كاتب الموضوع :
سيمراء
المنتدى :
رومانسيات عربية
رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية
الفصل الأول
تتعالي أصوات الزغاريد.. ويصدح صوت الموسيقي بداخل الفيلا ..التي ازدانت بالأضواء ومظاهر الاحتفال ..
يقف الدكتور خليل والد العروس قريبا من الباب ..يستقبل الضيوف والمهنئين ، ولا يستطيع منع رأسه من الالتفات إليها كل لحظة ..
كأنما يؤكد لنفسه أن صغيرته بالفعل كبرت وصارت عروسا جميلة ..
أنها تجلس بجوار من اختاره وارتضاه بل وتمناه لها منذ فترة طويلة ..فهو يعرف أكرم منذ كان طالبا ولفت نظره بجديته وأخلاقه وتفانيه ... وزادت معرفته به خلال سنة الامتياز حيث اعتبره ابنه الذى لم ينجبه ..واعتبره أكرم مثله الأعلى ووالده الروحي ومرشده العلمي ... ودوما ما كان يستشيره فيما يخص مستقبله ..
كان يتمني أن يتخصص مثله بجراحات المخ والأعصاب ..لكن عندما خانه التوفيق بفارق بسيط كان كافيا ليضيع عليه فرصة التعيين بالجامعة بهذا التخصص ..بينما كانت درجاته تؤهله للتعيين بتخصص العظام.. فأقنعه باختيار العظام لكي لا يضيع فرصته بالتعيين الجامعي .. علي أن يتخصص لاحقا بجراحات العمود الفقري وهي الجراحات التي تجمع كلا من تخصص العظام والمخ والأعصاب .. بل وكان أحد المشرفين علي رسالة الماجستير التي قام بها في هذا التخصص والتي كانت رسالة ممتازة أبهرت مشرفيه ومناقشيه ..
كما حصل بعدها بالمراسلة علي زمالة جمعية العظام الملكية بلندن ..وهو يتوقع له أن يكون أسمه علي رأس قائمة البعثات التي ستعلن خلال عدة أشهر للسفر لأحدي الدول الأوربية للحصول علي الدكتوراه ..
رغم أن الزمالة التي حصل عليها تكفيه فهي تعادل الدكتوراه .. لكن أكرم الطموح يرغب بالمزيد ..وواثق هو انه سيصبح من أشهر الأطباء في مجاله قريبا ،فتفوقه العلمي رغم صغر سنه حقيقة لا جدال فيها ..
لكن هذا لا ينفي أن الأمر لا يعجب بعض ذوي النفوس الضعيفة ..
مما دفعه لمساندته دون أن يُشعره بذلك .. وجعل أمر كونه يتبعه ..وأي إزاء له يعد تعد عليه شخصيا شيئا معروفا ...حتى لا يحاول احد التعدي علي حقه ...
رغم انه وقتها لم يكن قد قابل ابنته بعد لكنه فعل ذلك لأنه أحبه ...ولأن أكرم يستحق المساندة ... فهو نابغة يجب أن توفر لها كل الوسائل لتبرز....لذا هو فخور به ..
لقد أصبح يعتمد عليه بقوة في إدارة مشفاه الخاص وهو أثبت كفاءته وأمانته و لم يقصر..
رغم انشغاله بعمله بالمشفى الجامعي ..وعيادته الخاصة التي افتتحها منذ فترة قصيرة بحيهم الشعبي ....
كم هو فخور بهذا الشاب النابه الذي اعتبره ابنه الروحي ..وكم ارتاح قلبه لارتباطه بوحيدته ..
تذكر بسعادة عندما فاتحه أكرم برغبته بالارتباط بابنته ...لقد وافق فورا ..ولم يهتم بالفارق في المستوي المادي والاجتماعي بينهما ...
فهو نفسه كان من أسرة بسيطة بل كان من خلفية اقل بكثير من أسرة أكرم .. فوالده كان فلاحا أجيرا بإحدى قري محافظة الشرقية ، مات وهو طفل بعمر الخامسة وتركه مع أمه وأخته التي كانت تكبره بثلاثة أعوام ..يعانون شظف العيش وسوء المعاملة من أسرة أبيه ..!! التي استهلكت صحة أمه بخدمتهم بالإضافة لعملها بالحقول .. وخاصة عندما وقفت بوجوههم رافضة أن تتزوج بشقيق زوجها الأكبر والمتزوج... والذي أذاقتها زوجته الويل.. رغم رفضها الزواج بزوجها ..
لكن أمه رغم ما لاقته منهم لم تستطع ترك حجرتهم الصغيرة الضيقة في بيت العائلة المبني بالطوب اللبن.. لأنها لم تكن تملك مكانا آخر يؤويهم.. وهي تكاد تكون بلا عائلة.. وأقاربها فقراء لن يستقبلوها ...
كما رفضت أن تستجيب لضغوطهم وتجعله يعمل معها بالحقول... وأصرت أن يكمل تعليمه رغما عن أنوف عائلة زوجها ...
الأمر الذي لم تستطع أن تطبقه علي أخته الكبرى والتي زوجوها جبرا لأبن عمه الكبير ... وهي مجرد طفلة لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها !!..
لتذوق علي يديه ويديهم صنوفا من العذاب ...حتى خذلها جسدها الضعيف من كثرة ما عانت ...ما بين العمل بالحقول... وطلبات زوج لم يراعي سنها ..وحمل لم يحتمله جسدها ..لتسلم الروح وهي بشهرها الرابع من الحمل ..وكان هو وقتها بالحادية عشرة من عمره ..
