كاتب الموضوع :
سيمراء
المنتدى :
رومانسيات عربية
رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية
الفصل الرابع والعشرين
تقدم بلهفة وخوف وعينيه تمر على ابنه المستلقي أمامه ...لا يكاد يصدق انه كاد يخسره فجأة وهو بعيد عنه منذ سنوات ..ما أن عاد من رحلة النقاهة التي أمره طبيبه بها بعد أن أصيب بنوبة قلبية مفاجأة منذ أكثر من شهر بعدة أيام ..ليسافر لصديقه وابن عمه عامر باسبانيا ويقيم لديه لشهر كامل ما أن خرج من المشفى ..مقررا ترك مسؤولياته وحتى هواتفه خلفه ...ليعود بعدها مقررا أن الوقت قد حان للعودة للوطن ..أن يعود لأبنائه طالبا الصفح ...والقرب...حتى لو عنى ذلك مواجهتهم بأخطاء ماضيه ...حتى لو قضى الباقي من عمره يطلب سماحهم وغفرانهم ...يكفي هروبا ..لا يريد أن يموت وحيدا مغربا ...لا يكفي أن يتتبع أخبارهم عبر أقاربه وأصدقائه ...لا يكفي صورهم التي ترسلها له السيدة سُمية بين وقت وآخر ليتمزق قلبه شوقا وفقدا ولهفة ..لكن يبدو أن القدر لم يمنحه حتى حق المبادرة ..فما أن رجع لدبي حيث مقر إقامته طوال السنوات الماضية ليحاول إنهاء عمله و جمع حاجياته ..ليفاجأ بهاتفه مليء بالرسائل وليجد أن هناك عددا من الخطابات من خالد الراوي ...ومن عدد من أصدقائه ...تخبره بأن مدحت ..ابنه الوحيد كاد يفقد حياته بحادث إطلاق نار !!! ....كاد يفقده دون حتى أن يراه ..دون أن يطلب منه أن يسامحه لأنه هرب من الضغوط ..هرب من المواجهات ..تركه وأخته خلفه مفضلا الهرب على الاحتمال ..على الصبر ....لتتلألأ الدموع بعينيه ويحاول منعها بصعوبة من الهطول وهو يقول بصوت متهدج بينما يقترب من فراش ابنه الذي يموت شوقا لضمه ..رغبة تكاد تقلص صدره ألما من قوتها ..ليقبض يديه بقوة مانعا نفسه من الاقتراب ..خاصة مع رؤيته لملامح ابنه التي تحولت من الاندهاش وعدم التصديق للرفض والبرود :
"بني ..كيف حالك ...لم أعرف بالأمر إلا أمس ..آ "
ليقاطعه صوت مدحت ببرود جعله يتراجع خطوة وهو يسمعه يقول برسمية ونفور:
"أنا بخير سيد عز الدين ...لم يكن هناك داعي لتتعب نفسك بالزيارة بعد ما يزيد عن ستة عشر عاما ..ألا ترى أنك تأخرت بهذه الزيارة قليلا؟! ...عموما شكرا على تعبك ومجهودك ..بإمكانك العودة حيث كنت والاطمئنان"
لينكس عز رأسه بألم ..مفكرا بأنه لا يستطيع لومه ...حقا لا يستطيع ...لكنه يحتاج للاقتراب ...يحتاج لأن يمنحاه فرصة ..ليس للسماح فهو يعرف أن الأمر صعب بل فقط القبول ..أن يتركاه يقترب ..ولو لحد بسيط لا يخرجاه من نطاق حياتهما ولو أبقياه على حدود تلك الحياة ...سيكتفي بالتواجد المحدود بها ...لكن أتراه يملك الحق بالمطالبة بهذا التواجد ...ولو كان محدودا .. ليرفع رأسه ينظر لوجه ابنه الجامد وهو يقول بصوت مختنق ألما وندما:
" لا بأس بني ...سأذهب الآن ...أردت فقط الاطمئنان عليك ..لكني باق بمصر ...لن أعاود السفر .. بل سأحاول جاهدا رأب الصدع بيننا ...ولن أكف عن التواجد حولكما أنت وأختك حتى أنال غفرانكما يوما"
ليطلق مدحت من حنجرته صوتا ساخرا بينما تمتلئ عينيه رفضا وغضبا وهو يقول بصوت حاد ونبرات غلفها الخذلان بمرارته:
"لا تنتظر ما لن يحدث سيد عز ....عد من حيث أتيت ..أكمل السفر والبعد ..واكتفي بإراحة ضميرك بإرسال المال لحساب أمي بحجة الإنفاق علينا كما لو كنا ما زلنا تحت الوصاية .. أو ربما تظننا كذلك بالفعل ...فستة أو سبعة عشر عاما ..ليست بالفترة الهينة ..ربما ظننت نمونا وقف من وقتها وستعود لتجدنا كما تركتنا"
كان مدحت ينهت بشدة لدرجة أخافت كلا من سارة المشدوهة بما يحدث وعز الذي اقترب بتردد لنصف خطوة لم يكملها مع نظرة الرفض والتحذير بعيني ابنه والتي قطعت أي محاولة منه للحديث ...ليدير وجهه لتلك الفتاة الشقراء الجميلة التي تجاور مدحت ممسكة بيده بين كفيها بمساندة ..ليتنحنح بحرج وهو يقول :
"عفوا بنيتي ..لم أتعرف بك .. أنا عز الدين المنشاوي ..والد مدحت كما لابد و استنتجتي من الحوار"
..لينظر لها بتساؤل وهو يمني نفسه أن تكون تلك الفتاة مفتاح الوصول لأبنه ..خاصة مع تلك النظرات والطريقة المتملكة التي تلتف يديهم بها معا دلالة على قوة الرابط بينهما...ليراها تقف بهدوء وتحاول سحب يدها من كف ولده بلا فائدة فتكتفي بالنظر إليه دون مد يديها بينما تقول بتحية ودودة متجاهلة هسيس الرفض الغاضب الذي يصله من ابنه:
" مرحبا عماه ...حمد لله على السلامة ..كنت أتمنى أن أراك بوقت أبكر وظرف أفضل ..لكن كل شيء بموعد ..أنا سارة ..خطيبة مدحت و.."
ليقاطعها صوت مدحت النزق بينما يشد كفها معيدا إياها للجلوس بجواره وهو يقول:
"بل زوجتي ...لقد عقدنا قراننا . والآن ..إن كنت أنهيت جلسة التعارف والاطمئنان ..أرجو أن تخرج ..فقد حان موعد نومي ...آه ..ولا تتعب نفسك بالعودة فكما ترى ..أنا بخير ..ولا احتاج مزيدا من الزيارات من معارفي القدامى"
ليدير له وجهه رافضا النظر له ومتجاهلا النظرات اللائمة التي لمحها بعيني خطيبته أو زوجته كما يقول....و التي عادت بعينيها له بنظرة تجمع بين اللوم والشفقة والتعاطف .. ورغم أنه ليس واثقا إن كان هذا التعاطف موجها له أو لأبنه ..وهو يرجح الأخير .....لكنه لا يملك إلا محاولة التمسك بالأمل أن يكتسبها كحليف لتساعده بمحاولة رأب الصدع وتقليل الفجوة بينه وبين ابنه ...ليتجه للخارج بحزن ورأس منكس ..تدور بداخله الأفكار القلقة حول كيف ستستقبله صغيرته بعد هذا الوقت ..وبداخله تتصاعد وتيرة الخوف مترافقة مع سرعة نبضاته التي جعلته يدلك صدره بألم ..وهو يتساءل بسخرية مريرة ..إن كان هذا رد فعل مدحت ..الذي كان أقل ارتباطا به ...فكيف الحال مع أميرته الصغيرة ...ليفقد القدرة على التحكم بتماسكه أكثر وتنفلت تلك الدمعة العصية من عينه اليسرى ليمسحها بسرعة ..وهو يبتهل بداخله ..أن يجعل الله قلب ابنته أكثر تسامحا ..واقل رفضا له .. رغم شكه بإمكانية ذلك ...لكن لا يوجد أمامه إلا التمسك بالأمل...
