كاتب الموضوع :
سيمراء
المنتدى :
رومانسيات عربية
رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية
الفصل الخامس عشر
---------------------------
كانت تنزل الدرج بثوب أبيض وملامح ميتة... تتحرك ببطء كما لو كانت تساق لحتفها... عيناها معلقتين بعينيه بنظرة خذلان تقتله ...بينما أمهما تمشي خلفها ..تكاد تدفعها دفعا لتصل إليه ..ويراه هو ..واقفا أسفل الدرج بنظرة انتصار وبسمة تحدي.. يمد يده ليسحبها إليه بعنف ..ويخرج من جيبه قيدا حديديا يضعه حول يديها.. وبعد إحكام غلقه يجرها منه لتخرج معه لخارج أبواب فيلتهم ..لتتبعه هي مستسلمة ..وأمه مبتسمة .. ليحاول هو التحرك لمنعه من أخذها فيجد قدميه مثبتة بالأرض بقيد حديدي يشابه هذا الذي التف حول يديها ..لتقف على باب المنزل فجأة تقاوم سحب عاصم لها وتنظر إليه ثانية بحزن وعيون ممتلئة بالدموع وتناديه بصوت مختنق لمرات عدة ..دون أن يجد القدرة على الرد عليها أو الذهاب إليها.. ليسمعها تخبره بصون منهار "لن أغفر لك أو أسامحك ..لقد قتلتني معهم " ليسحبها الآخر بعنف ويأخذها بعيدا عن عينيه .. بينما يصرخ هو بجنون بعد أن اختفت من أمامه.. يتحرك بعنف محاولا التخلص من قيده بلا فائدة .. ظل يحاول ويحاول ..بينما تتعالى الأصوات من حوله رغم اختفاء وجوه أصحابها.. صوت ضحكة أمه وعاصم المنتصرة ..وصوت بكاء ماهي المتألم .. ليهب جالسا بفزع مستيقظا من كابوسه صارخا باسم شقيقته .... لتهدأ وتيرة أنفاسه المتسارعة رويدا رويدا بينما ينتبه عقله المشوش لكونه ما زال بفراشه ..وأن ما حدث كان حلما ..لا بل واقع يوشك على الحدوث ويكاد يطبق على أنفاسه ..ليعود للاستلقاء على فراشه ماسحا وجهه بيديه ومخللا شعره بأصابعه بينما تشخص عينيه لسقف حجرته ...متذكرا نظرة ماهي بالحلم .. نظرة الحزن والخذلان منه التي رآها بعينيها بحلمه هي نفس النظرة التي رمته بها أمس عند عودتهم من المشفى بعد أن اطمئنا على استقرار حالة سامح ... الذي علما أن الرصاصة أصابت فخذه فقط لحسن حظه.. لقد استطاع استنباط بعض الأمور من أحاديثهم بالأمس ...وخاصة عندما رأى اللواء منصور قريبهم من بعيد وذهب للسلام عليه وسمع بعض أطراف الحديث بينه وبين خالد... ليفهم أن هناك من كان يحاول التلاعب بعمل خالد وسرقته ..وأن سامح اكتشفهم وأوهمهم بأنه معهم ليكشفهم متلبسين ..لكنه فهم أيضا أنهم تسببوا بأذى وخسائر كبيرة لخالد ..وأن خالد لا يريد للأمر أن ينتشر وسيتم اتهامهم بالسرقة فقط دون ذكر أي تلاعبات أخرى بمشروعه ..بمساعدة اللواء منصور.. للحفاظ على سمعة المجموعة ..لقد شعر بالإحباط ..فمن الواضح من حالة خالد وكلامه عن الخسائر التي تسببوا بها أن الأمور ليست هينة .. أما من ناحية سامح ..فقد علم أنه سيظل ممنوعا من الحركة ومحتجزا لمدة لا تقل عن أسبوعين ..خاصة وانه تعرض أيضا لضربة برأسه.. ورغم أنها ليست قوية حسب ما فهم منهم ..لكن يبدو أنهم قلقين لأنه سبق أن تعرض قبلا للإصابة بنفس المكان ..لذا سيظل تحت الملاحظة بحجرة العناية الفائقة ما أن يخرج من العمليات ..و حتى عصر اليوم قبل أن يتم نقله لحجرة عادية بعد الاطمئنان على حالة رأسه...لقد عاد مع ماهي ليلة أمس متأخرين ..حيث كادت تتوسله البقاء هناك حتى تراه ..لكنه شعر بكون الموقف أصبح محرجا لهما ..خاصة مع اطمئنانهم عليه بعد خروجه لغرفة العناية ..ليصر على العودة ...ليجدا والدتهما بانتظارهما رغم تأخر الوقت... ..كانت جالسة بتحفز بصالون المنزل ..تضع ساقا على الأخرى وتحركها بتوتر وما أن دلفا من الباب حتى هتفت بهما بحدة تسألهما عن سبب تأخرهما ولما لم يكونا يجيبان على هواتفهما ..لقد شعر أن أمه تنوي تفجير الموقف وإبلاغ ماهي بموضوع عاصم ..وحاول المراوغة والتأجيل ..لكن يبدو أن عاصم مارس ضغوطه عليها ...خاصة بعد اعتذار ماهي عن مصاحبة أمها للحفل الذي أعده عاصم مفضلة الذهاب لحفل ميلاد زوجة خالها ... لقد كانت مهزلة فعلية وأمه تبلغها أن تفرغ نفسها باقي الأسبوع لتستعد لحفل خطبتها الخميس القادم ..أي بعد ثلاثة أيام من اليوم ...لقد كانت صدمته توازي صدمة ماهي التي لم تكن تفهم عن أي خطبة تتحدث أمها ..بينما لم يتخيل هو أن تبادر أمه لتحديد موعد الخطبة ووضع الجميع أمام الأمر الواقع ..لتشتعل الحرب بين ماهي وأمه التي أبلغتها بأن عاصم مهران تقدم لخطبتها ..وأنها وافقت عليه فلن تجد لها زوجا أفضل ..لتثور ماهي بجنون رافضة الأمر ..مخبرة إياها أنها ليست دمية تحركها كما تريد ..وأنها لن تتزوج عاصم هذا ولو كان آخر رجال الأرض .. متعجبة كيف توافق أمها على رجل مثله ..يكبرها عمرا وذي سمعة سيئة ..لتلتفت إليه طالبة منه التدخل ومؤازرتها ..لتقاطعها أمه مخبرة إياها بمعرفته بالأمر وموافقته عليه ...يا الله ..لن ينسى أبدا تلك النظرة بعينيها ..نفس نظرتها بالحلم ..نظرة لامعة بدموع الخذلان التي تخبره أنه كسرها ..قبل أن تمنحه ظهرها متوجهة للدرج لترتقيه ببطء وهي تقول ببرود لم يخفي بحة الألم
" أنا لن أتزوج من عاصم هذا ولو وافق عليه كل عائلتكم الموقرة من أصغرها لأكبرها ..بل لو وافق كل أهل الأرض ..فانا لن أوافق" ..ليمد يده مانعا أمه من اللحاق بها ... مخبرا إياها أن تتركها قليلا لتهدأ ...لقد خشي أن تخبرها أمه بالصفقة التي عقدها عاصم فتكسرها كسرا لن يُجبر وهي ترى نفسها مجرد متاع يقدم لسداد الديون ..أو تضغط عليها بتهديدات عاصم بسجنها بالإيصالات التي أخذها عليها وعقد الفيلا المزور ...ظل محدقا للسقف يفكر في حل لتلك المصيبة ..اللجوء لخالد لا يبدو حلا عمليا خاصة مع ما فهمه من المشاكل التي تواجه حاليا ...لكنه في الوقت نفسه قد يضطر للجوء إليه كحل أخير ...لكن الفكرة التي تراوده حاليا مرتبطة بسامح ..رغم أن الشاب بوضعه الحالي يصعب أن يقوم بتقدم يرجوه هو تجاه شقيقته ..وهو صعب أن يعرض أخته عليه ..فالشاب يجب أن يتحرك أولا حفظا لكرامة شقيقته ..المشكلة انه لا يملك رفاهية الوقت .. ..ليغمض عينيه بتعب وهو يزفر بعمق.. لينفض الغطاء من فوقه وينهض متجها للحمام أملا بأن يخفف الاستحمام من صداع رأسه ...فلديه مواجهة لن تكون هينة مع شقيقته...
كان يرتدي ساعة يده وهو يهبط الدرج متوجها لحجرة الطعام ليجد أمه ترتشف قهوتها بملامح مغلقة غاضبة ..ليحرك كرسيه جالسا طالبا قهوة من الخادمة التي اقتربت ما أن رأته لتضع أمامه الطعام ليزيح الطبق رافضا ..بينما يسأل أمه عن ماهي ..لتجيبه بحدة:
"شقيقتك الحمقاء لم تستمع لكلامي وخرجت مبكرا ..أخبرتني الخادمة أنها رفضت حتى أن تتناول طعامها مخبرة إياها أنها ذاهبة للعمل -لتضيف بسخرية – لا أدري أي عمل هذا الذي تفني نفسها به لأجل بضع قروش لا تسوى وهي ستتزوج رجلا من أغنى أغنياء البلاد"
ليرفع عينيه إليها وهي ترغي وتزبد ينظر لملامحها ببرود وهو يرتشف قهوته دون أن يشعر بطعمها ..ويتساءل بداخله ..ألا تهتم ولو قليلا بمشاعر أخته ..ألا يفرق هو أو شقيقته معها بشيء ..ليتنهد بعمق وهو يفكر لما لم تكن كزوجة خاله سٌمية ..حنونة محبة مساندة لولدها دوما كما كانت مساندة لزوجها بالماضي ..لتغيم عينيه بتساؤل لم يطرحه على نفسه سابقا ..ترى هل كان لوالده بعض العذر في تركها والهرب بعيدا عنها ..ليسخر من سؤاله وهي يجيب بداخله بالتأكيد له كل العذر بالهرب منها ..لكن ليس له أي عذر بالهرب منه ومن شقيقته ..ليقطب حاجبه مفكرا بأبيه ..رغم كرهه للأمر لكن ربما يجب أن يحاول أن يبحث عن مكانه.. على الأقل لحل مشكلة عقد الفيلا ..ليخرج من شروده على صراخ أمه الغاضب:
"مدحت لماذا لا تجيبني؟! "
لينظر لها ببرود بينما يرتشف آخر رشفه من قهوته التي بردت وهو يقول:
"ماذا هناك أمي ؟؟" لتهتف بنزق حاد
"ماذا هناك؟؟ كل هذا الذي كنت أقوله حول المصيبة التي وقعنا فيها ..وغضب عاصم وتصميمه على سرعة تنفيذ الاتفاق ..وأنت تسأل ماذا هناك ..ماذا بك أنت لماذا أنت فاشل هكذا ولا تساعدني بشيء؟! ...بل أشعر أنك تساعدها هي على الابتعاد عن عاصم بدل تقريبها إليه!!"