ليقسم أمام قبرها أنه يوما ما سيغادر تلك القرية بلا عودة ..وسينجح وينتشل نفسه وأمه من هذا الجحيم ..
قسم بر بنصفه الأول ..ولم يستطع أن يبر بالنصف الثاني !! عندما لحقت أمه بأخته وهو بعامه الثالث بكلية الطب.. التي دخلها رغماً عن أنف عائلته وبدعم والدته التي كانت تفني نفسها ليل نهار لتوفر له نفقاته ...
وهو أيضا كان يعمل صيفا لمعاونتها ، وبعد وفاتها هجر تلك القرية تماما ..
جمع ما يملكه بحقيبة مهترئة ..واستطاع أن يحصل علي عمل ليلي بأحد المراكز الطبية بالعاصمة قريبا من مقر جامعته ..والتي كان لصاحبه فضل كبير عليه !!..
فعندما علم الرجل بظروفه ..وبكونه طالب طب ...وفر له وظيفة باستقبال المركز وكان هو يستغل ساعات السهر للمذاكرة.. وأحيانا يغفوا لساعتين أو أكثر.. فلم يكن المركز كبيرا أو مزدحما ...
كما أنه لم يحتج للبحث عن سكن فقد وافق صاحب المركز علي أن يشغل سريرا بحجرة استراحة الأطباء... وكان يضع بها ملابسه ..وكتبه ..وحاجياته البسيطة وينام بها علي أحد الأسرة الثلاث عند عودته من الجامعة .. يلقي بجسده لعدة ساعات حتى بدء موعد عمله ..
ورغم ظروفه الصعبة ...إلا أن ذكائه ..وعزمه ..وتصميه جعله ينجح بل ويتفوق ... حتى تخرج وعمل بنفس المركز لفترة ...و حصل علي التعيين الجامعي ، ومنحة للسفر للندن للحصول علي الماجستير..
عاد من ذكرياته علي انطلاق المزيد من أصوات الزغاريد ...عندما كان أكرم يلبس ابنته سارة حلقة الخطبة والخاتم البسيط الذي احضره لها.. حسب إمكانياته المحدودة ...و التي لم يعترض عليها لا هو ولا سارة ابنته ..
سارة التي تبدوا سعيدة ومشعة بجوار خطيبها ..
لكن سعادته كان يخالطها بعض القلق ، والخوف الذي لا يملك إلا أن يشعر به وهو يتمني أن لا تكون البعثة القادمة للندن ، رغم علمه برغبة أكرم بالذهاب إليها تحديدا ..
هو لن يقف بطريق مستقبله، لكنه لا يستطيع أن ينحي القلق من قلبه قلقه علي ما يمكن أن ينال ابنته من مخاطر !! هنا بمصر!! أو هناك بلندن !!!..
أخرجه من أفكاره القلقة وصول المزيد من الضيوف الذين انشغل بالترحيب بهم
.............................
"هلا كقفتي عن الحركة وهدئت قليلا ..اجلسي بعض الوقت أرجوكِ"
نظرة إليه بنزق وهي تجيبه :
"كف عن القلق يا خالد ..أنا بخير ..وهذه خطبة أخي الأكبر ..ولابد أن أكون بجواره"
..ليقاطعها بحدة رغم خفوت صوته :
"همس أنتِ لم تكفي عن الحركة ..وقد قمتي بواجبك ورحبت بالضيوف.. وساعدت أخاك بتلبيس حلقات الخطبة ..وكأنه كان سيفشل بإدخال الخاتم لإصبع خطيبته !!.. وأخذتي العديد من الصور معهم وأنا لم اعترض!! ..أنسيتي أنك بالأمس فقط فقدتي وعيك .. والطبيبة أخبرتنا بضرورة التزام الراحة والتغذية الجيدة .. الأمرين الذين لم تفعلي أيا منهما للآن "
...لتتسع عينا همس وهي تجيبه بنزق :
"ماذا؟!!!! إنك لم تكف عن حشوي بالطعام منذ اكتشفنا بالأمس إنني حامل.. بعد أن أخبرك طبيب المجموعة باحتمالية الحمل .. عندما استدعيته لمكتبك بعد فقداني الوعي لدقائق معدودة ... الأمر الذي حدث فقط لأني نسيت تناول الإفطار.. وأكثرت من القهوة.. وليس لأني مصابة بمرض ما ..وبالتأكيد لم تكن حالتي تستدعي حالة الهلع التي أثرتها.. ولا استدعاء الطبيب"
... ليقاطعها خالد ..
"لكن لولا استدعائه لما شككنا بالحمل واكتشفناه مبكرا.. عندما قمنا بالتحليل .. ولما أخذنا احتياطاتنا وتابعنا مع الطبيبة فورا منعا لأي مضاعفات نتيجة عدم معرفتنا "
...لتغمغم همس بخفوت وهي تغمض عينيها بضيق ( ليتنا ما عرفنا مبكرا كنت رُحمت عدة أيام من هذا الحصار) لتفتحهما مجيبة زوجها بهدوء مفتعل :
"خالد حبيبي.. أنت حبستني حرفيا في السرير منذ عدنا من عند الطبيبة أمس وحتي موعد الحفل .. ولو كان الأمر ممكنا لمنعتني من حضوره ..كما لم تكف أنت وأمي سمية عن إطعامي كل ساعتين .. بخلاف العصائر واللبن الذي اكرهه !!..والذي تسقيني إياه كل ساعة حتي قاربت علي الانفجار.. فأين هي عدم الالتزام بالراحة والتغذية الذي تتحدث عنه "
ليلوح بيده باستنكار وهو يقول:
- الطعام الذي ترفضي اغلبه؟!! ... والعصائر التي لا تأخذي منها سوي رشفة أو اثنين تحت الضغط !!... واللبن !!! الذي أمسكت بكِ تسكبينه بالحوض بعد أن أوهمتني انك ستشربينه .. وطلبتي مني أن احضر لكِ بعض الفاكهة من المطبخ بالأسفل لتغافليني وتتخلصي منه.. ولولا أنني تذكرت أنى أضع فاكهة كثيرة بثلاجة الحجرة ..وعدت من الرواق لكنتِ خدعتني "
...لتنظر له وهي ترمش بعينيها ببراءة وتجيبه:
"وماذا بإمكاني أن افعل حبيبي؟!!!.. أنت تصر علي أن اشربه!!.. وانا اكرهه ..ولا أريد أن أغضبك ..لتضيف بحدة عندما تذكرت :
"كما انك عاقبتني وجعلتني اشرب كوبين بعدها ... سكبتهم سكبا بفمي أتنكر؟!!"