----------------------------------
لم تصدق نبيلة عينيها وهي ترى ابنها مدرجا بدمائه وقد غرزت المدية بجانبه..لتفقد عقلها بينما تراه يغمض عينيه اللتين التقتا بعينيها للحظة بنظرة مليئة لوما واتهاما قبل أن يغمضهما تماما ... تسمرت للحظات بذهول بينما تصلها بضبابية همهمات الناس التي تحوقل.. لتسمع صوت احدهم يقول أن ابنها مات ....مااات ...بكرها مااات ..فلذة كبدها ماااات ؟!!! لا ..لا تصدق ..لا تدري كيف عاد لعقلها لحظتها كلمات هند وهي تنظر لها داعية عليها ..حتى أنها كانت تكاد تسمعها تردد كلمة حسبي الله ونعم الوكيل بينما عينيها مسمرة على الدماء المنتشرة حول ابنها الذي غطى جسده عنها شخصا ما يميل عليه ..لم تنتبه أن أكرم هو من يحاوط ابنها بحالتها المشوشة ...فكل ما تسمعه هي كلمات حسبي الله ونعم الوكيل بصوت هند ..وأصوات تتداخل معها تقول أن حسين مات ...الفتى قتله خاله.. لتبدأ بهز رأسها نفيا وهى تولول دون أن تنتبه لما تقول وسط هياج مشاعرها:
"ابني ماات ...حسيييين ...يا فلذة كبدي ...خالك قتلك يا صغيري...لا ...بل أنا من قتلتك ...أنا ... أنا من لم أرعى أمانة أبيك ..أنا من اتفقت مع أخي و تأمرت معه على سلب شرف أختك لأجبرها على الزواج منه لأكسرها و أضيع مستقبلها فلا تصبح طبيبة و تتعالى علي .....أنا قتلتك يا ولدي بغيرتي و حقدي على هند ...لتموت بدعوتها علي و حسبنتها في وجهي ... ودعائها أن ينتقم الله مني ..لأني من وضع المخدر الذي أعطاه لي سعيد في قهوتها ..لأني من اتفقت مع سعيد على انتهاكها ..لأني كنت سأبيعها له كجارية ليذلها تحت قدميه لولا مجيء أكرم و إنقاذه لها "
كانت تهذي وتولول بصوت عال وهي تلطم خديها بينما كلامها جعل الجميع صامتا بذهول يستمع لما تقوله ...لتتعالى الشهقات المصدومة من النساء اللاتي كانت بعضهن يلتففن حولها بمساندة قبل أن يتراجعن صدمة مع كلماتها وهن يضربن صدورهن من هول ما يسمعونه بينما تضيف هي بجنون وهي مستمرة بلطم وجهها وشد شعرها الذي سقط حجابها من فوقه دون أن تعي لشيء حولها :
" أنا من قتلتك ..أنا و الحقير خالك ...خالك الذي...الذي ...لا...لا ... ليس أنا ..ليس أنا ...بل خالك ..نعم هو ..هو ...نعم ليس أنا بل سعيد "
..لتتلفت حولها بهياج هستيري لتلمحه راكعا مقيدا على الأرض بين يدي بعض شباب الحي .....لتقترب منه بسرعة بينما تلتقط نفس المدية التي طعن بها ابنها ..والتي كادت تتعثر بها - حيث ألقاها أكرم بعد نزعها من حسين- ...لتقترب من سعيد بغضب ثائر وسرعة لم تمكن أحدا من الانتباه لنواياها و إيقافها لتغرز المدية التي ما زالت تقطر بدماء ابنها بصدر أخيها وهي تصرخ بجنون ..أنت السبب ..لابد أن تموت ...لتخرجها من صدره محاولة إعادة طعنه ..إلا أن المتواجدين حولها كانوا قد أفاقوا من هول و صدمة ما يحدث وقاموا بإبعادها بسرعة قبل أن تعاود طعنه بينما هي تتلوى بين يديهم وهي تسبه دون أن ترى أو تشعر بأحد وهي تصرخ :
"..اتركوني اقتله ...هو السبب ...هو من أحضر لي المخدرات وأقنعني أن أضعها بقهوة هند ليغتصبها و يجبرها على الزواج منه ...هو من جعل ابني يكرهني و يحتقرني ...هو من قتل ابني ..هو السبب ...لابد أن يموت"
لتتعالى وقتها صوت عربة إسعاف توقفت عند باب الحي بينما يهبط المسعفين بمحفة ..لتنتبه لحظتها من هياجها على لطمة من يد الحاج محمد الذي وقف أمامها ناظرا لها بمزيج من الشفقة واللوم ..وهو يقول :
"كفى ..اهدئي ... حسين لم يمت ...حسين لم يمت"
كانت تنهت بسرعة بينما عينيها تنظر بذهول وعدم تصديق للحاج محمد الذي أكد لها :
"أقسم بالله أنه ما زال على قيد الحياة .. فلتكفي عن جنونك هذا ..ولتدعي الله أن ينجيه "
لتنتقل عينها لحظتها لأبنها فتجدهم يحملونه متجهين به بسرعة ناحية السيارة المتوقفة بأول الشارع يرافقه أكرم ..بينما هناك آخرين يحملون سعيد لاحقين بنفس العربة
لتفقد لحظتها كل قدرتها على الوقوف بينما تتخاذل ساقيها أسفلها ..لتتراخى بين يدي من يمسكون بها وتسقط على الأرض جالسة تبكي بمرارة وندم
---------------------
أخذ يدور بالصالون بغضب وثورة بينما يقول لها بحنق:
"ماهي لو سمحت ...أنا أخذت ساعتين راحة من العمل لأكون معك وحدنا وليس لنجلس مع والدتك ..لتنظر لي بدونية وتتعامل معي كما لو كنت ابن الخادمة أو السائق الذي سرق ابنتها وغرر بها!! ...لماذا لا نخرج معا قليلا لنجلس وحدنا ونخطط لمستقبلنا "
لتحاول ماهي تهدئته بمهادنة بينما تنقل عينيها بينه وبين الباب خوفا من عودة أمها ..و سماعها تذمرات سامح ...لقد تركتهم منذ لحظات على مضض عندما أخبرتها الخادمة أن هاتفها يدق بحجرتها دون توقف منذ فترة .. وهي تتوقع أن ترجع للجلوس معهما بمجرد إنهاء مكالمتها..فمن الواضح أن أمها لا ترغب بتركه ينفرد بها ...لتقول له بمراضاة:
"سامح ...أرجوك ...أمي دعتك للعشاء للتعرف عليك أكثر ..ولم يكن لائقا أن ترفض الدعوة ..بينما نحاول أن نقرب المسافات بينكما "
لينظر لها بعيون مشتعلة غيظا وقهرا وهو يقول :
"أي مسافات تلك التي نقللها ها !!..أمك ترغب بتوسعتها لا تقريبها ...وصدقيني ..إن أردت أن يكون هناك بيني وبينها أي سلام مستقبلا ...فابعدي كلا منا عن طريق الآخر ..كلما قل لقائنا معا ..كان أفضل للجميع حتى استطيع المحافظة على علاقة مقبولة معها دون أن افقد أعصابي ...فالصبر ليس من شيمي وأنت تعرفين"
ليمرر يديه بشعره بعصبية بينما يضيف بنزق ..
"وكله كوم ..وهذا العشاء التعذيبي الذي حُسب علي وجبة كوم آخر ..أصناف طعام غريبة ..وأسمائها أصعب من الأسماء العلمية لتركيبات الأدوية ..لا أدري ما الممتع في هذا الطعام المقرف الذي أغلبه لا أعرف إن كان حلو أو حادق ...أقسم بالله احترت بمكوناته ..والأسوأ أيضا أن حتى الشيء الوحيد الذي أعرفه وحاولت أكله وهو الجمبري و الكابوريا ..تريدني أمك أن آكلهم بالشوكة والسكين !!..رغم أنهم مطهيين بقشورهم ...بالله عليك كيف أنزع قشرتهم بالشوكة؟!!! ...وعندما تعمدت أن أتصنع عدم سماع اعتراضاتها أجدها تنادي على الخادمة وتطلب منها رفع طبق المأكولات البحرية من أمامي ..أي ذوق هذا؟!! ..وأي عشاء؟!! أنه تعذيب ..وأنت تلوميني لأني تركت السفرة و رفضت إكمال الطعام ..أي طعام الذي تتحدثين عنه ؟!! هذا الطبق الغريب الذي به شيء يشبه السمك النيئ واسمه... اسمه ...لينظر لها بتساؤل لترد ببسمة لم تستطع منعها :
"بيسي كريدو وهو بالفعل مصنوع من أنواع معينة من السمك النيئ ..انه طبق شهير جدا بايطاليا "
ليضرب سامح كفا بكف ...بينما يقول بتعجب ساخر :
"ومالنا وايطاليا نحن نعيش بمصر ...ماله الأكل المصري ؟!!...وأنا من كنت أسخر من همس لعشقها للفسيخ واتهمها بأكل اسماك نيئة ...يبدو أن العدوى منتشرة في العالم أجمع"
لتقطب ماهي بذهول وهي تقول ...فسيخ ؟!! أتقارن الكريدو بالفسيخ ؟!"
ليرد سامح ساخرا :
"على الأقل الفسيخ سمك صريح ..لكن هذا الشيء الهلامي غير محدد الهوية لا يصل حتى لمستواه ....وأيضا الطبق الآخر الذي ينتهي اسمه بشيء يشبه البيوت أو الببيون لا أدري ..لتأتيه دمدماتها باسمه فيردده صارخا نعم هو هذا- فيش أن بابيوت - ..ما هذا بالله عليك ها ..ما هذا؟ !! لماذا هذا التعقيد ..الأمر كله مجرد سمكة موضوعة على قطعة ورق وحولها بعض قطع الطماطم والخس ..ما هذا الاسم العجيب .. وكل دقيقة أمك تقول ..ليرقق صوته وهو يقلد أمها بغيظ :
"هذه الأنواع لا تطهى إلا من قبل خبراء الطهي العالمين والطاهي عندي واحدا منهم.. لكني لا أظنك تعرف هذه الأنواع أو أكلتها قبلا ...لابد أن تتعلم كيف تأكلها حتى لا تحرج نفسك طالما دخلت لوسطنا ... ليضيف بدون صوت (حل وسطك) ليكمل تقليديها قائلا :
"لابد من إضافة الشامبو على الأكل!! "
.. ليعود لصوته وهو يضيف بحنق بالغ أي شامبو هذا ؟ها ..هل سأكل أم أستحم" ..لتصحح له على استحياء وهى تحاول عدم إثارته أكثر..