ليقاطعها بهدوء وهو يقف حاملا مفاتيح سيارته:
"اسمها المصيبة التي وقعتي أنت فيها ..أنت من أوقعت نفسك بها أمي ...لا نحن ..نحن فقط مطالبين بحل الموقف ..بأن تكون ماهي كبش فداء وأن أساعدك أنا بذبحها وتقديمها قربانا لهذا ألعاصم "..ليستبق انفجار غضبها الذي رآه بتوتر جسدها وفمها المتشنج ..وهو يضيف أثناء استدارته خارجا:
"لا تستعجلي أمي ...سأحاول حل الموقف ..وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ..أو على الأقل إنقاذ ما يستحق الإنقاذ" ليخرج تاركا إياها مقطبة حاجبيها بقلق وتفكير ..بداخلها شعور مبهم بأن مدحت يعني شيئا آخر غير ما ترتجيه هي.......
------------
أنهى توقيع الأوراق أمامه بينما يستمع لسكرتيرته تقى تتلو عليه برنامج العمل الذي اضطرت لتعديله ..نتيجة تأخره ساعتين صباحا لمروره على المشفى قبل حضوره ..لكنه عندما علم أن الزيارة لن تسمح لسامح قبل العصر ..قرر المجيء للعمل حتى موعدها ... تاركا همس ووالديها برفقة أكرم الذي جعلهم يبقون بالحجرة المقرر نقل سامح إليها فور السماح بخروجه من حجرة الرعاية ..لينتبه على تقى وهي تقول:
"مكتب السيد عاصم مهران اتصل أكثر من مرة طالبين تحديد موعد عاجل معك للقاء السيد عاصم ...فبماذا أرد عليهم؟! "
ليرجع بظهره للخلف مستندا على مقعده عاقدا حاجبيه بتفكير قلق ..فيما يمكن أن يريده منه عاصم مهران ..لقد علم من أمه أنه يظهر بكثرة مع عمته في الآونة الأخيرة سواء بالنادي أو الحفلات العامة ..وأحيانا ترافقه ماهي ..لقد كان ينوي سؤال ماهي عن هذا الأمر ..خاصة انه لا يريحه أو يعجبه ارتباط اسم عمته وابنتها بهذا ألعاصم ..لكن ما يحدث لديه مؤخرا شغله عن الأمر ..ليجيب على تقى المنتظرة رده :
"ابلغيهم بأنني سأنتظره اليوم في الواحدة ظهرا ..أي بعد ساعتين ونصف من الآن والغي الاجتماع المقرر لرؤساء الأقسام مؤقتا حتى تعود السيدة همس ونعيد تحديد موعد له"
لتجيب بمهنية:
"حسنا سأبلغهم لكني يجب أن أوضح أن الذي فهمته من مدير مكتبه أنهم يرغبون بذهابك أنت له "
ليضرب مكتبه بحدة وهو يجيب من بين أسنانه:
"هو من يريدني ..إذا ليأتي هو ..أنا لا اذهب لأحد ..ابلغيهم بذلك وإلا الغي الموعد"
لتومئ بموافقة بينما تقول بصوت هادئ:
"سأبلغهم ..هل هناك تعليمات أخرى "
ليناولها الملف الذي أنهى توقيعه بينما يخبرها بإرسال القهوة إليه ..وعدم إزعاجه قبل موعد المقابلة التالي "
لتخرج بهدوء تاركة إياه شاردا بقلق في سبب طلب عاصم لقائه ........
------------------------
ما أن خرج من حجرة الرعاية بعد اطمئنانه على حالة أخيه حتى لمحها ببداية الرواق تتقدم بخطوات مسرعة .. وتتلفت حولها بحثا عن شيء ما ليجد عينيه تمر رغما عنه عليها بتمهل ..لا يدري لم شعر بتلك المشاعر لدى رؤيتها ..منذ متى وهو يشعر باللهفة عليها ..بالرغبة في تأملها كأنثى ..بالضيق لحركتها المسرعة التي تؤدى لتحرك مفاتنها باهتزاز واضح ..خاصة مع بلوزتها الضيقة التي تبرز معالم أنوثتها بوضوح ...كيف لم ينتبه لامتلاكها تلك المعالم البارزة رغم نحولها الشديد ..ليجد نفسه يتلفت حوله ناظرا إن كان هناك من ينظر لها مثله .. كانت تعطيه جانبها بينما تسأل إحدى الممرضات المارات شيئا ..فيجد نفسه يطحن أسنانه مع ملاحظة قصر طول البلوزة التي ترتديها فلا تكاد تصل لمنتصف أردافها... مع ضيق بنطالها الجينز مما يبرز معالمها بوضوح يثير غضبه ..لترتفع عينيه لتقابل عينيها بعد أن أشارت لها الممرضة عليه لتقترب منه بلهفة وهي تسأله بقلق:
"أكرم كيف حال سامح ..ماذا حدث له ؟؟أنا لم أفهم شيئا من اتصالك المبهم السريع صباحا وأنت تخبرني بإلغاء حجوزات العيادة وتعليق اعتذار للمرضى ببابها لعدم قدرتك على الحضور اليوم نتيجة إصابة سامح واحتجازه لديك بالمشفى ..وصعدت لشقة والديك فلم أجد أحدا.. مما زاد قلقي فقررت الحضور للاطمئنان"
يا الهي ..ما هذا الشعور الذي يثور بداخله ..لماذا أحس بالضيق والاختناق وهي تخبره بقلقها على شقيقه ..لماذا يقف صامتا كأبله لا يرغب حتى أن يفتح فمه خوفا مما قد يفلته لسانه ليبتلع ريقه بصعوبة وهو يرى نظراتها المتعجبة له وهى تسأله بتوجس:
"أكرم ماذا هناك ..لماذا أنت صامت هكذا ..هل الأمر خطير؟! ..هل سامح.."
ليقاطعها بحدة لم يعد يتحكم بها:
" سامح بخير ...لماذا أنت قلقة هكذا .. أم لم تعودي تستطيعي إخفاء لهفتك عليه رغم أني أخبرتك بالهاتف أنها إصابة بسيطة ..ولا داعي لتحضري أو تخبري أحد ..فلماذا لم تلتزمي بما قلته لك "
لينتبه لإجفالها من حدته وتراجعها خطوة للخلف بملامح مرتبكة وهي تقول بحرج ممزوج بالكبرياء رغم لمعة الدموع التي رآها بعينيها وهي ترفع رأسها ناظرة إليه:
"آسفة إن تخطيت حدودي ولم التزم بكلامك دكتور ..أنا لم اخبر أحد بشيء .. فقط أردت الاطمئنان على حال جار اعتبرته دوما بمثابة أخ لي ..لكن يبدو أني تجاوزت حدودي ..اعتذر منك"
لتستدير راغبة بالمغادرة ..ليجد يده تمتد بسرعة لتمسك مرفقها موقفا إياها... لتسحب يدها بحدة وهي تستدير ناظرة له بعيون غاضبة مرتبكة... ليبادرها بصوت نادم :
"بل أنا من أعتذر هند ..أنا آسف... لم يكن يحق لي مهاجمتك بهذا الشكل ..أرجوك سامحيني .. أنا مرهق بشدة فلم أنم منذ الأمس.. اعرف انه ليس عذرا يبيح لي مهاجمتك هكذا لكني أرجو عفوك" .. ليضيف بعد لحظة توقف لم تنبس هي فيها ببنت شفة:
"كما أني قلق عليك بسبب تغيبك عن محاضراتك بهذا الوقت مع اقتراب الاختبارات " ليضيف بصوت خرج رغما عنه ممزوجا بنبرة توسل:
" تعالي معي لحجرة مكتبي لنتحدث قليلا بهدوء "
ظلت للحظات تنظر له بتردد .. شعر به واضحا من تشنج جسدها وتهدج أنفاسها .. قبل أن يشعر بارتخاء كتفيها وإيماءة رأسها موافقة لتتبعه لحجرة مكتبه ليوارب الباب خلفهم ويجلسها على أحد المقعدين أمام مكتبه ويجلس هو على الآخر متجاهلا مقعده خلف المكتب ..ليميل بجسده قليلا ساندا كوعيه على فخذيه وعاقدا يديه معا ليقول لها بهدوء بعد أن تماسك قليلا محكما عقله الذي شعر أنه كان غائبا للحظات أثناء انفعاله الغير مبرر معها بالخارج:
"أعتذر ثانية هند ..أرجو أن تقدري حالتي ..سامح أصيب بطلق ناري وتسببت الرصاصة بتهتك في عضلات الفخذ ولحسن الحظ لم تصب الأوعية الدموية سيحتاج لراحة تامة لمدة أسبوعين ..لكنه أيضا تلقى ضربة على رأسه ..ومع إصابته السابقة بها ..وحدوث تشوش بالرؤية لديه كان لابد من وضعه تحت الملاحظة لفترة للتأكد من عدم حدوث أي مضاعفات أو تجمعات دموية ..حتى الآن المؤشرات مطمئنة ..ليضيف بمزاح حاول به تخفيف الجو المضطرب بينهما ....رأسه أصلب من الأعمدة الخرسانية التي يعمل بها... لم يصب سوى بكدمة وارتجاج طفيف ..لقد كان محظوظا "
كان حاجبيها معقودين بحيرة وهي تسأله:
"الحمد لله ..لكن كيف أصيب ..من أطلق عليه الرصاص ولماذا؟"
ليشيح بكفة وهو يقول بادعاء محاولا إخفاء الحقيقة:
"مجرد سوء حظ ..تواجد في المكان الخطأ بالوقت الخطأ وسط تبادل لإطلاق النار بين بعض اللصوص والشرطة ..مجرد حادثة غير مقصودة.. الحمد لله أن الأمر كان بسيطا"
لتهز رأسها بينما تقف متأهبة للرحيل لترفع يدها لأعلى لتعليق حقيبتها ذات اليد الطويلة بوضع مائل على جذعها مما جعل بلوزتها تزداد التصاقا بصدرها و لفت عينيه رغما عنه ...ليقف مشيحا بوجهه بينما يستغفر بداخله وهو يضغط على نواجذه ..ليلتفت بعد لحظة إليها ناويا لفت نظرها لضيق ما ترتديه وإن كان لا يعرف كيف سيبدأ حديثه معها عن هذا الأمر ..لكنه لا يستطيع الصمت ... ليقاطع محاولاته قبل بدئها فتح الباب و دخول سارة التي بادرته بالتحية وهي تقترب منه لتضمه بسرعة قبل أن تبتعد ناظرة لعينيه وهي تقول بمواساة:
"ألف سلامة على سامح يا أكرم ..لقد عدت وأبي للمشفى من المطار مباشرة عندما هاتف أبي وهو بالطريق أحد الأطباء ليسأله عن شيء ما يخص إحدى الحالات وأخبره بأمر إصابة شقيقك...لماذا لم تهاتفني وتخبرني فور حدوث الأمر؟!"
