لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > روائع من عبق الرومانسية > رومانسيات عربية
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

رومانسيات عربية رومانسيات عربية


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 22-08-18, 03:42 AM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 


الفصل الحادي عشر

"ماذا تعنين"
لتقول بهدوء لا يعكس ألم روحها:
"أعني يا زوجي العزيز ..أن بإمكان والدتك أن تسعد وترتاح أخيرا من ابنة الرعاع كما تصفها ..وتجد لك زوجة تناسب معايرها ..وتبقى ببيتك كما تشاء وقت أن تشاء ...لكن عفوا لن أستطيع أن أترك لها أطفالي ..فهما خارج المناقشة ..عليها الاكتفاء بك ..أما أنا فسأكتفي بأبنائي ...وبما أنه لا مشكلة في إيقاظ الطفلين وخروجهم الآن فسوف أجهزهم ...لكن ليس ليذهبا مع والدتك ...بل معي أنا لبيت أهلي .... طلقني يا أحمد ..."
-----------------------------
كانت أنفاسه تتسارع مع تسارع دقات قلبه ألما وحزنا وذهولا وهو يسمع حبيبته التي لم يحب غيرها طوال حياته تنظر له بكل هذا البرود وتطلب منه الطلاق ...كيف استطاعت ؟!! كيف طاوعها قلبها ولسانها ...لم يهتم لهذر أمه التي أخذت ترغي وتزبد بالإهانات لزوجته والتهديدات بعدم قدرتها على أخذ الطفلين ..كانت عيناه معلقة بها ...كما لو كان ينتظر منها نفيا لما قالته ...لكنه لأول مرة منذ عرفها وجد عينيها رغم التماع الدموع جامدتين ...لم يرى بهما لمعة الحب التي اعتاد عليها ..وجد نفسه يقاطع كلام أمه دون أن تحيد عيناه عن زوجته وهو يقول:
"أرجوك أمي ..أذهبي الآن للمنزل حتى أحل تلك المشكلة وآتي إليك "
لتهتف أمه بحدة ممزوجة بكبرياء وتحدي:
"بل أنهي الأمر الآن ...هي طلبتها فألق عليها يمين الطلاق...ولا تخف لن تستطيع أن تأخذ الطفلين ...نحن قادرين على أن نلقي بها هي وأهلها جميعا وراء الشمس والقضبان إن حاولت الاقتراب منهما .. ... الق به الآن وخلصنا من تلك الحثالة التي.."
"أمــــــــــــــي"
صمتت وهي تسمع ثورة ابنها الذي التفت إليها ليقول من بين أسنان مطبقة بغيظ:
"يكفي ...لن اسمح أن تهيني أم أبنائي ...ولو سمحتي اذهبي الآن حتى آتي إليك"
كانت راغبة بمجادلته... بالرفض والاستمرار بالبقاء وإشعال النيران حتى تنتهي منها تماما.. وتضمن خروجها من حياة ابنها ...لكن نظرة لوجه ابنها أعلمتها أنها يجب أن تكتفي بما وصلت إليه حتى الآن وتمضي ..لتلتفت معطية ظهرها إليهم وهي تقول ...
"أنا بانتظارك أنت والطفلان فلا تتأخر "
لتتركهم بعدها بتكبر ليعاود هو النظر لريهام التي ما زالت على وقفتها المتحدية بصمت مربعة يديها تحت صدرها ..ليمد يديه جاذبا يدها بحدة وساحبا إياها بعنف خلفه ليصعد معها لغرفتهم وهي تتلوى محاولة تخليص يدها وتكاد تنقلب على وجهها بعد أن تعثرت عدة مرات.. ولولا يده المتمسكة بها لسقطت على وجهها على الدرج.. ليدخل حجرتهم جارا إياها ومغلقا الباب خلفه بحدة وهو يقول بأسنان مطبقة:
"لنتحدث هنا بعيدا عن أسماع الخدم "
لتضحك ساخرة بألم وهي تقول:
"أخائف من الفضائح يا أحمد؟!! .. متأخر جدا ..فالخدم اعتادوا سماع إهانات والدتك واحتقارها لي ..حتى بت أرى الشفقة في عيون بعضهم ..والاستهانة بعيون البعض الآخر"
ليهتف هادرا بحدة:
"لا يجرؤ مخلوق على النظر لك باستهانة وإلا فقئت عينه ...أنت زوجتي كرامتك ومكانتك من كرامتي "
لتصرخ بحدة ردا عليه:
"حقا!! ومنذ متى؟!!"
ليقول بتأكيد وهو ينظر لها بحدة:
"منذ أصبحت زوجتي ...بل من أول لحظة اعترفت بها بحبك وانك مالكة قلبي وروحي ..نصفي الذي لا أكتمل بدونه"
قالها وهو يقترب ناظرا لعينيها الجامدتين ليشعر لحظتها ببصيص من أمل وهو يرى الارتباك الذي كسر الجمود بنظراتها
حاولت كسر التعويذة التي يحاول بها كسر جمودها ..فالتفت توليه ظهرها ما أن أقترب ..تحاول التشبث بموقفها ... والبعد عن تأثير عينيه اللائمة العاتبة ..تحاول الهرب من نظرة الحب التي عادت لعينيه في تلك اللحظة بعد أن افتقدتها منذ أسابيع عدة ...تحاول الفكاك من أسر عشقها الذي كبلها وأهان كرامتها مرارا ..لتعود لاحتضان نفسها مربعة يديها حول صدرها كأنها تمنعهم من الاقتراب منه وهي تقول بألم :
"أرجوك أحمد ..لا فائدة من كل ذلك ...لقد اتخذت قراري ...زواجنا كان خطأ ...كل منا لا يناسب الآخر .. ظننا أننا سنستطيع أن نتجاوز هذه الخلافات والفروق بيننا بقوة الحب ..لكن ..من الواضح أننا فشلنا "
ليسألها أحمد ساخر وهو يجذبها من كتفها لافا إياها إليه رغما عن ممانعتها:
"وعلى ماذا بنيت فكرتك اللامعة ..وقرارك المصيري يا زوجتي العزيزة"
لتقول بحدة وهي تسمع السخرية بصوته:
"أرجوك أحمد ...لا داعي لهذا الأسلوب أنا واثقة أنك بنفسك قد توصلت لنفس رأيي هذا وأنك راغب بالانفصال عني ...ربما فقط تشعر بالشفقة أو الحرج لإبلاغي "
لكن كلماته ازدادت سخرية تقطر من حروفه وهو يسألها ثانية:
"وعلى ماذا استندت في قراءتك الألمعية لأفكاري ومشاعري وقراراتي يا عزيزتي ...هل أصبحت قارئة أفكار؟!!!"
لتهتف بغيظ من أسلوبه الساخر اللامبالي بكلماتها وهي تسكب ألمها من تصرفاته طوال الفترة الماضية بكلمات صارخة.. متعثرة.. متلاحقة:
"بنيته على إهمالك لي ..على ابتعادك عني ..على نائيك بنفسك بعيدا ...على رفضك الاقتراب مني بعد أن كنت لا تطيق بعدا عني ..على عدم اهتمامك بي وبالطفلين ...على غيابك الدائم كمن يهرب من وجوده بيننا ...على تركك لأمك لتهينني كل يوم أكثر من سابقه ..وتحرمني من أطفالي كل ساعة.. تحت سمعك وبصرك وعلمك دون أن تحاول منعها أو وقف أذاها عني ..على غضبك الدائم وعصبيتك المستمرة كما لو كنت لا تطيقني و تتحين الفرص للشجار معي بداع وبدون داعي ..نفورك من عائلتي ورفضك مؤخرا الذهاب إليهم معي ...على رفضك الذي أستشعره دون أن تنطقه يا احمد ...أتظن الزوجة لا تشعر بابتعاد زوجها ورفضه لها ...مخطئ يا زوجي العزيز ...بل هي أكثر من تشعر وتحس برفض زوجها ولو لم ينطقه لسانه"
كان ينظر لها بمزيج من غضب وحزن وخيبة أمل ..يستمع لكلماتها اللاهثة المتدافعة لدرجة جعلتها متعثرة الحروف ..يرى دموعها تكوي قلبه حزنا عليها ومنها في آن واحد
ليقول لها ببسمة لا تحمل من الفرح إلا رسمة معوجة على الشفاه بينما تقطر حزنا من جنباتها:
"خسارة يا ريهام ..كنت أظنك قادرة على فهمي والإحساس بي دون حتى أن اضطر للكلام ...ظننتك قادرة على احتواء ألمي وحزني رغم كون الأمر لا يتعلق بك أنت.. ظننتك قادرة على استشعار همي حتى لو لم أخبرك تفاصيل ما أعانيه ...ظننتك نصفي الذي سيساندني دوما حتى لو لم أبوح بالكلمات ..فسيكفي أن تري حالتي لتفهمي أني أعاني فتكوني بجواري حتى اقدر على البوح"
كانت تنظر لوجهه الذي حمل عذابا وجرحا يقطر من بين مسامه كما يقطر من حرفه التي ينطقها ...شعرت بالارتباك... بالتشوش وهي تسمع من أحمد تلك النبرة المغمسة بالألم والحزن وخيبة الأمل لأول مرة منذ عرفته ..تلك النظرة المليئة بالخذلان منها أربكتها وجعلتها حائرة لتضرب الحروف على لسانها وهي تقترب منه فيتجاهلها متجها لحافة الفراش ملقيا بجسده عليها دافنا وجهه بين كفيه ..لتتردد للحظات قبل أن تجد نفسها تتجه إليه لتركع أمامه على ركبتيها جاذبة يديه من أمام وجهه لتضمها ليديها مقربة إياها من صدرها وهي تهمس أمام وجهه :
"..كيف سأعرف ما بك دون أن تخبرني ..كيف سأفهم أنك تعاني أمرا يوجعك دون أن تشاركني ألمك ..لست قارئة أفكار يا احمد ..أنا زوجتك .."
ليقاطعها هاتفا بحنق وهو يجذب يديه من بين كفيها:
"ظننتك نصفي الأخر الذي يفهمني دون كلمات"
لترتفع على ركبتيها لتجاوره وتمسك بكفه القريب منها وهي تقول بحنان:
"أنا بالفعل شريكة حياتك ونصفك الآخر لكني لست مُنجمة ولا أعلم الغيب ..إحساسي بك اخبرني انك تعاني خطبا يملئك غضبا وضيقا لكن لم اعرف السبب ...ومع تصرفاتك المتباعدة ومساندتك لوالدتك التي تعرف جيدا أفعالها معي... لم يكن أمامي إلا أن اربط الأمر بي وبوجودي بحياتك ...مع رفض والدتك وضغطها عليك لتركي.. وأنا لم ولن اقبل أن أكون عبئا عليك أو قيدا لك يا أحمد .. مهما أحببتك ..إذا كان هناك ما يوجعك عليك أن تشاركني به.. أن تخبرني عنه لأنني سأشعر بوجعك لكنني لن أعرف أسبابه ..هذا ما يعنيه الزواج مشاركة بين عقلين ..وروحين ..وجسدين يعي احدهما وجع الآخر لكنهما يحتاجان أيضا للمصارحة حتى لا يقعا بسوء الفهم"
لينتفض احمد واقفا ويعطيها ظهره لكنها لمحت انعكاس ملامحه بالمرآة أمامها لترى الألم مجسدا فيها بينما يقطر القهر من حروفه وهو يقول:
"ماذا تريديني أن أقول لك يا ريهام ..أأخبرك عن أبي !! مثلي الأعلى وقدوتي الذي اكتشفت أنه على علاقة بموظفة لدينا تصغرني عمرا ينفق عليها أموالا طائلة ويقضي معها وقته بينما يلقي على بالعمل مدعيا انشغاله بلقاءات عمل أخرى تخص صفقات ينوي إدخالنا بها رغم علمي بكون الأمر مستحيلا بهذه الفترة ...لأكتشف بالصدفة علاقته بها ...ولا اعرف حتى الآن طبيعة علاقته بها كيف هي ولأي حد وصلت...ورعبي أن تعرف أمي بالأمر لأنها لو علمت فسيقتلها الأمر ..أمي سيدة شديدة الكبرياء والاعتداد بنفسها وأسرتها ...أمرا كهذا سيقضي عليها ...لذا كنت أتغاضى عن شجارها معك مؤخرا...وأساند رغبتها بطلب وبقاء الطفلين معها .. رغبة بأن تظل متلهية عن أبي ...ولا تنتبه لغيابه الدائم وتغيره حتى أستطيع فهم أبعاد علاقته بتلك المرأة وأحاول التصرف"
كانت عينيها تتسع بذهول دون تصديق لما تسمعه بينما أحمد يضيف بألم:
" أم أخبرك عن رسالة الدكتوراه التي كادت مدتها تنفذ دون أن استطيع إنهائها وغضب المشرف عليها مني وإنذاره لي بالعمل عليها .. وإلا سينسحب من الإشراف ويكتب تقريرا يقضي على مستقبلي الأكاديمي ..مع ضغط العمل بالشركة ومشاكل حياتنا التي لا تنتهي بينك وأمي...فالأمر يبدو مستحيلا لدرجة تقتلني ..أما عن كونك تعاني مع عائلتي ..فأنت لست الوحيدة التي تعاني ..فأنا أيضا أعاني مثلك مع عائلتك التي لا تكف عن النظر لي بشك ...وإلقاء الكلمات المهينة عن أبناء الأثرياء الذين لا أمان لهم ..وخاصة والدتك ..ونظرات الشك والريبة المستمرة من والدك وأشقائك كما لو كانوا يتساءلون متى سأتركك ..وأمل اللعبة الجديدة التي حسب ظنهم أتسلى بها قليلا ..ومهما حاولت إثبات حسن نيتي وحبي إلا أني لا ألقى إلا الشك.. حتى تعبت ومللت وأصبحت لا ارغب أو أطيق الذهاب إليهم وأتهرب منه ...ليس كرها بهم لكن تعبا من دفاعي المستمر عن نفسي أمامهم "
ليلتفت إليها قائلا بألم:
"لكن مالم أتصوره يوما ..مالم أتخيل أن يحدث ..أن تخذليني أنت هكذا ..أن تستطيعي جرحي بتلك الطريقة ..كل ما عانيته وأعانيه طوال الفترة السابقة لم يساوي ما شعرته من جرح وألم وأنت تطلبين مني الطلاق !!!..ليهون عليك بلحظة كل هذا الحب الذي أحببته لك فتبعيني بلحظة سوء فهم "
لتقاطعه هاتفة بنكران :
"لا ...لا أحمد ...لم ولن تهون ...كنت فقط خائفة وحائرة لعدم فهمي لتصرفاتك ..فاقدة للشعور بالأمان نتيجة بعدك عني ...أنت حبيبي وسندي.. وجودك فقط من يمنحني الطاقة والقدرة على الاحتمال"
كانت تبكي بألم على حزن حبيبها تمسك وجهه بين كفيها ..تقرب وجهها منه حتى بات لا يفصلهما إلا الأنفاس ليحاول الابتعاد وهو يقول بحزن واستسلام :
"لم يعد يهم يا ريهام ..لا شيء يهم ..إن أردت حقا حريتك ..وأردت الط..."
ليقطع الكلمة بينما يغمض عينيه بألم هاربا من وجهها الذي تحركه يمنة و يسرى بنفي ورفض بينما يكمل:
"فسأمنحك إياه ...ولا تخافي أو تهتمي بتهديدات أمي ...فطالما أنا على قيد الحياة ..لن يحرمك أحد من طفلينا ..أو يؤذيك أنت أو أحدا من عائلتك "
لتقاطعه بصرخة رافضة بينما يتعالى نشيجها وهي تضمه بجنون قائلة:
"لا ..لا ..أبدا لن أتركك ..أبدا لن ابتعد عنك ..سامحني حبيبي على سوء ظني ..على نطقي لتلك الكلمة التي أوجعتني وجرحتني ...بل قتلتني قبل أن تؤلمك ..فقط أرجوك ..أرجوك لا تبعدني ثانية ...لا تتركني نهبا للظنون والهواجس ..أخبرني ما يضايقك ..أشركني همومك لأحملها معك وأكن لك سندا وعونا ..أرجوك لا تبعدني عنك ..أحبك ...أحبك يا أحمد "
كانت تقبل وجهه وعينيه وشفتيه وتضمه بقوة وتتلمس صدره وكتفيه بهستيريا بين كلماتها... بينما ظل هو للحظات دون أن يستجيب لها حتى عاندته ذراعاه فارتفعتا تضمانها بقوة وهو يدفن وجهه بعنقها وبين طيات شعرها مخرجا آآآآآه طويلة محملة بمزيج من الشوق والألم ..قبل أن يشاركها جنون المشاعر والقبلات المحمومة التي حملت مزيجا من حب وخوف.. وحزن وغضب... وشوق فاق كل ما سبق جعلهما يسقطا معا فوق الفراش لينسيا بين ذراعي بعضهما كل الألم والشكوك... ويعيدا وصل أواصر حب وارتباط.. وميثاق غليظ لا يفصم بين قلبين اتحدا واقسما أن يكونا معا في السراء والضراء ..
-------------------------------
اضطر إلى إعادة الأوراق إلى سكرتيرته المؤقتة لإعادة طباعتهم بعد أن نهرها بقوة نتيجة للأخطاء المتكررة التي ترتكبها في عملها ليس فقط بالطباعة ..ولكنها ليست جيدة لمواكبة سرعة وتيرة عمله وتنسيق أوراقه وإحضار ما يريده بسرعة ...حقا إن وجودها يجعله يقدر عمل تقى وبراعتها ...زفر بعمق وهو يريح رأسه للخلف محركا كرسيه يمينا ويسارا وهو يفكر أنه لم يكن باستطاعته رفض طلب تقى لمزيد من أيام الإجازات رغم أنها أخذت أسبوع من فترة قريبة ..لكن معرفته بكونها قريبة للسيد أشرف بعد أن فوجئ بها موجودة بجناحه بالمشفى لدى زيارته له أمس ...وعندما سأل أشرف اخبره باقتضاب أنها ابنة خالة ياسر وان خالتها والدة ياسر محتجزة بالمشفى وممنوع عنها الزيارة وهي تقضي معظم وقتها لديه بالجناح بانتظار الاطمئنان عليها ...لقد فهم وقتها أن أشرف يتحدث عن طليقته السيدة تقى ...هو يعرفها جيدا ورآها كثيرا مع السيد أشرف قبل انفصالهم...فدوما ما كانت تتواجد معه لديهم في أي مناسبة عائلية ...أو احتفالية للشركة فالسيد أشرف عومل دوما كأحد أفراد الأسرة ..وقد تعجب الجميع لدى علمهم بالانفصال ...خاصة أن حب أشرف لزوجته لم يكن خافيا على أحد ..لكن الجميع أحترم صمته وخصوصيته ... لينحي الأمر من عقله وهو يفكر في مشاكله هو الحالية ...فسامح أكد له كم التلاعبات بالمشروع ...هناك تلاعب بنسب المون المقررة بخلطات البناء ..وهناك تلاعب بالحديد حيث يتم استبدال معظم ما يرسله من حديد بأنواع أقل جودة ...حتى الإسمنت يتم استبداله بأنواع اردء ...المشكلة أن سامح لم يستطع حتى الآن إثبات الأمر ..ومعرفة مدى التلاعب وهل طال جميع الأجزاء التي تم الانتهاء من بنائها أم بدء مؤخرا مع الجزء الجديد...فهم لم يثقوا به تماما وما زالوا يبعدونه عن دوائرهم.. وهو لن يستطيع الصبر أكثر وتركهم يشيدوا المزيد من مباني المشروع بتلك المخالفات ..المشكلة لو ثبتت أن جميع المباني مخالفة للمواصفات فستكون مصيبة كبرى ..حيث لابد من إزالتها كاملة !!!..وهذا يعني خسارة كبرى ستؤثر عليه بقوة خاصة مع نقص السيولة الحالي لديه نتيجة المشاريع التي ارتبط بها والمصنع الجديد الذي يقوم ببنائه ...بالإضافة لأن انتشار أمر كهذا سيؤثر على سمعته وسمعة مشروعاته بقوة في السوق ..مما سيشكل ضربة قوية له وللمجموعة على الصعيدين المادي والمعنوي ..زفر بضيق وهو يحاول تنحية الأمر من رأسه حتى يستطيع التركيز على ما بين يديه من أعمال متراكمة خاصة مع غياب أشرف وياسر وتقى ...وحمدا لله على وجود همس فوجودها خفف بعض أعبائه ...ليقاطعه بعد دقائق رنين الهاتف الداخلي لتخبره سكرتيرته بوجود السيد عبد الفتاح الدريني طالبا لقائه ...لتلتمع عينيه ويلتوي فمه بابتسامة باردة وهو يخبرها أن تدخله ..ليدخل الرجل الستيني ذي القامة القصيرة نسبيا والشعر المصبوغ بالأسود والمتراجع من الأمام رغم محاولته مداراته بتسريحة لابد كلفته الكثير ..وبذته المصممة الأنيقة والتي لم تخفي ترهل جسده الممتلئ ...ليتقدم مادا يديه مرحبا بخالد بتزلف وهو يقول:
"خالد بك ...سعيد بلقائك ..اشتقنا إليك يا رجل ..لم نعد نراك بتجمعات رجال الأعمال المعتادة "
ليقف خالد مسلما عليه ببرود وملامح جامدة بينما يدعوه للجلوس طالبا القهوة لكلاهما من السكرتيرة قبل انصرافها ليلتفت بعدها للسيد عبد الفتاح داخلا بالموضوع مباشرة:
" أظنك أتيت بخصوص رفض مجموعتنا العطاء الخاص بشركتكم لتوريد الأدوات الصحية للمشروع السكني الجديد لدينا"
ليتنحنح عبد الفتاح بحرج ويميل على كرسيه وهو يقول بمهادنة:
"دائما مباشر خالد بك ...ولا تضيع الوقت بالمقدمات ..بالفعل أنا قادم لهذا الأمر ..أنت تعلم يقينا أن إنتاجنا هو الأفضل ...كما أننا منحناكم تخفيضات كبيرة وتسهيلات سداد لا نمنحها عادة ..وكنا واثقين من الفوز ..فلن ينافسنا أحد لا في الجودة ولا في السعر المقدم ..لذا أنا لا أفهم سبب الرفض "
لينظر له خالد بملامح جامدة ويقول بجمود:
"قد تكون منتجاتكم جيدة وعرضكم كذلك ...لكنه ليس الوحيد بشروط تتناسب معنا ..هناك الشركة الأخرى التي وافقت على عطائها وقدمت عرضا رأيته أفضل"
ليقاطعه عبد الفتاح بغضب يحاول كتمه دون فائدة:
"لكنهم جدد في السوق ...مجرد هواة بلا خبرة ...ولم يتم اختبار منتجاتهم على المدى الطويل ولا يملكون اسمنا وسمعتنا والتي لها وزنها ..لا يمكنك إنكار أن وجود اسم الدريني على الأدوات الصحية للمشروع سيؤكد أنها تشطيبات عالية الجودة ..أي انك مستفيد مثلنا وأكثر ..بعكس هؤلاء الهواة الذين تريد إسناد الأمر لهم"
ليرد عليه خالد بحدة رغم حفاظه على برودة صوته:
"أنا الأقدر على تحديد الأفضل لي ولعملي سيد عبد الفتاح ...وهؤلاء الهواة الذين تستهين بهم مجموعة رائعة من الشباب الممتاز شيدوا مصنعا بتقنيات ممتازة وإنتاجهم رائع ومبتكر ...ولابد أن ندعمهم ..فكيف سيمتلكون الاسم ونحن نحاربهم ونحارب كل جديد "
لينتفض عبد الفتاح واقفا من كرسيه ثائرا وهو يقول بحدة:
"دعك من شعارات تشجيع الشباب ..أنت رجل أعمال هدفك الربح ..أنت تنتقم منا بسبب عمر ,...."
ليقاطعه خالد وهو يقف قائلا بتحذير ثلجي النبرات:
"إلزم حدك سيد عبد الفتاح ..ولا ترفع صوتك بمكتبي ..من عمر هذا الذي أضعه باعتباري أو أهتم به ..ابنك المدلل استطيع القضاء عليه بطرف إصبعي ...أمر اختيار المصنع الذي سيورد المنتجات لي محسوم عندي من فترة ..فأنا كما قلت رجل أعمال في المقام الأول ..أختار ما أراه الأكثر تناسبا معي ..أما أبنك المدلل فيكفي تماما أن أقرص أذنه قرصة بسيطة تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يتجاوز حدوده معي أو مع زوجتي ...قرصة مثل عدم تجديد الشركة الإيطالية للحق الحصري بعرض منتجاتها لديكم ومنحه للشركة المنافسة"
ليشحب وجه عبد الفتاح ويسقط جالسا على كرسيه وهو يقول بذهول:
"يا الهي ..أنت السبب ..كيف؟ أنت كنت وراء رفضهم تجديد العقد ومد الفترة...لماذا؟ إنك بذلك تخرب بيتنا وتقضي علينا"
لينظر له خالد ببرود وهو يعاود الجلوس:
"لا.. بل فقط أمنحكم تحذيرا صغيرا لن يقضي عليكم كما تقول ..لكنه سينبهك لتنتبه لابنك وتقومه"