"ليس شامبو ..شامبنيون أى صوص الفطر"
..ليرد صارخا بصوت أعلى ...لا يهمني شامبو شوال لا يعنيني ..و ليكن بعلمك ...إياك بعد أن نتزوج أن تصنعي لي طعاما كهذا ..هل فهمتي ...أريد أكل حقيقي كطعام أمي ..أحب صواني الدجاج بالبطاطس و ليس البيكاتا بالشامبو التي كانت أمك تخبرني أنها وجبتك المفضلة ..ليقاطع تصحيحها للاسم وهو يضيف ..أريد أن آكل طعاما مصريا أصيلا ..كالملوخية والبامية واللحم المطهي دون إضافاتكم العجيبة و... "
لتقاطعه بينما تقترب واضعة يدها على صدره الذي ينهت من تسارع أنفاسه غيظا:
"سامح حبيبي ..أنت تعرف أني لا أعرف الطهي ..لكني أعدك أن أجعل والدتك تعلمني بعض الأكلات التي تحبها وأحاول طهيها لك ...لكن عليك أن تصبر معي قليلا ..أرجوك لا تغضب .... وتحمل أمي قليلا ..لأجلي حبيبي "
ما أن لمسته بيدها ..حتى هدأ حنقه ليتبخر تماما وهي تناديه حبيبي ..ثم يفقد أعصابه وهو ينظر لشفتيها وهي تتحدث سارحا بلونهما الوردي ورقتهما ..ليشعر بجفاف ريقه ..ويزدرد لعابه بصعوبة بينما يرفع عينيه ناحية الباب المفتوح والمطل على الرواق الخارجي ..ليلف خصرها بيده ويجذبها فجأة لدرجة جعلتها تشهق من المفاجأة بينما يسحبها لزاوية الحجرة حتى لا يكونا ظاهرين للقادم من الباب بينما يقترب منها وقد قرر الحصول على قبلته التي طال شوقه لها ولن يمنعه عنها الآن أي مخلوق... ليجدها تبتعد بوجهها وتحاول التفلت منه بحرج ووجهها زادته حمرة الخجل بهاء لتجعله شهيا حتى كاد يقضم خديها التي يقسم أنها ستكون بديلا له عن عشائه المزري ويحلي بعدها بالشفتين ...متجاهلا همهمات الرفض المائع منها وهي تقول:
"سامح أرجوك ...توقف ...هل جننت.. قد يرانا أحد"
ضمها إليه أكثر وهو يعانقها بقوة ويقبل عنقها بهوس وفقدان سيطرة وهو يقول بعناد:
"فليرنا العالم أجمع ..و أولهم أمك ...لم أعد أبالي ...أنت زوجتي ...زوجتي ...زوجتي"
كان يرددها بينما شفتاه تتنقلان ما بين عنقها ووجنتها وفكها محاولا اقتناص شفتيها التي تهرب بها منه بتمنع دفعه ليتمسك برأسها بين كفيه مثبتا إياها ومقتنصا شفتيها بقبلة اشتاقها بجنون جعله يرتشف رحيقها بهوس كاد يفقده صوابه ..كان جسده يختض كجسدها الملاصق له ... حيث فقد كلاهما الإحساس بالزمان والمكان ..فقط إحساسه بطعم قبلتها الشهية ... بجلدها الناعم كالحرير تحت يديه المتجولتان بين حنايا كتفيها وذراعيها وظهرها برحلة بحث واستكشاف تنتزع الاستجابة الخجولة منها
لم تعد تدري ما يحدث لها ..هي فاقدة للسيطرة ..فاقدة للقدرة على إيقاف مده الجارف .. فاقدة حتى لمفردات اللغة و حروفها .. كلها تاهت منها ولم تعد تذكر من الأبجدية إلا حروف اسمه التي تخرج متقطعة لاهثة ..س..ا...م..ح ..لم تدري كيف أصبحت مستلقية على الأريكة لتستفيق ما أن شعرت بيديه تتسلل بين طيات ثوبها ..لتدفعه فجأة بقوة جعلته يسقط بجوار الأريكة ..لتعتدل واقفة بلهاث ثائر وهي تحاول ترتيب ثوبها بسرعة متهربة من النظر له بينما تقول بتقطع خجول :
"يا الهي ...سامح .. ماذا لو عادت أمي ..أو دخلت الخادمة ...هذا خطأ ..لم يكن يجب أن نتمادى هكذا"
انتفض واقفا وهو يدير ظهره لها ..وما زال يلهث بعنف ووجه محتقن .. بينما يسب بداخله بقوة وهو يحاول ترتيب ثيابه لاعنا أمها والخادمة والعالم أجمع ...ليمرر يديه على وجهه متسائلا بداخله بقنوط حائر حول كيف سيصبر لعام كامل حتى يستطيع أن يجمع ما يكفي لفرش الشقة.... فالمشروع الذي يعمل عليه ومنح شقة به ...سيسلم ويفتتح بعد عشرة أشهر تقريبا ...ليزفر بإحباط وهو يفكر أن الأمر سيكون تعذيبا قاتلا لعواطفه ..لتزداد مشاعره إحباطا وصوت أمها يصله من أمام باب الحجرة بتكبر وهي تعتذر بترفع لتلك المكالمة التي طالت ..ليقرر أنه قد اكتفى ولن يتحمل كلمة أكثر من رقية خاصة مع مشاعره الثائرة حاليا ليستأذن متجاوزا إياهما للخارج ...دون اهتمام بقواعد الذوق ...و يخرج من بوابة الفيلا بسرعة مغادرا قبل أن ينفجر ...وما أن كاد يغلق الباب الخارجي خلفه حتى رن هاتفه برقم أبيه!! ....
------------------------
يربت أبيه الجالس بجواره على كتفه بمساندة بينما يضع هو رأسه بين كفيه بحزن في رواق هذا المشفى الحكومي ..الذي نقل إليه حسين ..فقد كان الأقرب لحيهم ..ليرفع رأسه بإنهاك مستندا بظهره للمقعد الغير مريح الجالس عليه بجوار حجرة العناية المركزة ..ليأتيه صوت أبيه المطمئن مهدئا:
"لا تقلق بني ...سينجو بإذن الله ...ربك الذي سبب كل تلك الأسباب ..من تواجدك بالمنزل لحظة طعنه ...لصديقك المسعف الذي هاتفته لتجده عائدا بعربة الإسعاف بمنطقة قريبة منا ليحضر لنا بسرعة ..لينقل لهنا خلال دقائق ..ويكون كبير الجراحين متواجدا بمرور رغم تأخر الوقت ..كل تلك الأسباب تجعل لدي يقين أن الله سينجيه"
لينظر له أكرم بعنين حمراوين إجهادا وحزنا وهو يقول بألم:
"إصابته سيئة أبي ...لقد اضطروا لاستئصال كليته اليمنى كاملة .. كما أنه نزف كثيرا جدا ..حالته حرجة جدا ...واحتمالية نجاته ليست مؤكدة ...فلتدعو أبي أن تمر الاثنين وسبعين ساعة القادمة بخير .. لأني و بصدق لا أظن أن هند ستتحمل فقدانا جديدا ...بل ستنهار تماما"
ليرفع كلاهما رأسه على صوت الشيخ مرسي المقترب منهما مسلما و سائلا:
"كيف الحال؟ ...هل من أخبار جديدة ؟!!"
ليخبره الحاج محمد بما أخبرهم به الطبيب منذ قليل ..ليعتدل أكرم بانتباه وهو يسمع رد الشيخ مرسي عن سؤال أبيه عن ما حدث لنبيلة وسعيد:
"سعيد هنا بنفس المشفى بالطابق الثاني ...لكن عليه حراسة من الشرطة لمنعه من الهرب والتحفظ عليه ..خاصة أن إصابته بسيطة وسيخرج بعد يومين على الأكثر حسب كلام الطبيب وطبعا سينقل للحجز للتحقيق معه بحادث إصابة حسين ... عائلته ونبيلة منقسمين لجزأين ... بعضهم هنا وبعضهم بمخفر الشرطة لدى نبيلة التي تم إلقاء القبض عليها ..لقد طلبت من الأستاذ مصطفى .. أن يظل معها ويحضر معها التحقيق... فرغم كل شيء .. هي زوجة عبد السلام رحمه الله وأم أبنائه"
ليهز محمد رأسه مؤمنا على كلام الشيخ .. ليجدا بعد قليل المعلم شعبان وبعض أهل الحي حضروا للاطمئنان ..ليشكرهم أكرم ويطلب منهم جميعا العودة حيث أن الزيارة ممنوعة وستظل كذلك لثلاثة أيام على الأقل واعدا إياهم بطمأنة الجميع ما أن تتوافر أخبار جديدة ...ليلتفت لأبيه وهو يهمس له بالعودة معهم ليستريح قليلا بينما يبقى هو ..لكن أباه هز رأسه رافضا وهو يجيبه بغموض:
"لا ...لابد أن أبقى ...أظن أن الوضع قد يحتاجني بعد قليل"
لينظر له أكرم بتوجس وما أن غادر الجميع حتى سأل أبيه بقلق:
"أبي ..ماذا تعني بأن الوضع سيحتاجك"
ليزدرد لعابه وهو يقول بتوجس:
"هل هاتفت هند ..أرجوك أبي ..لا تخبرني أنك أخبرتها بما حدث " لتأتيه نظرة أبيه بالتأكيد الذي يرفضه... ليزفر بضيق وهو يقول باستنكار :
"لما أبي؟ ...كنت سأخبرها أنا بنفسي ...لكن ليس الآن بل بعد أن تستقر حالة حسين ...كنت سأجد طريقة لنقل الخبر لها بهدوء "
لينتفض واقفا بقلق وهو ينظر لساعته ويقول بارتعاب:
"يا الهي ..الوقت تعدى منتصف الليل ..ولابد أنها ستكون بطريقها لهنا...وربما تأتي وحدها بهذا الوقت "
ليلتفت لأبيه لائما بينما يناظره أبيه بهدوء ساخر ...ليدير رأسه بينما يخرج هاتفه محاولا الاتصال بها وهو يغمغم :
"أرجو أن تجيب على هاتفها و.."
ليوقف أبيه محاولته وهو يسحب الهاتف من بين يديه مغلقا إياه قبل إتمام الاتصال.. بينما يقول مهدئا:
"أجلس أكرم...أبيك ليس أحمق ليخبرها ما حدث عبر الهاتف ويصدمها لتحضر لهنا بهذا الوقت ...ليتجاهل نظرة الحيرة بعيني أكرم بينما يضيف :
"وفى نفس الوقت ...يجب أن تحضر ..لا يحق لنا أن نخفي عنها إصابة أخيها ...لكني احتطت للأمر ...لقد هاتفت سامح وأخبرته بما حدث عندما كنت أنت ببنك الدم للتبرع وإحضار الأكياس التي احتاجها حسين ... وطلبت منه أن يذهب إليها لإحضارها... و يخبرها فقط أن حسين أصيب بكسر وهو يلعب بالكرة مع أصدقائه بالحي ..وأنه يطلب رؤيتها ...وسيأتي معها بعد قليل "
لم يكد ينهي حديثه حتى سمعا صوت خطوات متسارعة وصوت نداء هند الملهوف لهما بصوت مختنق بالدموع:
"عماه ..أكرم ...ما به حسين ؟...ماذا حدث؟..الأمر ليس كسرا؟ ...أليس كذلك؟!! "
ليرفع كلاهما عينيه لسامح بلوم ليرد بسرعة وهو يرفع يديه أمامه نافيا:
"أقسم لم أخبرها إلا بما اخبرني به أبي ...لكنها لم تصدقني ...ظلت طوال الطريق بسيارة الأُجرة تبكي وتقول ..انه يستحيل أن احضر للإتيان بها لمجرد كسر..وبما أني أنا نفسي لم أعرف تفاصيل حالة حسين فقد التزمت الصمت"
كان الحاج محمد قد ضمها لصدره مهدئا أثناء حديث سامح بينما يربت على شعرها المشعث والذي تجمعه برباط مطاطي مرتخي ..ويبدو من ملابسها أنها أصرت على القدوم فورا دون أن تهتم بما ترتديه ...فقد كانت ثيابها عبارة عن جينز قديم أزرق حائل اللون ...وبلوزة خفيفة بلون وردي باهت تكاد تصل لفوق الركبة بقليل لا تقل قدما عن البنطال وترتديها بالمنزل عادة..