لتنتبه لحظتها لمن تقف خلفها فتستدير لتحييها برقة وهي تقول باعتذار:
"عفوا هند لم انتبه لك من شدة قلقي ..كيف حالك لابد انك أيضا قلقة على سامح ..لقد كنت مع أبي منذ قليل عند حجرة الرعاية واخبرنا الجراح المتابع له أنه بخير وسينقل لحجرة عادية بعد قليل " لترد عليها هند التحية بخفوت وهي تخبرها أن الدكتور أكرم طمئنها على سامح بالفعل " ليلاحظ أكرم وجه هند الممتقع ..وملامحها المنقبضة وهي تشيح بوجهها بعيدا عنهما قبل أن تعود سارة للحديث وهي تخبره أنها مرت مع أبيها للحجرة المحجوزة لسامح وسلمت على والديه وعلى همس وطمئنهم أبيها على سامح وقد تركته معهم وجاءت للبحث عنه" لتقاطعها هند بصوت استشعر حزنه واختناق حروفه خاصة مع إشاحتها لوجهها المنقبض بعيدا عنه دون أن يفهم إن كان السبب متعلق بقلقها على سامح أم ما زالت غاضبة من طريقته السابقة معها ...أم أن هناك شيئا آخر لا يفهمه .. تهرب بعينيها بعيدا بينما تقول :
"سأذهب للحجرة المحجوزة لسامح لأسلم على همس ووالديك قبل ذهابي للكلية لاستكمال محاضراتي ..ولا تقلق دكتور بمجرد عودتي سأمر على العيادة واضع ورقة تنبيه على الباب باعتذارك عن الذهاب اليوم وكذلك سأهاتف من لديه حجز مسبق لتأجيل الموعد ..لتضيف موجهة الحديث لسارة ..
"عفوا سارة سعدت برؤيتك.. لكني مضطرة للذهاب فلدي محاضرة متأخرة يجب اللحاق بها ..هلا أبلغتني برقم حجرة سامح لأمر عليها بطريقي للخروج؟!"
لم يهتم أكرم بالحوار الدائر بينهما قدر اهتمامه بمشاعره المضطربة وهو يناظر كلتاهما معا ..ليجد نفسه يتساءل ..لما لم يشعر بشيء عندما ضمته سارة رغم كونها زوجته شرعا ..بينما مجرد لمسة يد عارضة لهند أربكت دواخله ..لما لم يهتم بالتمعن فيما ترتديه خطيبته ولم ينتبه له من الأساس.. بينما عينيه تفصل ملابس هند البسيطة بتفحص وانتقاد .. ليشعر بتزايد شعوره بالاضطراب ..ويحاول التهرب من إيجاد الرد على تلك الأسئلة المثارة بداخله بالالتفات لخطيبته التي تنظر له بدهشة من شروده بعد مغادرة هند.. ويحاول إبداء الاهتمام بها وإخفاء اضطرابه وهو يسألها عن حالها ورحلتها ..دون أن يشعر باهتمام فعلي بإجابتها وهي تسترسل بوصف تفاصيل تلك الرحلة...
-------------
أخذ يبادل الجالس أمامه النظر بينما يقول ببرود ظاهري محاولا التحكم قدر استطاعته بصوته وملامحه حتى لا يكشف الغضب المتصاعد بداخله:
"هل يمكنني أن أعرف كيف علمت سيد عاصم بالمشاكل والتلاعب الذي تعرض لهم مشروعي "
ليجيبه الآخر ببرود مماثل ونبرة هازئة لا تخلو من تكبر:
"خالد بك .. لا اصدق أن رجلا بذكائك يسأل سؤالا كهذا !!..أظنك تعي جيدا من أكون ..وكيف بإمكاني أن أعرف ما أريد وقتما أريد"
لينظر له خالد للحظات بتفرس هادئ قبل أن يسأله:
"ولماذا تريد أن تعرف ؟!..لا أظن الأخبار ..خاصة السرية تصلك وحدها دون أن تكون قد أبديت رغبة أو أمر بالمعرفة سيد عاصم "
ليرد عاصم بهدوء ونبرة خبيثة بينما تتلاعب أصابعه بحليه فضية تمثل أسدا رابضا فاتحاه فاه معلقة بعلاقة مفاتيحه:
"بالطبع لابد أن اهتم ..خاصة عندما يكون الأمر متعلق بمن سيكون صهرا لي عن قريب "
ليعقد خالد حاجبيه بحيرة وهو يسأله بتوتر :
"صهر؟!!! ومن العروس التي سترتبط بها من عائلتي وتجعلنا أصهار سيد عاصم؟!! "
ليرفع عاصم عينيه إليه ليقول بنبرة تحمل مزيجا من السخرية والمكر:
" غريب ... ظننت أن عمتك السيدة رقية قد أبلغتك ...خاصة وحفل الخطبة يوم الخميس القادم ..سوف اخطب ابنة عمتك ..الآنسة ماهينار عز الدين ..كيف لم تعرف بالأمر حتى الآن ..ظننتك مقرب من أسرة عمتك ..خاصة مع عمل خطيبتي العتيدة لديك ....مؤقتا طبعا ..فلن أترك خطيبتي تعمل حتى ولو كان لدى ابن خالها الذي بمثابة شقيقها الأكبر "
كان خالد يعاني بقوة لمحاولة إخفاء انفعالاته التي أوشكت على الخروج عن حدود سيطرته ..ليتمكن بصعوبة من السيطرة على ملامح وجهه فيما عدا عينيه المشتعلتين غضبا وظل محتفظا ببرود نبرة صوته بينما يرد على هذا المتبجح المغرور قائلا:
"للأسف يبدو أني لست مقربا بما يكفي لأعرف بأمر الخطبة مسبقا سيد عاصم ...لكن هذا لا يفسر لي رغبتك بمعرفة دقائق وأسرار عملي؟! "
ليرجع عاصم للخلف مريحا ظهره على مقعده
بينما يحرك يديه الممسكة بالأسد لتنقر على سطح مكتب خالد بهدوء نقرات متتالية بينما يقول بمراوغة:
"أريد أن أساعدك وأخرجك من مأزقك دون أي عوائق ..ودون أن يمس أسمك وسمعتك شيء "
ليعوج فم خالد ببسمة ساخرة بينما يسأل الجالس أمامه بتوقع:
"وطبعا هذا سيكون من خلال عرضك الشراكة معي بالمشروع ..أليس كذلك"
لتبرق عيني الجالس أمامه بإعجاب ممزوج بحقد لا يستطيع أن يخفيه بينما يقول بتواضع زائف:
"يعجبني ذكائك خالد بك ..ويشرفني أن نتعاون معا ..ليكون بيننا روابط مهنية وعملية ..بالإضافة لصلة القرابة المستقبلية"
ليطرق خالد صامتا للحظات بينما يعتدل للأمام عاقد كفيه أمامه على المكتب قبل أن يقول بصوت بات:
" أشكرك على عرض المعاونة سيد عاصم ..لكني أسف لا يمكنني قبوله ..فلابد أنك تعلم أنني لا أقبل الشراكة في عملي ..وأفضل العمل منفردا "
ليقطب عاصم قليلا قبل أن يعتدل هو الآخر ليميل للأمام مقربا وجهه من خالد بينما يسأله باستهانة:
"وكيف ستستطيع استكمال المشروع والالتزام بمواعيد التسليم ..وخاصة أنك كما اعرف رجل شريف ولابد ستضطر للتضحية بكل ما تم بنائه والعودة للصفر لإعادة البناء على أساس صحيح ..مع ما يعنيه ذلك من خسارة فادحة وتعطيل كبير للوقت ..سيحتاج لمضاعفة المجهود والعمال لتحاول تعويض الوقت الضائع ..وأشك أن تقدر فالأمر يصل لحدود المستحيل ..هذا بافتراض توفر السيولة لديك ..وهو ما أظنك تفتقده حاليا مع المشروعات التي وقعت عقودها مع كلا من التوكيل الألماني والشركة الإيطالية بالإضافة للمشاريع الأخرى التي لديك ..ولو طلبت قروضا بنكية وهو الأمر الذي أعرف أنك ترفضه تماما ..فلابد من تقديم ضمانات ترفضها أنت ...كما أن الأمر سينكشف ...ويعلم الجميع أنك تواجه مشكلات مادية ..وهو ما أظنك تتجنبه بقوة.. " ليصمت للحظات قبل أن يضيف بمهادنة ماكرة "لكنك إن قبلت شراكتي ستتجنب كل ذلك ..سأوفر لك السيولة اللازمة ..كما لن يستطيع احد أن يحاول مطالبتك بأي شروط جزائية نتيجة التأخير فسأتصرف مع الجميع وافتح مواعيد التسليم ..كما سيظل موقفك المالي وسمعة مجموعتك محفوظة دون أي مساس وخاصة أن الكل سيعزو شراكتنا لعلاقة النسب الجديدة بيننا ..ما رأيك؟!! "
ليرد عليه خالد ببرود جليدي يخفي اشتعال نيران غضبه لأقصى مداها:
"أشكرك على محاولتك مساعدتي سيد عاصم ..لكن قراري لم ولن يتغير ..لن اقبل بالشركاء ..ولن الجأ للقروض البنكية ..أم عن مشاكل السيولة المالية وخوفك على سمعة مجموعتي ..فلا تقلق ..سأجد حلا لها "
ليقف عاصم بجمود مواجها خالد ليقول بنبرة تحمل مزيجا من الحدة والوعيد:
"لا تعاند سيد خالد ..وأقبل شراكتي ويدي الممدودة إليك ..الآن أنا عندك ..وهو أمر نادرا ما أقوم به.. وسأقبل التفاوض معك على النسب والشروط ...أما لو خرجت من هنا ..فستخسر هذه الميزة لاحقا ..وأنا واثق أنك ستلجأ لي بالنهاية ..فمثلك لن يقبل أن تنهار مجموعته ويشرد المئات من الموظفين العاملين لديه وأسرهم لمجرد العناد ..كما لن أسمح بأن يكون لك شريك آخر غيري "
لينتفض خالد واقفا ليقول بحدة وكبرياء عنيف:
"لم يخلق بعد من يسمح أو لا يسمح بأمر يخصني سيد عاصم فاحذر كلامك.. ..وأطمئن لا أنت ولا غيرك ..أخبرتك أنا كفيل بمشاكلي ..شرفتني بحضورك سيد عاصم "
ليقبض عاصم على الأسد بيده بحدة بينما يقول بصوت كالفحيح:
"تذكر أني جئتك مادا يدي وأنت رفضتها ..فلا تلمن إلا نفسك بعدها.. أنت لا تعرف من الذي ترفض مساعدته وشراكته لكني واثق أنك ستأتي إلي بنفسك قريبا ..بل وقريبا جدا سيد خالد"
ليستدير متجها إلى الباب قبل أن يقف ملتفتا لخالد ليقول بخبث "أراك بحفل الخطبة يا نسيب ....أم أنها صهر ..عفوا فلست بارعا بمعرفة الفوارق اللغوية.. لكن المهم أننا سنصير أقرباء قريبا ..وشركاء أيضا.. هذا وعد مني"
ليفتح الباب مغادرا.. تاركا خالد يشتعل غضبا وغيظا ..ويسب بداخله عمته وماهي والعائلة بأكملها.... ليرفع هاتفه متصلا بتقى طالبا منها أن ترسل إليه الآنسة ماهينار فورا ..ليأتيه الرد بعد لحظات بأن الآنسة ماهينار قد غادرت منذ عدة دقائق ..ليصرخ هاتفا بغضب :
"ماذا تعني غادرت ..هل هي وكالة بلا بواب ..أبلغي رئيسها أن يتخذ ضدها الأجراء القانوني ..لن اقبل التهاون بالعمل من أيا كان"
ليغلق الهاتف الداخلي بعنف .. ويمسك بالهاتف الجوال محاولا الاتصال بها ليزداد حنقا وغضبا مع الرسالة المقيتة التي تبلغه بأن الجوال قد يكون مغلقا أو خارج النطاق.. ليتصل بمدحت الذي رد عليه بعد عدة رنات ليصرخ به سائلا عن مكانه بينما يتحرك خارجا وهو يحدثه ..فيأتيه صوت الآخر مخبرا إياه أنه بسيارته أمام المشفى الذي به سامح.. ليقف خالد للحظات متفاجئا من مكان وجوده قبل أن يقول له بحدة:
"جيد ابق مكانك أنا بطريقي إليك" ...ليغلق الهاتف دون أن يترك للآخر المجال للرد أو السؤال...........