ليميل بوجهه على مكتبه مقربا إياه منه وهو يقول بنبرة تحمل مزيجا من تنبيه وتحذير :
"لو أردت حقا القضاء عليكم لتدخلت لإلغاء عقد الشراكة مع الشركة الألمانية الذي تسعون له من فترة طويلة ...وصدقني أنا أكثر من قادر على فعلها ..خاصة أن نفس الشركة تسعى للدخول معي بمشاريع عدة تفوق شراكتهم معكم أهمية لديهم ولو اشترطت عليهم رفض العمل معكم لوافقوا فورا ..لذا فاعتبر ما حدث مجرد تحذير ..شرفتني سيد عبد الفتاح "
قالها خالد وهو يقف ناظرا ببرود لعبد الفتاح الذي وقف أمامه بوجه شاحب وملامح ذاهلة وهو يعي أن أي محاولة للحديث قد تثير غضب هذا الرجل الجليدي وقد تؤدي لنتائج أسوء مما يمكن أن يتحملوه ..ليستدير خارجا بملامح باهتة و أقدام مهتزة ..وهو يلعن بداخله غباء وتهور ابنه الأحمق الذي جعله يحاول الاقتراب من نطاق هذا الدب البارد دون أن يهتم للنتائج ...ويتوعده سرا بعقاب يجعله ينسى اسم همس والفتيات كافة لوقت طويل..
ما أن خرج عبد الفتاح من عنده حتى قام خالد بإزالة سترة بذته ورابطة عنقه وفتح أزرار قميصه العليا والذهاب للوقوف أمام النافذة زافرا أنفاسه بضيق ..انه يشعر بالاختناق حقا ..يشعر بتكالب الهموم عليه بوقت واحد ..وآخرها تلك الرابطة التي نشأت بين عمته وذلك الوغد عاصم مهران ...فما زال وقوفه أمام باب بيته من يومين مسلما عليه وهو يخبره أنه يقوم بتوصيل عمته لمنزلها ...وأنه يعتبر عمته صديقة مقربة له ..يثير غضبه ..وغيظه وحيرته ...ليضرب رأسه بخفة لعدة مرات بإطار النافذة وهو يحدث نفسه بخفوت :"صديقة مقربة ؟!! لعاصم مهران؟؟!! محدث النعمة الوغد ذي الثروة المهولة مجهولة المصدر ..والعلاقات المشبوهة ..والذي ظهر في دنيا الأعمال بلا مقدمات ليكتسح الأسواق ..مع مساندة قوية من بعض مراكز القوى بالدولة ..وإن لم يظهروا بالصورة معه بشكل مباشر ..لكنهم جعلوا أمر مساندتهم له أمرا معروفا للجميع حتى لا ينافسه أحد ... ليتساءل بداخله ..بقلق منذ متى عمتي كنت صديقة لأمثاله ؟!!..ولماذا الآن !!...أتمنى أن لا يكون شكي بمحله ..ويكون ما أفكر به هو ما تخططين له ...لأني لن أسمح لكما بذلك ولو على جثتي عمتي"
---------------------------------
دخلت تقى الجناح بغضب ..لتزفر براحة ما أن وجدت ياسر غير موجود ..لينظر لها أشرف بهدوء وهو يسألها بلهفة مستترة:
"هل سمح لك الطبيب برؤيتها"
لتزفر بضيق وهي تقول:
"لا ذلك الطبيب الأحمق ما زال مصرا على منعي من الزيارة وقد مد الفترة حتى غد صباحا رغم انه قال سابقا ثمانية وأربعين ساعة وقد مروا بالفعل"
لتضطرب ملامح ونبرات أشرف وهو يسأل بخفوت:
"هل ساءت حالتها ..لذا مد منع الزيارة"
لتقول بحدة وغضب:
"لا ..فحسب ما اخبرني حالتها مستقرة وأصبحت أفضل ..لكنه يفضل أن يبعدنا عنها لتستقر ..كله بسبب ابنك عماه ..لقد تشاجر معي ثانية أمام حجرة الحسابات بالمشفى بسبب معرفته بكوني دفعت حساب خالتي ..وأخذ يتشاجر معي ومع موظف الحسابات ..ولسوء الحظ مر هذا الطبيب لحظتها ليجدنا نتشاجر ....لولا جنون ووقاحة ابنك وسلاطة لسانه التي جعلت كل المشفى يتعامل معنا كزوج من مثيري الشغب والمشاكل لاستطعت رؤية خالتي "
ليقاطعها من الخلف صوت ياسر يقول بحنق وحدة:
أجئتِ هنا لتشتكي لأبي ..ألا تراعين حالته الصحية ..وأن غدا موعد عمليته الجراحية ويحتاج للراحة ..أم انك لا تملكين عقلا ولا إحساسا أيضا "
لتنتفض واقفة لتواجهه بغضب وهي تهتف بوجهه بحدة:
"بل أنت الوقح العديم الإحساس الذي يثير الزوابع والمشاكل في كل مكان ولولاك لكنت جالسة مع خالتي بعيدا عن وجهك ال.."
ليقاطع شجارهم صوت أشرف الناهر بحدة:
"اصمتا!!! له حق الطبيب بمنعكما عن الزيارة ..أنتما تتصرفان كالأطفال ..ولو لم تلتزما الصمت وتجلسا بلا كلمة واحدة فسأجعله يمنعكما من دخول المشفى بكامله ويلقي بكلاكما خارجا ..فقد تعبت من سماع شجاركما المستمر – ليضف بأمر حاد- اجلسا كلا في ركن مختلف وإياكما والنطق بحرف "
ليذهب كل منهما لجانب من الحجرة ليجلسا دون أن يكفا عن إطلاق الشرارات الغاضبة من عينيهما تجاه الآخر لينتفضا على صوت اشرف الحاد ..
"وكفا عن النظر لبعضكما كالديكة المستعدة للقتال "
لينكس كل منهما رأسه لتخرج تقى رواية من حقيبتها تحاول الإلتهاء بها حتى موعد المرور المسائي على أمل أن تستطيع إقناع الطبيب أن يتركها ترى خالتها ...بينما يخرج ياسر هاتفه و يتلهى بالعبث بتطبيقاته المختلفة وهو يسترق نظرات غاضبة لتلك الجالسة بالجانب الآخر...
------------------------------
سمع دقاتها على باب حجرة الكشف بعيادته بعد خروج آخر حالة لديه ..ليقف مبتسما وهو يقترب منها ليقبل جبينها وهو يقول بعتاب:
"لا ادري لما تصرين على المرور علي هنا ..لما لم تذهبي للمنزل وتبقين به حتى آتي إليك بدلا من انتظارك خارجا "
لتجيبه باسمة ..لم اشعر بالضيق ..كما أني لم آتي إلا منذ دقائق وأنت بالكشف الأخير وبقيت مع هند بالخارج ..أنها فتاة لطيفة رغم كونها دوما صامته وعينيها حزينتين ..لكن يبدو أنها انطوائية قليلا وغير اجتماعية ولا تكاد تتحدث إلا نادرا"
ليرفع أكرم حاجبيه متعجبا من كلام سارة ..فهند التي يعرفها تختلف عن وصف سارة ..بل هي فتاة مرحة ..شقية لا تكف عن الثرثرة لدرجة تصيبه بالصداع أحيانا وتذكره بشقيقته همس ..ليقطب بتفكير وهو يستعيد ملامحها وتصرفاتها مؤخرا فهي بالفعل متغيرة ..تتصرف بجمود وآلية ..ودوما صامتة لا تتحدث إلا لتجيب على أسئلته.. أو إبلاغه بالحالات ..وكلما سألها عن حالها وسبب حزنها ادعت أنها بخير.. وأنها فقط ضغوط الدراسة ...حتى انه عرض عليها المراجعة معها عدة مرات لترفض بكونها لا تحتاج مساعدة حاليا ولا يوجد ما تستصعبه بالوقت الراهن ..ليخرجه من شروده صوت سارة المنادي عليه بتعجب سائلة عن سبب شروده وهي تلف يدها بذراعه لينظر لها مبتسما ومزيحا أي تفكير بهند من رأسه وهو يخبرها أنه معها ليسمعها تستعجله للذهاب لبيتهم قائلة :
"هيا أكرم اخلع المعطف لنذهب لمنزلكم فوالدتك قد وعدتني أن تطهي لي تلك الوجبة التي أحبها كثيرا من يديها ...المصنوعة من الباذنجان والفلفل والطماطم "
ليقاطعها أكرم ضاحكا:
"لا تقولي لي أن أمي ستطهو لنا مسقعة على العشاء ...حرررررام عليك سارة ....إنها ثقيلة جدا على المعدة قبل النوم... لا افهم سر عشقك لها منذ أن جربتها عندنا أول مرة وأنت لا تكفين عن طلبها ..رغم عدم قدرتك علي حفظ اسمها"
..لتجيبه ضاحكة " لقد أحببتها وجعلت الطباخ لدينا يصنعها لي لكنه لا يجيدها كما خالتي أم اكرم... بل يغرقها باللحم المفروم فلا اشعر معها بطعم الباذنجان الرائع"
لتنطلق ضحكات أكرم وهو يقاطعها :
"تعشقيها (اورديحي) وتكرهيها باللحم "
لتقطب بحيرة من الكلمة وهي تسأله
"ما معني اوردح هذه؟؟!!"
لتنطلق ضحكاته النادرة بصوت أعلى وصل للجالسة بالخارج مخترقا دقات قلبها بألم بينما يجيب خطيبته وهو يحاول السيطرة على ضحكاته:
"اسمها اورديحي وليس أوردح ..أي خالية من اللحم فارغة من أي عنصر بروتيني غالي الثمن مكتفية فقط بمكونات بسيطة رخيصة.. جيد أن سامح لم يسمعك وإلا لما تخلصنا من سخريته أيتها النصف إنجليزية .. على كل لا يمكنني أن أحرمك من المسقعه التي تصنعها أمي وتعشقيها أنت وإلا لن أتخلص من غضبها علي.... هيا بنا"
-------------
كان مستلقيا على فراشه يحدق بالسقف مفكرا بأنه لابد أن يستغل غياب ياسر لإيصال ابنة خالته لمنزلها بعد أن سمح لها الطبيب برؤية خالتها لبضع دقائق ...ورفض أن يدخل معها ياسر مما جعل الأخير يستشيط غيظا وغضبا ..ليزداد غضبه عند مجيئها لحجرة أبيه لتشكره وتخبره أنها ستعود لمنزلها بعد أن أطمئنت على خالتها وتعود صباحا حيث سيتم نقلها لحجرة عادية ...وأيضا لتكون موجودة قبل موعد جراحته ظهر الغد ..ليصر هو على أن يذهب ياسر لإيصالها فالوقت متأخر ولن يأمن عليها للذهاب وحدها بوقت كهذا ...كان يتوقع مجادلة من ابنه النزق كالعادة لكنه فوجئ به يسحبها من يدها هاتفا بحدة :
"هيا حتى لا أتأخر وأعود لأبي "
حاولت هي الاعتراض لكنه حسم الأمر معها وأصر على أن تذهب برفقة ابن خالتها ...كان بالفعل قلقا عليها لكنه أيضا احتاج لوقت بمفرده ..وقت للتفكير ..وقت لحسم الأمر ...هو بحاجة للذهاب إليها ....بحاجة لرؤيتها قبل موعد جراحته ..بحاجة لتكون عيناها وصوتها وأنفاسها هي آخر ما يستشعره قبل أن تتسلمه مشارط الجراحين ..فربما لن يعود بعدها و تخرج الروح لبارئها ...هو ليس خائفا من الموت ...لكنه خائف من أن يموت دون أن تكون هي جزئا من حياته ..خائف أن يلقى ربه دون أن يكون من حقه طلبها زوجة بالجنة إن وهبه الله رحمة دخولها بفضله سبحانه ..خائف أن يموت وهي ليست مكتوبة على اسمه ...وفي نفس الوقت ...هو غير قادر على أن يعيد ألم ماضيه ...فماذا لو كتب له الله الشفاء ...كيف سيتحمل الحياة معها كما بالماضي ..بدون أن تمنحه قلبها وعاطفتها ..فهو إن استطاع الاحتمال سابقا ..فالآن يستحيل أن يقدر على الاحتمال ...لم يعد لديه الطاقة والقدرة على الصبر ..على التجاهل ..على الاكتفاء بالمنح دون أن ينتظر العطاء ...جفاف حياته طوال السنوات العشر الماضية يجعله تائقا لأن يعوضهم بدفق من العواطف تُمنح له ..ليكون هو المتلقي ..هو من يأخذ بدل الاكتفاء بالعطاء دون مقابل ...كيف يوازن بين رغبات قلبه ..ورفض عقله ..بين خوف من موت وشيك لا تكون مكتوبة قبلها على اسمه ..وخوف من حياة تكون مكتوبة على اسمه كحروف بلا روح وقلب ...بلا حب وعواطف ...يخاف أن توافق لأجل إحساس بالذنب ..أو رغبة بالقرب من ابنها ليكون مجرد سبب ..دون رغبة فعلية منها نحوه ..ويخاف أن يبتعد فيقضي على فرصته الأخيرة بأن يتنفس عشقها مرة أخرى ...ليحسم أمره ويتحرك ببطء هابطا من فراشه ليذهب إليها وبداخله عزم ينضح من نظراته بأنه لن يحيا بتلك الحيرة ولو اقتصرت حياته على تلك الساعات ..فلتكن ساعاته الأخيرة حسما لتاريخه معها ..ليعرف منها ما يريد أن يعرفه طوال حياته ..ليستطيع أن يحسم قراره للأبد مهما كان مدى زمن هذا الأبد
----------------
يسير بالشارع شاردا لا يكاد يتبين طريقه كأنما قدماه من تقوده وحدها بينما عقله شارد بما حدث من يومين على باب بيت صهره وشقيقته ...يشعر بمزيج من الغضب والحنق ...الغضب من الطريقة المهينة التي عاملته بها والدة مهينار ..كما لو كان حقيرا لا يرقى لمستواها ولا يستحق حتى تحية مهذبة ..والحنق من نفسه لأنه غير قادر على عدم التفكير بها وإخراجها من عقله ...هي لا تناسبه ...لا تناسب عالمه ومستواه وفكره .. هي نجمة أبعد عنه من نجوم السماء ..إن كانت حبيبته الأولى أيام الجامعة ..والتي لم يكن يميزها سوى منصب أبيها ..رأت نفسها أعلى مقاما منه ...فكيف بمن تملك المال والجمال والأصول الراقية وعاشت وتربت بالقصور ...ضغط على أسنانه بغيظ حتى انتفض العرق بجانب فكه وهو يتذكر هذا المتأنق الذي يبدو كما لو كان خارجا من إحدى إعلانات البدلات الأنيقة بالمجلات الأجنبية ..رغم انه لا يبدوا شابا صغيرا ..فشكله يوحي بأنه في نهاية الثلاثينات أو ربما بداية الأربعينات ..لكنه أيضا لا يبدو كبيرا كفاية ليكون هدفه هي والدة مهينار ...بل من الطريقة التي كان ينظر بها لمهينار وهو يسلم عليها فواضح انه معجب بها ..لقد تدلى فكه حرفيا وكاد يفقد أعصابه ويحطم فك هذا العاصم بقبضته وهو يراه ما أن أنهى سلامه بخالد الذي شعر بنفوره ناحيته رغم سلامه المهذب عليه ..ليجد هذا السخيف يلتفت ليسلم على تلك الحمقاء التي تحتاج لإعادة تقويم برفع يدها وتقبيلها ...لقد رأى اللون الحمر يغشى عينيه ولولا بقية من عقل نبهه أنه لا يحق له التدخل خاصة بوجود والدتها وابن عمتها الذي أثار غيظه بعدم فعل شيء سوى ضغط فكيه بجمود ..لقد كان يظن أن تقبيل الأيادي هذا لا يحدث إلا بالأفلام القديمة ..ولم يتخيل أن يرى رجلا يسلم على فتاة بتقبيل يدها!!! .. أيظن نفسه عمر الشريف وهي فاتن حمامة يمثلون بفيلم رومانسي ..وتلك الغبية كيف سمحت له بتقبيل يدها.. كما لو كان فعلا عاديا أو سلاما معتادا للبشر ..لقد تمنى أن يحاول هذا الأحمق محاولة فعلها مع شقيقته همس ليكون من حقه وقتها التدخل وتمريغ بذته الأنيقة بتراب الأرض.. لكنه اكتفى بتحية خالد وماهي ودعوتها للسيارة لتذهب معه وتجلس بينه وبين والدتها لتنطلق السيارة أمامهما تاركة له يغلي غيظا وخالد عاقد حاجبيه وشقيقته الحمقاء تقف بالخلف غير منتبهة لشيء سوى كيس الدوم والحرنكش الذي تأكل منه بنهم وتلذذ غير عابئة بكل ما يحدث....
انتبه من شروده على صوت نداء باسمه ليلتفت خلفه فيجد شقيقه قادما باتجاهه وخطيبته متعلقة بذراعه ليحييهما بمودة بينما يسمع أكرم يسأله:
"ما بالك سامح أنا أناديك من فترة دون أن تسمعني ..وما الذي أخرك للآن ..الم تقل أنك ستعود اليوم قبل المغرب لتذهب مع أبي لزيارة الشيخ سالم إمام المسجد "
ما أن هم سامح بالرد على أكرم حتى توقف ما أن لفت نظره هذا الواقف بجوار أحد أبواب المحال المغلقة يحاول أن يتخفى حتى لا يلمحه أحد ..لينظر لأكرم بحدة وهو يسأله:
"أين هند؟!! هل سبقتك لمنزلها أم ما زالت بالعيادة"
لينظر له أكرم متعجبا وهو يجيبه:
"بل ما زالت بالعيادة ..قالت أنها ستبقى قليلا حتى ترتبها وتعقم الآلات قبل ذهابها "
ليقول له سامح بحدة :
"لم يكن عليك تركها تعود وحدها بهذا الوقت المتأخر ...لا تكررها ثانية ..أعدها معك ما أن تنتهوا من عملكم"
لينظر له أكرم بحدة ويسأله بخشونة:
"ماذا بك سامح ..ومنذ متى هذا الاهتمام بهند ولماذا؟؟!!"
ليقول سامح بغضب بينما عيناه لا تفارق هذا المتخفي والذي ينظر باتجاه مدخل عيادة شقيقه ..
"لأنها جارتنا... وهي فتاة يتيمة تربت بيننا كشقيقة لنا وأصبحت أمانة بأعناقنا منذ وفاة أبيها ..سأذهب لأعود بها حتى لا تعود وحيدة "
لتتعالى ضحكة رقيقة من سارة وهى تقول بمرح :
"يبدو أن لدينا محبا هنا يا أكرم ..دعه فربما يرغب بحجة للقائها"
ليناظرها كلاهما بغضب ونظرات محتدة جعلتها تصمت بحرج ...ليلتفت أكرم لأخيه بملامح ثائرة ويوقف تحركه بإمساك ذراعه بقوة وهو يسأله بحدة:
"سامح كلامك وطريقتك لا تعجبني ..العيادة أمامنا بآخر الشارع ..لا تبعد عن المنزل إلا بضع دقائق سيرا ..ففيما غضبك وقلقك ..ما تقوله لا يقنعني فأخبرني ماذا هناك؟!!"
..ليزفر سامح بحنق وهو ينظر لأخيه جاذبا يده منه بينما يلمح ظهور هند بمدخل العمارة التي بها العيادة ليقول باستعجال :
"فيما بعد أكرم سأخبرك لاحقا ..اذهب الآن لا يصح أن تقف مع خطيبتك بالشارع هكذا"
ليسارع ناحية تلك القادمة بشرود مستبقا الواقف يراقب بتخفي يظن انه يخفيه عن العيون ..ودون أن يرى سامح تلك النظرات التي لاحقته إحداها محتدة بمزيج من الحيرة والضيق والتساؤل ..وأخرى مبتسمة ظنا أنها غيرة عاشق واستعجال محب ..وثالثة متوعدة لهذا الذي منعه أن يقتنصها الليلة لكنه سيقتنصها قريبا بعيدا عن هذا الحامي الذي يظن أنه قادر على حمايتها منه للأبد"
---------------
سمع دقات هادئة على باب حجرة مكتبه بالمشفى ليهتف سامحا للطارق بالدخول دون أن يرفع رأسه عن التقرير الطبي أمامه ..لتخترق أنفاسه رائحة عطر ثمين فيرفع رأسه لتتسع عيناه ذهولا وينتفض واقفا وهو يهتف بحدة ورفض لما يراه أمامه " إيفا؟!!"
---------------
شعر بوالدته تدخل حجرته لتجلس بجواره على الفراش وهي تربت على كتفه قلقة عليه بسبب شروده واعتزاله لهم مؤخرا ...حتى أنه لم يأكل شيئا واعتذر منهم ليبقى وحيدا بحجرته ..ولم يخرج حتى للسلام على خطيبة شقيقه قبل أن تذهب ويذهب معها أخيه لإيصالها ... لتسأله عن سبب حالته وهي تسحب رأسه لحجرها فيرتمي عليه ضاما نفسه لحضنها الدافئ ومستمتعا بتربيتها على رأسه ..ليجبها أنه بخير فقط يشعر بإجهاد من العمل ...ليسمعها تدعوا له بالصحة والبركة والنجاح قبل أن ترفع رأسه إليها ناظرة بعينيه وهي تحايله بطلب تتمناه:
"بني ..لما لا تخطب كأخيك؟!! ..أنت تعمل الآن بشركة كبرى وراتبك جيد .. لما لا تختار فتاة طيبة تقف معك وتساندك وتسعد قلبك "
ليضحك بهزء وهو يعود للاستلقاء بحضن أمه بينما يجيبها ساخرا :
"ومن تلك التي ستوافق بشاب لا يملك شيئا سوى راتبه أمي؟ .. لا يستطيع أن يحضر لها شبكة لائقة؟ ولا شقة تسكن بها ..ولا حفلا تسعد به وتدعوا أقربائها وأهلها لتتباهى بثوبها وحليها وحفلها ..أرجوك أمي لا داعي لمثل هذه الأحلام السابقة لأوانها "
لترد أمه بمزيج من العزم والإصرار:
"المئات من الفتيات سيوافقن ويتمنين شابا مثلك أمامه مستقبل واعد ..وبإمكانك أن تخطب لفترة وبعد سفر شقيقك تتزوج معنا مؤقتا حتى تستطيع توفير سكن لائق سنضم حجرة همس لحجرتك وأكرم لتصبح حجرة نوم كبيرة ولائقة و.."
ليقاطعها سامح وهو يمرغ رأسه بحضنها ويسحب يدها ليقبلها ويضعها على شعره في إشارة لتلعب بأصابعها بخصلاته وتدلك له فروة رأسه بحركة اعتاد عليها منها بصغره ويحبها كثير ..لتستجيب له والدته وهي تسمعه يقول بسخرية حانية:
"أمي الحبيبة الفتيات الآن لا يقبلن العيش بحجرة مع أهل الزوج بمنزل قديم بحي شعبي ...بل يطلبون شقة بمكان راقي وفرش بمواصفات محددة وغالية ..وشبكة لائقة رغم أن أسعار الذهب الآن أصبحت تحتاج لسارق حتى يستطيع أن يحصل عليها... أنا لن أهين نفسي وأذهب لأخطب فتاة لألقى الرفض.. أو الطلبات التعجيزية والإهانة يا أمــي...ما زال أمامي الكثير لأفكر بالأمر ..ركزي حاليا مع أكرم وزواجه القريب.."
لتفاجئه والدته بجملة جعلته يتخشب لثواني قبل أن يعتدل جالسا وهو ينظر لوجهها بعدم تصديق طالبا منها أن تعيد ما قالت:
"أقول لك أن العروس موجودة وتعرف ظروفك وراضية وراغبة هي وأهلها ومرحبين أيضا "
لينظر لأمه للحظات قبل أن يسألها بتعجب:
"ومن تلك الفتاة التي تحكين عنها ...وواقعة هكذا لدرجة أن تقبل بمعدم مثلي"
لتهتف والدته باستنكار:
"معدم ؟!! من هذا المعدم بل أنت خير شباب المنطقة وزينتها ..ومحظوظة من تحظى بك .." لتتجاهل نظرة سامح الهازئة وهي تضيف:
"عموما هي ليست غريبة عنك إنها سماء ابنة خالتك فوزية ...فتاة جميلة ومهذبة ..وتجيد الطهي وسيدة منزل ممتازة رغم صغر سنها ..فهي من تقوم بكل طلبات منزلهم ..رغم انشغالها بدراستها الجامعية فهي كما تعرف بعامها الثالث بكلية التربية...... خالتك لمحت لي مرارا عن تمنيها بأن تكون سماء من نصيب أحد أبنائي ...وبعد خطبة أكرم صرحت لي أنها ستحزن إن خسرتك أنت أيضا لسما "
لينكس رأسه قليلا وهو يفكر أنه ربما كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي تقطع عليه خط التفكير ..فهو لن يستطيع أن يجرح ابنة خالته لو ارتبط بها ولو بالتفكير بأخرى ..كما لن يستطيع الفكاك من اسر ارتباط كهذا ..ما سيمنع مشاعره الخائنة من الأمل بالمستحيل.. ليرفع رأسه لأمه لمنحها الإجابة التي تريدها وقد حسم أمره....
-------------------------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 22-08-18, 03:43 AM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل الثاني عشر