شعر أكرم بضيق وهو يراها تدفن وجهها بصدر أبيه منتحبة بينما يخبرها أبيه بما حدث باختصار ..مطمئنا إياها بالوقت نفسه على نجاة أخيها ..ومحاولا بثها بعض المساندة وهو يخبرها أنها إرادة الله سبحانه وتعالي لينصرها ويظهر حقيقة براءتها على رؤوس الأشهاد ...و ينال الظالمين عاقبة أفعالهم ..ليجدها تنتفض صارخة وهي تقول بصوت مختنق متقطع:
"لا أريد ...لا أريد عماه ...لا أريد براءتي إن كان مقابلها فقدان أخي ...لا أريد أن ينالوا جزائهم إن كان هذا يعني أن يؤذى أحد إخوتي أو يطاله سوء ...هم عندي أهم من أي شيء ...لماذا عماه ...لماذا فعلها حسين ...لماذا تشاجر معه ..لم أرد هذا ...لم أرد أن يرد لي حقي كما أخبرتني عن سبب شجاره مع هذا الحقير ..حقي وكلته لربي .. لتبدأ في النشيج والارتعاد بقوة وهي تقول بوجع:
"آآآآه يا أخي ...يا قطعة من أبي ...لما ..لما ..لما اعد أحتمل أقسم بالله لم أعد أحتمل "
ليسبق أكرم أباه ويقترب منها محتضنا إياها بين ذراعيه كاتما صرخاتها في صدره ...يشاركها قلبه البكاء ..يكاد يتمنى لو يجد طريقة يدخلها بها بين أضلعه ...يخفيها عن العالم ..يحميها من أي حزن أو ألم ..ويتشربه هو منها ...ظل محتضنا إياها للحظات متجاهلا وجود أبيه وأخيه اللذان أعطياهما ظهريهما وهما يتحدثان معا بخفوت ..ليشدد ذراعيه حولها أكثر دون أن يهتم للمكان الذي هم فيه ...وخاصة مع هدوء المشفى بهذا الوقت من الليل..و الذي جاوز الواحدة بعد منتصف الليل ..لتبتعد هند بعد دقائق ..وبعد أن سكبت دموعها على صدره واستكان ارتعاد جسدها بين ذراعيه..ابتعدت بعدها بحرج بينما تتقبل من يديه منديلا ورقيا أخرجه من جيب بنطاله ..لتمسح به عينيها وانفها لتنظر له بعدها بحرج عندما وعت للوضع الذي كانت فيه ...لتتسع عينيها ذعرا وهي تلاحظ ثيابه..لتقول له باختناق ..وهي تمد يدها ملامسة قميصه الأبيض الملطخ بالدماء:
"أهذا دم أخي ...يا الهي ...لترفع عيناها سائلة إياه بتضرع:
"أكرم أرجوك ...أخبرني بحالة أخي دون كذب " ليتقطع صوتها و تعود الدموع تملأ عينيها و هي تضيف بوجع..أخبرني هل سينجو...أرجوك أخبرني أن سينجو !!"
ليأخذ بيدها و يذهب للجهة المقابلة لأخيه و أبيه و يجلسها على المقاعد المقابلة لحجرة للرعاية و هو يقول لها بتأكيد تمناه أكثر من ثقته به :
"سينجو يا هند... بإذن الله سينجو حبيبتي ..و كل شيء سيكون على ما يرام ..فقط اهدئي وادعي له "
لتطرق قليلا دون أن تسحب كفها الساكنة بين يديه .. قبل أن ترفع عينيها بلهفة وقلق وهي تتساءل :
"يا الهي ..إخوتي ..أبيك قال أن نبيلة قُبض عليها بعد طعن هذا الحقير فماذا حدث لأخوتي؟!! ..أين هم؟!"
ليرفع يده مشيرا لها بالهدوء وهو يقول ببسمة مطمئنة:
"لا تقلقي صغيرتي ..إخوتك بخير ...هم مع أمي ...لقد اتصلت بنا منذ فترة لتطمئن وأخبرتنا أن حسن ومعاذ معها لا تقلقي عليهما ...أمي سترعاهما جيدا"
لتهز رأسها بقبول بينما ترتكن برأسها بتعب على ظهر الكرسي مغمضة عينيها ...بينما يناظرها أكرم بحب مشفق على صغيرته التي تتحمل الكثير واعدا نفسه أنه سيكون جوارها دوما ليساعدها و يساندها و يحاول أن يعوضها كل ما لاقته ..
--------------------------
كان كلاهما صامتا غارقا في أفكاره بينما يقود ياسر السيارة ...رأسه تكاد تنفجر من شدة التفكير ...وسؤالها الذي طرحته عليه يدور من لحظتها بلا انقطاع في تلافيف عقله ..لماذا؟... ما سبب لهفته عليها ...رغبته أن يراها دوما رغم شجارهما الدائم؟! ...بل انه يسعى أحيانا لهذا الشجار ...لماذا شعر بالضيق من حالتها المتباعدة بالأيام السابقة؟! ...لماذا اشتعلت النيران بداخله حتى كاد يهجم على هذا المتحذلق الذي كان يتغزل بحمرة وجهها؟ .. هل لأنها فقط ابنة خالته كما ادعى أمامها؟!!! ..ليزفر بعمق وهو يفكر ساهما ..أن الأمر أكبر من مسألة القرابة ..هناك مشاعر تعتمل بداخله لتقى يرفض أن يضع لها مسمى ...لكنها تقلقه فهي تحتله بعنفوان وقوة دون قدرة على وقفها ...ليس واثقا أنها حب ..هو لم يحب قبلا ..ولا يعرف كيف تكون تلك المشاعر ..أصدقائه غالبا ما يربطوها بنواحي حسية ..لكنه لم يشعر ناحية تقى بتلك الطريقة الفجة ..بل لم ينظر لها قبلا كأنثى!! ..لكنه يشعرها رغم كل شيء تخصه ...لا يحق لأحد أن يتغزل بها ..أن يعجب بجمالها !! لتضربه فجأة فكرة رؤيته لها كفتاة جميلة ...ليتخشب جسده للحظات كادت أن تتسبب بحادث لهما أثناء قيادته فقد داس على الفرامل بقوة وبصورة مفاجأة دون أن يشعر و لولا زمور السيارات حوله وسبة قوية جاءته من قائد السيارة التي كانت تسير خلفه هي من أفاقته من حالته ليسب نفسه بينما يسمعها تقول بصوت حمل مزيجا من المفاجأة والضيق :
"ماذا حدث؟!! ..ياسر انتبه ..كدت تتسبب بشج رأسي التي ارتطمت بالزجاج بتوقفك المفاجئ...لماذا توقفت أساسا؟! ..لا يوجد إشارة مرور هنا ؟!
ليتجاهل الرد عليها وحتى النظر إليها فيبدو أنها كانت سارحة مثله ولم تنتبه لم سبق توقفه... ليعاود القيادة محاولا التركيز عليها ومنع نفسه من التفكير فيها بلا جدوى حتى وصلا أمام العمارة التي يقطنون بها لتسارع هي بالخروج دون أن تنظر خلفها ...وما هي إلا خطوتين إبتعدتهما باتجاه المدخل حتى تذكر فجأة مهاتفة أبيه وتنبيهه بان يخبر تقى بمجيء أسرتها حتى لا تفاجئ بهم ليهبط مسرعا من السيارة دون أن يهتم بركنها جيدا.. ويلقي المفاتيح للبواب طالبا منه وهو يخطو مهرولا باتجاه المصعد أن يركنها ويحضر له المفاتيح بالأعلى ...لكنه للأسف وصل متأخرا وباب المصعد يغلق عليها متجاهلة إياه رغم ندائه وإشارته لها بإيقافه ..ليزفر حانقا وهو يسب نفسه بينما يمرر يديه بشعره بضيق مفكرا بغضب والده منه ..ليتجه للسلم محاولا أن يلحق بها قبل دخولها للشقة ...
تعمدت تجاهل ندائه لها والصعود وحدها بالمصعد تحتاج تلك اللحظات من الوحدة لتفكر أكثر في سبب ما تشعر به !...لقد ظلت طوال الطريق معه بالسيارة تفكر في السبب الذي جعلها تسأله عن أسباب غضبه من كلمات زائر خالد بك ..تتساءل عن سبب ضيقها من إجاباته ...لماذا تمنت إجابة مختلفة؟ ..وأي إجابة تلك التي أرادته أن يقولها ...ماذا يحدث لها وبداخلها ..لتغمض عينيها وهي تدمدم بقلق وارتعاب داخلي :
"يا إلهي ...ليس هو ..أرجوك يا رب ..لا تجعلني أقع بتلك البئر ..الحب ليس لي ...لن أحب رجلا يدمرني ...يحطم أحلامي ويقهر قلبي ..لا رجل يستحق ..لا يوجد من يستحق أن أسلمه مشاعري ليدوسها ..فكلهم خائنون"
كانت قد خرجت من باب المصعد واتجهت لباب الشقة لتضغط الجرس متجاهلة المفتاح الذي منحته لها خالتها ...فلا يصح أن تفتح على خالتها وزوجها الباب بلا مقدمات حتى لو كانت تقيم معهما حاليا ..