..لينظر لها ببسمة ويتذكر شكلها وهو يفتح فمها ويغلق انفها ويجبرها علي شرب اللبن كما لو كان دواء مرا وهو يقول:
"تستحقين أن تعاملي كالأطفال.. طالما تتصرفين مثلهم"
..لتقاطع سجالهم حماتها وهي تقترب من همس سائلة.. بينما تجاورها على الأريكة العريضة التي تجلس عليها هي وخالد:
"كيف حالك الآن حبيبتي؟!! هل تشعرين بأي تعب؟! هل احضر لكي بعض الطعام ؟! فأنت لم تأكلي شيئا منذ عدة ساعات.. وهذا ليس جيدا للطفل"
..لترفع همس عينيها للسماء وهي تحدث نفسها بضيق قائلة :
"اللهم صبرني ..واعني ..علي زوجي وأمه.. لقد أطار خبر حملي عقولهم.. كما لو كنت المرأة الوحيدة التي حملت علي وجه البسيطة ؟!!!
................................................
دخل من الباب المفتوح بعد أن سلم علي الدكتور خليل والد خطيبة شقيقه ..وأخذ يجيل نظره بالمكان ... لتلتقي عينيه بنظرة والده اللائمة له علي تأخيره.. فيقابلها بنظرة معتذرة وهو يخفض عينيه ..ويقترب منه ليسلم عليه ويحتضنه قائلا بهمس جوار أذنه بينما يقبل كتفه :
"لا تغضب مني يا أبي ".
. ليضمه والده وهو يجيبه بصوت خافت:
"لست غاضبا منك بل قلقا عليك ..هناك ما يشغل عقلك وقلبك ولا تخبرني به .. كما أن حدتك وأفكارك وطريقتك مع أخيك لا ترضيني !!.. فاذهب إليه وراضه ..وسيكون بيننا حديثا طويلا فيما بعد"
..ليهز رأسه موافقا وهو يذهب باتجاه أخيه ..الذي ما إن رآه مقبلا حتى وقف واستقبله فاتحا زراعيه ومبتسما له.. رغم نظرة اللوم في عينيه ..ليضمه إليه بقوة وهو يهمس :
"آسف لا تغضب منى لقد كانت كلمات حمقاء في لحظة غضب "
...ليجبه أكرم بنفس الهمس وهو ما زال يضمه:
"لم أغضب من كلماتك فأنا أعرفك أحمق... يسبق لسانك عقلك.. واعرف أنك تعرفني بما يكفي لكي لا تشك بأخلاقي ...لكني غضبت من أفكارك.. ومن طريقتك ..لأنها ستتسبب لك الكثير من الألم يا شقيقي "
..ليبتعد سامح قليلا ويخبط كتف أخيه وهو يمازحه بصوت مرتفع :
"يكفي احتضانا!! .. خطيبتك تنظر لنا بتعجب !! لابد أنها تقول ما بال هاذين الأخوين كما لو كانا مهاجرين لم يريا بعضهما منذ سنوات .. ونحن كنا معا منذ بضع ساعات"
لتبتسم سارة التي سمعت جملته وهي تجيبه باسمة :
"بالعكس أنا معجبة بقوة العلاقة ..بينكم عواطفكم الصريحة.. وترابطكم معا
..ترابط ومساندة الأخوة شيء رائع لا يشعر بأهميته إلا من لم يجربه"
...ليشاكسها سامح وهو يلعب حاجبيه :
"لقد أصبحتِ أختنا منذ الآن ..وسنفرقك بهذا الترابط حتى تختنقين ..المهم أن تصمدي ..و تثبتي قدرتك على التحمل.. فصدقيني وجود إخوة لكي مثلى وهمس ليس بالأمر السهل!"
.. لتضحك سارة بمرح وقبل أن تجيبه هي أو أكرم اقترب منهم أحمد بملامح مضطربة ، ليشد سامح مستأذنا منهم بحاجته إليه .. ليسأله أكرم بتوجس إن كان كل شيء علي ما يرام ..فيجيبه بأن لا يقلق وهو يبتسم له بسمة لم تصل لعينيه .. ويجذب سامح ناحية الركن البعيد من الصالة حيث تجلس زوجته ريهام ..
ليقترب سامح منها مسرعا ما أن لاحظ ملامحها التي تنضح بالألم ليجثو راكعا أمامها وهو يهتف بجزع:
"ماذا حدث ؟!! ما بكِ ريهام"
..ليجيبه أحمد باضطراب ..