طرق الباب بهدوء يخالف مشاعره الهادرة ونبضات قلبه التي من قوتها تشعره بالألم في جنبات صدره بينما يفتح الباب بعد سماعه صوتها يسمح له بالدخول ليرى اتساع عينيها ما أن رأته لتحاول الاعتدال من استلقائها بينما يخفض عينيه وهو يقرب كرسيا من سريرها ويجلس عليه سائلا إياها:
"لماذا أخبرت ابنة أختك أنك ستظلين بالعناية اليوم رغم أن الطبيب سمح بنقلك لحجرة عادية "
اعتدلت بوضع شبه جالس و رفعت الغطاء لمنتصف وسطها وهي ترد عليه بارتباك وثقل طفيف بحروفها جعلتها تبدو لإذنيه كأنها تدلل الكلمات وتغازل الحروف ..رغم علمه أنها تأثير جانبي لحالتها :
"لو علمت لأصرت على البقاء والمبيت معي بالمشفى ..ولم تكن ستشعر بالراحة خاصة مع بقائها هنا طوال اليوم ..ففضلت أن أطلب من الممرضة إخبارها أن الطبيب أجل نقلي للصباح ولن يسمح بالزيارة الليلة ..حتى تقبل بالذهاب ..وانتقلت للحجرة بعد مغادرتها "
كانت عيناها تسترقان النظرات إليه لتعود للنظر لكفيها المتشابكين اللذان تفركهما بتوتر وقلق في حركة اعتادها منها قديما عندما تشعر بالارتباك
ليسألها بينما لم يستطع منع عينيه من النظر لملامحها التي رغم نحولها وشحوبها يراها بعيني قلبه أجمل وأروع مما تحتمل مشاعره لتبقى على جفائها:
"كيف حالك الآن "
لتصمت للحظة قبل أن تقول بشجن:
"بخير.. لو كنت تسأل عن صحة جسدي .... فقد تعافيت والحمد لله ..لدرجة أني لا أرى داعيا لتصميم الطبيب على بقائي ليومين آخرين "
..لترفع عينيها إليه لتلتقي بعينيه في بادرة أربكته خاصة مع تلك اللمعة من الدموع بداخلها وهي تضيف :
"أما آلام الروح وندوبها ...فلا أظنها ستبرأ أو سأجد لدى الأطباء علاجا لها"
ليجد نفسه يزدرد لعابه بصعوبة بينما عينيه اللائمة ما زالت مشتبكة بلمعة عينيها وهو يقول بلوم:
"ومن تسبب بجروحك ..وندوبك ..من فعل بك ذلك؟!!"
لتنقبض عضلة قلبه بالتواء مؤلم جعله راغبا برفع يده وتدليكها وهو يراها تخفض عينيها بينما يزداد دعكها ليديها وتنفلت منها الدمعات لتتساقط على وجنتيها بينما تقول بنشيج متألم:
"أنا ...أنا من فعلت وأصعب ألم.. هو ألم إنسان يعي أنه من جرح نفسه بنفسه ..وجرح معه أقرب الناس إليه ...حتى لو كان بدون قصد "
لينظر لها بينما تتهدج أنفاسه وهو يقول بغضب مكتوم:
"بعض الجروح قاتلة ...ولا يشفع القتيل بعد الموت كلمة اعتذار من قاتله ..تخبره انه لم يكن يقصد قتله "
لترفع وجهها الغارق بالدموع إليه بينما تقول من بين نشيجها الخافت:
"القاتل ...غير قادر على الاعتذار فقد مات في نفس الحادث ...رغم أنه لم يتعمده "
وجد صدره ينقبض عند ذكرها كلمة الموت ..ليجد نفسه يصارع رغبة بداخله أن يقول لها -بعد الشر والموت عنك يا قلب قتيلك-..كم يتمنى أخذها بين أحضانه ليهدهدها ويطمئنها ويربت على شعرها وهو يراها كطفلة ملتاعة ... ليجد نفسه يسألها بدلا عن ذلك نفس السؤال القديم بقدم سنوات فراقهم:
"من هو؟"
لتغمض عينيها بحزن وهي تقول بخفوت دون أن تدعي عدم الفهم:
"ما زلت مصرا على المعرفة ..رغم قسمي لك بالسابق أنه لم يكن شخصا بيني وبينه أي علاقة "
لم يجبها لتظل نظراته معلقة بها دون كلام... في صمت يبلغها بوضوح انه لن يقبل بمزيد من الصمت أو المواربة ..وأنها إن أرادت أن يكون لها بداية جديدة معه ...أيا كان شكلها لابد من إغلاق كل دفاترها القديمة ..حتى لو كانت لا تحتوي حروفا أو كلمات تذكر..