-----------------------
لا يدري السبب الذي جاء به ليقف بسيارته أمام الجهة المقابلة لباب المشفى الذي به سامح ..لقد دار بسيارته لساعات عدة ..قبل أن يجد نفسه هنا ..ليركن سيارته ويظل قابعا بها لبعض الوقت دون أن يتحرك بينما عيناه شاخصتان لبابها ..كما لو كان منتظرا أن يخرج له الحل من خلف الأبواب ..ظل شاردا للحظات حتى لفت نظره السيارة الليموزين التي تحمل شارة المطار والتي توقفت أمام باب المشفى ليخرج منها رجل كهل تلحقه فتاة جعلته يعتدل بكرسيه ليحدق فيها بحدة وقلب بدأ بالطرق هادرا ما أن تعرف عليها رغم المسافة الفاصلة بينهما ..سارة الذهبية ..عشقه الأوحد ..أكثر من أحب ومن جرح ..لتتابعها عيناه بشوق بينما يرى عامل الأمن بالمشفى يخرج الحقائب من السيارة ..ويبدو أنه يتلقى تعليمات ما من الرجل الكهل ..بينما تبتسم سارة برقة بجواره وهي تخبره شيئا ما ..قبل أن تختفي عن ناظريه مع من معها خلف الأبواب المظللة أمامه.. ليعيد رأسه للخلف مستندا على مسند مقعده بينما يتمتم اسمها بندم وشوق .. ليغمض عينيه مزيلا القناع عن ذكرياته التي حاول الهرب منها وتغليفها بأقنعة النسيان ودفن ذكرياته خلف ظلال من ستائر خادعة جعلته يظن أنه أخفاها ..غطاها بداخله وهرب منها ..لكن نظرة واحدة ..بل حتى قبل النظرة مجرد ذكر عابر لاسمها كان أشبه بهبوب رياح عنيفة أطارت تلك الستائر ..بل اقتلعتها لتترك كل ماضيه مكشوفا ..ماضي هرب منه بإغراق نفسه وسط حياة لاهية ..وأحضان الكثيرات أملا بالنسيان ..رغبة بخلق ذكريات جديدة تمحو ماضيه ..لكنه فشل رغم رفضه الاعتراف لنفسه بكونها مدفونة بأعماقه ..مخفية بباطن روحه ..وكل ما كان يضعه فوق ذكراها مجرد غبار عفن ..فكيف يخفي الغبار بريق الذهب؟؟!!
ليهتف لسانه بحروف اسمها باحتراق:
" سااااااره آآآه يا ذهبيتي " لتغافله دمعة هربت من مآقيه مع ذكرى المرة الأولى التي رآها فيها.....كان جالسا بكافتيريا الجامعة التي لم يكن يذهب إليها إلا لماما وفقط ليقضي وقته بها بتبادل المزاح أو المغازلة مع الفتيات ..لم يكن مهتما بالدراسة ..وكان يأخذ العام باثنين ..لذا كان ما زال بالفرقة الثالثة رغم قضاءه خمس أعوام بالكلية ..كان برفقة مجموعة من أصدقائه يتبادلون المزاح ..عندما رفع رأسه فجأة لتقع عينيه على كتلة مشعة من الذهب ..من رأسها لأخمص قدميها ..كانت تقف على بعد خطوات منه ..تبحث بعينيها عن أحد ما ..بينما الشمس التي كانت تخترقها من الخلف منحت شعرها هالة لامعة من بريق ذهبي ..لينعكس ضيائها على عيناها الذهبية مانحا لها شعاعا اخترق قلبه ...وليكتمل شعوره بكونها بالفعل سبيكة من الذهب الصافي ارتدائها بلوزة بلون عسلي فاتح على بنطال بلون بني وحذاء وحقيبة بلون العسل ...كانت مزيجا من الذهب الأصفر بدرجاته ..ليجد عينيه عالقة بها ..حتى التقت عيناهما ...كانت لحظة تواصل شعر أنها سمرت كلاهما ..قبل أن تشيح بعينيها بخجل وحرج ..ليسمع صوتا يناديها ..بينما تشير لها إحدى الفتيات لمنضدة بجوارهم فتتجه إليها مسرعة ..ليجد نفسه يشد صديقه هيثم المجاور له وهو يشير لها بعينيه وهي تمر بجواره خافضة رأسها .. يسأله إن كان يعرف من تكون تلك الذهبية ..فهيثم يعد قاموسا ودائرة بيانات لكل فتيات جامعتهم ..ليرفع هيثم رأسه ناظرا لمن تكون تلك التي لفتت نظره قبل أن يجيبه بمزاح :
"آه هل لفتت نظرك الشقراء الإنجليزية" ليقطب حاجبيه سائلا:
"أهي إنجليزية"
لينبري هيثم بالشرح:
"نصف إنجليزية ..أبوها جراح مصري معروف وصاحب مستشفى *** التخصصي ..ووالدتها إنجليزية ..يبدو أنهما منفصلين منذ زمن طويل ..ولدت بإنجلترا وتحمل الجنسية الإنجليزية ...لكنها تعيش هنا مع أبيها منذ طفولتها ..وأيضا هي معنا بنفس القسم ..لكنها بالفرقة الأولى....لكن لا تتعب نفسك ..ليست من نوعك اللاهي ... فرغم نصفها الغربي ..إلا أنها شديدة التحفظ ...لا تصاحب الشباب إطلاقا ..لا تستجيب للمغازلات ..أو محاولات التعرف أو المصادقة ..إنها فتاة معقدة ..ليست من النوع المنفتح الذي تفضله أنت"
ليقطب حاجبيه وهو يسأله:
"وكيف عرفت أنت قصة حياتها إن كانت بمثل هذا التحفظ ؟!"
ليضحك هيثم بينما يمازحه بتعديل وهمي لياقة قميصه وهو يقول ..أنا لا يخفى على شيء يا رفيق ..أنا موسوعة " ليقاطعه هاتفا باسمه بحدة خشنة وهو يحذره بعينيه من التمادي بمزاحه اللاهي ليرفع الآخر كفه بطلب سلام وهو يقول ضاحكا :
"حسنا حسنا ما بك أصبحت نزقا هكذا ... ليقول وهو يشير برأسه بخفة ناحية منضدتها التي يشاركها بها ثلاث فتيات أخريات:
"الجالسة بجوارها ناحية اليمين بشعر بني وبلوزة بيضاء هي شرويت .. ابنة خالتي ..كانت رفيقتها بالمدرسة منذ صغرهما ..إنهما صديقتان منذ الطفولة ..وقد علمت منها كل ما يخصها – ليستطرد بهزء-..ولا أدري كيف استطاعت سارة الصامتة المنطوية تلك احتمال مصادقة ابنة خالتي الثرثارة المزعجة "
ليجيبه مدحت بسخرية مازحة دون أن تفارق نظراته سارة التي أسرت عينيه
"كما أحتملك أنا يا ظريف" ليقاطعهم صوت مغناج يعود لواحدة من الجالسات معهم صوت ضايقه رغم أنها كانت صديقته الحميمية في فترة ماضية ليتجاهل محاولاتها إعادة لفت نظره لها بهذر سخيف...ليعض على نواجذه غيظا لأنها قطعت عنه فرصة المزيد من الاستقصاء حول الفاتنة الذهبية ...
فتح عينيه وأدار رأسه ناحية أبواب المشفى محاولا الهرب من ذكرياته التي تهاجمه دون قدرة له على إيقاف تدفقها ..كما لو كان السد الذي كان يحتجزها خلفه قد انهار.. ليلفت نظره قامة يعرفها جيدا تترجل من سيارة أجرة أمام باب المشفى ,,ليقطب بحيرة وهو يتعرف على شقيقته ماهي ..لم يكن حائرا لقدومها فهو كان متوقعا له ..لكنه حائر لاستخدامها سيارة أجرة رغم خروجها بسيارتها صباحا وأيضا لأن وقت عملها لم ينتهي بعد ..لكنه لم يحاول منعها أو التحرك من مكانه وهو يراها تدلف للداخل ...ليعيد رأسه للخلف تاركا نفسه ينجرف ثانية لنهر ذكرياته..
