..إن أردتني معك سأكون حاضرا ..وإن أردت أن تكوني وحدك فلا مشكلة ... لكني لن أعاود الاتصال بك مجددا ..عليك أنت أن تأتي إلي ...عليك أن تشركيني بحياتك بإرادتك إن أردتني جزءا منها ...فاثبتي ذلك ..وإلا فلن تنجح حياتنا معا "
لينحني مقبلا جبينها متجاهلا تخشب جسدها ليستدير بعدها تاركا المكان دون أن ينظر للخلف ويرى نظرتها الملتاعة إليه وانقباض كفيها الضاغطتان على قلبها المتألم وهي تشعر أنه يهجرها .. يتركها ويبتعد كما فعلها أبيها سابقا ..لتمتلئ عيناها بالدموع وتتراجع لتسقط على المقعد بينما يعلو صوت نشيجها بأنين مكتوم"
--------------------
هب واقفا متجها لباب مكتبه بترحيب وهو يقول بسعادة:
"حمدا لله على سلامتك ...لما أتعبت نفسك بالقدوم ...إن أردتني لما لم تتصل وأنا احضر إليك "
ليرد أشرف بابتسامة مازحة:
"ماذا يا خالد ...ألم تعد تردني معك هنا؟!!"
فيقاطعه خالد بحمية بينما يصحبه للجلسة الجانبية بمكتبه ليجلسا معا براحة :
"مكانك سيظل دائما وأبدا محفوظ لك.. ولو غبت سنوات ستعود لتجده بانتظارك ..أنت لست موظف هنا ..أنت جزء من هذا المكان ..أنت معلمي ..من ساندني منذ البداية وبأصعب الأوقات ...من بقي بجواري شهورا يعمل ليل نهار بلا أجر حتى استطعنا أن نعيد إنجاح شركة الراشد ونعيد لاسم الراوي مصداقيته ..أنا فقط قلق على صحتك ...لا أريدك أن تجهد نفسك قبل تماما شفائك"
لينظر أشرف لخالد بمحبة وشعور بالفخر يملأه لهذا الشاب الذي يعتبره بمثابة ابن ثاني له ، وهو يربت على ساقه بود قائلا:
"لا تقلق بني ..أنا قادم من عند الطبيب والحمد لله طمئني تماما ..صحتي والحمد لله بأفضل حال ...حتى أن الطبيب نفسه أبدى اندهاشه لسرعة تماثلي للشفاء ...وقد سمح لي بالعودة لممارسة حياتي وأنشطتي دون أن أجهد نفسي"
لينظر له خالد براحة ممزوجة بالسعادة ويميل عليه هامسا بمكر وشقاوة غير معتادة منه جعلت أشرف يناظره بتعجب ممزوج بالخجل:
"يبدو أن الطبيب لم يعرف أن تحسن حالتك الصحية ناتج عن تحسن حالتك العاطفية وأن تأثير العودة لزوجتك أكبر من تأثير الدواء ...واضح أن الحياة الزوجية لها قوة شفاء تفوق كل الأدوية عليك"
لترتفع قهقهة خالد بالضحك وهو يرى وجه أشرف يحمر وهو يقول بعتب حرج "خالد" ..قبل أن يستسلم لنظراته الماكرة ويرد له مزاحه بالمثل وهو يقول:
"يبدو أن التأثير متبادل يا خالد ...منذ متى أصبح خالد الراوي يمزح و يعترف بالتأثيرات العاطفية ...يبدو أن تأثير الزواج على مزاجك كان قويا أكثر مني"
...ليصمت للحظة بتفكير وهو ينظر لوجه خالد الباسم وعيونه التي حملت دفئا بدل صقيعها الذي كان معتادا عليه في الماضي وهو يضيف:
"لكن كلامك صحيح بني ...راحة القلب لها تأثير على الصحة ...عندما تستكين بجوار نصفك الآخر يستريح عقلك ...ويقاوم بدنك الأسقام ...أنها أفضل مضاد حيوي للأمراض ...حفظك الله وزوجتك من كل شر ..الآن نأتي لسبب زيارتي لك اليوم... لقد جئت لدعوتك لحفل خطبة ياسر ابني وتقى ابنة خالته ..سكرتيرتك ...يوم الخميس القادم ...سيكون حفلا عائليا صغيرا بمنزلنا ..وبما أنك من العائلة فأنا سأنتظرك أنت وزوجتك والسيدة رقية والدتك ...وزوجتي ستتصل بهما لتأكيد الدعوة ...لقد أصررت على الحضور ودعوتك بنفسي ولم أجعل أيا من ياسر أو تقى يفعلاها "
ليهتف خالد بحبور:
"مبرررروك ...خالص تهنئتي عماه ...بالطبع سنحضر ...نحن عائلة كما قلت وياسر كأخي الصغير " ليضيف بابتسامة ماكرة :
"أتعرف ..أنا لست متفاجئا ...لقد شعرت بوجود شيء بينهما ...هناك ذبذبات بالجو استشعرتها كلما كانا معا ...ليضيف ضاحكا ...كما أن ياسر يكثر من الحضور لمكتبها بسبب وبدون ..ويبدو كما لو كان يحرسها ...لقد أخبرني آسر أنه كاد يضربه مرة لأنه سمعه يجاملها بسبب قهوتها "
ليقطب أشرف متسائلا:
"آسر؟!!"
فيرد خالد موضحا:
"آسر الراوي..أنت تعرفه جيدا ...لقد قابلته معي عدة مرات على مر السنوات الماضية ..كما قابلناه معا بأمريكا من عامين عند توقيع صفقة شراء أسطول سيارات النقل "
ليهز أشرف رأسه بتأكيد وهو يقول:
"تذكرته ...بالطبع أعرفه ...وكنت أعرف أبيه عندما كنت أعمل مع جدك وعمك بشركة العائلة ...لقد عملت مع أبيه لفترة قبل هجرته للخارج "
ليقاطع حديثهم صوت طرقات سبقت دخول تقى وهو تقول:
"عفوا سيد خالد ..السيد آسر حضر بالخارج بناء على موعده معك "
ليقوم أشرف قائلا:
"حسنا خالد بك ...سأتركك لتكمل عملك وأنتظركم يوم الخميس القادم ...ليمسك خالد يده مانعا إياه من التحرك وهو يقول:
"بل أبقى قليلا سيد أشرف فأنا احتاج لرأيك فيما جاء آسر من أجله ...اجعليه يدخل تقي وأحضري لنا القهوة وللسيد أشرف عصيرا طازجا ...فلا أظن القهوة جيدة له"
ليبتسم أشرف وهو يتجه معه ناحية المكتب قائلا:
"يا الهي يا رجل ...هل سأظل أتناول العصائر طوال حياتي ...لقد اشتقت للقهوة ...ألا يكفي زوجتي التي تحرمني منها بالمنزل ...هل أرسلت إليك تنبيها مسبقا أنت أيضا"
ليضحك خالد بينما يتخذ مجلسه خلف مكتبه وهو يرى دخول آسر بطلته الأنيقة المعتادة ليقفا للسلام عليه مرحبين به ..ليتبادل آسر وأشرف التحية قبل أن يجلس الجميع ويقول خالد بجدية موجها الحديث لأشرف:
"سيد أشرف لدي مشكلة جزء منها مهني وجزء أخلاقي ...تعرف أن المشروع السكني الذي نقوم بتنفيذه قد قابلته بعض العوائق ..ورغم أننا استطعنا بصعوبة التغلب عليها ..لكن الوضع ما زال حرجا لحد ما ...فنحن لم نتخط عنق الزجاجة تماما ... وقد قدم لي السيد آسر خطة مشروع يرغب بمشاركتنا به يخص المنطقة الشمالية من الأرض المجاورة للمشروع والتي كنت قد استقطعتها رافضا ضمها للمدينة لرغبتي بإقامة مشروع خدمي مجاني عليها يضم مسجد و مدرسة بها فصول للتقوية ومركز شباب ومشفى صغير ...قطعة الأرض التي كنت أنوي إقامة المشروع الخدمي عليها لم تدخل بالتصميم للمدينة السكنية رغم ملكيتي لها ومجاورتها للمدينة ..السيد آسر يرى أن نستغل تلك القطعة من الأرض وخاصة أن مساحتها كبيرة ونقيم عليها مشروع مول عملاق يضم ملاهي حديثة الطراز بها أماكن للتزلج وفروع لتوكيلات الماركات العالمية والمطاعم ومختلف عوامل الجذب وخاصة للطبقة العليا ...فكرته هذه ستخدم من ناحية الفندق الذي يخص السيد آسر لقربه من تلك المنطقة فسيعمل وجود هذا المول العملاق كحافز جذب إضافي لرواده كما سينفعنا نحن من ناحية أخري حيث سيخرجنا تماما من عنق الزجاجة ويحل لنا مشكلة السيولة تماما خاصة أنه بمجرد الإعلان والدعاية عنه ستتسابق الشركات والتوكيلات العالمية لشراء وتأجير فروع لها به وخاصة مع موقعه بجوار مدينة سكنية كبرى للنخبة ...المشروع من الناحية الاقتصادية والاستثمارية مربح جدا ويحل مشاكلي المادية ..لكن من ناحية أخرى أشعر بالضيق لأني هنا استبدل مشروعا سيقام لوجه الله وخدمة المحتاجين مقابلا للربح المادي ...دون أن استثني طبعا الرفض التام للأمر من قبل السيدة همس نائبتك بإدارة الجدوى رغم اعترافها بالجانب الربحي للمشروع لكنها ترفضه جملة وتفصيلا وتصر على الإبقاء على الخطة الأصلية له ...ما رأيك أنت ...وهنا لا أسألك عن رأيك فقط كاستشاري لإدارة الجدوى فقط فأنا أعرف أن الرأي الاقتصادي سيكون لصالح فكرة آسر ..لكن أسألك كاستشاري للمجموعة وكانسان أثق برأيه "
ليطرق أشرف رأسه قليلا بينما تطرق تقى الباب حاملة القهوة لتقدمها لهم ...فيشكرها خالد باسما بممازحة وهو يقول:
"شكرا يا عروس"
لتحمر خجل وترتبك حتى كادت تريق الأكواب التي اهتزت وهي تضعها لتتركها مغمغمة بينما تخرج مهرولة يتابعها الجميع بعيونهم باسمين قبل أن يسأل آسر مندهشا:
"لما ناديتها عروس وجعلتها ترتبك هكذا"
ليبتسم خالد مخبرا له بموضوع الخطبة فتزداد ابتسامة آسر ويهنئ أشرف وهو يمازحه:
"إذا هذا الغيور هو ابنك ..مبارك ..لقد شعرت بوجود شيء بينهما من أول مرة ..وخاصة مراقبته الدائمة لها "
لتنطلق ضحكات كلا من أشرف وخالد وهما ينظران لبعضهما قبل أن يقول أشرف بسخرية مازحة:
"يبدو أن أبني كان فاضحا لنفسه حتى عرف وشعر الجميع بما يجري معه إلا هو نفسه ...على كل حال يسعدني تشريفك حفل الخطبة سيكون بالمنزل يوم الخميس القادم العنوان لدى خالد بك"
ليرد آسر بمكر :
"وأنا سيسعدني الحضور"
ليتنحنح بعدها أشرف قائلا:
فيما يخص مشروع المنطقة الشمالية لدي رأي يمكن أن يكون حلا جيدا ...أرى أن ننفذ فكرة السيد آسر وفي نفس الوقت فكرتك الخدمية"
ليقطب كلاهما بدون فهم بينما يطل التساؤل من عينيهما فيضيف السيد أشرف:
"اسمعني جيدا سيد خالد ...موقع المشروع لن يكون ذا فائدة خدمية كبرى للمحتاجين ...فهو يقع بمنطقة بعيدة جدا عن التكدسات السكنية التي تحتاج للخدمات ..فالمنطقة معظم ساكنيها من النخبة الغير محتاجة بل والتي ترغب بالابتعاد عن رؤية الجانب الفقير والمحتاج من الحياة ...تصميمك على عمل المشروع بهذا المكان سيكون ضررا للجانبين فمن ناحية سيثير غوائل صدور الفقراء ويشعرهم بالنقص والعجز وهم يرون الفرق الكبير في المستوى بين من يحيون بالمكان وبينهم بظروفهم التي تجعلهم يحتاجون للخدمات المجانية ..كما أنهم أيضا سيعانون للوصول لهذا المكان البعيد ...وهناك أيضا قاطني المشروع ... سيشعروا أن الأمر اختراق لخصوصيتهم وسيكرهون تواجد الفقراء حولهم وهذا سيقلل من الإقبال على شراء الوحدات والفيلات به...لا أقول أن هذا صحيح أو أخلاقي ...لكني هنا أتحدث من ناحية واقعية واقتصادية بحتة ...نحن بصدد مشروع ربحي ...هدفنا تقديم خدمة عالية المستوى لطبقة معينة راغبة به وقادرة على دفع ثمنه مقابل اشتراطات معينة يجب أن نوفرها لهم ...ولا تنسى أن هذا المشروع نجاحه وربحيته هامة لاستقرار الوضع المالي للمجموعة التي يعمل بها آلاف الموظفين الذين يعيلون أسرهم ..فالأمر ليس به ما يشين بل نجاح المشروع هو ما يعول عليه موظفيك لضمان استقرار وظائفهم ....خاصة انك وضعت معظم ما تملك به وخاطرت بكل ما لديك من سيولة ...لكن على صعيد آخر هذا لا يعني أن تلغي فكرة العمل الخدمي .. خاصة وقد انتويت خيرا لوجه الله فلا يجب أن تتراجع عنه"
ازدادت الحيرة على وجه خالد وهو يسأله :
"حسنا كيف لا أتراجع وأنت تخبرني أني يجب أن أنفذ مشروع آسر وقطعة الأرض لا تكفي لكلاهما ..وأيضا أنت لا تحبذ إقامة المشروع هناك..وأنت تعرف أني لا أستطيع حاليا شراء قطعة أرض مماثلة بمكان آخر وإقامة إنشاءات المشروع عليها ...لا أمتلك سيولة كافية حاليا ...ولا أرغب في الوقت نفسه بتأخير هذا المشروع الخدمي أكثر ...فلا أحد يضمن موته من حياته "
ليبتسم أشرف وهو يقول بإعجاب لهذا الشاب أمامه:
"حفظك الله بني وأطال عمرك ....لا تقلق ..لدي حل يجمع بين فائدة الأمرين ...هناك قطعة أرض ممتازة بمنطقة شعبية يملكها زوج شقيقة زوجتي والد تقى سكرتيرتك ...كانت منزلا عائليا لكن أراد الله أن يسقط المنزل على رؤوس من فيه ليموتوا جميعا منذ بضع أعوام ...مسعد صهري يرغب بإقامة مشروع خدمي يكون بمثابة صدقة جارية لعائلته على تلك الأرض يمكن أن تتشاركا هو بالأرض وأنت بالإنشاءات ... ليس هذا فقط ..بل عندما ذهبت معه منذ عدة أيام لرؤيتها لأول مرة منذ فترة وجدنا البيت المجاور قد تمت إزالته وأصحابه راغبين ببيع الأرض بإمكانك شرائها وضم القطعتين للمشروع وبهذا ستكون المساحة مناسبة لتقيم مسجد صغير يعلوه مشفى ... ومدرسة يمكن استغلال ملعبها مساءا كمركز شباب، وسيكون هذا أكثر فائدة وأقل عناء ...صحيح سيكون الأمر مربكا ماليا بالبداية لكن الأمر يمكن تدبره عن طريق سرعة الإعلان عن إنشاء ألمول التجاري وعند بداية تدفق أموال الحجز للوحدات التجارية أدفع منها ثمن قطعة الأرض بإمكاني محادثة أصحاب الأرض ومماطلتهم قليلا بالدفع حتى تجمع المبلغ ...وأيضا لو حسبناها تجاريا أنت ستحتاج تدفق مالي دائم للإنفاق على مشروع كهذا ...سيحتاج ليس فقط أبنية وتأسيس لكن عاملين لهم أجور حتى لو تطوع البعض سيبقى الغالبية يحتاجون أجورا شهرية ...وخاصة المشفى الذي سيحتاج دعم مالي دائم ليعمل يكفي احتياجه لمستهلكات وأدوات دائمة وطاقم أطباء وممرضين وغيرهم ...لذا بإمكانك أن تجعل من أرباح ألمول بعد أن تغطي منه تكلفة الإنشاء وسعر الأرض كوديعة توضع بحساب خاص بالمشروع ويتم الإنفاق منها عليه وهكذا لن تكون استخدمت قطعة الأرض الشمالية لمصلحتك بما يثقل ضميرك بل لمصلحة مشروعك الخدمي الذي سيكون بمثابة ذكاه لمالك وصدقة لك بحياتك وبعد مماتك ..أطال الله عمرك بني ..مسعد أيضا بإمكانه أن يتولى إدارة المشروع وبالمجان .فهو قد قرر بعد عودته من الخارج التقاعد والعيش من مدخول مدخراته وبعض الاستثمارات التي يشارك بها ..لكنه في الوقت نفسه كان يحمل هم الشعور بالفراغ والملل ..وأظنه سيرحب بشدة بالأمر وخاصة أنه سيخدم به أهل منطقته القديمة وسيكون مشاركا فيه بنصف الأرض "
ليبتسم آسر بإعجاب وهو يهتف بمزاح:
"ها قد حل الأمر ..خالد ..ولا أظن زوجتك يمكن أن تعترض ...أحسنت سيد أشرف ...ليضيف بخبث ماكر:
"عقلية مثلك يجب أن لا تظل محبوسة بين مشاريع مجموعة الراشد فقط ..ما رأيك ألا تحب أن تنضم للعمل معي ...فمعي ستنطلق لحدود العالمية ..عقل مثلك سيفدني جدا بعملي"
ليهتف خالد بغيظ :
"آسر توقف عن محاولة سرقة موظفيني ...مرة زوجتي تحاول إقناعها أن تتركني وتعمل معك بحجة أن عملها معي سيجعل أي نجاح لها ينسب لي ..والآن السيد أشرف ..هل جئت لتخرب عملي يا رجل؟!! "
ليبتسم آسر وهو يقول له بمزاح وان حمل بعض الجدية:
خالد عزيزي ..لما الغضب ..إن الأمر مهني تماما ...أفصل مشاعرك عن عملك ..الم تخبرني ذلك سابقا ... بالإضافة أن رجل الأعمال الناجح يجب أن يحاول اقتناص الفرص الجيدة"
ليبتسم أشرف بمودة وهو يرد مقاطعا زمجرة خالد وهو يوجه حديثه لآسر:
"أشكرك على العرض سيد آسر .. واعتذر عنه ...أنا أصلا شبه متقاعد ..فقط أقوم ببعض الاستشارات للمجموعة من وقت لآخر وعند الاحتياج لي ...ليرفع يده مقاطعا آسر الذي هم بمقاطعته وهو يضيف ..ولن أعمل لأي مكان آخر لا بصورة دائمة أو مؤقتة ..ليس فقط لحالتي الصحية التي لا تحتمل الضغوط ...بل أيضا لأني انتمي لمجموعة الراشد فكرا وروحا"
ليبتسم خالد بسعادة وينظر لآسر بتشفي مازح وهو يسمعه يرد بتعجب :
"حقا لا أفهمكم ..زوجتك ترفض لأنها تنتمي لك ولمجموعتك رغم عرضي عليها فرصة يحلم بها من يفوقوها سنا وخبرة ..والسيد أشرف يرفض لأنه ينتمي لك وللمجموعة ..ما دخل الانتماءات بالعمل؟!! ...انتم لستم مهنيين مطلقا" ...لتتعالى ضحكات الرجلين وخالد يقول له هازئا:
"ولن تفهم أيها الأمريكي النشأة ..هناك في تركيبة عقولنا جين ينمو تحت شمس بلادنا يدعى الولاء والانتماء لن يعرفه أمثالك "
ليلتفت بمحبة لينظر لأشرف وهو يقول له شاكرا:
"أحسنت سيد أشرف اقتراحك هو الأفضل والأمثل ..أرجو أن تتولى أنت هذا الأمر بمجرد انتهاء حفل خطبة ياسر أريد البدء بالإجراءات دون إبطاء"
-----------------------
وقفت على باب هذا المقهى الفاخر قلبها يهدر وأنفاسها تتعالى بصخب ..بينما تأبى قدمها التقدم ...لقد كادت تتراجع عدة مرات وهي قادمة لتستدير بسيارتها عائدة ..فهي لا تدري حتى الآن كيف استجابت للضغوط عليها ووافقت على لقائه ...لما لم تكن قوية كأخيها مدحت الذي رفض الأمر بتاتا ورفض حتى مناقشته ...لما استسلمت هي ..هل لكلام سامح أم ضغوط زوجة خالها ..أم لمحاصرته هو لها باتصالاته وتتبعه لها بكل مكان وان كان من بعيد ..لكنها تلمحه في كل مكان تذهب إليه ..أم تراها بداخلها رغبة بالمعرفة حتى لو أنكرتها ...نكست رأسها وهي ما زالت مسمرة أمام الباب ذي الواجهة الزجاجية العاكسة ..غير قادرة على اتخاذ القرار والتحرك ..لا للداخل للقائه وسماع ما لديه ..ولا للخارج والإصرار على قطع كل الروابط ..لتبتسم بسخرية داخلية وهي تحدث نفسها ..أي روابط تلك ...لقد قُطعت منذ سبعة عشرة عاما ...ليخرجها من شرودها صوت خلفها يطالبها بالتحرك حتى يستطيع المرور ...لترفع رأسها وتغمغم باعتذار واهي دون أن تلتفت وهي تجبر قدمها على التحرك للدخول ..لتتوقف بعد مرورها من الباب تجول بعينيها بالمكان حتى لمحته على طاولة جانبية بعيدة متدارية بعض الشيء عن رواد المكان القليلين أصلا بهذا الوقت من النهار ...لتتحرك جانبيا لتتوارى خلف أحد الأعمدة التي أخفتها عن عينيه التي تطلع للباب كل بضع ثواني بينما ظلت هي تنظر إليه ..داخلها يموج بمشاعر عدة لا تكاد هي نفسها تحددها ...تشعر بغضب منه ..وبلهفة عليه...بكره وحب ..بشوق ورفض .....تشعر بمزيج متناقض من كل شيء ..يكاد عقلها يشتعل دون أن تستطيع تحديد ماهية مشاعرها يقينا... لتزفر مفكرة بأن ارتباكها ازداد لأن سامح لم يحادثها منذ يومين ...وهي اشتاقته ...وافتقدته بجنون ...لتغمض عينيها وهي تشعر بألم داخلي يجعل قلبها يتلوى بشعور مؤلم بالهجر ..لتجد يدها تتحرك لحقيبتها فتخرج هاتفها بينما عيناها ما زالت متعلقة بهذا الغافل عنها وهو يتطلع للباب بلهفة استشعرتها واضحة بحركاته المتوترة على بعد أمتار منها ..لينتفض قلبها وتسبل عينيها مع صوته الهاتف باسمها:
"ماهي؟!!"