"إنها تتألم منذ ما يقارب الساعة ..ورغم ذلك تنكر الأمر .. وتدعي أنها بخير ..ولولا إنني رأيت ملامحها التي تفضح ألمها.. وشعرت بتململها بجواري لم تكن لتنطق"
.. ليستطرد وهو يرفع يديه يشد بهما شعره في حركة معتادة منه عندما يشعر بالقلق أو التوتر :
"يا الهي لقد طلبت منها أن نعود للمنزل لتستريح لكنها رفضت.. كما ترفض أن نذهب للطبيبة ..أو أن اخبر همس أو والدتك !..فتصرف أنت معها فقد تعبت !"..
لترد عليه ريهام بصوت ظهر فيه الإرهاق رغم محاولتها مدارة الأمر :
"لا تكبر الموضوع أحمد.. إنها فقط بضع تقلصات نتيجة جلوسي لفترة طويلة "
..ليقاطعها أحمد بضيق :
"ومن سبب الجلوس الطويل؟!! الست أنت التي ترفض الانصياع لأي طلب أو..."
..ليقاطع سامح كلماته المندفعة والحانقة وهو يدقق بوجه أخته من الرضاع قائلا المحتقن ألما :
"أحمد أحضر سيارتك أمام الباب.. وسأقوم بإسنادها دون أن يشعر أحد كأننا نتمشى .. حتى اخرج بها للحديقة ونذهب بها للطبيب المتابع لها"..
ليبتعد أحمد مسرعا فهذا ما كان يريده ..
وعندما لاحظ سامح محاولة ريهام التحدث رفع يده مضيفا :
"لا نقاش ريهام واضح انك متعبة .. وربما تكوني بحالة وضع.. لا تنسي انك بالشهر التاسع!! بل بنصفه الأخير!!
..لتجيبه بضعف:
"الطبيبة المتابعة لي أخبرتني انه ما زال أمامي أسبوع آخر" ..
ليقف سامح و يجيبها مبتسما ..بينما يرفعها بيديه مساعدا إياها علي الوقوف وهو يمشي معها باتجاه الباب محاولا عدم لفت الأنظار إليهم :
"عزيزتي لا يوجد طبيب بالعالم يستطيع أن يجزم متى يحين موعد خروج روح للدنيا ..أو خروجها منها .. الموت والحياة موعدهم بيد الله فقط ..ثم أنه يبدوا أن هؤلاء الأشقياء متعجلين للقاء خالهم المفضل" ..
لتنظر إليه وهي تسير جواره ببطء بينما تقترب من باب الحديقة حيث وصل احمد بالسيارة أمامهم وهي تسأله رافعة حاجبها :
"ومن هو بالضبط خالهم المفضل؟!!.. فحسب علمي لديهم أكثر من واحد" ..ليجبها ضاحكا وهو يدخلها لتستريح بالمقعد الخلفي بينما يتجه هو للمقعد الأمامي بجوار أحمد :
"أنا طبعا"
ليجدها تنهره قائلة :
"سامح أين تذهب؟!! عد للحفل !!...فلا يجوز أن تترك أخيك بيوم خطبته الأمر لا يستدعي .. نحن سنذهب للطبيبة للاطمئنان ..وربما يكون الأمر إنذارا كاذبا"
..ليرد سامح :
"أخي مشغول بخطيبته .. وأبي وأمي وكذلك همس وخالد معه... وأنا لن أتركك.. فانسي الأمر!! ..ثم إن كان إنذارا كاذبا سأعود إليهم ...أما إن كانت الولادة ..فسأكون أول من يحمل أبنائك عزيزتي"
..لتتنهد بوجع وتشير بعينيها لزوجها القلق المقطب بالمرآة ليتحرك .. فهي تعرف شقيقها بالرضاع حين يصر لن يمنعه شيء ....
......... ....
كانت تخفي وجهها بالغطاء وتدفن فمها بالوسادة حتى لا يشعر احد بصوت بكائها لا تريد أن تشعر زوجة أبيها بها ..أو تسمع بكائها .. لن تحتمل المزيد من نظرات الشماتة والتشفي ..
قلبها يتمزق وهي تتخيله جالسا بجوار أخرى ممسكا بيدها واضعا خاتمه ببنصرها دليلا لانتمائها إليه ...لا تستطيع لومه ..أو اتهامه بخيانتها فهو لم يعدها بشيء ، لم يخلف عهدا بينهما ..فلماذا إذا تشعر بالخيانة والغدر؟!!
لماذا تشعر انه خانها بكل الطرق؟!!.. لماذا تشعر انه لا يحق له أن يرتبط بغيرها؟ !!..لماذا لا تستطيع أن تسعد لأجله رغم كل ما فعله لأجلها ؟!!..
لماذا تشعر أنه ملكها وحدها.. حقها هي وهي فقط؟!!
..نعم حقها !! بحق كل الحب الذي تحمله له بقلبها منذ سنوات طويلة ... بحق عيناها التي لم تري غيره يوما ... بحق نبضاتها الهامسة باسمه وحده ..بحق نظرة الحنان بعينيه لها ..والتي دوما ما منحتها أملا به وحقا فيه ..
بحق أحلامها التي دارت حوله منذ كانت طفلة تلهوا علي الدرج بين شقتها وشقتهم..
لقد كان دوما لها سندا، وعيناه وطنا، وكلماته دافعا ، وأفعاله أمانا واحتواء ، فكيف لا يكون حقها كيف ؟!! كيف لا يشعر بها؟!! كيف لا يراها ؟!! كيف؟!!!!! هي لا تفهم ؟!!!....لتخنقها العبرات بقوة وتدفن رأسها أكثر مخفية النشيج الذي يحتل جسدها ويعتصر قلبها قبل رئتيها عصرا ... وهي تدعوا الله بلا صوت أن يعنها علي تحمل القادم فهو لن يكون سهلا عليها ...