عام كامل منذ رآها أول مرة كان أكثر عام بحياته التزم فيه بالمداومة على الجامعة ..حاول خلاله الاقتراب منها ببطء وساعده بذلك تعرفها بشقيقته ماهي التي كانت صديقة لإحدى زميلاتها رغم اختلاف تخصصاتهم وانضمت لمجموعة سارة.. لكنها رغم نظراتها إليه التي تشي بتأثرها به ..وارتباكها بحضوره ظلت على تحفظها الهادئ معه ..لم تكن تبادله أكثر من التحية العابرة ..وتتهرب بعدها من المكان المتواجد به .. لقد كان يربكها ويستمع برؤية هذا الإرباك في احتقان وجهها واهتزاز حدقتيها المتهربة دائما من ملاقاة عينيه بينما يحيها بكنيتها التي أطلقها عليها "مرحبا بسارة الذهبية " كنية أغضبتها لتطلب منه مرارا الكف عنها خاصة وقد التصقت بها بين الجميع ..دون أن يستجيب ..لتكف بعدها متقبلة إياها بنوع من الاعتياد أو القبول الهادئ
عام كامل ..حاوطها هو بجدار من الحماية الغير مرئي منع فيه أيا كان من الاقتراب منها.. جاعلا أمر كونها بحمايته مثلها مثل شقيقته معلوما للجميع سواها هي ...عام ابتعد فيه عن لهوه وعبثه وقطع علاقاته السابقة بكل الفتيات دون أن يدري السبب ..فهو لم يحاول استبدالها بهم ..كان يحميها حتى من نفسه ..كان يشعر نحوها بمشاعر لم يجربها قبلا .. عام نجح به بدراسته واشترك للمرة الأولى بالأنشطة الصيفية بالجامعة خاصة تلك التي علم إنها مشتركة بها حتى لا ينقطع التواصل معها ويفتقد رؤيتها بفترة الإجازة ..ليبدأ عامه الأخير وتبدأ هي عامها الثاني ..وتزداد مشاعرهم الصامتة لبعضهما صخبا.. مشاعر تفضحها عيونها ونظراتها إليه ويحجمها خجلها .. حتى كان هذا اليوم الذي خُطبت به واحدة من فتيات مجموعتها لأحد المعيدين بالكلية بعد قصة حب كانت مثار حديث الجامعة لعامين كاملين ..ليقابلها ليلا بحفل الخطبة الذي لم يكن مدعوا إليه لكنه رافق شقيقته بحجة عدم تركها تعود ليلا وحدها... خاصة والحفل بأحد الفنادق الحديثة بأطراف العاصمة ...ليفاجئه طلتها المبهرة بثوب ذهبي ملتصق بجزعها العلوي محتشم بقصته الخادعة فرغم أكمامه الطويلة وعنقه المغلق إلا انه يفصل نصفها العلوي بإغراء.. كما يلتصق بجسدها مبرزا أنوثتها بتنوره مستقيمة تنسدل بضيق حتى قبيل ركبتيها لتبدأ بالاتساع حتى كاحلها بذيل طويل نسبيا من الخلف ..وزينة وجه ذهبية رقيقة جعلتها نصب اهتمام ومصب عيون معظم الحاضرين... ليجد نفسه يتجاهل شقيقته مهملا إياها بينما يتابع تلك الذهبية بغيرة مشتعلة ...يسير خلفها كما لو كان حارسا خاصا ...حتى رأى واحدا من الشباب يقترب منها بمحاولة سمجة للتعرف باستخدام كلمات مغازلة يظنها الأحمق مرحة ..ورغم أنها لم تستجب لمحاولات الآخر إلا أنه لم يستطع منع نفسه من التقدم ليقف بجوارها زاجرا الآخر بعينيه وهو يطالبه بالابتعاد قبل أن يسحبها بخشونة لشرفة جانبية مطلة على حديقة خلفية ..ليصرخ بها مطالبا إياها بالجلوس ثابتة بمكان واحد والتزام منضدة شقيقته بجواره ...لتنظر له بعيون تجمع بين التحدي والحبور وهي تسأله عن سبب تدخله بما يخصها ..سؤال ألجمه رغم معرفته لإجابته ..ليتردد بإجابتها بينما يتهرب من عينيها المطالبة له ببوح يفوق قدرته ..بوح سيمنحها عليه حقا ومطالبات لن يستطيع تحقيقها لها ..ليضربه وقتها الوعي بالواقع ..ما هي نهاية علاقته بها ..هو لن يتزوج بها أو بغيرها يوما ..الزواج والأسرة خارج حدود حياته ..قيد يرفضه .. بل إنه كان دوما يصرح بكونه ضد أي ارتباط جدي بأي صورة حتى لو كان عقد زواج عرفي يلجأ له الكثير من أصدقائه لنيل أغراضهم من الفتيات بادعاءات كاذبة ..سعيد كان هو بحياة اللهو والعبث دون روابط ..لكنه أبدا لم يتلاعب بفتاة خادعا إياها بوعود كاذبة عن مستقبل يجمع بينهما برباط جدي ..كان واضحا دوما مع الجميع ..هو يلهو وفقط ..من ترغب بمشاركته لهوه فمرحبا ..ومن تريد الورود والوعود والخاتم فلتبحث عن غيره ..هو ليس متوفرا لهذا النوع من العلاقات ..فكيف أنساق طوال الأشهر الطويلة السابقة لهذا النوع من الروابط ..حتى لو لم يصرح بها ..فمشاعره الواضحة ناحيتها قيد يلزمه بها ...ليقف بتلك اللحظة بمواجهة عينيها الذهبية الناظرة له بأمل ترجوه أن يمنحها وعدا ..أن يبوح بكلمة تمنحه عليها حقا.. وتمنحها سببا يبيح لها تجاوز حدودها لتمنحه بوحا بعشق تخفيه وتفضحه عيناها.. ليجد نفسه أمام مواجهة حاسمة مع نفسه ..هل سيقبل بما تطالبه به بلا كلمات ..فالبوح لسارة بالحب لا يعني إلا طريقا واحدا ..الزواج!! ..فمثلها ليست فتاة لهو ..أو لقاءات سرية بحجرات مظلمة ..هي أرقى وأنقى من ذلك ..فهل سيمنحها بوحا يلحقه ارتباط بزواج ينتج أطفالا يعانون يوما عندما يندثر هذا الحب ..عندما تتحول المشاعر لقيد يخنقه فيجد نفسه يهرب تاركا خلفه امرأة حاقدة وأبناء تائهون ..ليطول صمته بينما تخبو اللمعة السعيدة بعينيها لتتحول لمزيج من الم وحيرة ...قلق وخوف ..لترتعش شفتيها وتهتز الحروف الخارجة منها وهي تعيد سؤاله:
"أجبني مدحت ..لماذا تتدخل بما يخصني ؟... لماذا تتابعني...لما تهتم...لما يجب أن استمع لما تقوله لي ..وأنفذه؟!"
ليتهرب من عينيها وهو يقول:
"أنت ..أنت صديقة لشقيقتي ..و ..و..أنا أعتبرك بمثابة شقيقة لي ..و"
لتقاطعه بصوت متألم ساخر:
"شقيقة؟!!..أنا لا أشقاء لي ..أنا فتاة وحيدة ..وعلاقتي بشقيقتك مجرد زمالة ..لسنا مقربتين لتلك الدرجة ..حتى لو كنا ..فلا أظنك تنصب نفسك حاميا لكل صديقاتها ..لتمنعهن الكلام مع احد.. وتمنع أيا كان من الاقتراب منهن ..معظم صديقات أختك بالداخل ..يتبادلن المزاح والرقص ولم أرك تهتم بما تفعله إحداهن ...لذا أرجو أن تحترم عقلي قليلا وتخبرني بسبب مقنع لأفعالك ..وإن لم يكن لديك سبب ..وكنت فقط تتسلى بدور الحارس الخاص وحامي الحمى ..فأبتعد عني ..ولا تقترب مني ثانية"
قالتها بنوع من التحدي وبصوت مليء بالكبرياء ..لكنه رآها بعينيها ..تلك النظرة اللامعة بدموع رافضة الهطول ..والتي ترجوه أن لا يكسر قلبها ..أن ينفي ما تقوله ..أن يثبت حقيقة مشاعرهما التي تبادلاها بصمت لعام كامل بكلمات صريحة ..لكن عقله المكبل بندوب ماضيه قيد لسانه ..ورفض منحها ما تريد ..ليكتفي بصمت شعر أنه كان أوجع لها من كل الكلمات ..لتتركه مهرولة للداخل ليبقى مكانه للحظات قبل أن يخرج باحثا عنها فلا يجدها بأي مكان بالقاعة ..ليبحث بجنون حتى يراها واقفة بباب الفندق الخارجي لتتوقف بعد لحظات سيارة أمامها ليخرج منها سائق يفتح لها بابها الخلفي ..لتظل عيناه تتابعها حتى اختفت من أمامه.. ليغادر هو الآخر مسرعا متتبعا السيارة من بعيد حتى رآها تهبط منها أمام إحدى الفيلات ..لتدخل أمامه بأكتاف متهدلة وحركات بطيئة تشي بمدى ألمها ..ليقول في نفسه سامحيني سارة ..سأقتل حبي بقلبك حتى لا يبقى منه لديك ذكرى ..ليعود بعدها لسيرته الأولى بالجامعة يلهو مع الفتيات .. يغازلهن بوقاحة علنية ..يرى عينيها تتلون بالألم وهو يواعدهن على مرأى منها.. يدعو شلته القديمة التي كان ابتعد عنها لفترة لحفلات ماجنة بالملاهي الليلة وهو يعلم أن الأخبار ستصل إليها ..يراها تذبل يوما بعد يوم ..تزداد حزنا وانطواء ..تتهرب بعينيها من لقاء نظراته ..لكنه يستمر حتى وصل لما يريد ..عندما استطاعت بيوم أن ترفع عينيها نحوه بكبرياء ..ليرى عينيها فارغة من نظرة العشق ..وعندما ردت سلامه بلا مبالاة ..سلامه الذي كان يتعمد إلقائه عليها كلما رآها ليسمعها قبلا ترده بصوت خافت وعيون منكسه ..لكنها يومها ردته بصوت ثابت النبرات وعيون جامدة خالية من أي شعور ..وقتها علم انه قتل حبه بداخلها كما أراد ..ليقتل معه مشاعره ويخنق نبضاته ..ورغم كل لهوه خلال هذا العام إلا انه أصر على النجاح لينهي علاقته بالجامعة ..ويبتعد تماما عن مجالها ..وهذا ما فعله ... أكثر من ثلاث سنوات مرت على آخر مرة رآها بآخر أيام الاختبارات النهائية ..ليبتعد بعدها تماما ..حتى عن شقيقته خوفا من أن تذكرها أمامه يوما ..ليشكر حظه الذي جعلها لا تسكن بمنطقة قريبة منه و لا تكون ضمن أعضاء النادي الذي يشتركون به ..ليفقد تماما أي احتمالية للقائها يوما ..أو هذا ما كان يظنه ...