لتسيل دموعها الحبيسة وهي تقول اسمه بتضرع :
"ساااامح"
ليصمت للحظة قبل أن يقول بصوت وصلها نبرة القلق به واضحة وهو يسألها:
"ماذا حدث؟!! ما بكِ؟!! " لتظل على صمتها فقط تنشج بصوت خفيض جعله يهتف بقلق:
"ماهي أجيبيني ..حسنا أين أنت؟ ...سأحضر إليك ..هل أنت بالعمل أم بالمنزل؟!!"
لتقول بتقطع لا ...أنا بمقهى****** سأقابله الآن ..أنا ..أراه.. أمامي... لكني ..غير ..قادرة ...على ..الذهاب ..إليه"
ليصمت سامح للحظة دون أن يسألها عن من تقصد ..فالأمر واضح ...قبل أن يقول بحزم:
"اذهبي إليه عزيزتي ..أنت خطوت الخطوة الأهم ..وأنت أقوى وأشجع من التخاذل والتراجع ..أسمعي ما لديه ..وأنا سأكون عندك بعد أقل من ساعة ..فقط مسافة الطريق .."
لترد بصوت مخنوق ..كطفلة خائفة تبحث عن الأمان بقربه:
"أنا خائفة سامح ..خائفة أن اكرهه أكثر بعد سماعي له ..وخائفة أن أسامحه وبداخلي رفض لهذا ..أيضا أمي غاضبة بجنون ...لقد أخبرتها أنه عاد ..وقد هددتني بأنها ستقاطعني إن علمت أني قابلته ..كانت ثائرة كما لم أراها قبلا وهى تخبرني أنه شخص سيئ وسيحاول أن يكذب علي ويلفق أسبابا لبعده حتى أسامحه ..لكني تركتها وخرجت ..لم اخبرها أني وافقت على رؤيته ..لكني أظنها تعرف ...نظرتها لي كانت غريبة ..مجروحة ..لائمة ..غاضبة ..لا أدري ..نظرتها مليئة بالكثير مما لم استطع تفسيره أو فهمه"
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تمسح دموعها بيدها بينما صوته يهدئها...و يقول لها أن تنتظره لحظات لتسمعه يحادث أحدا ما بجواره يخبره باضطراره للذهاب لأمر طارئ وان يهتم بمتابعة العمل حتى يعود ....ليأتيها بعدها صوت دراجته وهو يحاول تشغيلها بينما يعود لمحادثتها وهو يحسها على الذهاب لأبيها ..ويخبرها أنه بطريقه لها"
..فتغلق الهاتف دون كلمة وترفع نظرها لتلتقي عيناها بعيني أبيها!! ..لا تدري متى وكيف لمحها وتحرك ناحيتها ..لكنها وجدته واقفا أمامها بلا صوت ..فرفعت رأسها بمحاولة واهية للتمسك بتلابيب كبريائها وهي تتحرك متخطية إياه بخطوات حاولت بفشل جعلها واثقة لتجلس على المنضدة التي كان يشغلها دون صوت ..بينما حاول الجلوس بالمقعد المجاور لها لتردعه بنظرة رافضة ..فيتنهد بألم ويتحرك للمقعد المقابل لها ......ليظل الصمت سائدا للحظات لم يقطعه سوى صوت النادل سائلا عن ما يريدونه لتهز رأسها رفضا دون صوت ..فينظر له طالبا قهوة لنفسه ..ليقول ما أن ابتعد :
"شكرا لقبولك لقائي ..أعرف أن الأمر صعب عليك وأن .."
لتقاطعه بحدة وصوت مجروح:
"لو سمحت ..دون مقدمات طويلة ..لقد جئت فقط استجابة لضغوط خالتي سُمية ..وحتى أتخلص من إلحاحك الدائم علي بحجة رغبتك بالحديث معي ..لذا ..ها أنا هنا ..تحدث ..لن أقاطعك ..لكن لا تتوقع أن أيا كان ما ستقوله من الممكن أن يجعلني أغفر لك وأسامحك"
ليطرق برأسه هنيهة قبل أن يرفعها قائلا بسخرية مريرة:
"صدقيني ..ولا أنا أتوقع ذلك ..ربما آمل بداخلي ..أو أتمنى فقط وأطمع ببعض التفهم منك ...القليل فقط بما يكفي ليجعلك تسمحي لي بالتواجد بحياتك .. بأي كيفية تختاريها" ليتجاهل نظرتها الرافضة المجروحة وهو يغمض عينيه لحظة قبل أن يفتحها قائلا وهو ينظر لعينيها اللائمة :
"لكي تفهمي ما حدث يجب أن أبدأ من البداية "
ليشرد بالماضي وهو يقول:
"كنت شابا أعتبر نفسي من بين الأفضل...تخرجت بامتياز من كلية التجارة باللغة الانجليزية ..وحققت حلمي بالتعيين بالكلية ..فالعمل الأكاديمي كان حلمي وطموحي ..أنتمي لعائلة من أعرق العائلات المصرية وإن لم تكن الأغنى خاصة مع خسارة معظم أملاكنا لصالح الإصلاح الزراعي والتأميم إبان فترة ثورة عام 1952..لأولد أنا بعدها طفل وحيد لأسرة تحمل الدماء الملكية والعراقة والكثير من الألقاب والأصل الرفيع والقليل من المال ..الذي أحسن والدي استثماره فحافظ لنا على مستوى لائق جعلني أصبح شابا نسبه مرغوب من معظم العائلات ..فوضعي واسم عائلتي كانا كافيان مع امتلاكنا لفيلا فخمة بمنطقة راقية وبعض الأملاك التي استطعنا الإبقاء عليها ليضعني في مصاف الشباب المرغوب به ..ما جعلني اشعر بالغرور وأنا أرى تهافت بنات كبار العائلات ومحاولات الأمهات وتلميحاتهن للفت نظري لبناتهن في أي مناسبة " ليهز رأسه بسخرية داخلية من نفسه وهو يضيف بمرارة :