ما أن فتح الباب حتى تسمرت مذهولة أمام تلك الفتاة السمراء بعيونها البنية التي تشبه عيني أبيها والتي فتحت لها الباب ..ليتداخل صوتها المنادي باسمها بحبور مع صوت ياسر القلق واللاهث من صعوده السريع على السلم ..لتجد نفسها مغمورة بعناق أختها رؤى ذات الثمانية عشرة عاما والتي جرتها للداخل وهي تهتف بمرح وحبور سائلة إياها عن رأيها بمفاجأتهم لها يتبعها عناق التوأمين مالك وعبد الوهاب اللذين ذهلت وهي تراهما قد جاوزاها طولا حتى أنهما رفعاها بين يديهما وهم يمازحاها بأن الصدمة والفرحة بوجودهما قد أفقدتها لسانها السليط ..لم تستطع تمالك نفسها بعد لحظات المفاجأة وهي تبكي بقوة بينما تعيد احتضانهم واحد تلو الآخر ..يا الله كم اشتاقتهم ...كم افتقدت رائحتهم ..صخبهم ...رغم أنها تحادثهم دوما عبر وسائل التواصل المختلفة ..لكنها لم تتخيل أنهم تغيروا بهذا الشكل ..متى كبر طفلاها الصغيرين بهذا الشكل إنهم فقط بالخامسة عشرة ..فكيف أصبحا بهذا الطول والعرض ...ورؤى ..كيف تغيرت لتلك الدرجة ...لقد أصبحت شابة ناضجة ..لا تلك الصغيرة على أعتاب المراهقة التي تركتها وهي بالثانية عشرة من عمرها ..... لينتفض قلبها شوقا بينما تسمع صوت أمها يناديها بتلهف لتلتفت خلفها فتجدها فاتحة ذراعيها لتجري إليها مرتمية بأحضانها ممرغة وجهها بصدرها بينما تتشممها بلهفة متشربة تلك الرائحة التي افتقدتها طوال تلك السنوات مفتقدة هذا الحنان الدافق الذي لا يعوضه شيء حتى حب وحنان خالتها لها.. لا يشابه ولا يعوض افتقادها لحنان وحضن أمها ..كانت الدموع تسيل من عينيها المسبلتين بحضن أمها بينما تميل برأسها على كتفها هامسة بمدى شوقها إليها وهي تفتح عينيها ببطء لتتجمد تماما وهي ترى تلك العينان الناظرتان لها بشوق ...عينان تنتميان لرجل كان لها الدنيا وما فيها ...قبل أن ينحر قلبها بسيف خيانته...ليتمرد قلبها شوقا إليه ...بينما ينهره عقلها رفضا له ليتشنج جسدها بتصلب استشعرته والدتها التي التفتت خلفها لتنظر لزوجها وهي تقول بنبرة تجمع بين حشرجة عواطفها الثائرة وحزما لا يقبل الرفض:
"آه لابد أن أبيك غاضب لأنني استحوذ عليك ولا أمنحه فرصة السلام عليك ...تعالى مسعد ..أقترب واحتضن صغيرتنا التي كبرت وصارت شابة جميلة" ...لتدفعها رغم تصلبها ناحية أبيها الواقف ناظرا لها بعيون مشتاقة لائمة حزينة ..لتشعر بيده تسحبها لصدره وهو يضمها إليه بقوة ..ورغم أنها لم ترفع يدها لتبادله العناق ..لكن كل حواسها تمردت عليها شوقا وتوقا إليه ..لتجد نفسها تغمض عينيها مختزنة بداخلها رائحته تاركة جلدها يستشعر قبلته على جبينها بقلب نابض ... بينما تطبق يديها بقوة مانعة إياهما من الالتفاف حوله ... كيف يمكن أن تشتاق إليه لتلك الدرجة ...تتوق لحضنه لهذا الحد ...تفتقده كما لو كانت لم تعرف عنه شيئا ...لم ترى بعينيها خيانته وغدره ...لتعود لذاكرتها صورته المترنحة وجارتهم سعاد بين يديه ..لتتصلب أكثر وتبتعد خطوة للخلف بنفور يبدو انه استشعره ..لأنه اسقط يده من حولها ...ليتراجع للخلف بينما يقول بهمس وصلها خافتا لدرجة أنها شكت بأنه تحدث فعلا : "آه يا صغيرتي ..كيف استطعتِ؟!"
لتتحرك معهم بآلية لتجلس على الأريكة الكبيرة محاطة بشقيقيها وتجاورهم رؤى وهم لا يكفون عن الهذر والحديث دون أن تنتبه لهم بينما تتساءل بداخلها بوجه مقطب :
"كيف استطعت أنا؟!! ..أم أنت يا أبي ...من منا أخطأ؟!! ...كيف تكون أنت من دمرني ...وتنظر لي بتلك الطريقة اللائمة ..كما لو كنت أنا من أجرمت بحقك لا أنت؟!"
لتنتبه لحظتها للحديث الدائر حولها ..لتقطب وهي تسمع إصرار خالتها وقسم زوج خالتها على بقاء أسرتها معهم بشقة ياسر وإلغاء حجز الفندق ...لتكون مفاجأتها الكبرى قول والدتها بحسم بعد تبادل نظرات غامضة مع أبيها أنهم موافقين وسيقيمون معهم لفترة بشقة ياسر ...لتلتفت لها أمها مكملة وهي تقول بلهجة آمرة "جهزي أغراضك تقى لتنتقلي معنا للشقة المقابلة ...بما أن ياسر سيعود للإقامة مع والديه هنا طوال فترة إقامتنا"
...لتنظر لأمها بارتباك وهي تقول بتهرب :
"لكن كيف سنقيم بها جميعا أمي ..لا يوجد بها سوى غرفة واحدة مجهزة أليس من الأفضل أن تبقوا بالفند..."
لتقاطعها خالتها وهي تقول بحماس:
"بل كلها مجهزة ..لقد أحضرنا اليوم صباحا غرفتي من شقة جدك ..كما اشترينا عبر الانترنت حجرة معيشة رائعة مزودة بأريكتين من تلك الأرائك الحديثة التي تتحول لأسرة عند النوم ...وهناك تلفزيون وثلاجة وكافة مستلزمات المعيشة ...وقد قضينا اليوم أنا والعمال وزوجة البواب بتجهيز وفرش وتنظيف الشقة ... أردنا أن تكون جاهزة لاستقبالهم منذ عرفنا بموعد عودتهم .. وقد جمعت حاجات ياسر كلها من هناك"
...لتكمل وهي تتجاهل نظرة تقى اللائمة لها لعدم إخبارها قبلا بكل ذلك ..
"أردناها مفاجأة "
لتقول بدمدمة نزقة وقد اسقط بيدها :
"ويا لها من مفاجأة "
لتتحرك باتجاه حجرتها أو ما كانت حجرتها حتى صباح اليوم ..ليوقفها صوت أمها وهي تقول بأمر :
" تقى أجمعي كل حاجياتك ..ولا تتركي شيئا ...لأنك لن تعودي لهنا ثانية "
ليسود صمت متوتر على الجميع بينما تلتفت تقى لأمها بوجل وهي تسألها بتخوف:
"لن أعود؟!!" لترد أمها بصوت بات:
"نعم ...فنحن سنقيم هنا مؤقتا حتى نشتري شقة ...فقد قررنا العودة الدائمة والاستقرار بمصر ...شقة جديك بعيدة وليست جيدة فمساحتها ضيقة والمنطقة التي بها لم تعد مناسبة ..لذا سنبحث عن شقة قريبا من هنا ...من ناحية تكون قريبة من شقة خالتك كشقتنا التي كنا نستأجرها سابقا ...ومن ناحية أخرى المنطقة هنا جيدة وهادئة وقريبة من مكان عملك "
دارات تقي بنظراتها بين الحاضرين فبينما لاحظت وجوم ياسر وهدوء والده وفرحة والدته الجلية ..وسعادة إخوتها ..رأت نظرة الترقب القلق بملامح أبيها ..لتعود لأمها فتجد ملامحها مغلقة لكن صارمة فتسألها بتردد بينما تزدرد لعابها بصعوبة :
"لكن ...ماذا عن مدارس إخوتي ..وعمل ..آآ ..أعني ..وظيفته ..لتعود لازدراد لعابها الذي جف بينما تجد صعوبة بلفظ كلمة أبي التي يكاد لسانها يتحرق شوقا لنطقها بينما يأبى عقلها تركه ..لتنهي أمها الموقف وهي تقول بينما تتجه إليها:
"أختك ستدخل الجامعة هذا العام لقد أنهت اختباراتها توا ...وكذلك إخوتك انهوا المرحلة الإعدادية ...بمجرد ظهور النتائج سيعود أبيك لإنهاء أوراقهم وتصفية كل أعمالنا وما لنا هناك وشحن كل شيء متبقي لهنا ..وحتى هذا الوقت نكون قد وجدنا الشقة المناسبة "
...لتسحب يدها باتجاه حجرات النوم وهي تقول :
"تعالي لأساعدك بجمع حاجياتك ...فقد تعبنا جميعا ..وآن أوان أن نستريح "
لا تدري لما شعرت لحظتها أن أمها لا تعني الذهاب للشقة المقابلة ...بل تعني أمرا آخرا يرعبها مجرد التفكير فيه..
-------------------
كانت تشعر بالأرق وعدم الرغبة بالنوم رغم تأخر الوقت ..مما دفعها للنزول والجلوس بالحديقة لبعض الوقت ..رغم برودة الجو بهذا الوقت من الليل ..إلا أنها شعرت بحاجة ماسة لاستنشاق هذا الهواء ..لعله يبرد تلك العواصف بداخلها ...تلك التي أشعلها حبيبها وزوجها سامح ...لتغمض عينيها ببسمة سعيدة وهي ترجع رأسها على ظهر كرسيها مستمتعة بالنسمات الباردة و الجو الهادئ والإضاءة الخافتة متذوقة كلمة زوجي بينما تتمتها بعشق وسعادة متمنية لو كان ما زال موجودا ليشاركها تلك الجلسة ...ليزداد احمرار وجنتيها وهي تتذكر ما حدث بينهما قبل خروجه العاصف ...فلفت يديها حول جسدها محتضنة إياه وهي تفكر في تلك المشاعر التي أثارها بداخلها ...تلك النغزات الحسية بالتوق التي اجتاحتها للمرة الأولى ..لكنها رغم ذلك ..ورغم مشاعرها الجارفة ناحيته يجب أن تكون أكثر حرصا معه ..وأكثر حزما حتى لا يتجاوزا الخطوط الحمراء قبل أوانها ...فسامح رغم كونه زوجها إلا أنها تعي أن العقد قبل الزفاف وإن منح للخطيبين حرية أكثر في التعامل والتلامس يجب أن لا يكون ذريعة لتخطي الحدود وتفعيل زواج لم يُشهر أمام الناس ...لقد رأت إحدى صديقاتها تقع بهذا الخطأ وتُفعل زواجها قبل حفل الزفاف لتحدث خلافات بين الأسرتين ويصروا على فصم العقد ويأخذ الشاب جانب أسرته لتكون فضيحة مدوية عند إعلان صديقتها أنها حامل ..فضيحة نالتها هي وأسرتها بأكثر مما نالت خطيبها رغم كونه شريكا لها بالأمر ..لكنها طبيعة المجتمع التي تحمل الفتاة دوما تبعات الخطأ ..