أغمضت عينيها وأعادت رأسها للخلف لتعود بذاكرتها لسنوات عديدة... كانت بها فتاة لا تتعدى الخامسة عشرة من عمرها ... خجولة منطوية تعيش حياتها في عالم من الخيال والأحلام ...فوالدها القاسي الطباع ..والذي لم يستطع أن ينجب سواها وشقيقتها رغم كرهه لهذا الأمر .. أبيها الذي دفعته رغبته بولد ذكر ليتزوج بأخرى غير أمها لفترة ظنا أن العيب بأمها ..ليطلقها بعدها عندما علم من الأطباء أن العيب به نتيجة إصابته بالدوالي ونتيجة تجرؤ الثانية على معايرته يوما بعقمه..
ليزداد شعوره بالغضب بالإضافة للشدة بالتعامل معهم ...والخوف المبالغ به خاصة ناحيتها ..و الذي جعله يضيق الخناق حولها لدرجة أنه كان يوصلها لمدرستها القريبة من محل عمله بنفسه يوميا ...ويجعلها تنتظره بداخلها بحجرة المكتبة حتى ينتهي يوم عمله ليأخذها بنفسه للمنزل ..رغم أن ذلك يعني أن تبقى لساعات عدة بعد انتهاء يومها آمرا إياها أن تستغلهم بالمذاكرة وحل واجباتها... ساعده على ذلك كون مدرستها تعمل بنظام الفترتين ..ولم يسمح لها أبدا بأن تقيم علاقات أو صداقات مع زميلاتها.. أو تشترك بأي نشاطات مدرسية...
لم تعاني شقيقتها مثلها ... فمها كانت تصغرها بخمس سنوات... كما لم تمتلك جمالها الملفت ..فهي لم تكن الأكثر جمالا فقط بل أيضا امتلكت ...جسدا فائر الأنوثة مبكر النضج...ما جعل حصار والدها لها يصل لدرجة أشبه بالسجن ...فوجدت منفذها بالروايات التي أدمنت قراءتها خفية عنه ...ساعدها على ذلك ذاك الكشك الصغير لتبديل واستعارة تلك الروايات بجوار مدرستها ...والتي اعتادت التسلل إليه لاستعارة تلك الروايات منه وكانت تنفق كل مصروفها عليها...وتعلقت بصفة خاصة بتلك النوعية من الروايات العاطفية المترجمة الشهيرة ..التي عرفتها عليها زميلة بالمدرسة .. لتعشق تلك النوعية التي جعلتها ترسم صورة لفارس أحلامها مشابها لأبطالها ..فتراه بعين خيالها قويا غنيا وسيما ذا حضور ...يفرض رأيه وسطوته على الجميع ..وتتخيله بأحلامها كغازي منتصر وهي أميرته الأسيرة ..أو كرجل قوي قادر وهي حبيبته التي سينقذها من براثن قيد أبيها ويأخذها له رغما عن انف الجميع ..
لقد تساءلت كثيرا خلال السنوات الماضية ...ترى لو لم تتأثر بقوة بتلك الروايات ..وبصورة فارس الأحلام المرسوم من خلالها ...هل كانت ستتعلق بمصطفى عندما رأته للمرة الأولى ؟!!..وهل كانت ستستطيع رؤية والشعور بأشرف وحنانه وحبه فيما بعد ..
لتعود بعدها للواقع وتفتح عينيها تنظر لأشرف المحدق بها بانتظار مترقب قلق ... لتقول باستسلام:
"سأخبرك ما تريد ..وأقسم بالله أنني لن أخفي شيئا أو انقص حرفا مما حدث "
لتعود لإغلاق عينيها بينما تبدأ برواية حلم مراهقتها الذي تحول لكابوس حياتها وهي تعود بذاكرتها لهذا اليوم ...عندما نسي والدها مفاتيحه معها بعد إيصالها لمدرستها ...لتلحق به محاولة الوصول إليه قبل أن يدلف من باب شركة الراوي التي لا تبعد عن مدرستها كثيرا ..لكنها لم تلحقه لتدلف إلى داخل الشركة بوجل وسرعة فتصطدم في اندفاعها بهذا الرجل الذي ما أن رأته حتى شعرت أن أحلامها وأبطال قصصها تجسدت به ..وسيم مهيب ..ناضج ..ينضح الغرور والثقة من هيئته الأنيقة ..لتنتبه لحظتها على يده التي أسندتها بينما ينظر لها بتعجب وهو يسألها من تكون؟.. ولما تدخل جريا لشركته بهذه الصورة ..لتسحب يديها بخجل وارتعاش الجم لسانها عن النطق للحظات ..لتجده ينظر لوجهها المحتقن بسخرية عابثة وهو يسألها :
"ماذا ؟ أأكلت القطة لسانك يا صغيرة "
...لتنظر له بانبهار وهي تتذكر بطل القصة التي كانت تقرئها بالأمس والذي قال نفس تلك الجملة للبطلة ..لتشعر لحظتها أنها قابلت فارسها ..وأنها ستحيا أخيرا قصتها الخاصة ..لتنتفض على صوت أبيها الهادر مناديا بحدة وتعجب:
"تقى ؟!! ماذا تفعلين عندك "
لينتبه للواقف أمامها فينظر له بتعجب وهو يحيه:
"مرحبا سيد مصطفى"
ليرد الآخر عليه بهدوء وثقة
"مرحبا أستاذ عبد المجيد ...هل تلك الصغيرة تتبعك؟!"
ليقول أبيها بضيق وارتباك:
"أجل ...إنها ابنتي"
لتخرج عندها من حالة التيه والرعب التي تلبستها ما بين رؤيتها لفارس أحلامها ورؤيتها لأبيها ..لتقول بارتباك وخوف جعل الحروف تخرج متعثرة بتلجلج وهى تخرج مفاتيح أبيها قائلة:
"لقد نسيت مفاتيحك معي أبي ..و"
ليقاطعها أبيها بحدة قاطبا حاجبيه:
"لقد انتبهت لذلك عند وصولي ... وخاصة أن بينهم مفاتيح مكتبي ..وكنت عائدا لأخذهم منك ..لم يكن هناك داعي لتأتي بنفسك ..إياك أن تكرريها وتتركِ مدرستك ثانية"
لتطأطئ رأسها بإحراج ووجه محتقن خزيا لنهره إياها أمام فارس أحلامها... هذا الذي لا تعرف حتى الآن من يكون ..لتسمع صوته الواثق يقول لأبيها بسلطة :
"لا داعي لغضبك سيد عبد المجيد ..فابنتك كانت حريصة عليك لذا قامت بذلك ...تفضل الآن لإيصالها لمدرستها ...وسأخبرهم بالأعلى بسماحي لك بالتأخر عن موعدك قليلا "
ليتركهم مغادرا باتجاه المصعد .. بينما يجذبها أبيها بعنف من ذراعها ليعدها لمدرستها وهو يعنفها طوال الطريق .. ويرغي ويزبد عن الموقف المحرج الذي وضعته به أمام نائب مدير الشركة (مصطفى الراوي)
لتعلم بعدها أنه الابن الأكبر لمالك الشركة ...كما انه من يديرها فعليا بجوار أبيه ..لتظل لأشهر تحلم به ..تتخيله بطلها مع كل قصة تقرئها..
حتى كانت مأساة خطبتها جبرا لابن عمها بعد عدة أشهر ..لتبدأ عندها بالهروب من واقعها عن طريق خيالها الخصب ..وأحلام يقظتها التي تتخيله بها ينقذها من براثن تلك الخطبة ...أحلاما كانت تترجمها عادة لخطابات تكتبها له.. كما لو كان حبيبها الغائب ..لتمزقها بعدها ...كانت طريقتها بالهروب وتفريغ شحنات الغضب ..والقهر ..ليأتيها الفرج نتيجة مشاجرة قوية بين أبيها وعمها أدت لفسخ الخطبة.. لتشعر بالسعادة والتحرر... خاصة أن فسخ خطبتها صادف نفس توقيت زفاف الابن الأصغر لعائلة الراوي أمجد و التي دعي إليها كل العاملين لديهم وأسرهم ومن ضمنهم أبيها .. الذي قبل الدعوة وعلى غير العادة صحبهم معه...ربما للتخفيف عنهم من وقع المشاكل التي صاحبت فسخ خطبتها مع ابن أخيه ..لتراه للمرة الثانية ..لتنبهر أكثر وأكثر بطلته الملكية الوسيمة ...حضوره الطاغي الذي جعلها لا تكاد تحيد بعينها عنه بصورة خفية خوفا من أن يلمحها أبيها ...وعندما أقترب من المنضدة التي كانوا يتشاركونها مع بضع موظفين آخرين مسلما على الجميع ومختصا إياها بنظرة باسمة وهو يحيها برأسه... مما جعلها تبني الأحلام معتقدة أنها لابد تذكرها من لحظة لقائه بها ..وأن تحيته تلك تثبت ظنها بأنه لم ينساها كما لم تنساه هي.. كانت غارقة بأحلامها وأوهامها لدرجة لم ترى معها نظرات أشرف التي كان يسترقها ناحيتها ما بين الفينة والأخرى ليسارع ما أن رأى يدها خاوية من حلقة الخطبة بطلب تحديد موعد من أبيها لخطبتها.. فتحت عينيها لتنظر له وهي تقول بإجهاد وخفوت بعد انتهائها من قصتها:
"اقسم بالله ..لم أره بعدها أبدا ..ولم أفكر به من بعد يوم زفافي عليك ..حتى عندما علمت بوفاته بحادث بعد سنوات ..لم أشعر بأكثر من حزن إنساني على شخص قابلته يوما لا أكثر... عندما كتبت هذا الخطاب الأخير صبيحة يوم زفافنا كانت مجرد صرخة غضب ترجمتها لحروف وكلمات ...كعادة اعتدتها سابقا ..ليكون الخطاب الوحيد الذي لم تتح لي الظروف أن أمزقه ...لتتمزق حياتي بحروفه التي لم تكن أكثر من فضفضات مراهقة غاضبة تشعر بالقهر نتيجة فرض الأمور عليها وتسير حياتها دون الاهتمام برأيها ..
ظل للحظات صامتا مطرقا للأرض ..طوال حديثها الذي كان ينصت له بكل حواسه ..كان يلوم نفسه ..لأنه في لهفته للارتباط بها لم يهتم بالتأكد من رضاها ...اعتبر موافقة أبيها عليه موافقة ضمنية منها ...حتى جفائها معه لاحقا عزاه لخجلها وصغر سنها ..كان يختلق لها الأعذار دوما ..وكان هذا أكبر أخطائه على مدى سنوات عشرته لها .. كان يجب أن يواجهها ليفهم أسباب جفائها ..ربما لم يكونا وصلا لما آل إليه حالهما.. ليرفع رأسه مواجها عينيها الدامعتين المترقبتين لرد فعله ليقول بسخرية مؤلمة:
"لم تتمزق حياتنا نتيجة لكلمات خطتها يداك بخطاب ...هذا الخطاب كان فقط القشة التي قسمت ظهر البعير ...حياتنا أُسسها كانت مخلخلة وقابلة للتهدم مع أي هبة ريح من قبلها بكثير ..أتعرفين لما ؟!! – نظرت إليه دامعة دون أن تجيب بينما يكمل -لأنني ظللت لسنوات أضع حجارة البناء فيها دون أن اهتم بالتأكد من ثبات أساساتها ..وفى المقابل ظللت أنتِ تضربين وتطرقين جدرانها بمعول كل يوم ظنا أن الأساس قادر على احتمال الضربات...لتكون النتيجة أنها هدمت فوق رأس كلانا "