"نعم كنت مغرورا ...مجرد غر أحمق يرى نفسه الأفضل ويستحق الأفضل ... لذا عندما رأيت والدتك بأحد التجمعات بالنادي شعرت أنها من تناسبني وتستحقني ...كانت جميلة جدا ذات كبرياء كبير وغرور لدرجة العنجهية ظننتها وقتها ترفعا خلقيا ..ولأني ورغم كل شيء لم أكن شابا لعوبا أو عابثا ...فقد قررت أن أخطبها ... لأواجه برفض والدتي التي ما أن رأتها وحادثتها مرتين حتى أخبرتني أنها لا تصلح لي...قالت لي نصا ...بني أختر غيرها تلك الفتاة لا تليق بك ...رغم جمالها واصلها إلا أنها تخطت الغرور لدرجة الأنانية ولن تستريح معها ...لكني عارضتها وعارضت كل من قال لي عنها المثل وأصررت على خطبتها حتى رضخوا لي ...وخطبها والداي رغم عدم ميلهم للأمر وطرت سعادة بموافقتها رغم اشتراطاتها وعائلتها المُبالغ بها في متطلبات الحفل والشبكة والأثاث وكل شيء وهو ما كان يثير نقمة وغضب والداي خاصة أمي ... .. لكني كنت أراهم يظلموها ولا يفهمون أن ترفعها وغرورها هو كبرياء ورقي خلق وابتعاد عن الإسفاف والانحلال السائد في أوساطنا وأن من حقها أن تتدلل وتطلب ما تشاء .....كنت أطير فرحا لأنها وافقت علي مفضلة إياي عن كل من يحومون حولها طالبين ودها من شباب النادي ..وأبناء كبار العائلات .. لم أفهم أن والدتك كانت ترى نفسها فوق الجميع ..وكانت ترى في فرصة جيدة يمكن أن توصلها لما تريد ظنا منها أن وضعنا المالي أكبر مما هو في الحقيقة وأني قادر بحكم دراستي على أن أكون من كبار رجال الأعمال يوما ما وبهذا تكون استطاعت أن تحصل على المال والأصل والوسامة وفوقهم شاب يحبها ويمكنها أن تسيره كما تريد "
ليتوقف للحظات مرتشفا بعض من قهوته التي أصبحت باردة بعد أن وضعها النادل أمامه منذ دقائق دون أن يشعر به لشروده في ماضيه لينظر لها فيجدها منتبهة له بتركيز لا يخفي جمودها وتشنجها ...ليتنهد بعمق ويضع فنجانه ويكمل:
"تزوجنا بحفل مبهر كما أرادت ..وذهبنا لشهر عسل بأوربا دام لشهر كامل ملتهما الكثير من مدخرات أبي ...وعدنا للإقامة بالفيلا التي تعيشون بها حاليا فهي رفضت أن تقيم بشقة وأصرت إما على فيلا كبيرة وهو ما كان مستحيلا على إمكانياتي أو أن نظل بفيلا والداي بعد تجديد معظم أثاثها ... مخبرة إياي أنها لن تترك قصر عائلتها لمجرد شقة حقيرة أيا كانت مساحتها وموقعها ...وعشنا بالفيلا لتبدأ المشكلات بعدها ...فوالدتك كانت تغار من كل من يمتلك شيئا لا تمتلكه هي...فإن علمت أن هناك من صديقاتها من غيرت سيارتها بواحدة حديثة طلبت هي الأحدث ..وإن اشترت إحداهن قطعة مجوهرات طلبت ما يفوقها ... بالإضافة لكونها لم تكن تحترم جديك ...وتتجاوز بحقهم ... وزادت خلافاتها خاصة مع أمي وتفاقم الأمر وهي تطرد كل يوم أحد العاملين لدينا بسبب ودون سبب وتهينهم وتحتد عليهم ...وتعاملهم كعبيد ...لتبدأ غشاوة الانبهار بجمالها تزول عن عيني ..يوم بعد الآخر مع ازدياد حدة المشكلات بيننا وللأسف لم يردعها جدك ولا خالك مصطفى الذين لجأت إليهما مرارا ...بل كانوا غالبا ينصرونها رغم أفعالها...بينما خالك أمجد كان تأثيره عليها ضعيف رغم محاولته المتعددة معها لترتدع .....حتى تعبت وقررت الانفصال عنها لأكتشف في نفس اليوم الذي قررت الذهاب إليها فيه وإبلاغها برغبتي بالانفصال وكانت وقتها مقيمة لدى عائلتها في طقس متكرر لا ينتهي إلا بمحاولات صلح وهدية ثمينة مني .. وما أن بدأت التلميح برغبتي بالانفصال حتى فوجئت بها تخبرني بحملها ..لتلجم لساني وأقرر إعادتها لي محاولا معها إصلاح حياتنا لأجل الطفل القادم .. ليولد مدحت ويفرح به جديك بشدة لكنها فرحة لم تطل لأن جدك أصيب بجلطة بعد ولادته بعدة أسابيع أودت بحياته لتلحقه أمي بعدها بأشهر قليلة ... وتصر والدتك على أن أستغل ميراثي منهما بالأعمال الاستثمارية ..وأن أؤسس شركة لأنها ترغب أن يكون زوجها رجل أعمال ...لم تكن تهتم بمنصبي الأكاديمي ... ليضيف ببسمة ساخرة ...بل لم تسال أصلا عن وضعي حتى أنها لم تحضر مناقشة رسالتي الماجستير والدكتوراه كما تفعل كل الزوجات ...بل وكانت تسخر من طموحي العلمي معتبرة إياه تفاهة لا تدر مالا وأنني يجب أن أستغل ذكائي وقدراتي في مجال المال والأعمال لا الأبحاث التافهة حسب رؤيتها.....حاولت إفهامها أنني رغم كوني أكاديمي بارع في كلية التجارة لكني لا أملك موهبة وملكة العمل التجاري ..وأن الأمر يستلزم الكثير من المقومات والخبرة التي لا أملكها ...لكن بلا طائل وظللنا بمشاكل وخلافات حول الأمر لعدة أشهر وقتها كانت أمك حامل بك وعلمنا أن الجنين طفلة ...فطرت فرحا لأني كنت مشتاقا لابنة خاصة وأمك كانت تكاد تستحوذ على مدحت كاملا ومعظم الوقت تقضيه معه ببيت جدك ...وقتها هددتني إما أن أؤسس الشركة أو تقوم بإجهاض الحمل ..لأرضخ لها على مضض ..وأعترف أن جدك وعمك ساعداني بالبداية ودعماني بالسوق ...فنجحت بأول الأمر ..وبدأت الأمور تهدأ وتستقر لحد ما لفترة ...وخاصة بعد ولادتك"
ليرفع عيناه لها بنظرة تغيم حبا وألما وهو يضيف:
"كانت فرحتي بك كبيرة ..منذ أول لحظة تلقيتك بها على يدي من غرفة الولادة فضممتك لصدري واشتممت رائحتك حتى أسرتي قلبي وبعدها ببضع ساعات فتحت عينيك الساحرتين ونظرتي لي فقيدتي روحي ...صرت أميرتي الغالية ...كنت أحبك لدرجة الهوس ...لا أكاد أفارقك ...اشتقاقك إن غبت عنك ولو ساعتين ...ولا أكف عن تصويرك ليل نهار ... لدي لك مئات الصور لكل مرحلة بعمر طفولتك وعشرات شرائط الفيديو ..أول مرة ضحكتي أول مرة بدأت الزحف على ركبتيك ..ظهور أسنانك الأولى ...خطوتك الأولى ..أول أيامك بالمدرسة "
لتغيم عيناها في محاولة لكتم دموعها بينما تتذكر هي أيضا كيف كان يكثر من تصويرها ..وتدليلها ..لتقول بحشرجة وعيون مغمضة :
"فلما!! ...لما ابتعدت؟!!"