شعرت برغبة بالسير قليلا حول الحديقة عل النوم يداعبها ..فالجميع قد نام عداها ..وأولهم أمها ...لتفكر بضيق وهي تتحرك حول الحديقة بأمها وتصرفاتها التي تقلقها ناحية سامح ..فهي لم تكد تسعد بمعرفتها بقبول أمها لأمر خطبتها وعقد قرانها بسامح رغم استغرابها لهذا القبول ..وشعورها اليقيني بأن هناك سرا ما بين أمها وأخيها وخالد استطاعوا من خلاله الضغط عليها ...لكنها وللغرابة لا تشعر بفضول لمعرفة هذا السر ..أو ربما تشعر بخوف أن تعرف شيئا ما يؤلمها ..وهي حقا لا ترغب بمزيد من الألم يكفيها ما عانته سابقا ...لتعود بفكرها لأمها ...فهي رغم قبولها الظاهري إلا أن طريقتها بمعاملة سامح تقلقها ...فهي تتعمد اهانته والتقليل منه ..وأكثر ما يخيفها هو لحظة انفجار تكاد أمها توصل سامح إليها بأسلوبها هذا ...فهي الأدرى بطبيعة سامح النزقة واعتداده القوي بنفسه وأسرته ...ولو استمرت أمها على نفس النهج ..فسيكون الصدام حتميا ..وستوضع هي بالمنتصف ..وقد تجبر على الاختيار بينهما ...وهو ما لن تقدر عليه ...لتتوقف للحظات وهي ترتكن بكتفها للبوابة المغلقة بينما تبتهل بداخلها أن لا تصل الأمور لهذا الحد ...لتدير رأسها ناظرة للشارع بالخارج من بين فراغات الحديد المشغول على شكل تشابكات تتيح الرؤية خارج البوابة لتتسمر بوجل وهي تلمح تلك السيارة المتوقفة أمام الباب من الخارج على بعد بضع خطوات بينما يقف بجوارها هذا الرجل ذي الملامح المألوفة لها ..لتزداد وتيرة تنفسها بينما تدقق النظر إليه وتراه وهو يعتدل من وقفته المرتكنة لجسم السيارة بينما تلاحظ نظرته المتمعنة بها والتي استشعرتها رغم الظلام المحيط بالمكان ..لتتأكد منها وهو يقترب لدائرة الضوء أمام البوابة مباشرة حيث المصباحين المعلقين بجانبي البوابة يتيحان رؤية واضحة جعلتها تتراجع خطوتين للخلف بذهول بينما عيناها ظلت متعلقة بتلك العينان اللتان تشبها عينيها هي ..عينان لم ترهما منذ سنوات طويلة ..تحديدا منذ ستة عشر عاما وعشرة أشهر وثلاث أسابيع ..ما زالت تحسب الأيام منذ هجرها يوما بيوم ..وساعة بساعة لتنطلق صرخة ألم مكتوم من حنجرتها وهي تهز رأسها يمينا ويسارا كطير مذبوح بينما تسمع صوته يناديها بنفس نبرته القديمة :
"كيف حالك أميرتي "
كانت تنهت كما لو كانت بسباق للجري بينما تتسارع دقات قلبها وهي تنظر له تضم نفسها بيديها بقوة وهي تتراجع للخلف متمتمة :
"ماذا تريد ؟!..لماذا عدت ..اذهب ...عد من حيث أتيت ...لا أريدك ...لا أريد رؤيتك ..اذهب ...لا تعد "
ليأتيها صوته النادم يناديها بتوسل :
"صغيرتي ..أرجوك ...انتظري قليلا ...لن أقول لك سامحيني ...فقط قفي للحظات لأنظر إليك ..لأملأ عيني برؤياك "
لتصرخ بصوت جريح وعيون دامعة بينما تلتفت هاربة :
"لا ...لا أريد رؤيتك ..لماذا عدت ...لا تستحق أن تراني !! ..لا تستحق!! اذهب من هنا ..اذهب"
لتتركه خلفها واقفا متشبثا بأصابعه بحديد البوابة من الخارج ...بينما عيناه تدمع وهو يتابع هرولتها المتعثرة ..ويصله صوت صرختها الرافضة ..لينكس رأسه مغمضا عينيه الممتلئة دمعا يأبى أن يتحرر وهو يفكر نادما بأنه يستحق ... آه لو تعرف كم ذبحته نظرتها الجريحة اللائمة ...طفلته أميرته ...تلك التي تركها خلفه هاربا ...أترى كان الأمر يستحق هذا العذاب الذي يعانيه الآن؟ ..كيف استطاع أن يفعلها؟ ..كيف هانت عليه ؟ ..إن كان هو غير قادر على مسامحة نفسه ...فكيف يتوقع أن يسامحانه هما .. لتتحرر دمعة من عينه وتسيل على وجنته وهو يفكر أن صغيرته قد عُقد قرانها ...أميرته اقترنت برجل دون أن يكون هو وكيلها ..دون أن يقف كولي لها ...طعنه ألمت بصدره عندما أخبرته السيدة سمية بالأمر عندما هاتفها مخبرا إياها بعودته ..وطالبا منها مساندته في محاولة إعادة الوصل مع أبنائه ...لقد وعدته بالمساعدة ...رغم نبرة اللوم والتقريع بصوتها ..لكنها وعدته بالتدخل لصالح أن تجعلهم يقبلون التحدث معه ...وعليه هو فقط إقناعهما بأسبابه ومبرراته إن وجدت .. ليغمض عينيه ويميل برأسه مسندا إياه على البوابة بينما يحدث نفسه بقنوط :
"كيف سأقنعكما؟! ..أي مبرر بالدنيا يمكن أن أقدمه لكما لتسامحاني ...كيف أخبركما أن والدكما لم يكن أكثر من وغد ضعيف جبان ...خائن!!!"
---------------------
يدور بحجرته التي كان من فترة قريبة غاضبا لتركها ...حسنا ليست حجرته تماما فربما المكان هو نفسه لكن الأثاث بل والروح والرائحة مختلفة ...ليجد نفسه يتمدد بكامل ملابسه على الفراش ...لتضربه رائحتها المحببة فيجد نفسه يستدير برأسه غامرا أنفه بالوسادة التي تحمل عبقها ليستنشقه بعمق ... لينتبه لما يفعله فيعتدل سريعا كما لو كانت لدغته حشرة سامة وهو يمسح وجهه بيديه ويهتف لنفسه بخفوت حاد :
"ماذا أفعل ...اللعنة ...ماذا جري لي..ماذا فعلت بي تلك الوقحة الصغيرة...لماذا شعرت بالرفض والنفور لفكرة مغادرتها بيتنا ..لقد كدت اهتف بالرفض وأنا اسمع خالتي تخبرها بان تجمع كل حاجيتها لأنها ستغادرنا ولن تعود للعيش معنا ثانية...لابد أنني جننت .. ليفكر بداخله ..ألم يكن هذا ما تتمناه ...ألم تهتف وتعلن وتتشاجر مرارا رفضا لوجودها المستحوذ على حياتك وحياة أمك ...فلماذا لا تسعد بمغادرتها ...لماذا هذا الغضب والرفض للفكرة ... ليمرر يديه بشعره وهو يغمض عينيه باستسلام معترفا لنفسه بما لم يعد قادرا على نكرانه ..أنه يحبها !!!!! نعم ...لا يدري كيف ..أو متى ...أو لما ....تلك الوقحة التي اقتحمت حياته بلا إنذار ...لكنه رغم ذلك لا يطيق فكرة بعدها عنه ...لن يحتمل مجرد التفكير باختفائها من أمامه ولو كان لمجرد السكن ببيت آخر ..حتى لو كان سيراها بالعمل ...فلن يكفيه ...يريدها معه دائما ... يريد أن يهددها صباحا بتركها تذهب بالمواصلات أن تأخرت كالعادة ..دون أن ينفذ تهديداته أبدا بل فقط يستمتع بنزقها وشجارها معه وهي ترد تهديده بأنه لو فعلها ستشكوه لأبيه...يحب أن يستمتع باحمرار وجهها غضبا وهو يغيظها حول كمية الطعام التي تلتهمها عند الغداء بينما ترد بنزق وفم ممتلئ أنها جائعة وان رئيسها لا يدع لها حتى الوقت الكافي لتذهب لاستراحة الغداء أو تشرب شيئا أثناء العمل بعكسه هو ...يحب تلك الغمازة الصغير والتي لا تتوسط خدها كمعظم من يمتلكون غمازات ..بل هي بجانب ذقنها الأيمن تظهر عندما تكتم ضحكها أو غضبها وتضغط على نواجذها فيجد عينيه تتعلق تلقائيا بها كما لو كانت تسرق نظراته رغما عنه ..وكم يحب إغاظتها ليرى تلك الغمازة ..ارتمى بجزعه على الفراش بينما ظلت ساقيه على الأرض يعيد دفن وجهه بالوسادة وهو يتأوه هامسا بداخلها :
"آه ...يبدو أنك أوقعتني بحبائلك رغما عن انفي يا ابنة الخالة ...ولن أكون ياسر أشرف إن تركتك تهنئين بقلبك الخالي دون أن أقيده لي كما قيدت قلبي لك ..فالعين بالعين ..والقلب بالقلب ...وقد أصبح إبقائك لي دائما هدفي القادم ..حتى لو قضينا باقي عمرنا نتشاجر معا ونعاند بعضنا ..فمجرد وجودك معي حتى ولو ظللنا بحالة حرب ..هو حياه .. وما أجملها من حياة بطعم المشاغبة يا سَمية أمي "
لينقلب على ظهره معتدلا ويرفع ساقه متمددا وهو يناظر السقف مفكرا ..كيف يأسر تقى الصغيرة ..فلا تغادر بيتهم أبدا؟!!