لينتفض خارجا من ذكرياته على صوت فتح الباب المجاور له وإغلاقه بحدة بعد مجاورة خالد الذي لم يشعر كيف ومتى حضر لينتبه لحظتها على سيارته المتوقفة خلفه ..بينما يسمع صوته الحاد وهو يسأله مباشرة ودون مقدمات :
"ما موضوع ارتباط عاصم مهران بشقيقتك ..كيف ومتى حدث ..وكيف وافقتم عليه ولماذا ..أريد كل التفاصيل دون مراوغة أو كذب "
ليغمض مدحت عينيه مريحا رأسه أكثر وهو يزفر بعمق قائلا بإنهاك مستسلم:
"سأخبرك"
--------------------
طرقت بابه برقة ..بعد أن علمت من الاستقبال أنه نقل لهذه الحجرة ..لتسمع صوتا يسمح لها بالدخول لتفتح بقلب متلهف اضطربت نبضاته ما أن طالعها مشهد تلك الفتاة الباسمة المحجبة التي تجاوره جالسة بزاوية جانبية على فراشه.. وتدفع لفمه شريحة من التفاح وهى تقول بمرح "أمي قالت أنك تحتاج للغذاء ..والتفاح غالي وقد قطعتها بالفعل لذا ستأكلها " ..كان المشهد صادما لها لدرجة سمرتها وجعلتها لا تنتبه للمتواجدين بالحجرة قبل أن يخرجها من صدمتها صوت همس المرحب بها ..وهي تتقدم إليها لتجرها لداخل الحجرة و تعرفها بالمتواجدين بعد أن سلمت عليها والدتها وعانقتها بترحيب.. لتومئ لسامح المحدق بها بتجهم وهي تسأله عن حاله دون أن تستطيع منع عيناها النظر مرارا لتلك الجالسة بجواره ..لتسحبها همس باتجاه خالتها فوزية التي سلمت عليها بملامح متجهمة لا تحمل ترحيبا بعكس ابنتها سماء التي وقفت مقتربة منها بمرح وهي تسلم عليها قائلة بشقاوة تناقض رقة ملامحها:
"مرحبا بالناس النظيفة ذات الروائح العطرة التي لا نرى أمثالهم إلا بالتلفاز ..أنا سماء ابنة خالة همس وسامح" لتجد يد شاب وسيم بملامح شرقية سمراء وبنية متوسطة يزيح سماء بخشونة ليقف مكانها مادا يده بالسلام وهو يقول مازحا :
"مرحبا بأقارب ابنة خالتي الرائعات ..لقد تقابلنا قبلا بحفل زواج همس ..لكن لا أظن فاتنة مثلك انتبهت لمجموعة الأوباش التي كانت تعيث فسادا بالحفل وتثير استهجان الطبقة المخملية برقصاتها الشعبية على مسرح القاعة " ..لتحاول أن تجاري مزاحه بينما تسحب يدها التي ما زال ممسكا بها بإحراج وهي تقول بتهذيب ."مرحبا ..عفوا يومها لم أنتبه بالفعل للمدعوين .. لكني أعجبت بقوة بمجموعة الشباب الرائع الذي أثار الحياة والمرح بالحفل .."
ليقول بتفاخر وهو يشير لنفسه:
"لقد كنت أنا قائد هذا الفريق الرائع"
ليقاطع استرساله بالحديث صوت سامح الحاد مناديا:
"سيد تعالى لتساعدني بالاعتدال وتضع وسادة خلف رأسي وكفى تفاخرا ..أي إعجاب هذا الذي تظن انك ستثيره ..ألا يكفى أن اسمك سيد "
ليجيبه الشاب بغيظ وهو يعاونه:
"أتعايرني يا ابن خالتي على أني من تحملت خطيئة اسم جدك ..لا ادري لما أصرت أمي أن تحملني أنا جريمة حمل هذا الاسم دونا عن الجميع ..لتنتفض أمه بغضب وهي تصرخ على كلاهما :
"ماذا أيها العاق أنت وهو ..ألا يعجبكما اسم جدكما لأمكما ..لقد كان رجلا لن يصل أيكما لظفره يوما " لتنظر لسامح بلوم وهي تكمل "هل أصبح اسم جدك سُبة تعايره بها يا سامح "
ليرفع سامح يده لخالته وهو يقول مسترضيا إياها دون التخلي عن سخريته:
" على رأسي جدي وأسمه يا خالتي.. لكنها جريمة أن تلصقي اسمه بالفتى ..لقد أضعتِ مستقبله فمن التي سترضى بالزواج من شاب يدعي سيد " ..بينما يصل لماهي صوت سماء المشاغب وهي تقول له بخفوت:
"تستحق ما سينالك من أمي ..تلقى وعدك" لتجد نفسها تتمعن بالفتاة بضيق متجاهلة الحديث المرح بين الباقين حول اسم الجد.. كانت فتاة ملفتة وإن لم تكن فاتنة الجمال ..تشبه والدة همس بتلك العيون المائلة للون الأخضر والتي تحمل لمعة شقاوة ..وملامحها الطفولية والتي تجعل من الصعب تحديد عمرها لكنها تظن أنها ببداية العشرينات ..وبشرتها النقية دون أي إضافة من مستحضرات التجميل قمحية اللون ..مرحة ..شقية ..وواضح أنها مقربة من سامح من طريقة مزاحها ومشاغبتها له أمام أسرتها ..مما أشعرها بالضيق وهي تتساءل عن مدى هذا القرب بينهما ..وهل هناك مشروع ارتباط ما بينهما ..لا تدري لما استشعرت أن الأمر يتعدى مجرد قرابة ..خاصة مع تعليقات خالته التي لا تكف عن حث ابنتها على إطعام سامح والاهتمام به ..لتجد نفسها تنتفض واقفة دون قدرة على البقاء أكثر لمراقبة أنثى غيرها قريبة منه لتلك الدرجة ..وتطعمه بيدها ..لتقول بصوت لم تستطع التحكم بنبراته المختنقة :
"حمد لله على سلامتك بشمهندس سامح ..اسمحوا لي بالاستئذان ..فقد تأخرت"
لتتعلق نظراتها بسامح الذي نظر لها بعمق جعلها تشعر أنه يقرأ ما بداخلها ..ليقطع تواصلهم البصري صوت همس ووالدتها اللتين تطلبا منها البقاء أكثر لتهز رأسها رافضة باعتذار وتحي الخالة وابنتها المبتسمة برأسها ..لتفاجئ بسيد يقف أمامها قائلا:
"حسنا سأوصلك .. حتى أطمئن على ركوبك سيارة أجرة"
ليقاطعه سامح بحدة وهو يقول بغيظ:
"أرح نفسك يا ابن خالتي ..الآنسة مهينار لديها سيارة من الطراز الحديث ..ولا تحتاج خدماتك بالتوصيل " لا تدري لما شعرت بكلماته كما لو كانت إهانة لها ..لذا امتنعت عن إخباره أنها حضرت بدون سيارتها وستعود بالفعل بسيارة أجرة ..لتعتذر للجميع متوجهة للخارج ..دون أن تنتبه لهذا الذي عض شفاهه غيظا منها ومن نفسه ومن نظرات ابن خالته الولهة التي تتبعها ..مانعا نفسه بصعوبة من اقتلاع عينيه التي تنظر لها بإعجاب ..ودون أن تلاحظ أيضا تلك النظرات الغامضة بعيني سماء... والحائرة بعيني أمه ...والغاضبة بعيني خالته ..والمدركة بعيني همس...
-----------------
دخل بسرعة هاتفا للجالسين يتناولون أقداح الشاي الساخن:
"لقد عادا ..هاتفتني سعاد وأخبرتني أن العم خليل وابنته عادا من السفر وأيضا أخبرتني أنها سمعت سارة تخبر خطيبها هذا أنها ستظل بالمشفى حتى آخر المساء لمراجعة الأعمال المتأخرة ..ومرافقة عائلته فأحد أقربائه مصاب ومتواجد بالمشفى.. تلك فرصتنا لأخذها أثناء خروجها ليلا ..فأخذها من جوار المشفى أسهل وأكثر أمنا من منزلها "
لينظر له جده بجمود ويقول بتحذير حاد:
"حسنا صلاح ..سيذهب معك راغب ابن عمك الأصغر ..والسيارة الربع نقل التي استأجرتها من جارنا عبد المعبود معك ..لا أريد أي حماقات أو تهور .. احضراها مباشرة لمنزلنا بالقرية ..وهناك سنعرف كيف نخفيها ..ونبلغ أباها بوجودها معنا حتى لا يتهور ويبلغ الشرطة ..وبعدها نساومه على أن يكتب لنا نصف ممتلكاته التي يجب أن تؤول لنا بالميراث ..حتى نضمن أن لا يستولي عليها الرجل الذي زوجه ابنته "
لتلتمع عيني صلاح بشر وهو يحدث نفسه ..أعدك جدي ..لن أكتفي بالنصف فقط ..بل سأحرص أن احصل على الكل ومعهم تلك الفاتنة الشقراء ..ليتجاهل ملامح والده المليئة بالقلق والتوتر .. وملامح والخوف والرفض الظاهر بعيون ابن عمه راغب ...الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ..لكنه يتمتع ببنية ضخمة .. لا تتوافق مع ضعف شخصيته أمام أفراد عائلته التي حولته لآلة لتنفيذ الأوامر والعمل بكل المهن ... ليخرج بعد أن يشير برأسه لراغب ليتبعه للذهاب والمرابطة أمام المشفى حتى يستطيعا إيجاد الفرصة المواتية لاقتناص صيدهم ....
----------------------------
أغلق الهاتف لينظر للجالسة أمامه تتناول طعامها بأناقة مخبرا إياها بصوت خافت حتى لا يلفت نظر الجالسين حولها بالمطعم:
"لقد عادا ..أبلغني الرجال الذين تركتهم لمراقبة المشفى ..ليستطرد ..فانا كلفت رجالنا بمراقبة مقر منزلهما وعملهما وإبلاغي فور ظهورهما بأي منهما ..حاليا هما بالعمل ..متى ترغبين بالتنفيذ"
لتجيبه ببرود دون أن تتوقف عن تناول الطعام:
"فورا.. وأريدك أن تذهب بنفسك ..أريدهما عندي الليلة ..فلا وقت متبقى لدي ..يجب أن انهي كافة الأمور العالقة لأعود للندن بأسرع وقت"
ليومئ برأسه ويتحرك خارجا لتنفيذ الأمر...