لينكس رأسه بألم وهو بقول :
"لأني رغم حبي الكبير لك ولأخيك ...رجل ...رجل له احتياجات عاطفية لم تقدمها له زوجته للأسف ...رغم كل صبري ومحاولتي معها ...ساء الأمر أكثر بعد وفاة جدك وعمك ...وانهيار شركاتهم والذي لحقت به شركتي مع الأسف ...فقد كنت أرتبط معهم بأعمال عدة ..ولم أستطع النجاة ..خاصة مع ضعف قدراتي وإمكانياتي بعالم الأعمال رغم كوني أكاديميا ناجحا من الطراز الأول حصلت على الدكتوراه بتفوق ونشرت على مدى الأعوام العديد من البحوث المميزة إلا أنني على أرض واقع الأعمال أعترف أني كنت فاشلا ..أنا أجيد النصح... أجيد الشرح ..وضع الخطط والنظريات ...لكن دون الجانب العملي والتطبيقي ...فهذا له من يجيده ولم أكن منهم ..وهذا الأمر زاد غضب أمك وجنونها ...خاصة بعد أن اضطررت لتخفيض الكثير من نفقاتنا ولم أعد أستطيع منحها ما تريد من مال ومواكبة طلباتها التي لا تنتهي" ..ليصمت للحظات متطلعا بعينيها بتردد ليضيف بخفوت ..بهذا الوقت صفيت كل أعمالي التجارية واكتفيت بعملي بالجامعة ... وقتها تم تعين موظفة جديدة كسكرتيرة للقسم ...وترقيتي كرئيس له بالإنابة رغم صغر سني وقتها لكني كنت الوحيد المؤهل للمنصب خاصة مع سفر كل من يسبقني للعمل بالخارج ..فالعمل بالخارج مربحا لنا ماديا بعكس العمل هنا وهو ما يدفع غالبية الأكاديميين للجوء إليه ..ليصمت للحظات يزدرد لعابه ويتناول كوب الماء كاملا قبل أن يكمل بخفوت .....وقتها ازداد اقترابي بحكم العمل من سامية ..كانت فتاة بسيطة ..في التاسعة والعشرين من عمرها ولم يسبق لها الزواج لأنها كانت تعمل لتعول شقيقها وشقيقتها الأصغر ووالدتها بعد وفاة والدها ... رفع عينين غائمتين بمشاعر قوية صدمتها بشدة وهي تراها بعينيه وهو يحكي لها بشرود كما لو كان فقد إحساسه بالزمان والمكان:
"لا أدري لما وجدت نفسي أراقبها عن كسب ..أتابع كل ما تقوم به ...لم تكن باهرة الجمال ..بل كانت عادية ..بسيطة في كل شيء ملابسها حديثها مستواها ...لكنها كانت تملك وجها بشوشا باسما على الدوام ...كانت تملك طاقة حب وحنان وتسامح ورقة لم أرها سابقا ...كنت استشعرها عندما أراها وهي تحدث أختها أو آخاها عندما يمرون عليها بالقسم فكلاهما كان طالبا بنفس الجامعة هو بالعام الأخير والفتاة بالعام الأول.. لكن بأقسام أخرى ... كنت أسمعها بحديثها الهاتفي المتكرر مع أمها لتطمئن عليها وتتأكد من أخذها لدوائها ... وشيئا فشيئا وجدتني أتعلق بها ..ليرفع لها عينين متألمتين وهو يقول مبررا :
"أقسم لك أني لم أتعمد الأمر ...بل لم أعرف كيف حدث ...لقد حاولت تجاهله ..الهروب منه .. حاولت أن أقنع نفسي أن الأمر مجرد إعجاب بها ..أو شفقة على ظروفها ...لكني قلبي كان يتعلق بها أكثر رغما عني ... حاولت التحصن بأمك ...لجأت إليها ..حاولت الاقتراب ..أقسم لك حاولت مرة... ومرة ...ومرات ..حتى أني حاولت الرضوخ لها لترضى فقمت بكسر الوديعة التي كنت قد وضعت بها المتبقي من ميراثي وأحضرت لها ما تريده ..أخذتها لرحلة للخارج ..غيرت سيارتها ..أحضرت لها المزيد من المجوهرات ...لكن كل هذا كان بلا طائل ..كانت تزداد تطلبا ...تزداد برودا وتكبرا وابتعادا ..لا تكف عن التذمر ..عن التطلع لما عند الآخرين ..عن الشجار ..حتى تعبت ..تعبت ..فضعفت ..واستسلمت لكون الأمر بيننا منتهي ..ما بيننا ميت لا يمكن إحيائه مهما وضعته على طاولة الإنعاش ..فلا فائدة ..ورغم ذلك ظللت أقاوم مشاعري ناحية سامية بلا فائدة ...كان قد مر ما يزيد على عامين على معرفتي بمشاعري ناحيتها ..تخرج شقيقها بها والتحق بالعمل بإحدى الشركات بتوصية مني ..فصاحبها كان أحد معارفي عن طريق خالك وجدك ..وهذا كان خطئي الأول .. بعدها استسلمت لمشاعري ...لاحتياجي للحب والحنان استسلمت لمشاعر ..حب سكنت قلبي رغما عني ورأيت صداها بعينيها الخجولتين رغم عدم بوح أحدنا بكلمة .. استسلمت لحنان كانت تبثه لي بنظراتها فأتلقفه بعطش أرض أضناها الجفاف ..واحتياج رجل اشتاق للحنان والاحتواء..كنت أسعد ..باهتمامها بسؤالها عن أحوالي وعنك وعن أخيك ..لأجد نفسي بيوم أطلبها للزواج ...فترفض بشدة قائلة أنها ليست سارقة رجال أو هادمة بيوت ..كنت أعرف أنها تحبني ..حاولت إفهامها وضعي ..لكنها أصرت على الرفض ..لأقع بخطئي الثاني والأكبر ...ذهبت لأمك وأخبرتها أني سأطلقها لأني لم أعد أحتمل ..وأن من حقي أن أعيش بجوار امرأة تمنحني ما فقدته معها ...لنتشاجر بقوة وهي تتهمني بخيانتها لأقع بلساني وسط الشجار معترفا لها بحبي لسامية ...لتفتح وقتها علي وعليها أبواب الجحيم"
لينظر لها بألم متأملا ملامحها المشدودة ويقول باعتذار :
"سامحيني صغيرتي ..لم أكن أحب أن أقول ذلك وأشوه صورة أمك ..لكن ..ليصمت للحظات ثم يضيف بصوت متحشرج
"دون الدخول بتفاصيل مهينة ومشينة ..يكفي أن تعرفي أن والدتك استطاعت شحذ كل معارفها ونفوذها ..لتدمير حياة سامية وأسرتها ...لفقت تهمة لأخيها بالاختلاس ..وتسببت بطردها من الجامعة ..استطاعت أن تدفع شابا مستهترا للتلاعب بشقيقتها وتصويرها وهو يحتضنها ويقبلها وابتزازها بالصور... وتهديدها أيضا بأن تسلط عليها من يغتصبها ويصورها وينشر صورها على الملأ ..لتأمرها بالابتعاد والاختفاء تماما مقابل خروج شقيقها من السجن وتبرئته من تهمة الاختلاس .. على أن تظل محتفظة بصور شقيقتها كوسيلة ضغط .. لأذهب ذات يوم للجامعة لأجدها قدمت استقالتها مستغلة غيابي لعدة أيام ...كنت فيها أنت مريضة وقد لازمتك ..أتذكرين دور الحمى الذي أصابك قبل سفري بعدة أشهر" ..لتهز رأسها إيجابا وهي تتذكر مرضها وملازمته الدائمة لها....