......................
كانت تجلس بينهم بذلك المقهى العصري الذي أفتتح مؤخرا ولا يرتاده سوي النخبة من ذوي المال والمكانة لأسعاره الباهظة.. واسم مالكه الفنان المشهور .. الذي يحضر كل فترة إليه ..يجالس رواده كنوع من الدعاية والترويج للمكان ...كانت تشعر بالملل والضيق ..لقد سأمت تلك الجلسات الفارغة التي تملؤها النميمة تارة .. والأحاديث عن أخر خطوط الموضة وألوانها... وأحدث الصيحات في عالم أدوات التجميل ..والعطور ..وعمليات التجميل المختلفة ..من شد وشفط وتكبير وتصغير !!...
لقد قاربت أن تنسي الملامح الأصلية لمعظم صديقاتها ..من كثرة تلاعبهن بملامحهن لدي أطباء التجميل ..بل إنها تكاد تشعر أنهم أصبحوا نسخا متشابهة ...والأدهى أنهم يعتبرونها شاذة ..وغريبة ..لأنها ترفض الخضوع لهذا الهوس بتغير الملامح مثلهن ..
إنها تشعر أن شفاههم أصبحت اقرب لشكل البالونات.. التي أوشكت علي الانفجار.. وأجسادهم تكاد تتماثل ..وملامحهم أصبحت متحجرة ...
إن كانوا يفعلون هذه الأشياء هم بمنتصف العشرينات وأوائل الثلاثينات.. فماذا سيفعلون عندما يصبحون بالخمسينات أو الستينات من أعمارهم؟!! ... هل سيبقي في ملامحهم شيئا لم تشوهه العمليات والحقن.. تنهدت بتأفف لفت نظر الجالسة بجوارها لتسألها بميوعة هي جزء من طريقة حديثها المعتادة:
"ما بك ماهي ؟!! منذ جلستي معنا وأنتِ لم تنطقي بحرف !! ولم تشاركينا الحوار.. من يشغل عقلك ؟!! أهو حب جديد ؟!! لماذا لا تخبرينا شيئا عن حياتك العاطفية؟!! "
..لتنطلق الضحكات والهمهمات والتساؤلات من حولها لتشعر أنهم سيجعلونها هدف جلستهم للساعة القادمة وهي لم تعد تحتمل ..
تشعر أنها قاربت علي الانفجار لتزيح كرسيها للخلف بحدة ..وتتحرك حاملة حقيبتها ..وهاتفها ..ومفاتيح سيارتها ..وهي تنظر لهم معتذرة بضرورة ذهابها ..دون اهتمام بالرد علي تساؤلاتهم.. أو اعتراضاتهم... وهي تبتعد بخطوات سريعة باتجاه باب الخروج .. ومنه لسيارتها التي فتحت بابها وجلست بداخلها تضع يديها فوق المقود ساهمة دون أن تديرها ...
أخذت تستنشق هواء الليل الذي قارب الانتصاف بقوة وهي تفكر بعدم رغبتها بالعودة للمنزل !!..لكن أين يمكنها أن تذهب ..
تفكر بأنه ربما كان من الأفضل لو قبلت دعوة همس بحضور حفل خطبة شقيقها ؟!..
لكنها لم تستطع أن تفرض نفسها علي مناسبة عائلية خاصة بأسرتها بهذه الطريقة.. يكفي أنها تكاد تكون ضيفة دائمة لديهم بالمنزل.. لكن ماذا بإمكانها أن تفعل؟!! ... فمنزل زوجة خالها هو المكان الوحيد الذي دوما ما شعرت فيه بالراحة والدفيء.. خاصة مع حنان زوجة خالها ..وتفهم خالد .. والآن زاد عليهما صداقتها لهمس.. التي تشعرها بالمرح بجنونها وشقاوتها..
لم تكن تتخيل عندما تعرفت عليها بحفل الزفاف أنها ستحبها وترتاح معها لتك الدرجة ..
كانت متخوفة وقلقة في البداية من شكل العلاقة بينهما وكيف ستتعامل معها ... لكن همس استطاعت إذابة توترها.. وجمودها بانطلاقها المحبب.. ولسانها اللاذع الذي يثير إعجابها!!. فهي واضحة ..صريحة بلا افتعال أو نفاق ..لذا تعذر وتفهم حب خالد وتعلقه بها ..وإصراره عليها ..
تنهدت بقوة وهي تدير محرك سيارتها باتجاه منزلها ..رغم عدم رغبتها بالعودة ..فلا مكان آخر لديها يمكن أن تذهب إليه بهذه الساعة المتأخرة...
هي مضطرة للعودة إليه .. حتى وإن كانت قد قاربت على أن تموت من الملل والشعور بالوحدة بداخله ..
فأمها تعاديها منذ زواج خالد ..وشقيقها لا تكاد تراه .. وحالة من سيئ لأسوء ,,, ما بين سهر.. وسفر وحفلات ماجنة ..يعود منها بعد الفجر ثملا لا يكاد يقف علي ساقيه... وكثيرا ما وجدته نائما في الصباح.. إما علي أريكة غرفة الاستقبال .. أو تحت الدرج علي الأرض ..
بل وأحيانا بالحديقة ...إنها لا تعرف أساسا كيف يستطيع أن يقود سيارته للعودة للمنزل وهو بتلك الحالة.. وتخشي أن يصيبه مكروه يوما نتيجة أفعاله يوما ما ..