ليزداد نشيجها ويرتفع صوته وهي تقول من بين نهنهاتها الرقيقة:
آسفة سامحني أشرف ...صدقني اللحظة التي أخرجتني فيها من حياتك لأصبح مطلقتك بدلا من زوجتك التي تنتمي لك... كانت اللحظة التي شعرت بها أني طردت من الجنة ..كانت اللحظة التي عرفت قيمتك وغلاتك لدى.. ليتقطع صوتها وهي تقول ..قد تظن أني لم أحبك يوما ..أو كنت أسيئ إليك بقصد رغم حنانك وصبرك معي ..لكنك فقط لا تفهم ...وكيف تفهم وأنا نفسي لم أفهم وقتها ما أفعله"
لينظر لها بألم يقاوم رغبته بضمها ومسح عبراتها المنهمرة ليحاول التماسك وهو يسألها:
"أفهم ماذا؟"
لتتردد للحظة ويحتقن وجهها قبل أن تقرر دحر خجلها فهو يستحق أن تخبره حقيقة شعورها نحوه مهما كان رد فعله بعدها لتقول له بخفوت:
"أني كنت احبك دوما.. لكني كنت غبية.. لأفهم ..لأعترف حتى لنفسي ..خائفة أن اسلم لك وأبوح ...فتقسوا كأبي ..أو تتركني لتتزوج أخرى مستسلما لرغبات اهلك...ربما أيضا كنت اخلص منك حقي في الدلال الذي لم يمنحه لي أبي ...كل فتاة تحب أن تكون مدللة أبيها ..أميرته التي يحنو عليها وينفذ رغباتها فيشعرها ملكة مهما فعلت ..أنا لم احصل على هذا ببيت أبي ...لكنك منحتني إياه ببذخ فزدت تطلبا كطفل أفسده الدلال وازداد طمعا ..سامحني "
رغم انه أصيب بصدمة أشبه بصاعقة كهربية أرعدت دواخله ما أن سمعها تقول أنها اكتشفت كونها تحبه ..إلا انه حافظ على تماسكه بصعوبة ليظل منصتا لها ...لينظر لها بإمعان بعد صمتها وهو يسألها :
"كيف؟ "
لتنظر له بارتباك وعدم فهم ليفسر لها سؤاله:
"كيف تريدين مني مسامحتك ...ما تصورك لطبيعة هذا السماح ؟!! هل هناك شيء معين برأسك؟"
نظرت لعينيه لتتجمد للحظات وهي تستشعر معاني منتقصة لها بكلماته لتقول بارتباك ممزوج بحنق:
"إلى ماذا تلمح أنت بالضبط يا أشرف "
ليقول ببسمة جانبية:
"أنا لا ألمح عزيزتي ..أنا أسأل بصراحة ؟ أتتوقعين إن سامحتك ..أن أعيدك لعصمتي كأن شيئا لم يكن ..أن أمنحك ثانية لقب زوجة بدلا من مطلقة الذي لابد أنه يضايقك بشدة ؟!"
ليرى عينيها تلمعان بغضب وعنفوان طالما فتنه بينما تقول بثورة مكتومة وكرامة جريحة:
"أتظنني أطلب غفرانك لأحظى بلقب زوجة؟!! ...للعلم يا أشرف لو أردت اللقب لحصلت عليه منذ أنهيت أشهر العدة وبأي وقت على مدى السنوات ...فصدقني عدم زواجي بآخر طوال تلك السنوات لم يكن أبدا بسبب نقص العروض "
لتتوهج بعينيه شعلة غيرة أججتها كلماتها بينما يميل عليها قائلا:
"و كأني كنت سأسمح لك ..حتى لو طلقتك ..هجرتك ...حرمتك على نفسي سنوات ...لكنك كنت وستبقي مقرونة بي حتى مماتي ..حتى لو لم أسامحك ...فلا تظني أني سأمنحك الغفران بسهولة ...فلو قدر لي الحياة بعد عملية الغد فتأكدي أني سأعيد تأهيلك من جديد ..سآخذ منك حق السنوات ..ليست فقط سنوات البعد الماضية بل سنوات القرب التي سبقتها... فإن كنت تشتاقين للأب فسأريك جانبا منه ..عندما يستشعر أن أبنائه في طريقهم للفساد ويحتاجون للتقويم....وإن أردت فارس أحلام قوى قاسي كأبطال الروايات؟!! ...سأريك كيف يكون ..حتى تصرخين طالبة الرحمة وهاجرة كل رواياتك للأبد ..آه وقبل أن أنسى ... مصطفى الراوي رحمه الله ..كان أبعد ما يكون عن فارس الأحلام ..لقد كان وغدا جلفا بلا قلب ولا ضمير ...ولحسن حظك انه لم ينتبه لك من الأساس ...ودوما ما كنت أحمد الله أن خالد لم يرث من عمه شيئا من أخلاقه وطباعه ...."
كانت تنظر له بتيه وحيرة ..دون أن تستطيع فهم ما يرمي إليه حتى وجدته يرفع هاتفه لتتسع عيناها بصدمة وهي لا تكاد تصدق ما تسمع ..
-----------------

ظل ينظر لعيني أمه للحظات ...يحاول منحها الإجابة التي ستسعدها خاصة مع لمعة اللهفة والأمل بعينيها ..لكنه شعر بشيء يلجم لسانه ..يخنقه ..ليتنهد براحة وهو يرى أباه داخلا إليهما وهو يقول لائما بمزاح بينما ينقل نظراته بينهما
"...هكذا يا زينب ...تتركيني وحدي لتأتي لتدليل ابنك العاق هذا الذي لم يعد يهتم بالسؤال على أبيه والجلوس معه ,,بعد أن أصبح مهندسا مرموقا تكبر علينا "
لينتفض سامح واقفا مقبلا رأس أبيه وكتفه وهو يقول بمحبة ومزاح لم يخلو من الجد:
"ما عاش من يتكبر على الحاج محمد ..ليضيف بتوقير وإجلال...حفظك الله ذخرا وتاج لرؤوسنا يا أبي"
ليربت أبيه على كتفه بمحبة بينما ينظر لزوجته التي ابتسمت وهي تقول له:
"تعرف أنني لا استغنى عنك ولا أتركك وحدك يا أبا أكرم ..لكني أردت أن أفرح بسامح وأطمئن عليه كأخوته ..لذا حضرت لأكلمه في الموضوع الذي سبق وأخبرتك به "
لم يفاجئ سامح بمعرفة أبيه بالأمر ..فهو يعلم أن والدته لا تخفي عن أبيه شيئا ..لكن ما فاجئه حقا ..هي نظرة الغضب واللوم بعيني أبيه والتي وجهها لأمه بينما يتقدم ليجلس على الفراش مطرقا وهو يحرك حبات مسبحته.. ليقترب سامح جالسا بجواره وهو يسأله بتعجب:
"يبدو أن الموضوع لا يروق لك يا أبي ..فهل لي أن أعرف السبب "
ليجد أمه تنتفض وهي تقول بنزق:
"ماذا؟.. ولماذا لن يروق لأبيك ..صحيح أنه طلب مني أن أأجل الموضوع ولا أفاتحك به حاليا ..لكني لا أظن أباك سيعترض على ابنة أختي"
..لتقف متخصرة فتبدو أشبه بهمس عند غضبها ...وهي تضيف
"أم لا تعجبك سماء يا محمد؟!! "
ليتبادل هو وأبيه نظرة باسمة بينما يقول أباه لها بمهادنة :
"ومن هذا الذي لا تعجبه الرقيقة شبيهة خالتها ..تعرفين مدى محبتي لكل أبناء إخوتك وسماء بالذات لها عندي مكانة ومعزة خاصة ...وهذا أدعى لطلبي منك أن لا تفاتحي سامح بأمر ارتباطه حاليا ...ليس لرفضي لسما ..بل إنني كنت سأكون سعيدا جدا ..وأبادر بخطبتها له فورا لو علمت أنه يردها حقا ..أو على الأقل قلبه وفكره خالي لتستطيع هي أن تملأه "
كان ذهوله يزداد وهو يسمع كلمات والده التي عرت دواخله ..بينما يتساءل بداخله (كيف علم؟.. أهو مكشوف لتلك الدرجة.. أم أنها تلك الحاسة التي دوما ما جعلت والده يستطيع فهمهم وقراءة ما يخفوه حتى قبل أن يصارحوه به ) ليسمع أمه تسأله بحيرة عن ما يقصد بكلامه بينما تنقل نظراتها بينهما خاصة مع تشابك نظراتهما معا ...لتهتف بعد لحظات بفقدان صبر:
"هلا أفهمني أحدكم معنى ذلك؟!" ..ليقول أباه بتأكيد:
"معناه أن ابنك ليس مستعدا حاليا ليدخل فتاة في تعقيدات مشاعره وأفكاره يا أم أكرم ... وخاصة فتاة برقة سما ...كما أنني لن أقبل أن يظلمها وهو يدخلها جبرا في حياته رغم عدم رغبته الفعلية بها ..لأنه حينها سيظلمها ويظلم نفسه"
لتتساءل والدته بصوت ازداد حيرة:
"ولما جبرا ..وكيف سيظلمها؟ "
ليربت زوجها على كتفها وهو يقول:
"..لأن قلب ابنك مشغول ..وليس خاليا يا أم أكرم "
كان عيناه ما زالت معلقة بوالده رغم استمراره بالصمت وهو يسمع هتاف والدته المتعجب:
"ماذا؟.. من ؟ وكيف تعرف أنت وأنا لا اعرف ..وإن كان قلبه مشغول بفتاة لما لم يطلب خطبتها.."
لتشهق وهي تضرب صدرها قائلة:
"يا الهي ..ماذا سأقول لأختي ..إنها ستحزن بشدة ..وتظن أننا لا نرغب بنسبها...وربما تقاطعني للأبد "
ليقاطعها صوت زوجها الهادئ وهو يقول بحنو"
لا تقلقي ..فالزواج مقسوم ونصيب مكتوب ..لا أحد يدركه قبل أوانه ..ليقاطع تساؤلاتها وهو يقول بمهادنة ..سنفكر معا في كيف نراض شقيقتك لاحقا ... والآن هلا صنعت لي بعض الأعشاب ..فحلقي جاف ويؤلمني"
لتنتفض مسرعة للباب وهي تقول بقلق:
"يا الهي سأصنعه حالا ...أنت ما زلت لم تبرأ تماما من دور البرد ..أخشى أن يعاودك ثانية وتنتكس"
ليراقبها كلاهما وهي تخرج مسرعة بينما يعاود أبيه التسبيح والإطراق وهو يسأله بهدوء:
"أكنت ستوافق على عرض أمك يا سامح ..أكنت ستقبل بجرح ابنة خالتك وأنت تربطها بك رغم امتلاء قلبك بأخرى ..أتقبل أن ترتبط أنت بفتاة مشاعرها وعقلها يسكنها غيرك"
لينكس سامح رأسه بينما يزفر بعمق وهو يجلس بجوار أبيه ليقول دون مواربة:
"للحظة فكرت أن اقبل لأغلق الباب أمام عقلي وقلبي ..وأقطع على نفسي خط الرجعة ..فما كنت أبدا لأجرح ابنة خالتي أو أي فتاة أخرى"
ليلتوي فم أبيه ببسمة ساخرة وهو يقول:
"وهل الارتباط بفتاة دون أن تشعر ناحيتها بالحد الأدنى من المشاعر الواجب توافرها لدى الارتباط ..تلك التي يكون وجودها سببا ببناء مودة ورحمة وقبول والتي تبنى عليها البيوت العامرة ..ولا أقصد بالمشاعر هنا فقط مشاعر الحب العاطفي الجارف ..بل الرضا والتقبل وعلى الأقل خلو العقل والقلب من غيرها ..لا يعد ظلما لها ...الإنسان من الممكن أن يبدأ علاقة زوجية ناجحة مع فتاة دون أن يسبقها حب وعواطف ..بشرط أن يكون قلبه خالي ..لأنه سيكون مهيأ لتقبلها ..لرؤيتها للشعور بها.. فيأتي الحب لاحقا بالعشرة الطيبة ..لكن إذا بدأ حياته مع فتاة بينما قلبه تسكنه أخرى ..فلن تجد المسكينة التي ادخلها عنوة لحياته مكانا لها ومهما حاول المدارة ستشعر ..فالمرأة يا بني كائن بقدر رقته لديه أقوى حاسة استشعار ..ويا ويل رجل يعلق فتاة بحبه بينما تسكنه أخرى ..وقتها لن يستحق لقب رجل ..فالرجل الحق لا يجرح أنثى متعمدا ...لا يهنها قاصدا .. وهو ما سيحدث حتما إن ارتبط بفتاة وهو يحب أخرى"
ليرد سامح بنزق:
"وماذا إن كانت الأخرى حلما مستحيل التحقق ...نجمة لامعة بالسماء يستحيل أن تطالها يداه يوما وهو من سكان الأرض ..إن كان مجرد رغبته فيها تجرح كرامته لأنه يعي انه لن يرقى إليها يوما"
ليصمت والده للحظات توقفت فيها يداه عن التسبيح قبل أن يعاوده وهو مطرق قليلا ..ليقول بعدها :
"إذا فعليه بالصبر ..عليه الانشغال بنفسه ليبنيها مانحا لها كل الوقت اللازم حتى يستطيع أن يفعل احد أمرين "
ليقف وهو ينظر لأبنه مكملا:
"إما أن يستطيع بناء صرح يعلو به للسماء فيطال نجمته ..أو يفقد الأمل فتموت بذرة الحب بقلبه يوما بعد يوم حتى يطمرها الزمن بلا أثر ..فيستطيع حينها البحث عن بذرة أخرى تناسبه "
ليربت على كتفه وهو يتجه للخارج ليتوقف قليلا على باب الحجرة ويقول:
"سأذهب لشرب الأعشاب مع بطتي الغاضبة ..ومراضاتها"
..ليبتسم وهو يلتقط نظرات ابنه والرجاء المحتبس بعينه ..ليقول له بخفوت ...لا تقلق يا بشمهندس ...سرك ببئر ..لن اخبرها عمن تشغلك ..وسأعرف كيف ألهيها عنك في الوقت الحالي ...حتى تستطيع أن تعيد التفكير جيدا ..فما ربيتك ضعيفا ولا جبانا متخاذلا"
--------------