ليضيف هو "عندما علمت باستقالتها جن جنوني وخاصة أني لم أكن أعرف شيئا عن ما فعلته والدتك ...ولم أفهم سبب لفعلتها... وأيضا أقلقني اختفاء أخيها وسحب أوراق أختها من الجامعة ...لأستخرج عنوانها من الملفات المحفوظة وأذهب لمحل سكنها ..فأعلم أن والدتها أصيبت بجلطة ونقلت للمشفى ..أخذت العنوان من الجيران وذهبت إليها لأصل في نفس اللحظة التي يبلغهم بها الطبيب بوفاة والدتها ...لتواجهني بغضب طالبة مني الابتعاد عنها لتخبرني وصت انهيارها بما فعلته أمك ..وأنها السبب بموت أمها التي لم تحتمل القبض على أخيها لتنهار بعدها بالبكاء ..لأثور بجنون مخبرا إياها بأني لن اسكت وسأحضر لها حقها ...لا أدري إن كانت قد استمعت لي أو لا ...لكني وجدت شقيقها الذي خرج قبل أيام من السجن بعد أن نفذت لأمك أمرها بالاستقالة... يقترب مني وهو يطلب مني الابتعاد عنهم فيكفيهم ما نالهم منا "
تركتهم هناك وتوجهت لأقرب مأذون وقمت بتطليق أمك ...وعدت للمنزل ...كنت وقتها بانتظاري بالحديقة ..تسأليني عن سبب تأخري ..وتلوميني لعدم إحضار العروسة التي طلبتها مني ..وقتها أنت فقط من الجم غضبي المستعر ..عندما احتضنتك شعرت بأني يجب أن أتصرف بحكمة ...فمن فعلت ذلك يمكن أن تفعل أي شيء آخر ...لكني أيضا كنت غبيا ...فما أن أبلغتها أني طلقتها ..ورغم أني أخبرتها أني سأترك لها الفيلا وسأعطيها كامل حقوقها ..وأيضا سأقوم بالإنفاق عليكما ... ولا أريد سوى أن أظل بجواركم .. وأن لها الخيار إما أن تترككم معي إن أرادت ..أو تبقيان معها على أن تسمح لكم بالإقامة لدي بإجازة نهاية الأسبوع والعطلات المدرسية لكن ما لم أتوقعه هو ثورة جنونها وهي تهددني إما أن أردها لعصمتي وأنسى تماما تلك القمامة كما كانت تدعو سامية ...أو أنها لن تكتفي بحرماني منكما ...بل ستدمرني تماما وتدمرها وتدمر صورتي لديكما "
ليبتسم ساخرا بألم وهو يقول بمرارة تقطر من حروفه:
"أتعرفين ما المؤلم والساخر بالوقت نفسه ..أنها لم تكن تردني غيرة علي ..ولا اهتماما بي أو بكم ولا رغبة بالإبقاء على أسرتنا ...لقد صرختها بوجهي ..لن أسمح لك بتركي لتسخر مني السيدات بالنادي وأصبح سخرية فتيات ونساء العائلة ...لن اسمح لك بإهانتي ليقال أن رقية الراوي قامت فتاة حقيرة نكرة بسرقة زوجها منها...وقتها غضبت وثرت بجنون ..وأخبرتها أني لن أعيدها مهما حدث ..وأني لن أسمح لها بحرماني منكما ..أو بالاقتراب من سامية ...لتبدأ الحرب بيننا ...حرب غير متكافئة حيث يستخدم أحد أطرافها طرقا غير مشروعة لا يستطيع الطرف الآخر مجاراتها بها ...لينتهي الأمر باختفاء سامية دون أن أستطيع الوصول إليها أو معرفة ما حل بها ..خاصة بعد أن انتشرت صور شقيقتها مع الشاب بحيهم وبالجامعة وبكل مكان ...لأدور لأشهر كمجنون أبحث عنهم بلا فائدة ...ليتزامن الأمر مع منع أمكم لي من رؤيتكم ..وتعينيها حراس أمن على باب الفيلا لمنعي من الدخول ..بل وصل الأمر بها للسفر بكم لشهر كامل لم استطع به الوصول إليكم أو معرفة مكانكم لالتجئ للقضاء وتبدأ دوامة التقاضي بيننا ..لأقع بليلة سوداء بخطأ ثالث كان الخطأ القاتل ..كانت ليلة عيد مولدك ..وكنت سأجن اشياقا لكِ وقلقا عليك وأنا لا أعرف طريقك ..كنت أدور كالمجنون حول الفيلا المظلمة الخالية منكم وبين بيت أخيها أمجد ..الذي كان رغم تعاطفه وزوجته معي غير قادرين على مساعدتي فأمك أخفت مكانها حتى عنهما"
لتتذكر ماهي تلك الفترة ..كان عيد ميلادها الأول الذي لم يحضره ..كانوا يقيمون وقتها بإحدى المدن الساحلية وأخبرتها أمها أن أباها سافر ..وأنه لم يعد يهتم بها ..ولم يعد يحبها ..وأنه لابد نسي عيد ميلادها ...لكنها ثارت وغضبت ورفضت ..وأخذت تصرخ مطالبة بالعودة لمنزلهم.. مصرة على أن أباها سيكون بانتظارها هناك يحضر لها حفلها ...ليعودوا بعدها بعدة أيام ...لكنها لم تجد أبيها ..ولم يعد ...ولم يأتي لها ...لتنظر لها أمها بتشفي وهي تذكرها أنها أخبرتها أنه نسيها ...كرهها وكرههم ...سافر هاجرا إياهم
لتنظر له هامسة بألم .".لم لم تأتي ..لم لم تعد "
لينظر لها بألم مماثل وهو يقول بخزي ..لأني حققت لأمك دون أن أدري ما أرادته ..منحتها بيدي السلاح الذي قتلتني به" لتسأل بتوجس وقلبها يخبرها أن القادم أسوء: " كيف"
كانت تنظر لوجهه المنكس بخزي فلم تنتبه لمن دخل المقهى بلهفة قلقة وهو يبحث بعينيه عنها حتى رآها ليقترب منهما دون أن ينبههما لوجوده ...بل أكتفى بالجلوس قريبا منهما لكن ليس لدرجة الاستماع لما يقولون ...معطيا لهما الحق بالخصوصية وبالاحتفاظ بإسرارهما طالما لم يسمحا له بمعرفتها ...فلن يحق له التجسس عليها حتى لو كانت زوجته ...لكنه سيبقى قريبا منها ليكون بجوارها إن أرادته، و ليسندها إن احتاجته ......ومن ملامحها المنهكة شعر أنها ستحتاجه ...
ظل منكسا رأسه هاربا من عينيها لدقائق عدة وهي صامتة منتظرة ما سيقوله حتى عاد للحديث بصوت مقهور :
"جاءني خبر عبر صديق لي أن سامية تزوجت من رجل من بلدة أبيها وتعيش معه ومع إخوتها بإحدى قرى الوجه البحري ...لم أكن واثقا من صحة الخبر ..لكن الضغوط يومها جعلتني استسلم لضغط هذا الصديق ..أو فالنقل الشيطان الذي تلبس ثوب الصديق ..والذي لم أتخيل للحظة أنه مدفوع من قبل والدتك التي تلاعبت به وأقنعته أن يساعدها بحجة إبعادي عن فتاة طامعة تسببت بهدم بيتها ..وأيضا حتى يمكن أن تمسك ما تضغط به علي لإعادتي لصوابي ... ليضيف ساخرا من نفسه ...هذا ما أخبرني به بنفسه عندما قابلته بعدها بعدة أعوام هنالك بالغربة ..عندما فقدت أعصابي وضربته سائلا عن سبب ما فعله بي ...رغم أني أظن أنه كان له أغراض أخرى ...لكني لست واثقا ...ربما كان غيورا مني ...أو ربما طامعا بأمك وظن مساعدته لها ستفتح له الطريق ...حقا لا أعلم .."