زفرت بضيق وهى تفكر كم حاولت التحدث معه.. لكنه نهرها ورفض الاستماع إليها ..
إنها لا تعرف كيف تتواصل معه.. فالعلاقة بينهما دوما كانت سطحية.. كما لو لم يكونا شقيقين قضيا حياتهما ببيت واحد !!..
لتبتسم ساخرة من أفكارها...وهي تحدث نفسها: نعم سكان بيت واحد ولا يعرف أيا منهم شيئا عن الآخر ..كأن بينهم حدود قارات ومحيط وليس بضعة أمتار وحائط غرفة ...
لقد فكرت أن تطلب تدخل خالد!! .. لكنها تشعر أن المسألة ستكون محرجة .. فهناك ما حدث بين خالد وأخيها وأمها... يفوق مسألة محاولة إفشال زواجه !..مما تسبب بتوتر العلاقات وترك مدحت لعمله مع خالد ...
كما أنها تشعر بالإحراج من خالد.. نتيجة موقف والدتها السابق لمحاولة إفشال زواجه وإجباره علي الزواج منها.. لتبتسم ساخرة وهي تغمغم – وكأن خالد يمكن إجباره – كما لا ترغب أن تحمل خالد مشاكلها أكثر من ذلك فيكفي كثرة فرضها تواجدها عليهم نتيجة وحدتها ..
ظلت الأفكار تتلاعب بعقلها حتى وجدت نفسها قد وصلت لمنزلها دون أن تشعر ..لتغمض عينيها وهي توقف السيارة وتعود برأسها للخلف بينما تنسل دموعها علي وجنتيها بصمت....
-------------------
كانت تقف بمطبخ شقة جديها لوالدتها رحمهما الله ..والتي تعيش بها مع خالتها التي انتقلت إليها بعد طلاقها منذ عشرة أعوام ..
بينما أقامت هي بها معها منذ ما يزيد قليلا عن خمسة أعوام ..
عندما قررت العودة لمصر ودخول الجامعة بها .. كانت تمد يديها لحامل الأكواب لتحضر كوبين لقهوتهما التي بدئت بصنعها بعد أن انتهوا من تناول العشاء .. بينما تحكي تفاصيل ما حدث بيومها لخالتها الجالسة أمامها علي مقعد بجوار منضدة الطعام الصغيرة .. تنصت لها باستمتاع بانتظار انتهائها من صنع القهوة.. التي اعتادتا شربها بعد العشاء بجلسة سمرهم الليلية المعتادة ...
"صدقيني خالتي لقد كنت أشعر بالذهول من مظهره وهو يدور حول نفسه كالمخبول .. لا أكاد اصدق إنني أري المدير العملي البارد ..الرجل الثلجي كما كانوا يدعونه بالمجموعة وهو يكاد يهذي وهو يحملها بين يديه فاقدة لوعيها!!..
يصرخ تارة!! ..ينادي علي طالبا أن احضر الطبيب تارة أخرى!!
.يذهب للباب قائلا انه سيذهب بها للمشفى مرة ...ليعود للأريكة يضعها عليها برفق وهو يقول بهذيان بل سأنتظر الطبيب أخري ..ليعود للنظر لي صارخا "أين الطبيب" وما أن اقتربت محاولة إفاقتها.. حتى انتفض ماسكا يدي حتى كاد يكسرها وهو يصرخ بي - ماذا تفعلين - عندما كنت اقرب زجاجة العطر الصغيرة التي احتفظ بها بحقيبتي منها لمحاولة إفاقتها ..لقد خطف الزجاجة من يدي كما لو كانت زجاجة ملتوف حارقة وهو يصرخ.. وحاولت تقليد صوته:
"ما هذا ماذا ستفعلين بها"
..لتعود لنبرة صوتها وهي تنظر لخالتها مكملة بتعجب :
"اقسم انه كان أشبه بالمهووسين ..وكان قاب قوسين أو ادني من الهستريا.. فلم أبالي بما يقول أو أرد عليه ..بل أخذت الزجاجة من يده وما أن قربتها لأنف زوجته حتى أفاقت والحمد لله قبل أن يجن.. أو يهدم المكان علي رؤوسنا .. وبعدها بدقائق جاء الطبيب وتركته معهما" ..
لترد خالتها التي لم تكف عن الضحك علي وصفها لحالة مديرها عندما فقدت زوجته وعيها بالمكتب :
"لا تسخري منه يا فتاة .. فالرجل حين يعشق وتصاب من يحبها بأذى صغير.. يشبه دبا صغيرا جريحا يتعلق بأمه خوفا من أن تتركه ..لتنظر لها تقى باستهجان قائلة :
"سأوافق علي وصف الدب فهو يناسبه .. لكن أتحفظ علي موضوع عشق الرجال.. فالرجال لا يعرفون حبا ،ولا عشقا ،ولا صدقا ، ولا إخلاصا إنهم عبيد لغرائزهم فقط" ..
لترتفع عيون خالتها إليها تناظرها بوقفتها أمام آلة صنع القهوة وهي تعارضها بهدوء :
"كفي عن التعميم فهو خطأ ... هناك دوما بين الجنسين يوجد الجيد والسيئ المخلص والخائن ..!! الخيانة ليست حكرا لنوع دون الآخر" ..
لتقاطعها ابنة أختها بنزق :
"لكن الرجال يجيدون الإخفاء ..النفاق ،والظهور بمظهر الأتقياء الأوفياء الخلوقين وهم بداخلهم نقيض ذلك" ..