لم يصدق عينيه عندما طالع الوجه الماثل أمامه ...كما لو كانت خرجت له من آلة زمن ..فلا يبدو أن الأعوام أثرت بها ..تكاد تبدو كما تركها منذ ما يقرب من ستة عشر عاما ...بل ربما ازدادت تألقا ...ظل لدقائق يحدق بها بصدمة ..تمر عينيه على جسدها الرشيق بذاك الطقم الأزرق المشابه للون عينيها الأنيق والمحكم على جسدها ولا يكاد يصل بطوله لركبتيها... ليجدها تغلق الباب وتتقدم بهدوء لتجلس على المقعد أمام مكتبه واضعة ساق فوق الأخرى مظهرة المزيد من ساقيها ...أخذ يدقق بملامحها بصمت لم يقطعه أيا منهما ...بينما كانت تقيمه هي الأخرى بنظراتها ...لا ينكر الشبه الكبير الذي يجمعها بابنتهما سارة ففيما عدا لون العينين الذي ورثته منه ..والقامة القصيرة والجسد الهش المشابهة لقامة وجسد أخته الراحلة ...فسارة تكاد تكون نسخة مشابهة لأمها بالشكل ..ليستطرد بداخله بحدة وحسم ..أنها قد تكون حصلت على ملامحها من أمها ...لكنه حرص على أن يكون هذا هو كل ما تأخذه منها ... فطباع سارة وأخلاقها أبعد ما يكون عن إيفا ..ليقاطع تفكيره صوتها وهي تقول ساخرة بلغتها :
"ما زلت صامتا قليل الكلام يا خليل ...لكنى توقعت على الأقل ترحيبا بسيطا بعد كل هذه المدة من الافتراق "
ليجبها بسخرية مماثلة:
"الترحيب يكون للأشخاص المرغوب بهم ...وأنت لست منهم ...ما الذي جاء بك لهنا إيفا بعد كل هذه السنوات .. .. ماذا تريدين ؟!! "
لتتجاهل الرد بينما تخرج علبة تبغ وقداحة من حقيبتها وقبل أن تشعلها فاجئها صوته الناهر:
"لا أسمح بالتدخين بمكتبي ...ربما كنت نسيت.. مع طول الفراق ..أنا لا أطيق رائحة الدخان "
لتعيد وضعهما ثانية بالحقيبة بينما تجيبه ببرود:
"لم أنسى شيئا يخصك يا خليل "
ليضرب على المكتب أمامه بقبضته بقوة بينما يقول بصوت حاد حاول بصعوبة التحكم بنبراته دون جدوى:
"بل نسيت إيفا ..لو كنت تذكرين لتذكرت أن بيننا أتفاق ..اتفاق يمنعك من الاقتراب منا أو الظهور في حياتنا ثانية"
كانت تدق بأطراف أظافرها المطلية على سطح المنضدة أمامه وهي تجيب باستهانة:
"عزيزي خليل ..معظم الاتفاقات تحدد بمدى زمني ..وأظن أن اتفاقنا أستنفذ أكثر من مدته المفروضة بكثير"
لينتفض خليل واقفا وهو يقول بينما يميل باتجاهها:
"اتفاقنا وثيقة أبدية إيفا ...وثيقة ملزمة وافقت عليها ....تنص على أن لا تقتربي مني أو من ابنتي ..وأن لا تظهري بحياتنا بأي صورة ...مقابل أن أظل محتفظا بالشريط المصور الذي يخص حبيبك القديم.. أم الأفضل أن أدعوه زوجك الحالي "
لترد بابتسامة ساخرة:
"كنت أتمنى أن ادعي أنني سعيدة لمتابعتك لأخباري ..وأنها دلالة على استمرار تعلقك بي ..لولا أني أعرف أن الأمر كان محاولة تأمين من جانبك ..محاولة استمرت بضع سنوات ..حتى توقفت منذ ما يقرب من عشر سنوات ..عندما أخبرك التحري الذي كنت تكلفه بتقصي أخباري من وقت لآخر ... ومتابعتي مع ديمتري... بخطورة الاستمرار بذلك .. وأنك يجب أن تتوقف عن الأمر وإلا عرضت نفسك وابنتك للخطر ...خاصة بعد تولي ديمتري رئاسة فرع المنظمة بلندن"
كانت نظرات الدهشة مرتسمة على ملامح خليل ..بينما يسألها بذهول:
"كيف عرفت ما قاله التحري ..هل اكتشفته وجندته لصالحك"
لتقف أمامه لتنحني هي أيضا على المكتب باتجاهه حتى أصبح وجهها قريبا من وجهه ليجفل ويتراجع معتدلا وهو يدفع بعيدا بيدها التي حاولت تمرير كفها على وجنته ..لتضحك بميوعة قبل أن تعتدل وهي تقول :
"آه عزيزي خليل ..كم أنت طيب!!"
..لتكمل دون اهتمام بملامحه التي احتدت:
"أكنت تظن متابعة ذلك الغبي ...لزوجة واحد من أقوى رجال المنظمة السوداء...سيمر دون ملاحظة ..وخاصة مع استمرار تلك الملاحقة لسنوات "
لتعود للجلوس بينما تقول له بحدة:
"لحسن حظك أني من انتبهت للأمر ..وليس ديمتري ..وإلا لم يكن ليخرج عليك نهار يوم جديد ..ولا أظنك من الحماقة بحيث تظن أن وجودك هنا ببلادك يجعلك بمأمن منه وبعيدا عن نطاق سلطته "
لتكمل بتأكيد:
"ليكن بعلمك انك مدين لي بحياتك ..عندما انتبهت للأمر تعمدت تضليل رجال حراسة ديمتري المصاحبين لي ..وكلفت أحد حراسي المدينين لي بالوفاء بتتبع الأمر وما أن عرفت من هو .. ومن ورائه ...قمت بزيارة ..لنقل أنها ودية للرجل ..وجعلته يتصل بك ويحذرك ...لقد حميتك بهذه المكالمة من الاستمرار بطريق كانت نهايته ستكون موتك لا محالة إن علم ديمتري بمعرفتك شيئا عنه ..ولا تظن أني فعلتها لأجلك ...بل لأجل سارة ..فقد أردتها أن تبقى آمنة معك... أردتها بعيدة عن عالمي وعالم ديمتري ...فوقتها كان الصراع على السلطة على أشده "
لينظر لها بحدة بينما تتصاعد دقات قلبه مرادفة لحدة أنفاسه وهو يقول:
"وما دام الأمر كما تقولين ...فما الذي تغير ..لماذا عدت؟ ..لماذا لم تكملي جميلك وتبقين بعيدة عن عالمنا"
مسدت تنورتها بأصابعها وهي تقول:
"ألم أخبرك منذ قليل أن الاتفاقات والظروف تتغير بتغير الزمن ...وقتها كان الصراع على أشده على السلطة ..والكثير من رجال المنظمة وأسرهم كانوا يتعرضون للاغتيالات بعد وفاة الزعيم الأكبر ..ونشوب الحرب بين كبار رجال المنظمة على تولي السلطة ..الآن الأوضاع استقرت... ولم يعد هناك أي مخاوف أو قلق ..يمكن أن يهدد أحد ينتمي للزعيم الحالي أو لرجله الثاني ديمتري"
ليقول خليل بسخرية وبسمة جانبية هازئة"
"يا إلهي ...تتحدثين عن الأمر كما لو كانت حربا على تولي عرش إنجلترا بين العائلة المالكة ...وليس حرب عصابات قذرة ..على تولي رئاسة مافيا تتعامل بكافة أنواع الجرائم بدئا من الاتجار بالبشر والسلاح والمخدرات والدعارة وتبيض الأموال ..وكل ما يخطر أو لا يخطر ببال "
لتقول ببرود وعدم اهتمام بحديثه:
"هي منظمة للتجارة تهدف للربح ..لكن لها أسلوب مختلف ..ولكل طريقته في اختيار عمله.. والأرباح الكبيرة تستلزم مخاطرات أكبر "
لينتفض صارخا دون قدرة على التحكم بنفسه:
"أي تجارة هذه ؟!!..بل أي نوع من البشر تنتمي له وأنتِ تسمين تلك الأعمال التي يندى لها الجبين مجرد تجارة.. كيف لم أرى تلك العقلية الملتوية المريضة التي تملكين طوال سنوات زواجنا...لم أتصورك بهذا القبح والتلوث حتى عندما اكتشفت خيانتك لي مع هذا الحقير ..ورغم كل غضبي وجنوني وثورتي الداخلية وقتها والتي كادت تدفعني لقتلك ..إلا أن ما منعني هو خوفي على ابنتي ..لأجلها منعت نفسي من مواجهتك بما علمته ..لأجلها احتملت أشهرا من الاحتراق وأنا انظر لك أعيش معك ..أتنفس هواء تشاركني به أنفاسك النتنة ..لأجلها جمدت حمية الرجل الشرقي بداخلي والتي تدفعني لغسل شرفي الذي دنسته ..فعلت هذا لأضمن أن تبقى سارة معي ..فانا أعلم كم قوانينكم جائرة وخاصة إن تعلق الأمر بطرف عربي ..ولو كنا ذهبنا للمحكمة لأجل الطلاق والحضانة لم أكن لأضمن الحكم لصالحي... أو استطيع إثبات خيانتك ...لذا استعنت بالتحري حتى أستطيع الحصول على إثبات خيانتك ليكون سندا معي بقضية الطلاق والحضانة ..رغم خوفي وقتها من عدم القدرة على الفوز بقضية الحضانة ..فالقانون قد يمنحني الطلاق ..ويمنعك من تقاسم أموالى معي للخيانة "
ليرتمي على كرسيه ينهت وهو يضيف بصوت بدا يخفت من الإجهاد:
"..لكنه للأسف لن يعتبرها حجة كافية لإبقاء ابنتي معي ...فتدنيس الشرف لديكم ليس أمرا جلل ..ولا يستوجب عقابا للخائنة ولو حتى بحرمانها من أطفالها "
ليخلع نظارته ملقيا إياها أمامه بحدة بينما يقول بقرف:
"كم اشمئز من ادعائك التحضر و الرقي ..وانتم أبعد ما يكون عنه "
ليحني رأسه و يشبك يديه أمامه على المكتب ويصمت للحظات لم تقاطعه بها ليرفع بعدها رأسه قليلا ناظرا إليها وهو يقول بفم ملتوي من التقزز:
"عندما أحضر لي التحري الذي كلفته بمراقبتك وتصويرك مع عشيقك بمختلف الأماكن والأوقات ذاك الفيديو.. الذي كنت تصاحبينه به وهو يقوم باستلام وتوزيع حصته من المخدرات .. وقت أن كان مجرد موزع حقير للمخدرات من موزعي المافيا الجاميكية .. لم أصدق عيني ..لم أصدق أن يصل الأمر بأم ابنتي لهذا الدرك من انعدام الأخلاق و الضمير ..وعندما طلبت من التحري جمع معلومات أكثر عن عشيقك والاستمرار في مراقبتكما ليحضر لي المزيد من الصور والفيديوهات لكما ..بما فيها فيديوهات تخص علاقتكما الجنسية المقززة وجدت أن تلك العلاقة هي الأقل شانا وتأثيرا بنفسي ..مقارنة بهذا الفيديو الخاص بعملية القتل البشعة التي نفذها عشيقك بدم بارد أمام عينيك ..وجدت أنني ..بصورة ما لم اعد أشعر بالثورة ناحية خيانتك قدر شعوري بالثورة والتقزز من نفسي التي لم تكتشف أي حقيرة.. مريضة.. مشوهة الروح والخلق كنت متزوجا منها ..فامرأة تجلس ببرود بالسيارة وهي ترى أمام عينيها عشيقها يعذب رجلا ويقتل أسرته المكونة من امرأة وفتى مراهق قبل أن يفجر رأسه برصاصة ..بينما هي تنفس دخان سيجارتها بتلذذ كما لو كانت تشاهد عرضا سينمائيا مشوقا ..هي بالتأكيد امرأة لا أريدها بالقرب مني أو من ابنتي"
طوال حديثه لم تهتز ولم يظهر على ملامحها الجامدة أدنى تأثر لتقول بينما تحرك يدها بلا مبالاة:
"أنا لن أبرر أو أشرح لك سبب قتل هذا الخائن الواشي وأسرته ...فمثلك لن يفهم الأمر ..فقط سأخبرك ...أن تلك التي تتقزز منها وقمت بتهديدها بسجنها وحبيبها بهذا الفيديو ..لم تخضع لك وقتها وتوافق على منحك الطلاق والحضانة ..وتركك تسافر بابنتها بعيدا خوفا منك ..فصدق أو لا تصدق ...الأمر لم يكن ليستغرق أكثر من مكالمة واحدة لينتهي أمرك للأبد قبل حتى أن تفكر بخطو خطوة باتجاه مقر الشرطة ...وحتى الآن ...لو علم ديمتري بوجود مثل هذا الفيديو لديك ..لم يكن ليتركك أنت أو أي فرد من عائلتك على قيد الحياة.. مهما ظننت نفسك بعيدا عنه ..أو في مأمن هنا ببلادك فيده قادرة على الوصول إليك ...لذا شئت أم أبيت عزيزي خليل ..أنا قد حميتك ..وحفظت حياتك.. ليس لأجلك في الحقيقة ..بل لأجل أبنتي وخوفا عليها. .وآن أوان رد الجميل "
لينظر لها بتوجس وهو يسألها بترقب رغم توقعه للقادم:
" وما هو الرد الذي تريديه إيفا ..والذي أعادك للظهور بحياتنا"
لترد بكلمة أوقعت الرجفة بقلبه رغم توقعه لها:
"أريد ابنتي"
ليزدرد ريقه بصعوبة بينما يقول برفض:
"مستحيل ...ما تطلبيه مستحيل ..ابنتي لن تعود إليك ..ولن تكوني جزءا من حياتها ...أتريدينها أن تعرف من تكون أمها.. وماذا يعمل زوج أمها ..كيف تريدين إدخالها بحياتك إن كنت حقا كما تدعين رضخت لي بالسابق خوفا عليها ولإبعادها عن مخاطر حياتكم"
لتقف عندها وهي تنظر له بسخرية قائلة:
"ألم تسمع ما قلته لك بالبداية ...لم يعد هناك ما أخشى منه ..ولا يوجد شيء لتعلمه سارة يسئ لي ..أنا متزوجة من احد أغنى وأقوى رجال الأعمال بالمملكة المتحدة ..والذي يملك سلسلة من الفنادق والملاهي الكبرى "
ليقول خليل بهزء:
"نعم وبالتأكيد بعضا من صالات القمار وكلها واجهة وغطاء للأعمال الأخرى وطريقة لغسيل الأموال"
لتهز كتفيها بلا اهتمام وهي تقول:
"المهم هو الواجهة المعلنة عزيزي ..هي ما ستعلمها سارة .. لندع الخفايا بيننا وأحذرك بان تحاول تشويه صورتي أمامها ..فصدقني أنت لست ندا لي "
لتتجه للباب وتقول قبل أن تفتحه:
"كان بإمكاني الذهاب مباشرة للقاء سارة ..لكني فضلت مقابلتك أولا ..فلم أشأ أن تقوم برد فعل أحمق كالإفصاح لها عن أشياء يفضل أن تبقى مخفية ..فمعرفتها لن تؤذيها فقط ..بل ستعرضها للخطر أيضا.. سأتصل بك غدا تكون قد أبلغت سارة بقدومي وهيئتها للقائي "
لتخرج مغلقة الباب خلفها بينما غرق هو بالتفكير دافنا رأسه بين يديه ..ليرفعها بعد دقائق مجريا عدة اتصالات هاتفية ..ليجهز لرحلة سياحية داخلية لعدة أيام له ولابنته ..سيقنعها برغبته بالاستجمام والراحة وقضاء بعض الوقت معها قبل زواجها ...يعلم أن الأمر مجرد تأجيل للمحتوم ..لكنه بحاجة لهذا الوقت لإعادة التفكير والوصول للحل الأمثل لهذه المصيبة التي كان يستشعر حدوثها يوما ما
--------------------------