--------- ---------
تحرك بنزق في الرواق المؤدي لحجرة مكتبها ليرى ما الذي يؤخرها عن الخروج وقد تخطى وقت العمل موعد الانصراف منذ زمن ..أتظنه سائقها الخاص المكلف بانتظارها طوال اليوم ..ألا يكفي المصائب التي ابتلى بها منذ هبطت على رأسه وآخرها أوامر أبيه بأن ينقل حجرته كاملة بكل ما فيها للشقة المجاورة والتي كان أباه قد اشتراها له منذ عدة أعوام عندما عرضها جارهم الأستاذ عبد السلام للبيع ليذهب للعيش بالقرب من أبنائه المقيمين بإحدى المدن الساحلية .. ليجدها أبيه فرصة ليوفر له شقة مستقلة لزواجه وبنفس الوقت تكون قريبة منه ..فبادر بشرائها دون الاهتمام بكونه وضع معظم مدخراته فيها ...ورغم معارضته هو وقتها لأنه لم يكن يفكر بأنه سيتزوج يوما أو يسمح بدخول امرأة ما لحياته ...إلا انه لم يستطع منع أبيه من شرائها ..والده الذي حافظ على صيانتها والاهتمام بكافة أعمال السباكة بها تاركا له فقط التشطيبات النهائية لتكون على ذوق عروسه حسب كلامه وقتها ...والآن ما أن شعر أن حياته ستبدأ بالاستقرار ويعود للعيش وسط أبوية متمتعا بأحضان ودلال أمه كما كان بالماضي ..تأتيه تلك المتطفلة المغيظة لتهدم حلمه ..فتحتل حجرته وشقته وجوار أبويه ويتم إبعاده هو لتلك الشقة ..وأيضا سيشتري أبيه لها أثاث يضعه بحجرته بدلا من أثاثه الذي سيلقيه وهو معه بالشقة المجاورة ..لتأخذ تلك المتطفلة راحتها بمكانه هو ..كان قد وصل لحجرة مكتبها ليرفع حاجبه غيظا وهو يراها واقفة تتسامر مع هذا الموظف المدعو علي ولا يبدو عليها أنها تنوي إنهاء محادثتها قريبا ...كما لو لم تكن تعرف أن هناك مخلوقا بانتظارها ومكلف جبرا وقهرا بإيصالها لمنزل جده المقيمة به مؤقتا حتى يتم الانتهاء من النقل وإحضار الأثاث الذي طلبه أبيه عبر الإنترنت واختارته أمه من احد مواقع محال الأثاث الشهيرة ..لتنعم به تلك الوقحة عديمة الشعور ..ليجد نفسه يندفع للداخل هاتفا لها بحقد متجاهلا الآخر الواقف أمامها بابتسامة سمجة:
"ألم تنتهي من عملك بعد؟ ..أم نسيتِ أني قابع بانتظارك منذ ساعة ولست متفرغا لك ..إن لم تأتي فورا فسأغادر وعودي أنت وحدك"
..لتنظر له ببرود قبل أن ترد عليه بسماجة:
"حسنا غادر ..لكن لا تغضب عندما أخبر زوج خالتي بتركك إياي وحدي وعدم إيصالك لي رغم تأكيده عليك ..خاصة وان سيارتي بالتصليح "
ليرد عليها بحقد:
"تقصدين سيارة أمي التي تستولين عليها وأنت لا تجيدين القيادة أصلا وتتسببين بإفسادها كل يوم وآخر لأجبر أنا على إضاعة وقتي بين ورش التصليح المختلفة "
لتهز كتفها باستهانة بينما ترد عليه بتبجح:
"أنا وخالتي واحد ..بيتها بيتي ..سيارتها سيارتي ..وأنا لم اطلب منك أن تصلح شيئا ..أبيك من أمرك ..اعترض عنده ..ما شأني أنا " ليقاطع رده الحاد عليها صوت نحنحة هذا الذي نسيا أمره وسط شجارهم ..والذي كان ينقل نظره بينهما بحيرة وتعجب ..ليقول لياسر بمهادنة :
"عفوا أستاذ ياسر ...أنا من عطلت قريبتك الآنسة تقى ..فقد كنت استفسر منها عن بعض الأمور المتعلقة بالعمل "
لينتبه له ياسر فيستدير إليه سائلا بسخرية:
"حقا ..وما هي الأمور التي تربط بين مديرة مكتب الرئيس ..وبين قسم الحسابات ..وتستدعي كل هذا الوقت في الاستفسار "
ليرد الآخر بإحراج وصوت مرتبك:
"كنت استفسر منها عن إن كان لديها رصيد إجازات مقبول أو اذا كان الرئيس وقع لها طلب إجازة مدفوعة لتسوية راتبها عن الفترة الماضية "
ليرتفع حاجب ياسر باستنكار ساخر وهو يجيبه بهزء:
"يا لك من مراعي سيد علي ..حتى تتابع بنفسك أوضاع إجازات كل موظفي المجموعة رغم انه مسؤولية قسم شئون العاملين المكلفة بإرسال بيان لقسم الحسابات بعدد أيام حضور وغياب كل موظف يقومون هم على أساسه بضبط الأجر الشهري للعاملين"
ليحتقن وجه الماثل أمامه وهو يبدو عاجزا عن إيجاد إجابة مقنعة على كلام ياسر ..لتتدخل تقى بحدة وهي تزجر ياسر قائلة:
"وما شانك أنت ..السيد علي مشكورا أراد تنبيهي لضرورة تنبيه خالد بك لتوقيع خطاب موافقة على إجازة مدفوعة الأجر حتى لا يتم الخصم من راتبي "
ليقاطعها ياسر ساخرا
"حقا يا لك من شهم سيد علي ..شكرا لجهودك" ..ليضيف بحدة "هيا تحركي .. فقد تأخرنا ..وما زال أمامي المرور على أبي بالمشفى بعد إيصالك "
لترفع ذقنها بتكبر ..وتلتفت لعلي متجاهلة إياه لتقول برقة أثارت دهشته وغيظه بآن واحد وهو يسمعها تتحدث بهذه النبرة للمرة الأولى:
"شكرا جزيلا لنصائحك سيد علي ..لكني سألتزم بما يقرره قسم شئون العاملين ..فلا استطيع أن أحرج نفسي بطلب إعفائي من الخصم دون وجه حق ..أو اقبل مالا لم اعمل لأكسبه بجهدي ..وقد تجاوزت نسبة أيام الإجازات المسموح بها بالفعل لذا سأتقبل الخصم دون اعتراض" .. لتميل برأسها للأسفل بادعاء الحرج ...ليجد الغبي الآخر ينظر لها بانبهار بينما يرد عليها بإعجاب:
"أنت رائعة آنستي ..قليلين من لديهم ضميرك اليقظ ..وحسك الخلقي الراقي " ليرتفع حاجبه بدون تصديق وهو يراها ترفرف بعيونها وتخفض رأسها مدعية الخجل ..ليزعق بكلاهما ناقلا نظره بينهما:
"ما شاء الله ..هل احضر لكما شجرتين وكوبي عصير ليمون ..أم أبحث عن عازف كمان ليعزف لكما " ليلتفت لعلي الأقصر منه ممسكا إياه بعنف من ياقة قميصه ليقول من بين أسنانه:
"هل أنا خيال مآته أو كيس جوافة أمامك ..لتغازل ابنة خالتي أمامي دون احترام لوجودي ..أم هل أنت مستغني عن أسنانك ها ..هل أنت مستغني عنها لأني لو رأيتك تحدثها أو تقف قريبا منها ثانية سأحطمهم لك"
ليحاول علي التخلص من قبضته بينما يقول بتبرير:
"عفوا أستاذ ياسر أرجوك ..أنت فهمتني خطأ " ليضيف بتبرير وارتباك بينما ينظر بحرج لتلك التي تقف خلف ابن خالتها متخصرة تدمدم بغيظ دون أن يهتم ياسر بها أو يلتفت لها
ليقرب علي رأسه من إذن ياسر وهو يقول بصوت خافت "صدقني الأمر ليس كما تظن ..ليتردد قليلا قبل أن يقول له بخفوت أكثر " هل أستطيع أن أتحدث معك على انفراد ..غدا أو تحدد لي موعدا مع والدك " لتضيق عيناه وينعقد حاجباه ويميل إليه قائلا بفحيح غاضب ..غدا بمقهى الشركة أثناء استراحة الغداء ..ووالدي لا يستقبل أحد حاليا ..وإياك أن أراك بالقرب منها ..هل فهمت "
ليحرك علي رأسه بموافقة مضطربة وهو يحاول التطاول برأسه لرؤية تلك التي يخفيها ياسر خلفه ..فلا يسمح له.. ليضطر للخروج تاركا المكان لهما ..ليلتفت بحدة لتلك التي كان يشعر بها وهي تحاول مد رأسها والالتصاق به لتتسمع ما يقولانه فيهتف بها بغضب هادر جعلها تنتفض مطيعة دون جدال كعادتها:
"هيا تحركي أمامي بسرعة"
-----------------
كان يدور حول نفسه بقلق ..منذ سمع أمه تحادث خاله بالهاتف ..لتخبره أن أخته لن تذهب للعيادة اليوم بعد أن أخبرتها هند أنها ستبقى اليوم بالمنزل لأن موعد العيادة تبدل من اليوم للغد لانشغال الدكتور أكرم ..ليرى أمه تسارع بدخول حجرتها فيتبعها متسللا ليسمعها تتفق مع خاله على إخلائهم للمنزل وتركها وحيدة ..بعد أن تتأكد من شربها تلك القهوة التي اعتادت احتسائها عندما تبدأ مذاكراتها ..ليبتعد بسرعة قبل أن تراه أمه يدعي انشغاله بحفظ نشيد ما وهو يدور بصالة المنزل ...بينما يسمعها تخبر هند أنها ستأخذهم لزيارة جدتهم بعد العشاء ..وقد يبيتون لديها لو تأخروا ..ليزداد رعبه ..رغم انه لم يفهم بالضبط ما هو هذا الشيء الذي وجد أمه تضعه لها بعلبة القهوة وهند بالحمام منذ قليل ..ولم يفهم ما الذي سيفعله خاله ..لكنه يشعر أنه شيء سيئ وسيؤذى هند ..أخته التي يحبها جدا ويخاف عليها ....لقد فقد الأمل في تدخل شقيقه الأكبر حسين الذي حاول إخباره بما سمعه ..لكنه نهره ولم يعطه فرصة للحديث ..وكاد أن يفضح الأمر وهو ينادي أمه مخبرا إياها أن حسن يريد إخباره بما قالاه هي وخاله وهو عندهم ..لحسن الحظ والدته كانت مشغولة بالمطبخ ولم تسمعه وظنتهما يتشاجران لتصرخ ناهرة كلاهما عن الحديث ..وهو أخذ يتوسل لحسين أن لا يقول شيئا وانه فقط كان يمزح معه ..ليتركه بعدها خارجا بحجة الذهاب للمذاكرة مع زميل له رغم انه يعلم انه يتسكع مع شلة فتية فاشلين ..يقف معهم على ناصية الشارع يضايقون الفتيات بكلام وقح في رواحهم وغدوهم.. ليلغي فكرة اللجوء له من تفكيره .. لقد حاول محادثة هند وتنبهيها لكن أمه كانت تراقبه باستمرار فلم يستطع الانفراد بها ..وأيضا هو خائف من أمه وخاله جدا.. مما يجعله متردد بقوة من أي محاولة للمخاطرة.. لكنه عاد للمحاولة ثانية عندما دخلت أمه لارتداء ملابسها فاقترب من هند ليقول بخفوت:
"هند لا تشربي من تلك القهوة ..إنها سيئة " لتضحك هند وهي تربت عليه:
"لا حسن إنها جيدة وتساعدني على التركيز ..هي فقط سيئة للصغار مثلك ولا تناسب صحتهم...ذكرتني ..سأقوم لوضع الماء ليغلي لأصنع كوبا أشربه بعد أن انتهي من الصلاة " ليحاول إفهامها مقصده وهو يتلفت حوله .. لكن صوت أمه الصارخ به بتحذير عنيف ونظرة مرعبة جعلته ينتفض فزعا ويتراجع للخلف خطوات
أخذت هند تنقل نظرها بينهما بتعجب ..لتقترب من أخيها أكثر وتلف يدها حول كتفيه وهي تسأل نبيلة بضيق:
"ماذا بك؟! لما هذا الصراخ على حسن؟! " لتقترب منهما وهى تنظر لحسن بشر بينما تسال بتوجس :
" ماذا كان يقول لك؟! "
لتنظر لها بتعجب وتجبها بسخرية:
"ماذا بك؟!! ..هل أخي ممنوع من محادثتي أم ماذا؟ ..لم يكن يقول شيئا فقط يخبرني عن دراسته "
لتتعجب أكثر وهي تشعر بارتخاء كتف أخيها التي شعرت بتشنجها منذ لحظات لتفاجأ بنبيلة تجذبه قائلة :
"هيا تحرك أمامي ..وتصرخ بعدها بصوت أعلى ..معاذ ..هيا أنت أيضا لألبسك ثيابك ..لا تدعني آتي إليك وأجرك من أمام هذا التلفاز" ليخرج الصغير متذمرا لمقاطعته حلقة برنامجه الكرتوني المفضل ..بينما تخبرها وهي تجر أخويها للحجرة معها ..حسين سيلحق بنا لهناك ..لقد أخذ مني مالا ليدفعه لحصة مراجعة للرياضيات ..سينهيها ويلحق بنا لبيت جديه ..لتظل هند تنظر لها للحظات بتعجب ..فمنذ متى تهتم نبيلة بإعطائها تقريرا عن خط سيرها هي أو أحد إخوتها ..لتهز كتفيها بعدم اهتمام ..وتتوجه للمطبخ لتصنع لنفسها كوب من قهوتها السريعة التي تعشقها ممنية النفس بسهرة هادئة تحاول بها تعويض تأخرها بالمذاكرة في الفترة الماضية ..لتذهب بعد وضع الماء ليغلي لتؤدي فرضها وتقوم بعدها بخلع إسدال الصلاة الذي ارتدت أسفله منامة قطنية قصيرة تصل لركبتيها بكم قصير وفتحة عنق متسعة قليلا ..لتذهب وتصب لنفسها كوبا كبيرا من القهوة ليساعدها على السهر والتركيز ..وما أن وضعته أمامها وهى تجلس على منضدة الطعام بصالة الشقة ليبرد قليلا ..حتى فوجئت بتلك النظرة المحدقة والغامضة من زوجة أبيها إليها والتي أشعرتها بانقباض لا تدري له سببا ..خاصة مع النظرة الحزينة الدامعة بعيني أخيها حسن والتي لا تدري إن كان سببها تعنيف أمه له ..أم أن هناك شيئا آخر يضايقه ...لتسمع بعدها صوت نبيلة الذي شعرته كفحيح أفعى تلتف حولها وهي تقول ..نحن ذاهبون ..أراكِ بخير "
ليرتفع حاجبا هند بذهول ..فهي لم تقل لها قبلا أراك بخير ..ولا تدري لما شعرتها تعني بها العكس ..لتهز رأسها مع صوت غلق الباب نافضة التفكير بنبيلة وأحوالها الغريبة محاولة التركيز بما أمامها من مراجع
---------------
أوقف السيارة على أول شارعهم وهو يلتفت لأبيه قائلا ..أنزل أنت هنا أبي ..و أسبقني للمنزل ..سأمر على العيادة أولا لأرى الإعلان الذي تركته هند لأعدل المواعيد به ثانية لبعد غد بدلا من غد ..فقد أبلغني الدكتور خليل أنه يريدني معه طوال يوم غد ولن أستطيع القدوم للعيادة ..ولا أحب أن اجعل هند تعود ثانية لتعيد كتابته وتعيد الاتصال بالحالات ..سأرى أنا كتيب الحجز واتصل بهم معدلا المواعيد "
ليهز أبيه رأسه موافقا وهو يقول:
"حسنا بني ..سأذهب للمنزل ..واحضر الأشياء التي طلبتها أمك وانتظرك لنعود معا لأخيك "
ليزفر أكرم بضيق ..وهو يقول لأبيه باستهجان:
"لا أدري سر تصميمكما أنت وأمي على المبيت مع سامح ..أنا موجود ..وهو بخير ..والحمد لله الحالة جيدة ولا تستحق هذا القلق ..كان يجب أن تستمعا لي ..وتعودا للمبيت براحة بمنزلنا ثم آتي لأخذكما له غدا "
ليربت أبيه على كتفه مبتسما وهو يقول برفق:
"أمك لم تكن لتوافق أو تطمئن وتستطيع النوم وهو بعيد عن عينها بعد ما حدث له ..وأنا لن أنام لوحدي بالبيت واتركها بالمشفى حتى بوجودكما معها .. سنستريح أكثر ونحن معا لا تقلق"
ليزفر أكرم بضيق وهو يقول بعدما أعيته الحيل ومحاولات الإقناع بلا طائل ..حسنا أبي ..لكن لا تنسى إحضار أدويتك وأدوية أمي ..نصف ساعة على الأكثر وسنعود معا ..ليترجل كلاهما من السيارة ..متوجها في طريقه
------------------
أخذت ترتشف كوبها ببطيء بينما تحاول التركيز ..كانت قد أنهت أقل من ربع الكوب أمامها ..عندما رن هاتفها لتزفر بعمق وهى ترى أسم أكرم يضئ الشاشة أمامها ..لتتردد قليلا قبل أن تجيب ..كانت تحاول التهرب من ذكراه ..وإجبار نفسها على عدم تذكر ما حدث صباح اليوم ..فهي تشعر بارتباك كبير ..وتشوش يكاد يثير جنونها خاصة مع شعورها بتغير أكرم تجاهها مؤخرا.. لتجيب هاتفة بصوت متردد ..ليأتيها صوت أكرم مشوشا وهو يخبرها عن ذهابه للعيادة لسبب ما ..كان الصوت يتقطع فلم تستطع أن تفهم منه ما يريد وسبب ذهابه للعيادة ..وهل يردها أن تذهب إليه أم ماذا ..لينقطع الخط ..فتحاول هي إعادة الاتصال أكثر من مرة بلا فائدة فتظل حائرة لدقائق عدة لا تدري ما التصرف الأمثل ..هل تذهب للعيادة أم تنتظره ليعيد الاتصال ..فتفهم ما يريد ..لكنها ارتكنت بظهرها لكرسيها وهي تشعر بارتخاء بدأ يزحف لجسدها مع شعور بالانتشاء والطفو ..حتى أنها بدأت تشعر بسعادة غير مفهومة تجعلها راغبة بالضحك ..لتحرك يدها بتثاقل لتصدم بكوب القهوة أمامها فينسكب على المحاضرات التي ظلت تنسقها وتجمعها لوقت طويل ..وبدلا من الغضب ومحاولة إنقاذها وجدت نفسها تنفجر ضاحكة وهي تراقب أوراقها تتشرب بالسائل البني ..كانت تشعر بحالة غريبة من الانتشاء جعلتها تتمايل على كرسيها وهي تدندن وتضحك بينما تنظر لهاتفها الذي عاد ليضيء باسم أكرم لتفتح الخط وهي تقول بمرح ضاحك ..أكرم هل عدت ثانية .. لتنفجر بالضحك بينما تسمعه يسألها بتعجب عن ما يضحكها لتقول له وسط ضحكاتها الرنانة:
"أنت ..أنت تضحكني ..وتؤلمني ..وتبكيني ..وتوجع قلبي". لتعود للضحك .. وهي تقول له بصوت مهتز دون اهتمام أو تركيز بأسئلته الصارخة بتعجب عن ما بها:
"أنا أرغب بالرقص سأقوم لأرقص قليلا ..وأيضا يبدو أن هناك من يفتح الباب .." ليسألها بتوجس عن نبيلة وأخوتها ..لتقول من بين ضحكاتها وصوتها المهتز جميعهم خرجوا سيبيتون لدى عائلتها.. وأنا وحدي تماما ..لأستمتع بالرقص ..وقهوتي سُكبت وأفسدت محاضراتي لتنفجر ..بالضحك من جديد ..بينما تقول وهي تنظر للباب الذي فتح بهدوء ..وسعيد شقيق نبيلة يفتح باب شقتنا ..ويدخل الآن ..لتسمع صراخه بها ..لكنها لا تنتبه لما يقول من بين ضباب عقلها و ضحكاتها المتواصلة ..بينما يختطف سعيد الهاتف مغلقا إياه وهو يسألها بتوجس عن من تحدثه لينظر للاسم على الشاشة بغيظ ...ليسحبها إليه محتضنا إياها بعنف وصوته يصل إليها بذبذبات مهتزة لا تجعلها تعي ما يقوله..
"يبدو أنني يجب أن انهي الأمر بسرعة ..كنت أتمنى أن أستمتع باللعب معك لأطول مدة ..لكن لا بأس فالقادم بيننا أكثر ..لكن الآن لننهي الأمر قبل أن يفاجئنا فارسك الهمام ..أتمنى فقط أن لا يكون التقط صوتي عبر الهاتف ..فلا أريد مقاطعات سريعة" ..... ليبدأ بجذب ياقة ثوبها لينزعه عنها.....
---------------------------
|