لتنتبه أثناء حديثها الذي تعالت نبراته .. واعتلت الحدة حروفه لعيني خالتها المتمعنة.. والمتأملة لها لترتبك وتعطيها ظهرها لتكمل صب القهوة السريعة بالأكواب.. بينما تسمعها تسألها :
"الم يئن الأوان بعد لتخبريني ؟"
...لترد سائلة بمواربة مدعية عدم الفهم
"أخبرك بماذا ؟!!"
لتسألها بخفوت وهى تناظر وقفتها المتشنجة:
"بما بتآكلك من الداخل منذ سنوات يا ابنة أختي ..بما أعادك لهنا مقهورة .. مبتعدة عن أسرتك رافضة العودة إليهم !! بما ينحر قلبك! ويقتات علي روحك ..ويقتل ابتسامتك التي كانت في الماضي مشعة لا تفارق ثغرك ..ماذا حدث ؟.. لتختفي روحك المرحة ..المنطلقة ..الشقية ..وتنطفئ لمعة عيونك المشعة يا صغيرتي ما غيرك ؟! أو بمعني أصح من ؟!!"
لتغمض عينيها وهي ما زالت تعطيها ظهرها ترفض مواجهتها بينما تجيب بألم لم تستطع مداراته :
"لا أحد ..فقط كبرت وفهمت الدنيا والناس علي حقيقتهم"
..لتلتفت ببطء تعطي خالتها كوبها بيد حاولت قدر استطاعتها أن تخفي اهتزازها نتيجة ما يعتمل بداخلها من غضب ..وهي تتلافى التقاء عينيها بعيني عمتها التي لم ترفعها عنها ...لتتنهد قائلة:
"لا تضغطي علي خالتي ..فلكل منا ما تخفيه.. وإلا فبإمكانك أنتِ أن تبدئي بنفسك وتخبريني عن سبب طلاقك ..رغم تكرار ادعائك أن زوجك كان رجلا جيدا ولم يخطئ بحقك"
..لتخفض خالتها عينيها وهي تزفر أنفاسها بحزن احتل ملامحها ..دون أن تجيب ..لتظل تقى ناظرة إليها لثواني قبل أن تكمل:
"لا داعي لفتح الجروح خالتي ..فدعي الذكريات نائمة خلف طيات العقل.. ربما نستطيع يوما أن نحصل علي النسيان"
...لتغمغم خالتها بخفوت لم تسمعه الأخرى قائلة:
"أو الغفران !!!"
---------------
ارتفع صوت رنين هاتفه كاسرا الصمت المحيط بالمكان ليمد يديه يخرجه من جيبه ناظرا لرقم والده قبل أن يفتح الخط مجيبا بهدوء:
"سأعود بعد قليل.. لقد طالت السهرة مع أصدقائي قليلا ... ليستمع لحظات بإنصات قبل أن يرد:
"لا تقلق أنا في طريق العودة" .. ليغلقه ويعده مكانه بجيبه ، بينما يقفز واقفا نافضا ملابسه التي اتسخت بعض الشيء من جلوسه علي الأرض الصلبة.. بتلك البقعة المنعزلة فوق جبل المقطم.. والتي تطل علي القاهرة من الأعلى.. بحيث تبدوا السيارات للناظر منها كلعب الأطفال.. والشوارع كخيوط ممتدة مضيئة ..
لقد اعتاد المجيء لهنا كلما شعر بالضيق.. أو رغب بالوحدة وهو ما يحدث غالبا في الفترات الأخيرة خاصة بعد بدء عمله ، فلم تعد تجمعات أصدقائه تمتعه أو تعجبه.. خاصة ومعظم أحاديثهم تدور حول الفتيات والفتيات والمزيد من الفتيات ..ليخرج من حنجرته صوتا ساخرا وهو يغمغم الحمقى!! لا يعلمون أنهم يذهبون بأقدامهم لفخاخ الأفاعي المتلبسة ثوب الحملان.. وجوه الملائكة ونفوس الشياطين وأخلاق قطط الأزقة ..
ليزفر أنفاسا لاهبة وهو يتوجه لدراجته البخارية ليعتليها ..مشغلا إياها ويرتدي خوذته قبل أن ينطلق بها مسرعا كعادته ...فقيادة دراجته بسرعة تمنحه شعورا بالراحة والانطلاق يحتاجه بقوة ..ليصل بعد فترة قصيرة لمنزله.. فيجد والده جالسا بانتظاره ..ما أن ولج للداخل.. نهض والده من مقعده المواجه لباب الشقة بلهفة سائلا إياه :
"لماذا تأخرت يا ياسر؟!! أقلقتني عليك "..
ليقترب ياسر بهدوء مقبلا رأس أبيه الأقصر منه بعدة سنتيمترات قليلة فكلاهما يتشابه بالبنية الرياضية والقامة الطويلة ..لكن ياسر يفوق والده قليلا .. سواء بجسده العضلي أو قامته الطويلة.. وإن تشابها بالملامح الوسيمة والشعر البني الذي تحول عند والده للون أقرب للفضي ..لكنه لم يرث لون عيني أبيه بل أمه !! ..ليوقف نفسه عن التفكير والتأمل وهو ينظر لأبيه بحب عميق ..ويجيبه كالمعتاد مكررا نفس إجابته عليه كلما تأخر :
"وهل أنا طفل تخشى عليه يا أبى؟!! وتظل ساهرا بانتظاره لقد كبرت !!، كما أنك يجب أن تستريح بفراشك بعد أخذ دوائك لا أن تسهر بانتظاري ، أم تراك لم تأخذه ؟!"