دخلت إلى حجرة الكشف بهدوء بعد انصراف آخر حالة لديهم لتجده يقف أمام النافذة ويديه بجيبي معطفه الأبيض يبدو ساهما وتائها على غير العادة .. ..هي واثقة انه لا ينظر للمشهد أمامه فلا شيء أمامه يستحق التأمل فالنافذة تطل على الحارة التي يحفظوا تفاصيلها جيدا ..تشعره منذ يومين حائرا تائها ..كما ترى في عينيه نظرة تأمل غريبة عن طباعه ...كم تتمنى أن تعرف ما يحزنه ..لتمحوه.. لتحمله عنه كما حمل عنها كل ما أحزنها منذ كانت طفلة صغيرة.. منذ تلك المرة التي جاءها وهي تبكي على الدرج بعد وفاة أمها ليربت على كتفها ويمنحها قطعة شيكولاته كانت بجيبه ...لا تدري إن كان احضرها لنفسه أو لشقيقته أم لها هي .. ليمسك بيدها بعدها ويأخذها لشقتهم .. بعيدا عن أصوات البكاء والعويل ويطلب من همس أن تهتم بها وتلعب معها ..ليهمس وقتها لأخته شيئا بأذنها لم تسمعه هي ..لكنها وجدت همس التي تكبرها بعامين ونصف تقريبا تقترب منها وتربت على كتفها وتخبرها أنها ستسمح لها باللعب بدميتها سوسو
...كما أنه من أخبر أبيها عن ضرب زوجته لها فحماها من سنوات عذاب كانت ربما ستقبع تحت وطئتها لو كان الوقت طال واستطاعت زوجة أبيها السيطرة عليه أكثر..وهو من حسم تردد أبيها في الموافقة على دخولها كلية الطب ... بعدما ظلت زوجته تولول عندما رأت فرحته بمجموعها الذي سيجعلها تلتحق بكلية قمة ..لتظل تردد استحالة قدرتهم على توفير المال والمصروفات الكبيرة للكلية وضرورة أن تكتفي بدخول معهد تمريض يضمن أن تنتهي بسرعة وتعمل لمساعدتهم ... لتقطع طرقات أكرم ووالده كلامها الذي بدأ يجد صدى لدى أبيها الذي اسقط في يده حول كيفية توفيره لنفقات كلية كتلك..
ليدخل عمها محمد وزوجته وابنه أكرم الذي قام بتهنئتها على النجاح والمجموع الكبير وأخبرها أمام أبيها وزوجته أنه سيقوم بإمدادها بكافة مراجعه وكتبه حتى لا تتكلف شرائها ...وكذلك أعطتها والدته كيسا به معطف أبيض قالت انه هديتهم لها... ومنحها أكرم هيكلا عظميا ستحتاجه في دراستها كان ملكا له ...واخبرها أنه لم يعد يحتاجه فقط أكد عليها أن تحافظ عليه وعلى المراجع والكتب ... كما منحها القاموس الطبي الذي يعد سعره مشكلة لطلبة الطب ذوى الإمكانيات الضيقة ...والتي تعرف أن والدته كانت قد قامت بعمل جمعية مع جاراتها لشرائه له ..
نعم لولاه لما كانت دخلت كليتها ..ولولاه الآن لما كانت ستكمل خاصة بعد ما حدث بعد وفاة أبيها... لكنها أصبحت تعي وإن متأخرة أنه لا يراها إلا حالة تستدعي الشفقة والمساعدة بحكم الجيرة ربما ..أو حتى على أحسن تصور كشقيقة صغرى كما يخبرها دوما ..
المشكلة أنها لم تراه أبدا كشقيق ...دوما رأته كحامي ...كسند... تراه رجلا بحجم الكون ..فلا يتسع عالمها لسواه ...تراه حلما تحتضنه في ليالي الحزن والوحدة ...لكنه يبقى حُلما لا تأمل يوما أن تصل إليه ...فإن لم يراها سابقا وهي أمامه طوال حياتها ...فكيف سيراها الآن ولديه خطيبة محبسها يبرق في يده دليل انتمائه لها ... فتاة تليق برجل رائع مثله.. فتاة تمتلك جمالا.. ومالا ..وحسبا... ونسبا.. فتاة مضيئة كالشمس تليق به ويليق بها ...فأكرم...رغم أنه ينتمي لطبقة مقاربة لها ويقيم بنفس مكان إقامتها.. لكنه و أسرته كانوا دوما أفضل حالا.. فوالده رغم عمله مع والدها بنفس هيئة السكة الحديدية إلا أن والدها الذي لم يحصل إلا على الابتدائية...عمله وراتبه لا يشبه منصب وراتب والد أكرم الحاصل على معهد صناعي... قد لا تكون الفروق كبرى بينهم لمن ينظر من الخارج ...لكنها تراها بحجم الكون ... هذا طبعا بالإضافة لشكلها العادي... بل هي تراه أقل من العادي ... فكيف يمكن لرجل بمركزه ووسامته أن يراها أكثر من حالة يشفق عليها ...سالت دمعة على خدها لم تنتبه لها.. لكن انتبه لها ذاك الذي استدار ناظرا لها من فترة دون أن تنتبه إليه ...
لاحظ نظرتها الشاردة وتلك الدمعة التي سالت بجانب عينها ..ليشعر بانقباض وتوتر ..لا يدري ما حدث له ...منذ تلك الليلة من يومين حين قابل هو وسارة أخيه ولاحظ قلقه وأسئلته عنها .. ليعود بنفس الليلة بعد أن أوصل خطيبته ليسمع ما أن دلف للمنزل بهدوء ظنا بأن والديه ناما..ليصله صوتهما بالمطبخ وهما يتحدثان عن فتاة ما ..ترغب والدته بخطبتها لأخيه ..ليشعر بانقباض بصدره وهو يسمعها تصفها بأنها تربت أمام أعينهم وأنها قاربت على إنهاء جامعتها.. وأن سامح كان يبدو موافقا على الموضوع لولا تدخل أبيه وطلبه تأجيل الأمر قليلا ..ليسمع مداعبة أبيه وقتها لأمه بكون الفتاة أمامهم وتحت أعينهم ولن تذهب لمكان ..والأفضل تأجيل الأمر حتى يستطيع سامح تكوين نفسه وتكون هي أنهت جامعتها ..وقتها شعر أن كلام سارة ربما يكون صحيحا ..و سامح بالفعل يفكر بالارتباط بهند ..ولا يدري لما لم يشعر بسعادة أو قبول تجاه الأمر ..لم يفهم ما السبب الذي جعله يشعر بالانقباض والرفض ..ليزداد هذا الشعور مع رؤيته لحالة سامح الشاردة ..وخاصة رفضه إعطائه تفاصيل على سبب قلقه المبالغ على هند ..مكتفيا بكلمات مقتضبة حول تعرضها لمضايقات من سعيد شقيق زوجة أبيها ..ليشعر لحظتها بالغضب وهو يهتف به بحدة عن كيفية معرفته بالأمر ..ليتجاهله سامح وهو يدعي رغبته بالنوم والكف عن الحديث ..ويتركه يتساءل بداخله لماذا لجئت هند لسامح ..لحمايتها من هذا السعيد ..ولما لم تلجأ له كما اعتادت دوما كلما واجهتها مشكلة ما؟!!...
لا يدري سبب ما يشعر به.. ولا يعرف له مسمى ... ربما إحساس بالمسؤولية تجاهها ...فقد عرفها طوال حياته... لم يمر يوم لم يرها فيه... وربما لاعتياده على لجوئها له وحده و نظرتها إليه التي تجعله يشعر انه البطل المغوار القادر على تحقيق المستحيل ..ليخرج كلاهما من شروده على صوت رنين الهاتف برنة خصصها لسارة ..ليراها تتراجع مجفلة وهي تقول بخفوت ..
"سأغادر الآن "..ليتجاهل رنين هاتفه ..محدثا نفسه أنه سيحدث سارة لاحقا ..فهي بكل الأحوال مسافرة مع والدها برحلة استجمام لعدة أيام كما أبلغه أبيها وهي يوصيه بمتابعة وإدارة العمل بالمشفى بدلا منه ... بينما يقول لهند بحزم ولهجة باترة لا تقبل المناقشة:
"منذ الآن وصاعدا لن تغادري إلا معي ..وإذا حاول سعيد أو غيره مضايقتك فعليك إبلاغي فورا ..كما كان يجب عليك إبلاغي بالأمر من البداية بدلا من اللجوء لشقيقي"
لتقول بنفي وضيق:
"أنا لم ألجأ لسامح ..بل هو من رآه وهو يترصدني ويضايقني بالشارع ....كما أن الأمر لا يستحق ...وأنا قادرة على الاهتمام بنفسي وحمايتها. ..لا داعي لتشغل نفسك بي ..فعلى كل الأحوال أنت ستغادر قريبا.. وستنشغل سواء بزواجك أو ببعثتك ..ويجب أن أعتاد الاعتماد على نفسي "
..لتستدير خارجة وهي تقول
"لقد تأخر الوقت ولم يعد هناك مرضى ..ولا يصح بقائنا هنا وحدنا أكثر من ذلك ...بإذنك"
ليجد نفسه يهتف موقفا إياها عن المغادرة بحدة مخالفة لطبيعته الهادئة المعتادة:
"قلت لك توقفي ..سأغادر معك الآن"
ليخلع معطفه ويعلقه على المشجب بينما يتجه إليها متجاهلا نظرة التعجب بعينيها ..كما تجاهل قبلها التفكير في كلماتها حول كونها يجب أن تعتمد على نفسها ..بعد زواجه وسفره ..لا يدري لما لم تعجبه فكرة كونها تنأى بنفسها عنه وتستقل بحياتها بعيدا رغم واقعية ما قالته....

---------------

كانت تمر من أمام مكتب خالد بالمنزل لتستوقفها حدة صوته وهي تسمعه يهتف:
"سامح لا أريد تهورا ...لتتسمر مكانها بينما تنظر من شق الباب الموارب قليلا لتجد خالد يضع هاتفه على إذنه بينما يستمع بإنصات مقطب لمن يحدثه ..والذي تظنه شقيقها.. لتشعر بمزيج من الغضب والحزن على حال حبيبها وهي تسمعه يقول بحدة:
أعرف ما تقول جيدا ..وأعرف أنه يجب هدم وإزالة كل ما تم بنائه حتى الآن ..ولن يمكننا المخاطرة بمحاولات تدعيمه لعدم صلاحية ومطابقة المباني والأساسات للمواصفات ..ومع اكتمال ما يقرب من ثلاثون بالمائة من معدل البناء فالمسألة تعني مصيبة وكارثة بكل المقاييس ..والخسارة ستتخطى الملايين ..بالإضافة لانهيار سمعة المجموعة إن كشف الأمر ..لكني أفضل الإفلاس على المخاطرة بأرواح الناس ..حتى لو أضررت لبيع كل ما املك ..لكن المشكلة أن بقاء واستمرار المجموعة يعني بقاء مئات من المنازل مفتوحة تعيل المئات من الأسر ..لذا يجب أن أجد حلا.. ليصمت هنيهة قبل أن يتابع ..لو أقتصر الأمر على خسارتي أنا فلن أهتم ..لكن تأثيره على العاملين لدي يجعلني حريص على السرية وعدم تسرب الأمر ....ليصمت قليلا قبل أن يضيف باستسلام ..حسنا ..سنلتقي غدا لنرى ماذا سنفعل ..وكما أخبرتك سابقا ..لا أريد أن تعرف همس شيئا عن الأمر"
ليغلق الهاتف ويلقي به بعنف على المنضدة أمامه بينما يمرر أصابعه بشعره يكاد يقتلعه ..قبل أن يزفر بحدة ويمسك بملف أمامه باهتمام ..لتنسحب هي بخفوت دون أن تشعره بوجودها وهي تتوعده بداخلها ..هو وأخيها الأحمق ..

خرجت من الحمام الملحق بحجرتها.... لتجد خالد مستلقي على الفراش يحدق بالسقف بشرود لم يجعله يشعر بها ..أخذت تنظر إليه للحظات ملاحظة ملامحه المتعبة ...
الأحمق يظن أنها لا تدري شيئا عن المشاكل التي يواجهها بعمله ...يحاول إبعادها عن متاعبه...وإخفائها عنها ...ما زال حبيبها لم يتعلم بعد أن الحياة مشاركة... بحلوها ومرها ...وأن عليه أن يقاسمها همومه لا أن يحملها وحده ..حتى وإن كان خوفا عليها ..
اقتربت بخطوات هادئة حتى وقفت أمام مسجل الصوت لتشغل الأسطوانة التي كانت قد جهزتها سابقا لتنطلق نغمات موسيقى ألف ليلة وليلة لكوكب الشرق أم كلثوم ..
ما أن انطلقت النغمات حتى أجفل خالد ليفيق خارجا من شروده في تلك الأزمة التي لا يعرف كيف سيخرج منها بأقل الخسائر لينظر أمامه فيشعر أنه يهذي !!! ...لابد أنه يهذي من شدة التعب ...والإرهاق ...لا يمكن أن تكون همس هي من تقف أمامه مرتدية ؟؟؟!!! يا إلهي !!! إنها ترتدي قميصا يشبه بذلة رقص حمراء !!!
اعتدل جالسا على الفراش وهو يفتح عينيه على اتساعهما ويغمضها عدة مرات ليتأكد مما يراه... ليلاحظ تلك البسمة الماكرة المصحوبة بنظرة شقاوة أشعرته أنها تدبر لأمر ما ...ليقف متجها إليها وهو يلتهمها بعينيه ليسألها متعجبا بصوت خرج مختنقا نتيجة الجفاف الذي أصاب حلقه ..وجعله يزدرد لعابه بصعوبة .. بينما أصابعه كما لو كانت قد نبتت لها إرادة منفصلة .. فأخذت تمر على تلك الخيوط التي تحمل القطعة العلوية المهلكة التي تكاد لا تخفى إلا القليل والمطعمة بخيوط فضية لامعه:
"ما هذا الذي ترتديه همس "...
لترفع حاجبها وتميل بوجهها ناحيته ...بينما تربع يديها تحت صدرها مما جعل عينيه تركز أكثر على تلك المنطقة التي ازدادت بروزا ...ليزداد شعوره هو بالنيران ...لقد اشتاق إليها ..يا الله كم اشتاق إليها ...تلك القاسية القصيرة الصغيرة التي تحتل قلبه وتلاعب دقاته ...والتي أعلنت الحرب الباردة عليه فتتجاهله منذ أيام .. لا تحدثه إلا بكلمات معدودة ...وغالبا تكون ردا على كلماته لها ..تحاربه بالصمت ..رغم طبعها الثرثار عقابا له على إخفائه سبب حزنه وغضبه عنها .....
يبدو أنها قررت الليلة أن تشن الحرب عليه .. بكامل أسلحتها ..لتشعل نيرانه وتدفعه دفعا للتسليم ..أعاد سؤاله مرة ثانية بنبرة أكثر خفوتا رغم اشتعالها :
" همس سألتك ماذا ترتدين ؟؟
لتبتسم بسخرية وهى تجيبه:
"ولماذا أجيب على ما هو واضح ؟؟؟لا أظنك يا زوجي العزيز تجهل ماهية بدل الرقص .. أو تعاني من مشكلة في نظرك ..بحيث لا ترى أني ارتدى واحدة منها ..
ليزدرد لعابه وهو يسألها ثانية بحيرة:
" ولماذا ترتدين بذلة رقص "
لترد بهزء:
"لماذا بظنك ..هل سأقلم بها أشجار الحديقة مثلا ..لأرقص بها طبعا !!!..لماذا ترتدي امرأة بدلة رقص؟ !!!"
لينظر لها بذهول وهو يسألها متعجبا:
"ماذا ؟ تريدين أن ترقصي الآن!!!! كيف وأنت حامل؟؟ ولماذا الآن؟!!! لقد طلبتها منك مرات عديدة بالسابق وكنت ترفضين ؟!!
لترفع كتفيها علامة عدم الاهتمام وهي تعطيه ظهرها متجهة لوشاح فضي ملقى على كرسي طاولة الزينة لتلفه حول خصرها وتعقده بعقدة جانبية تاركة جزءا منه طويل منسابا على ساقها البارزة من الفتحة الجانبية للقطعة السفلية والواصلة لفخذها بينما تجيبه:
" لا تقلق الموسيقى هادئة وأنا تخطيت الشهر الثالث والطبيبة أخبرتني أن أتحرك بحرية ..لن أقوم بشيء عنيف فشاهد بصمت ..أو اخرج من الحجرة حتى ارقص براحتي "
ليرتفع حاجبه بذهول وهو يردد:
" اخرج ؟!!! ولمن سترقصين إذا ؟!!"
لتبدأ بالتمايل برقة وأنوثة سلبت لبه وأسرت عينيه بل وحواسه بأكملها بينما تجيبه بخفوت وهي تتمايل بينما يديها ترفع خصلاتها بدلال وغنج:
" ارقص لنفسي ..لدى رغبة بالرقص والتمايل "
كانت تجيبه وهي تتمايل على النغمات بأنوثة أشعلته كأتون قارب الانفجار لتتعالى أنفاسه وتتهدج نبراته وهو يقترب منها ليلف كفيه على خصرها المتمايل مغمغما:
لن أخرج واترك فاتنتي تتمايل وحدها دون أن تراها عيوني وترقص نبضاتي معها على دقات موسيقاها الشرقية:
لتضحك بميوعة لم يعتدها منها بينما تجيبه دون أن تتوقف عن التمايل بين ذراعيه:
" لابد أن تكون موسيقاي شرقية فسنفونيات بتهوفن وتشكوفسكى لا تصلح للرقص الشرقي"
ليجبها بآلية:
" أسمه تشايكوفسكي "
لتتوقف عن الرقص بغتة وهي تحدق بعينيه بينما تجيبه بحدة رغم خفوت صوتها:
"اعذرني يا زوجي العزيز... فأنا لم أتلقى تعليما راقيا ...ولم يكن لي مدرسة موسيقى ولم ادخل مدارس لغات ..لكني رغم ذلك تعلمت ما هو أهم من أسماء العازفين العالمين وأنواع اللوحات السريالية "
لتبتعد خطوة للخلف مسقطة ذراعه من حولها بينما تناظر عينيه الغائمتين بمزيج من العاطفة والقلق:
" تعلمت أن أكون بجوار زوجي في شدته ..أني يجب أن أسانده عند حاجته ..ولو بكلمة طيبة إن لم املك غيرها ..أنه عندما يعود مثقلا بالأحزان يرتمي بصدري فأسأله عن ما به ليخبرني ما يقض مضجعه ..فأمسد رأسه مخففة عنه ولو بلمسة حب ..ومؤازرة ...وأضمه لصدري كطفلي ..وانصحه لو استطعت .. وأقاسمه ما يحمل فيخف ألمه وحزنه ..هذا ما تعلمته يا ابن الأكابر ..يا من جعلني أوافق على الزواج منه عندما اخبرني أن من جاءني طالبا مشاركتي حياته هو خالد الراوي وفقط ..ليس سليل عائلة الراوي وليس رجل الأعمال... بل الرجل فقط ... خالد ..وفقط خالد ..هو من ارتضيته زوجا ...فلماذا تخاف أن تخبرني انك معرض لأزمة مالية قد تصل بك لحدود الإفلاس ..أتظنني أهتم ..أتظن أموالك تعنيني ..أتخاف أن أتركك وأتخلى عنك إن أفلست مثلا ؟!!!"
كانت عيناها تغيما بالدموع بينما ترتفع نبراتها أكثر وأكثر مع كل حرف حتى بدئت الكلمات تتعثر على لسانها ..
ليجذبها لصدره رغم تلويها وممانعتها ..يدفنها بين ضلوعه بينما ترتفع دقات قلبه وينتفض العرق النابض بجانب فمه وهو يهتف من بين خصلاتها بينما تلامس شفتيه جانب عنقها يلثمه لثمات حارقة متتابعة رغم رقتها ..
"أبدا ..ولا للحظة شككت بأنك قد تتركيني .....لم يكن هذا سبب إخفائي الأمر عنك ...بل فقط أشفقت عليك من القلق ..خاصة مع حملك ..أردت تجنيبك أي شيء قد يضايقك ..كيف اسمح أن ادع شيئا يزعجك وبيدي أن أمنعه ...لتبعد رأسه بكفيها بينما تحتضن وجهه بينهما وهي تخبره :
"أنا لا يهمني أن يخسر رجل الأعمال خالد الراوي كل أمواله ونفوذه ..لن يؤثر الأمر معي إلا بمقدار حزني لأجله هو وهو فقط ..لأجل تعبه لسنوات ..غير هذا الأمر لا يعني لي الكثير ..أن نحيا بهذا القصر ...أو نضطر لبيعه لنحيا بحجرة على سطح منزل بحارة شعبية ...أمر لا يهمني طالما انك ستكون معي بها ..أنت ...وأنت فقط من تعنيني يا خالد "
..كانت نبضاته تتسارع ليضمها لصدره بقوة بينما يسمعها تكمل :
"أنا احبك أنت... الرجل الذي بين ذراعي الآن ..الرجل الذي استشعر دقات قلبه تنبض لأجلي ..أحبك في كل وقت.. في السراء و الضراء ..فلا تبعدني عنك في لحظات ضيقك ..الزواج يعني المشاركة ...يعنى اقتسام الحزن والألم معا ..يعني أن تكون رحلة حياتنا قصة نرويها لأبنائنا وأحفادنا... بكل ما فيها من عثرات ..ستشكل يوما ذكرى ..مهما كانت مؤلمة سنضحك عليها يوما ..يعني ...أن أكون أنا وأنت واحدا مقسوما بجسدين وآآآآ ...
ليبتلع باقي حروف كلماتها بفمه الذي اجتاحها بشوق الأيام الماضية بعيدا عنها ... وبعشق فاض حتى شعر أنه سيوقف قلبه من قوته ...ليرفعها بين يديه دون أن يتوقف عن تقبيلها ...حتى استلقى معها على فراشهما الذي اهتز بقوة عندما سقطا عليه ...ليترك لشفتيه الارتواء من شهد رحيقها الذي اشتاقه .. ويبدأ بعدها رحلة تجول بين جنبات وجهها وجيدها بينما تعمل يديه على فك تشابكات تلك الخيوط اللعينة... التي تشكل متاهة لا يدرى أين أولها ..حتى زمجر غاضبا وهو يعتدل صارخا أين أول تلك العقد اللعينة ..فكيها وإلا مزقتها ...
لتنطلق ضحكاتها مجلجلة وهي تساعده بفك العقد ليستلم منها المهمة بنفاذ صبر... بينما يهتف بها بهياج عاطفي ويديه تزيل كل ما يقابله بطريقة ويحول بينهما.. ابحثي مستقبلا عن بذلة يسهل خلعها ..لتزداد ضحكاتها التي عاد لكتمها بفمه بينما يبحر معها برحلة حب لا تنتهي ولا تهدأ أمواجها بينهما ...
-------------------