------------------------
كان يعبث بشعرها وهو نصف مستلقي بالفراش ... بينما تنام على صدره وهو يتحدث بهاتفه باسما ..يشعر بالراحة والاكتفاء كقط متخم تناول وجبة مشبعة .. أعاد اعتذاره لآسر لاضطراره المغادرة بسبب تعب زوجته ...و مؤكدا عليه أنه سيتناول عشائه معهم غدا و لن يقبل بالرفض... وأن أمه ستغضب منه إن لم يحضر فهي مشتاقة إليه ....كما انه يريد التحدث معه بعدها بحرية بموضوع هام يخص عمل مشترك بينهما ...ليضحك بخفوت وهو يرد على مزحة قريبه حول كون العشاء رشوة مقنعة لاستغلاله بعدها في أغراض مهنية دون أن يجرؤ على الرفض بعد تناول طعام زوجة عمه اللذيذ.. ليغلق خالد بعدها الهاتف بعد أن اتفق معه على الموعد ...ليتلفت بعدها لتلك الناظرة لوجهه بشغف وحشرية كعادتها عندما تلتقط أذنها سيرة العمل ...ليتجاهل نظراتها الفضولية بمكر وهو ينزلق بالفراش ضاما إياها لصدره لتسأله بفضول عن من كان يتحدث معه فيجيبها موضحا:
"إنه آسر الراوي ..والده ابن عم والدي "
لتنظر له بفضول سائلة باستفسار:
"حقا!! ...غريب لم أره سابقا ..أو تحدثني عنه ..ظننتني قابلت كل أقربائك"
ليرد عليها موضحا بينما يده تمسد شعرها بحنان :
"آسر نصف أمريكي ...والدته أمريكية تزوجها عمي بعد أن هاجر واستقر هناك ..كان خبيرا بالكيمياء الحيوية ... وقد نجح وعين هناك بواحدة من أهم واكبر مراكز الهندسة الوراثية ...وزوجته كانت أيضا زميلته بالعمل ... وفي الواقع كانت العلاقة بيننا محدودة لحد ما ...فعمي زيد والد آسر لم يكن ينزل مصر إلا قليلا ..ونحن أيضا لا نزور أمريكا كثيرا ...فلا أعمال لنا هناك ...معظم أعمالنا تتركز أكثر بايطاليا ...لكني في فترة ما بعد الجامعة أقمت بأمريكا لفترة عدة أشهر درست بها بعض برامج إدارة الأعمال..ووقتها ازدادت معرفتي بآسر وتوطدت أكثر خاصة وأننا بنفس العمر تقريبا أنا أكبره بعام واحد ...وقد جاء بعدها بفترة وأقام معي هنا بمنزلنا لعدة أشهر كان راغبا وقتها بالتعرف على بلاده عن قرب ...لكن العلاقات بيننا عادت للتباعد مع انشغال كلا منا بحياته وأعماله دون أن تنقطع تماما ..فدوما حافظنا على استمرار التواصل ولو بشكل متباعد ...آسر حاليا يشغل منصبا هاما ...حيث انه أحد المسئولين والمساهمين بواحدة من اكبر سلاسل الفنادق العالمية ...هو من يدرس الأسواق الخارجية ويضع خطط التوسعات للأفرع الجديدة للسلسلة وقد فكرت أن أحاول إقناعه بأن ينشئ فرعا لفنادقه لدينا بالمشروع ...لو أقتنع ووافق فستكون ضربة موفقة من عدة نواحي ...فمن ناحية ستوفر لنا سيولة كبيرة نتيجة المبلغ الذي سنحصل عليه من التخصيص ...ففي جميع الأحوال كان هناك بالمخطط الأصلي مساحة كبيرة مخصصة لإنشاء فندق كبير لكن بدلا من مجرد فندق عادي مهما كان جيدا ..سيكون فندقا عالميا له اسم عملاق وأيضا وجود هذا الفندق سيرفع من قيمة المشروع و قيمة الوحدات السكنية به ويجعل الإقبال عليه يتزايد خاصة من المستثمرين ورجال الأعمال "
لتلتمع عيناها إعجابا وهي تعتدل هاتفة ...فكرة رائعة ...أحسنت خالد " ليبتسم لها بمحبة بينما بقول باعتراف:
في الواقع الفكرة ليست لي ...لقد كانت فكرة مدحت ...هو من اقترحها علي من يومين عندما كنت بزيارته وهاتفني آسر ليخبرني أنه قادم بزيارة عمل لمصر لاختيار موقع جديد لفنادقه وسيبقى لفترة ويرغب بلقائي .. وما أن أنهيت المكالمة حتى وجدت مدحت الذي استمع للحوار يقترحها علي ...ليقول ببسمة ساخرة ..يبدو أن الحادث قد أعاد برمجة عقل ابن عمتي ليعمل بكامل كفاءته وذكاءه "
ليلتفت مغلقا الإضاءة الجانبية لتغرق الغرفة بجو حميمي بينما لم يعد يضئها إلا أضواء حمراء صغيرة موزعة بسقف الحجرة تنشر ضوءا خافتا و تعطي الحجرة أجواء حالمة ..ليشعر بحركة أصابعها على صدره وهي تحركها بإغواء لتزداد ابتسامته اتساعا دون أن تراها بينما يسمعها تقول بصوت متردد يحمل رنة دلال :" حبيبي ؟!" ليرد بمكر:
"نعم هموس " لتتردد لثواني بينما ينتظر هو طلبها الذي يتوقعه:
" ما رأيك بأن أعود للعمل معك بدءا من الغد ...الم تفتقدني معك بالعمل ؟!"
ليرد علبها بتلاعب مقصود:
"أممم بالواقع ...لا عزيزتي ...فضغط العمل كبير حاليا لم يترك لي وقتا للشعور بافتقادك ..كما أنك لم تعودي تعملين معي بعد الآن ..لقد أصبحت ربة منزل ..مهمتها الاهتمام بزوجها وطفلها الذي أوشك على القدوم"
لتنتفض جالسة بينما تربع يديها و تزم شفتيها بغضب كطفلة ..ليظل ناظرا لها بابتسامة ساخرة للحظات قبل أن يسمعها تقول بنزق غاضب :
"هكذا خالد ...لم تفتقدني !! حسنا كما تشاء ...لتصمت للحظات أخرى وهو ينظر لها منتظرا ومتوقعا القادم وكالعادة لم تخيب صغيرته ظنه وهي تلتفت إليه بانفعال وتضربه على صدره وهي تهتف :
"خالد أنا ارغب بالعودة للعمل ..أنا لا أطيق البقاء بالمنزل ...أرجوك أعدني للعمل ..أنا آسفة ..لن أكرر ما ضايقك مني ...لكني أريد العودة لعملي " ليتهدج صوتها مع آخر كلمة لتجهش بالبكاء فيعتدل بسرعة منهيا تلاعبه بها وهو يضمها بحب ضاربا رأسها برأسه برقة بينما يقول لها بحنان :
"أيتها الحمقاء الغبية ...العمل بدون وجودك فقد روحه وبهجته .. مكانك سيظل دوما محفوظا لك وبانتظارك لا أحد يعوضه أبدا ...لكن ..لتستريحي قليلا ..فأنت حامل وبحاجة لمزيد من الراحة و..."
لترتمي عليه تنشر قبلات فرحة على صدره وترفع وجهها لتغرق وجهه بالمزيد بينما تقاطعه هاتفة بسعادة :
" أنا بخير ...بل بأفضل حال ..وسأكون أفضل وأفضل عندما أعود للعمل معك ...أرجوك حبيبي ...أرجوك خالد ...أرجووووووك"
لينظر لها بعشق وهو يمسك كتفيها بين كفيه ويميل بها للفراش قائلا بشغف :
"حسنا أيتها المشاغبة المتلاعبة ...من غد ستعودين للذهاب معي للعمل ...لكن سنعيد توزيع المهام وتخفيف أعبائك بما يتناسب وحالتك" ...ليقاطع هتافها الرافض بقبلة متلهفة ..أعادتهم لعالمهما الخاص الذي غادراه منذ أقل من ساعة ..عالم لا يشاركهما به أحد ..حيث لا وجود لأي شيء سوى عشقهما وشغفهما المتبادل ..حيث تمتزج الأرواح قبل الأجساد ..و ينهلان من بحر حبها بلا اكتفاء ..
-------------------------
أصر أكرم أن يعود والده وسامح للمنزل ويبقى هو وهند بالمشفى خاصة مع إصرار الأخيرة على عدم الذهاب رغم منع الزيارة ...لتؤيد هند طلبه و تصر على الحاج محمد أن يعود ليطمئنها على إخوتها ويكن بجوارهم مع الخالة زينب ... وبينما يتجه سامح ووالده للخارج نادى أكرم على أخيه مقتربا منه ليقول له بخفوت :
"سامح أخلع الجاكت الذي ترتديه وأعطني إياه:
ليرفع سامح حاجبه بسخرية وهو يقول برفض:
"ماذا ؟ لماذا؟!! أتريد أن تلوث لي جاكتي الجديد بارتدائه فوق ثيابك الممتلئة بالدماء ...ثم أتريد أن تدفئ أنت وأبرد أنا ...أنسى الأمر ..لن أعطيك إياه ... المشفى دافئ بالداخل ...بينما أنا سأعود بهذا الوقت المتأخر والجو بارد بالخارج ...وغدا صباحا قبل ذهابي لعملي سامر عليك واحضر لك ملابس نظيفة إن شئت ...ليزم أكرم فمه ويقول من بين أسنان مطبقة غيظا :
"سامح كف عن سماجتك ..فليس هذا وقتها ..لا أريد الجاكت لي ...بل لهند ..فبلوزتها خفيفة وغير مناسبة ...ألا يكفي أني سأتحمل مضطرا أن ترتدي زوجتي ملابس تخصك ...لا تزد الأمر لأن لي رغبة كبيرة بلكمك الآن كلما فكرت أنها سترتديه مكانك "
ليزداد ارتفاع حاجب سامح حتى كاد أن يلتصق بشعره بينما يضرب كفا بالآخر وهو يقول بتعجب:
"وما دام الأمر يضايقك هكذا فلم تجبر نفسك أيها المسكين؟!! ...الجو دافئ هنا ...وغدا احضر لها شيئا من عند أمي أو من ملابس همس المتبقية بالمنزل ..ودع جاكتي المسكين وشأنه فلم اهنأ به بعد أنها المرة الأولى التي أرتديه ..أردت التأنق لزيارة حماتي أخذها... أقصد حفظها الله "
بعكس أبيهما ...لم ينتبه أكرم لزلة اللسان المقصودة من سامح بينما يقترب منه ساحبا الجاكت بحدة ونازعا إياه من عليه ...ليرتديه هو بسرعة ..بينما ينظر له سامح متعجبا وهو يعيد ضرب كفه بالآخر سائلا:
"ألم تقول أنه لهند ...لماذا ارتديته أنت "
ليرد عليه أكرم قائلا ...حتى يأخذ دفئ جسدي أنا لا أنت قبل أن البسها إياه " ليهز رأسه محييا أبيه ويستدير عائدا لهند تاركا سامحا على ذهوله بينما يصله صوت ضحكة أبيه
ليستدير سامح لأبيه قائلا:
"ابنك جن أبي ...يا خسارة جاكتي الجديد ...هي ليلة سوداء من أولها بدئت بعشاء من مشتقات الطحالب ايطالية الصنع وانتهت بخسارتي ملابسي الجديدة "
لينظر له والده بجانب عينه وهو يجاوره في طريقهما لإيقاف سيارة أجرة تعيدهما للمنزل بينما يسأله عن عشاء الليلة وكيف أصبحت علاقته بحماته :
ليزفر سامح بضيق وهو يشتكي لأبيه من تلك السيدة المتكبرة وطريقتها المتعالية بالتعامل معه ..وكيف أمسك نفسه بالقوة من الرد عليها وإيقافها عند حدها لأجل خاطر ماهي ...لينهي حديثه بضيق وهو يهتف متوعدا:
"لكني لن احتمل طريقتها هذه لأكثر من ذلك ..إن استمرت على أسلوبها هذا فأقسم أن أقطع صلتي بها بعد إتمام الزواج ...بل سأمنع ماهي من رؤيتها إن استمرت بتلك التجاوزات بحقي "
ليطرق والده قليلا بينما يقفا متجاورين على الرصيف الأمامي للمشفى بانتظار مرور إحدى سيارات الأجرة النادرة التواجد بهذا الوقت من الليل ..ليرفع بعدها رأسه ناظرا لسامح بلوم وهو يقول بخيبة أمل:
"يا خسارة تربيتي بك ..أهكذا أنشأتك .. أن تكون قاطع رحم ..أتريد أن تجبر زوجتك على ارتكاب ذنب هو من الكبائر ..ألا تعرف أن الرحمن أمرنا بصلة الرحم التي هي من أسمه سبحانه ..ونهانا عن قطعها ...وليست أي رحم ...بل الأم ..من وصانا عليها الله ورسوله ...ليحمر وجه سامح خجلا وهو يقول مبررا بتلجلج :
"لكن أبي ..أنا لا أريد ..ليس متعمدا ...إنها السبب ...فهي..."