لتعيد سؤالها وهي تراه يتهرب:
"ماذا حدث؟!!" ليقول بعد لحظة من التردد:
"ذهبت معه لأحد الملاهي الليلية ...استسلمت لضغطه وضعفي وألمي وشربت الخمر ..لأستيقظ صباحا لأجدني"
...ليتوقف للحظات قبل أن يقول بخفوت وخزي وهو يهرب بعينيه بعيدا عنها ..لأجدني بشقة حقيرة وبجواري امرأة عارية"
لتدفعه شهقتها للنظر لوجهها للحظة قبل يعود للهرب بعينيه من ملامحها المصدومة وهو يضيف بمزيد من الخزي والتبرير:
"أقسم بالله أني لا أذكر شيئا مما حدث ...ولا أعرف كيف حدث الأمر..بل لا أعرف إن كان حدث شيئا من الأصل ...فما أن أفقت صباحا بصداع يحطم رأسي وانتبهت للمكان الغريب حتى قمت كالملسوع أبحث عن ملابسي لأجد تلك ال....ليصمت مستغفرا قبل أن يضيف ...تلك المرأة تنظر لي بوقاحة وتطلق ضحكات ماجنة وأنا أسالها عن ما حدث وكيف جئت لهنا ...لتجبني بسخرية ووقاحة أني جئت معها برغبتي مدعية أني أقمت معها علاقة ...لكني لم أصدقها ... ..لا يمكن أن أفعل ذلك ..أو على الأقل هذا ما كنت أظنه حتى فوجئت ما أن عدت للشقة الصغيرة التي كنت أقطن بها وقتها بأمك بانتظاري أمام بابها ..لأجن صارخا وأنا اسألها عنك وعن أخيك لتضحك بشماتة وهي تخبرني أني لن أراكما ثانية ..إلا أن نفذت لها كل ما تريد ...وأولهم أن أعيدها لعصمتي ..وأسجل الفيلا باسمها ...وأقبل بالعودة لعالم الأعمال ...حيث ستمولني هي بميراثها من أبيها بشرط طبعا أن يكون كل شيء باسمها ..لأضحك ساخرا ..ورافضا كل ما تقوله ...لتعايرني باني ضعيف ..ومن كنت أرغب بالزواج منها تركتني بعد أن فشلت بحمايتها ..والأفضل أن أعود لها وإلا ستكمل تدميري ...لتخرج من حقيبتها صورا لي ...صورا ما أن رأيتها حتى فقدت قدرتي على التماسك وأنا اهرع للحمام مفرغا كل ما بمعدتي ..كنت أنا... ولست أنا ...صورا لي بأوضاع ماجنة وأنا بالملهى الليلي اشرب الخمر وأتمايل راقصا وسط ال****** ..وأخرى لي ..... عاريا بأوضاع مخلة مع تلك المرأة التي رأيتها صباحا ... أخذت اصرخ بهستريا وأنا اقطع الصور نافيا الأمر ...مدعيا أنها ليست حقيقية ..وأنها لابد تلاعبت بها ...لتضحك ساخرة بشماتة وهي تخبرني أنها حقيقية مئة بالمائة ..فأنكر بتصميم أكبر ...فحتى لو كنت سكرانا يستحيل أن أنسى تماما كل ما حدث ...لتقول لي بتبجح ..أن الأمر ممكن عندما يخلط الخمر ببعض الحبوب المخدرة ..والتي أضافها من اعتقدته صديقي لشرابي دون أن أشعر ...لتهددني أنها ستفضحني بالصور بكل مكان وستفصلني من عملي وأنها بهم ستحرمني رؤيتكم للأبد فلا يوجد قاضي سيمنح لسكير عربيد الحق برؤية أطفاله ..أما الطامة الكبرى التي أفقدتني كل تعقل هي تهديديها لي بأن تجعلك أنت ومدحت تشاهدون تلك الصور ... وقتها كدت أقتلها ..هجمت عليها راغبا الفتك بها لتصرخ مستغيثة فيتجمع الجيران وتصر هي على طلب الشرطة وتتهمني هناك بمحاولة قتلها " ليتنهد بانكسار وهو يكمل بزفرة ألم:
"ظللت لأيام بالحجز علمت فيها أنها قد قامت بإرسال نسخة من الصور لعميد الجامعة ...ليزرني بالحجز أحد زملائي مبلغا إياي أن الرجل إكراما لخاطر أبي الذي كان صديقا له ...ومراعاة للعشرة بيننا سيكتفي بقبول استقالتي فورا ودون فضائح وتحقيقات مراعاة لي وحتى لا يتم تدمير مستقبلي كليا ..والأفضل بعد أن اخرج أن أسافر للعمل بالخارج ...بعيدا عن أي فضائح حدثت هنا ..كما أنه أفضل لي ماديا.....حاولت إخباره أن الأمر ملفق ...لكن كان من الواضح أن الأمر منتهي والاستقالة هي الحل الأسلم والأقل ضررا ...لأكتبها وأوقعها وأرسلها معه ....بقيت بعدها بالحجز لعدة أيام أخرى حتى تدخل خالك أمجد ومحامي وبعض الأقارب ... ليتم تخيري بين أمرين أصرت أمك على أحدهما دون أي تنازل رغم كل محاولات خالك والبقية... إما العودة لها بشروطها كافة ..أو أن اختفى تماما من حياتكما ...دون أن يحق لي رؤيتكما طوال حياتي ..وتقتصر علاقتي معكم على إرسال المال فقط ..وانه في اللحظة التي سأخل بها بشرطها ستظهر الصور التي معها وتفضحني بها بكل مكان وأولهم لديكما"
...ليرفع عينين مليئتين بالخزي والندم والألم وهو يقول لها بانكسار
سامحيني ماهي ..اغفري لي أميرتي ...لم أستطع رغم عشقي لك وحبي لأخيك أن أرضخ وأعود لها ...لم أطيق أو أحتمل ..خشيت أن أفقد أعصابي بلحظة ما وأقتلها ..وصدقيني كنت قريبا من الأمر لعدة مرات ...لدرجة جعلتني أقرر السفر والعمل بالخارج ...خاصة بعد فشل كل مساعي ومساعي كل من اعرف في تليين عقلها والسماح لي برؤيتكم ..وكان القانون خيارا خاسرا بما تملكه ضدي من صور ..لأستسلم لضعفي وأفضل الابتعاد بعد عدة أشهر فشلت فيها بالتواصل معكما ورؤيتكما...ليكون كل ما يربطني بكم صورا ترسل لي من معارفي وأصدقائي ، وخالك وزوجته ..والتي استمرت بإرسالها وإمدادي بإخباركم حتى بعد وفاته ..وأموال أرسلها مع خطابات وهدايا كنت واثقا أنها لن توصلها لكم ...لكني لم أكف عن إرسالها آملا أن تعرفوا يوما أني لم أتخلى عنكم رغم كل ما حدث "
ليحدق بعينيها وعينيه مغرورقة بالدمع وهو يقول بتوسل "أرجوك أميرتي أمنحيني فرصة ....أعرف أنني كنت جبانا... ضعيفا ...أعرف أنني ربما لم أحارب بما يكفي واستسلمت ...لكني لم أنسكما يوما .. دوما كنت أتتبع أخباركما عن طريق كل من أعرفه ...كنت أجعلهم يرسلون لي صوركما على الدوام ..خاصة أنت ..لدي البومات لك في كل الأوقات ...كنت أحاول بها تصبير نفسي .. تهدئة قلبي المشتاق لأميرتي ..حتى تعب القلب ..وضعف ..فانهار منذ عدة أشهر وكاد يستسلم ..لكني قاومت ...قاومت راغبا أن أعود لك ..لأطلب غفرانك ..لأنظر لوجهك الذي اشتقته فصورك لا تكفي لتمنحني دفئ الشعور بك ..فهل يحق لي أن أحلم أن تسمحي لي يوما بالعودة لضمك كما كنت أفعل سابقا .. ضمة أشتم بها رائحتك ..هل ستقبلي أن تجعليني أسمع صوتك وهو يناديني أبي ...ليتهدج صوته وهو يكمل .... أرجوك أميرتي... ناديني أبي كما أعتدت سابقا ...لقد اشتقت لها من بين شفتيك ...صدقيني لو مت بعدها فلن أهتم.. فقط ليكون حضنك ورائحتك وصوتك بكلمة أبي آخر ما أستشعره بتلك الدنيا"
لتنظر له بألم ودموعها تسيل ...تشعر بضعف واضطراب ..تشعر بتيه وفقدان قدرة على التفكير ...كلها يختض من الداخل والخارج ...لتقف ببطء ووهن فيقف أمامها ناظرا لها بألم وتوسل لتقول بصوت مختنق:
"أريد ....أن.... أغادر"
ليلتف حول المنضدة محاولا لمسها فتنكمش ضامة جسدها بيديها وهى تبتعد خطوة لتقول باهتزاز:
"لا"
فينكس يديه بألم وخذلان وينطفئ بعينيه ضوء الأمل أن يحصل يوما على الغفران ...ليفاجأ كلاهما بمن يقف خلفها يضم جسدها لجذعه لافا ذراعه حول كتفها وهو يقول :
"هيا حبيبتي ...سأخرجك من هنا"...لترفع عينيها لسامح بتيه فيشدها له أكثر وهو يستشعر عدم ثباتها ليسندها بقوة وحنان موجها لها للخارج ...تاركا ورائه رجلا سقط جالسا بألم على مقعده دافنا رأسه بين يديه مخفيا دموعه عن من حوله .. ولسان حاله يردد أنها قد خسر كل معاركه ...ولن ينال يوما غفران أميرته
----------------------
|