..ليرد أبيه بغضب :
"بل أخذته ياسر... فكف عن قلب الأدوار... واتخاذ دور الدجاجة الأم .. ولا تغير الموضوع.. لماذا تأخرت لهذا الوقت ؟"
..ليجيبه ياسر بهدوء :
"أخبرتك بالهاتف أبى ...السهرة مع أصدقائي طالت قليلا".. ليلتفت باتجاه غرفته مكملا وهاربا في الوقت نفسه من نظرات أبيه :
"اسمح لي أبي.. أرغب بالنوم ..فلدي غدا يوما مشحونا بالأعمال .."
ليوقفه كلام أبيه وهو يمسك مقبض باب حجرته ويهم بدخولها عندما قال :
"جيد أنك تذكرت أن لديك عملا صباحا ..وكان يجب أن تكون بفراشك منذ ما يزيد علي الساعتين .. علي الأقل لتستطيع التركيز به ..وإثبات كفاءتك ..فلا يجب أن تعتمد علي كونى أبيك ،أو على قيام خالد بتعينك بنفسه ..فلا نريد للنفوس الحاقدة أو المريضة أن تطعن بكفاءتك نتيجة أسلوب تعيينك"
.. ليلتفت ياسر لأبيه وهو يجبه بصوت هادئ بينما يكتم ضيقه بداخله :
"لا تخشى شيئا أبى فلن أخذلك أو اقصر بعملي ..فانا قادر على أدائه بكفاءة ولو لم انم ليومين كاملين .. وخالد بك نفسه لو لم يرني كُفئا لما أبقاني بمنصبي .. فهو لا يتهاون بالعمل .. ولولا ذلك لما قبلت أنا التعين والمنصب ..أما الحاقدين وذوى النفوس الضعيفة كما تسميهم فهم سيتحدثون في كل الأحوال.. سواء عملت بجد أو لم أعمل ...الم تسمعهم كيف ما زالوا يشككون بالسيدة همس ؟! ويطعنون بها وبكفاءتها... رغم براعتها التي لا ينكرها أعمي !!...أرح قلبك أبى ..تصبح علي خير"
..قالها وهو يلتفت داخلا حجرته و مغلقا بابها خلفه بهدوء يناقض النار التي تتقد بداخله ..بينما لمح عيني أبيه المغمضتين.. ووقفته المتشنجة بألم قبل أن يغلق بابه ..لكنه لم يستطع العودة إليه فلا يوجد ما يمكن أن يخفف به ألمه فكلاهما يتشاركانه معا ....
-------------------
أخذ ينظر إليه وهو يذرع أرض الرواق أمام حجرة العمليات بقلق وعصبية تتخلل أصابعه شعره يكاد يقتلعه من جذوره... دون أن يقدر أن يحاول حتى التخفيف عنه بكلمة ..
كان يظن أنه عندما تحين لحظة ولادة إحدى أختيه سيقضي الوقت يسخر من زوجها وهو يراه يتشبه بممثلي الأفلام وهم يروحون ويجيئون بانتظار سماع صوت المولود ..
لكن وبرغم أن زوج أخته يشابه بحركاته ما يراه بالأفلام... إلا أن الوضع لا يتحمل أي قدر من السخرية فحالة ريهام حرجة!.. فما أن تركوا الحفل واقتربوا من عيادة الطبيبة ..حتى بدأت صرخاتها تتعالي.. ليتفاجأ بكونها تنزف عندما كانا يساعداها علي النزول من السيارة ..
لتفقد وعيها بين يديهما.. ويحملها احمد الذي كاد يقع بها من شدة ارتباكه وقلقه .. ليدركه هو ويحملها من بين يديه .. ليرفض أحمد ويحاول التشبث بها رغم ارتعاده قلقا.. لينهره مخبرا إياه أن هذا ليس وقته.. وحالته لا تسمح له بحملها وربما يسقطها.. فيتركها له دون رغبة ويظل متمسكا بكفها وهو يهرول بجواره لداخل عيادة الطبيبة ..
وما أن رأتهما الممرضة ..ورأت ملابس ريهام التي تلوثت بدمائها وفقدانها لوعيها حتى أدخلتهما فورا لحجرة الكشف.. متجاوزة المتواجدين لتخبرهم الطبيبة بعد معاينتها بضرورة نقلها فورا للمشفى.. بعد شرح موجز للحالة ، ليحملها مرة ثانية عائدا للسيارة ..ويضعها بالخلف.. ويجلس معها أحمد بينما يقود هو سيارة زوج أخته بسرعة كبيرة متجها للمشفى القريب من العيادة،،
لتلحق بهم الطبيبة التي أخبرتهما فور وصولها أنها.. حادثت المشفى طالبة تجهيز حجرة العمليات ..فريهام بحالة ولادة وستضطر لتوليدها قيصريا ، هو لم يفهم جيدا حديث الطبيبة عن سقوط الحبل السري في قناة الولادة قبل الطفلين.. وارتفاع ضغط الدم عندها لدرجة خطرة ..كل ما فهمه واستوعبه أن ريهام بحالة خطرة ... وان هناك تعقيدات تشكل خطرا عليها وعلي الطفلين ..
لقد مر ما يقارب الساعة ولم يخرج أحدا من الداخل بعد.. وبدأ قلقهما يصل للذروة.. لينتفض واقفا وهو يري الباب يفتح لتظهر من خلفه الطبيبة بملامح منهكة ..فيقترب منها أحمد بسرعة وعيناه تناظرها بخوف بينما يبدوا أن لسانه لا يطاوعه علي السؤال ،، ليسألها هو عن حالها وحال الطفلين.. بينما تتصاعد دقات قلبه برعب مع انتظاره إجابة الطبيبة التي لا تشف ملامحها عن ما يطمئن قلوبهما ....
|