ليقاطعه أبوه بغضب وحدة:
"صه ...لا يوجد سبب بالكون يكون مقبولا لما تريد فعله ...أتقبل أن يخير خالد أختك همس بيننا وبينه ..أتقبل أن يمنعها عنا لأي سبب "
ليرد بدفاع:
"أبي خالد لا حجة له ولا يمكن أن يفعلها ...فنحن نعامله كواحد منا بينما تلك السيدة تعاملني كما لو كنت ابن البطة السوداء"
ليشيح أبيه بيده رفضا وهو يقول :
"لا يوجد سبب أو مبرر أيا كان لما تقول ...مهما فعلت تظل أم زوجتك ...راعي أنها سيدة كبيرة كأمك ...راعي أنها من وسط مختلف وكانت تتمنى لابنتها من هو أفضل حسب معاييرها حتى لو كانت خطأ ... فهي تفعلها بدافع الحب لأبنتها .. وتمني الأفضل لها...وراعي أيضا أنها يوما ما بإذن الله ستكون جدة لأبنائك..ويجب أن تحتملها وتحترمها " ليرفع يده لكتف سامح مربتا عليها وهو ينصحه :
"بني لو وضعت زوجتك بهكذا اختيار بينك وبين أمها فستكون خاسرا بالحالتين ...فإن هي فضلتك على أمها فستعيش حزينة مكسورة وينعكس الأمر على حياتكما سلبا...وإن رفضت خسرتها وخسرت قلبك معها بعنادك ... لا تضع أمها بينكما ..وحاول أن تتجاوز وتتجاهل ما تقول تلك السيدة مهما كان ...عاملها بالحسنى واحتملها لأجل خاطر ابنتها ...ويوما ما ستكسب قلبها بالمودة والمعاملة الحسنة ... الكلمة الطيبة بني تلين اقسي القلوب مهما طال الزمن "
لينتبه لحظتها لعربة أجرة مقتربة فيشير لها ويركب بينما يجاوره سامح الذي قال لأبيه بنبرة مسترضية :
"حسنا أبي سأحاول الاحتمال ...واعدك أن لا أضع ماهي أبدا بيني وبين وأمها ..ليضيف بهمس غير مسموع بينما تنطلق السيارة.. ولو أني واثق أن رقية لن تلين أبدا ..فكل كلمات العالم الطيبة لن تؤثر ببنت سلطح باشا تلك "
---------------------
بعد ذهاب والده وسامح عاد ليجلس بجوارها على الكراسي الضيقة والغير مريحة بطرقة هذا المشفى الحكومي ..ولولا مهنته لم يكن ليسمح لهما بالبقاء بها بهذا الوقت خاصة مع منع الزيارة عن حسين ...وما أن مرت فترة كافية لتتشرب الجاكت دفئ جسده حتى خلعه عنه ولفه حولها وهو يقول برجاء:
"ارتديه هند ..الجو بارد عليك ...وملابسك خفيفة"
لتنظر له بحرج ..وهي تقول بتردد:
"لكن أنت ستبرد ..لقد رايتك تأخذه من سامح ...لابد انك تشعر بالبرد "
ليهز رأسه نفيا ويخبرها أنه أخذه لأجلها ويوضح سبب ارتدائه له ...لتحمر خجلا بينما تنظر له بضعف ...ليقترب منها مقبلا جبينها بعد أن تأكد من خلو المكان حوله ويلف الجاكت حولها دافعا إياها لإدخال يدها بأكمامه بينما يقول لها بخفوت :
"لن نتحدث بشيء الليلة ...وغدا يوم آخر ...سنتحدث كثيرا بعد أن نطمئن علي حسين بإذن الله ..بعد أن ارتدته لفها بذراعه ليقربها منه لتستند برأسها على كتفه بينما يقول بمهادنة ..حاولي أن تنالي غفوة لبعض الوقت"
كانت مرهقة جسديا ومستنفذة عاطفيا لدرجة منعتها من المجادلة أو الابتعاد ...فهي بحاجة لهذا التواصل ...بحاجة لدفئه لتحتمل مرور الساعات القادمة فاستكانت برأسها مائلة على كتفه لتغرق بغفوة وهي جالسة على كرسيها الغير مريح ..وما أن شعر أكرم بثقل أنفاسها دلالة على نومها ...حتى مال قليلا ناحيتها بينما يشد كتفها بيده وأسند رأسه على رأسها المستند عليه ليغرق بغفوة هو الآخر بينما يشعر بنسيم أنفاسها الدافئ يضرب عنقه ليشيع بداخله إحساس بالراحة والدفء جعل البسمة ترتسم على شفتيه رغم التعب ....
---------------------------------
انتهت من ترتيب ملابسها بالحجرة التي كانت لياسر حيث ستشاركها مع رؤى التي غرقت بالنوم على الفراش فور ولوجهم للحجرة من شدة الإرهاق بعد عناء السفر ...بينما أخذ والداها حجرة خالتها ... وشقيقاها تشاركا الحجرة ذات الأرائك التي تتحول لأسرة وقد أحباها كثيرا ...ما أن دلفت للفراش حتى تذكرت أن الغد هو يوم الجمعة ولن تحتاج للذهاب للعمل ورغم أن الأمر جيد فهي تشعر بأنها مستنزفة لدرجة لن تمكنها من القيام بأي عمل ...إلا أنها بالوقت نفسه تشعر أن بقائها بالمنزل لن يكون خيارا صائبا ...فهي وان استطاعت تجاهل أبيها طوال الساعات الماضية لتواجدهم مع أسرة خالتها ...فهي لن تستطيع تجاهله وهم معا هنا ...لتزفر بضيق بينما تفاجأ بأمها تدخل عليها الحجرة بوجه متجهم بينما تقول بخفوت حازم وهي ترمق رؤى لتتأكد من نومها:
"بدئا من غد ...ستتعاملين مع أبيك بالاحترام اللائق ..لن تتجاهليه كما فعلت اليوم ...وإياك يا تقى أن تقللي من احترامه ثانية ...لن اسمح لك بإهانته ..وان كنت تغاضيت عن تباعدك وأسلوبك المتجاهل له طوال السنوات السابقة ...فقد انتهى الأمر ..وآن أوان أن تعودي لعقلك ..وتحسني معاملتك أبيك بما يستحق وبما يجب على كل فتاة تجاه أبيها "
لتنتفض تقى واقفة لتقترب من أمها بينما تقول بغضب وحدة ...أنا لم أفعل له شيئا ولم أكن أنا من أهانته ...أنت لا تعرفين شيئا ..أنا"
لتقاطعها أمها بصوت حاد غاضب رغم انخفاضه:
" بل أنت أيتها الغبية الحمقاء من لا تعرفين شيئا ..ولن اسمح لك بأي كلمة مسيئة لأبيك"
لتزداد حدة غضب تقى فتقول بتهور :
"أنت لا تعرفي ماذا فعل من ورائك ومع من ...هذا الذي تدافعين عنه قد خا..."
لتقطع الكلمة قبل أن تكملها وهي تضع يدها على فمها بذعر بينما تنظر لأمها بوجل لتجدها تناظراها بسخرية مريرة وهي تقول:
"ماذا ؟!!أكملي ...خانني.. أليس هذا ما كنت ترغبين بقوله ..انك رأيته يخونني مع سعاد جارتنا هناك يوم كنت أبيت مع شقيقيك بالمشفى عندما أجريا عملية استئصال اللوزتين "
لتنظر لها تقى ذاهلة وهي تردد بعدم تصديق :
"يا الهي ..أنت تعرفين؟! ...كنت تعرفين وبقيت معه ..كيف؟!! ومنذ متى ..ولماذا؟"
لتنظر لها أمها بهزأ بينما تقول بتنهيدة تحمل مزيجا من غضب وسخرية مرة:
"ألم أخبرك أنك حمقاء غبية لا تعرف شيئا !!...لتعطيها ظهرها متجهة للباب بينما تضيف بخفوت:
"لا تحكمي دوما على ظواهر الأشياء ...كثيرا مما تراه عيوننا لا يحمل الحقيقة التي نظن أنفسنا عرفناها يقينا ...بل يكون بعض ما رأيناه أبعد ما يكون عن الحقيقة واليقين ...لا تشغلي بالك الليلة بشيء ...جميعنا بحاجة للراحة ..لتنامي الآن وسنتحدث فيما بعد ...لكن ليس بوجود إخوتك ...فإياك أن تشعريهم بشيء"
لتغلق الباب خلفها تاركة ورائها فتاة تتخبط بحيرة وذهول و قد فارقتها رغبة النوم تماما...
----------------
|