دخلت إلى الصالون الصغير بقلق ..بينما تلعن بداخلها ابنتها التي عاندتها طوال الأيام السابقة ونادرا ما استجابت لطلباتها وأوامرها ..ولا تكف عن التهرب من اللقاءات التي تدبرها لها مع هذا الرجل الجالس بأريحية بصالون بيتها ..كما لو كان يملك الحق بالبيت ومن فيه ..ليلتوي فمها بقلق وهي تحدث نفسها ..بأنه بالفعل يمتلك حقوقا منحتها هي له بنفسها ..عندما وافقت على التحالف معه ظنا بأنها قادرة على الفوز ..ناسية أن رجلا مثله وصل لما هو فيه رغم أصله الوضيع قادر على التلاعب بالجميع لمصلحته ...و لم يكن ليقربها منه إلا لو كان مكسبه منها أكبر مما سيمنحه لها.. لتتنهد بخفوت وضيق وهي تقول لنفسها.. بل أكبر بكثير مما توقعتِ أنت نفسك ...لتحاول رسم بسمة ترحيب كاذبة على ملامحها بينما تقول بمهادنة:
سيد عاصم ..ما هذه المفاجأة ..كنت أظن أننا سنلتقي بالنادي مساءا .. فلم لم تخبرني بالهاتف بقدومك ..كنت استبقيت ماهي للقائك ولم اتركها تذهب للعمل.. لكن أخبرني أولا كيف تريد قهوتك "
لينظر لها ببرودة بينما يقول بصوت حاد أثار الرجفة بداخلها:
"أجلسي سيدة رقية ..فقد تعمدت الحضور الآن لعلمي أن ماهي بالعمل ..فبيننا ..اتفاق.. أو بالأحرى صفقة ..لا أرى أنك حتى الآن تقومين بجانبك منها ...رغم أنك قبضت ثمنها مقدما "
..لتجلس بتوتر وهى تزدرد ريقها بصعوبة لتجفل برعب قبل أن تجيبه وهى تسمع صوتا حادا يسأل من أمام الباب ..وما هي بالضبط تلك الصفقة التي قبضت أمي ثمنها منك ولم تنفذ بنودها حتى الآن أيها السيد؟!!!
----------------


أغلق الهاتف مع اللواء منصور التهامي ..أحد أصدقاء والده المقربين ...والذي لجأ إليه واضعا الأمر بين يديه بصفة شخصية و ودية ..ليتم رسم خطة للإيقاع بهم دون توريطه هو والمؤسسة بالتحقيقات ..حيث سيتم اتهامهم بالسرقة من مخازنه ..وبيع المواد بالسوق السوداء ...تهما أقل مما يستحقون ..لكنها الطريقة الوحيدة لعقابهم طالما لا يريد كشف تلاعبهم بأبنية مشروعه فالأمر عندها سيحطم سمعته ومصداقيته بالسوق ...مما سيؤثر سلبا على أعماله وعلى أقوات المئات من العاملين لديه
ورغم تأكيدات اللواء منصور له بان كافة الأمور تحت السيطرة ..وأن سامح الذي أصبح معهم حسب ظنهم ..وسيقوم غدا بتسجيل عملية نقلهم لمواد البناء من مستودعاته لمخازنهم أثناء مصاحبته لهم .... مؤمن بشكل كامل ..لكنه لا يستطيع التخلص من هاجس داخلي يخبره بصعوبة وخطورة الأمر على صهره خاصة مع تهوره المعتاد ..ليزفر بتوتر وهو يدعو الله بداخله أن يحفظ الشاب الذي أصبح يعتبره شقيقا أصغر له ..ويكاد خوفه عليه يجعله يطالب بإلغاء الأمر كله ..فلو أصابه مكروه لن تسامحه همس ..ولن يسامح هو نفسه
------------------


 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 22-08-18, 03:45 AM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل الثالث عشر
----------------
أصابعه تدق برتابة على المقود أمامه بحركة متواترة بينما تشخص عيناه لمدخل هذا الملهى الليلي الذي يقف أمامه منذ ساعات بداخل سيارته ...على الجانب الآخر من هذا الشارع الشهير بملاهيه الليلية ......ساعات سبقتها ساعات أكثر دار بها بسيارته في الشوارع دون هدف ...كان يظن أن عودته من رحلة البحث عن الذات قد انتهت برجوعه بعد أن اقنع نفسه أنه هدأ واستكانت دواخله ..بعد أن ظن أن شياطين روحه قد غادرته ..بعد أن اخذ عهدا على نفسه بأن يبدأ من جديد ...يبني مدحت آخر.. شخصا يفخر بأن يقف أمام مرآته ويرى انعكاس صورته بها .. رجلا يكون عونا لشقيقته وسندا لها ..لكن يبدو أن الظروف تعانده ..ليضحك ساخرا بداخله بينما تستكين رأسه للخلف ليقول لنفسه بهزء ليست الظروف بل أمه ..أمه التي حولته عبر السنوات لمخلوق حاقد تافه بلا هدف ... أرادته أداة لتنفذ من خلاله أحلامها.. وأطماعها ..وعندما فشلت تجاهلته ليتحول لمجرد وغد ضائع تافه لا يصنع له أحد حساب ...وهل هناك دليل على ذلك أكبر من تلك النظرة الهازئة ..الساخرة ...المتجاهلة التي ألقاها هذا ألعاصم عليه صباحا عندما سمع حواره مع أمه ودخل سائلا بغضب هادر عن فحوى تلك الصفقة التي يدعيها.. ..ليتجاهله الآخر بنظرة دونية دون حتى أن يهتم بالرد عليه ..بينما ترتبك أمه وهي تهادنه بأنها ستفهمه كل شيء لاحقا ..ليجد هذا ألعاصم يقف مستأذنا بعد أن وجه نظرة محذرة لأمه وهو يخبرها ..أو بالأحرى يأمرها أن تسرع بتنفيذ ما اتفقا عليه حتى لا يغضب منها ..فغضبه لن يكون هينا ..ليتركهم خارجا دون حتى أن يكلف نفسه عناء النظر إليه ..كأنه لا يستحق حتى النظرة من وغد مثله ...ليلتفت لأمه طالبا تفسيرا ..وهو يشتعل غضبا وغيظا من هذا الوقح المغرور ..هو يعرفه ..وهل هناك من لا يعرف عاصم مهران ...الحصان الأسود الذي ظهر فجأة في دنيا المال والأعمال ...والذي يحميه ويسانده أسماء كبرى من رجال السلطة والنفوذ من وراء حجاب مخفي ..لكنه رغم الإخفاء المتعمد فالأمر معروف للجميع ...أنه رجلهم الذي لا يمس ...يديهم التي تتلاعب ...رأس مالهم الغير معلن عنه بصورة رسمية ..فهو المالك المعروف ..وهم الشركاء المخفين دون إعلان بحكم مناصبهم .. هو الواجهة ..وهم من يسهلون له كل العوائق ..شخص يفضل الابتعاد عنه ..وعدم التلاعب معه ..وأيضا عدم معاداته ..أخذ يحرك رأسه للأمام والخلف ليضربها بمسند المقعد وهو يتمتم ..لماذا أمي ؟! ألم تجدي إلا هذا الوضيع محدث النعمة لتتلاعبي معه ..أكنت تظنين نفسك قادرة على العبث مع أمثاله ..أظننت أنك قادرة على الكسب من ورائه ..أمثاله لا يعطون شيئا إلا بعد أن يضمنوا أنهم سيستردونه أضعافا مضاعفة ..لتعود رأسه للاستكانة وهو يتذكر حواره أو بالأحرى شجاره مع أمه عندما علم باتفاقها معه على تزويجه من شقيقته ماهي ...شقيقته التي تصغر هذا ألعاصم بما يقرب العشرين عاما ..ويبدو أيضا مما فهمه من هذر أمه الغاضب أنها لا تطيقه.. لم يكن الأمر يحتاج لذكاء كبير ليفهم أن عاصم بعد أن وصل لما يريده من سلطة ومال يرغب بإضافة المستوى الاجتماعي الذي لا يملك منه شيئا لنفسه ..وهل أفضل من ماهي عز الدين المنشاوي ..سليلة أرقى العائلات حسبا ونسبا لتكون الإضافة المثالية للصورة التي يرغب شخص مثله بتصديرها لمن حوله... حتى ينسى الجميع أصله الوضيع ..ويبقى فقط الوجيه الأمثل ..صاحب السلطة والمال ونسيب أرقى العائلات..
لقد علم أن أمه لم تصارح ماهي حتى الآن بطلب ..أو بالأصح بصفقة عاصم ..فقط تقوم بمحاولات جمع وتوفيق بينهما عن طريق دفع كلا منهما في طريق الآخر ..لكن يبدو أن خطواتها ليست بالكفاءة أو السرعة التي يرغبها هذا الرجل ..خاصة مع ما استشفه من رفض ونفور شقيقته.. الأمر الذي يثير جنون أمه ..وخاصة أنها وضعت نفسها تحت رحمة عاصم ... الذي أستغل طباع والدته المهووسة بفكرة ربح المال وإثبات التفوق .. وتلاعب بها ليجعلها تقوم بعدة مضاربات بالبورصة العالمية لتخسر فيها كل ما تملكه ..وتضطر للاستدانة من عاصم نفسه ...الذي أقنعها بالمحاولة ثانية لتعويض الخسارة لتتضاعف خسائرها ...والمصيبة الأكبر لا تقع فقط بالديون الباهظة التي أصبحت تدين بها له ..لكن كذلك بقيامها ببيع الفيلا التي يقيمون بها إليه بيعا ابتدائيا تحت دعوى الرهن المؤقت ..فيلا لا تملكها أمه من الأساس لأنها ملك أبيه ..ويمكن لعاصم أن يسجنها بورقة البيع الابتدائية بتهمة النصب ..ليكون الحل السحري ..حسب مقترح عاصم بالطبع .... أن تكون ماهي مقابل الديون وعقد بيع الفيلا وفوقهم مبلغ يماثلهم يوضع بحساب أمه ...كل هذا تحت ادعاء مهر أخته ..لكنه ليس مهرا حتى لو حاولت أمه إقناعه بذلك ..بل مجرد بيعة ..صفقة كما قال هذا الحقير ..وأخته الثمن ..ورغم جنونه بعد علمه بكل ذلك وشجاره مع والدته ..لكنها استطاعت تلجيم غضبه ..كسرته أمام نفسه وهي تعري حقيقته الباهتة ..وهي تسأله منذ متى يهتم بأخته ..متى كان له دور بحياتها ..وكيف يمكن أن يحل الموقف الحالي بوضعه ذاك....ماذا بيده أن يفعل ..وهو سيكون أول المتضررين من انهيار وضعهم المادي ..وأول المستفيدين من تحسنه بزواج أخته بعاصم .. وها هو بعد ساعات طويلة من تركه المنزل غاضبا حائرا ..يجلس بسيارته أمام هذا الملهى الذي اعتاد ارتياده بالسابق... يفكر بأنه لو نزل من سيارته وخطى للداخل.. لينضم لشلته القديمة التي يثق بتواجد أغلبهم بالداخل الآن فسيكون اختار نفسه وقبل بيع أخته ..ليعيش باقي حياته مجرد إمعة ضائع بعقل مغيب بتأثير الخمر وحبوب الهلوسة ..مجرد علقة تعيش على أموال الغير ..تتعالى بمال لم تكسبه ..مال هو ثمن بيع شقيقته.. لتعود لذاكرته نظرتين ..الأولى لماهي وهي تتعلق به قبل سفره تخبره باحتياجها إليه ..والثانية تلك النظرة الهازئة به بعيني عاصم مهران وهو يطالعه باستهانة لحظة دخوله حجرة معيشتهم سائلا عن معنى كلامه لأمه.. ليتجاهله بعدها.. كما لو كان أقل مما يستحق الرد عليه والاهتمام به ..لتنتفض العروق بجبينه ويعتدل بجلسته وهو يمد يديه ليشغل محرك سيارته تاركا ذلك المكان مدمدما من بين أسنانه ..بوعد لنفسه قبل الجميع أنه لن يسمح ببيع أخته بمزاد أطماع والدته ..لن يكون الفتى اللاهي الذي ينظر له الجميع باستهانة دون أن يصنعوا لوجوده حسابا .. أيا كانت أخطاء ماضيه فلن يضيف إليها المزيد ..آن الأوان ليعرف الجميع ..من يكون مدحت عز الدين المنشاوي ..
---------------
ما زال غير مصدق لما حدث رغم مرور يومين ...أمه عادت لأبيه ..هكذا فجأة.. دون مقدمات ...يخرج ليوصل ابنة خالته ..والتي كاد يقتلها طوال الطريق أو يلقى بها من سيارة والده ليستريح من لسانها السليط ..وما أن تنفس الصعداء بعد أن نزلت أمام منزلها أخيرا ...حتى فاجئه اتصال أبيه يأمره بالمرور على الشيخ أبوزيد ..جارهم بنفس العمارة بالطابق الأرضي ومأذون ( كاتب عقود الزواج) المنطقة والتأكيد عليه بالحضور صباحا مع إحضار دفتره لكتابة عقد زواج يعيد أمه لعصمة أبيه ...لقد ظل يناظر الهاتف لما يقرب من خمس دقائق كاملة وهو بحالة صدمة وذهول ..لا يكاد يصدق ما قاله أبيه بجمل مختصرة أغلق بعدها الهاتف دون أن ينتظر منه ردا ..لكنه لم يحاول إعادة الاتصال للفهم بل ذهب مسرعا لينفذ طلب أبيه وهو يمني نفسه بأنه سيفهم كل شيء منهما بعد أن يعود إليهما...لكنه في الواقع لم يفهم شيئا ...فعندما عاد كان كلا منهما نائما بحجرته ..وما أن استيقظ صباحا بعد ليلة أرقة نام بها بعد الفجر ..حتى فوجئ بحضور كلا من خالد بك الذي يبدو أن أبيه هاتفه ليحضر ليكون شاهدا على عقد الزواج وكان هو الشاهد الثاني ...لا يزال لا يتمالك نفسه من الابتسام ساخر كلما تذكر أنه كان شاهدا على عقد زواج أبويه ... وما أن انتهى العقد الذي تم بحجرة أمه ..والذي حضرت ابنة خالته بمنتصف إجراءات إتمامه لتصاب بحالة من الصدمة والذهول ألجمت لسانها المنفلت عادة بلا لجام ...لما يقارب الساعة الكاملة ..لا يزال يضحك كلما تذكر نظراتها المذهولة المتنقلة بين الحاضرين بحجرة خالتها أثناء العقد ..كانت تبدو كما لو كانت تناظر ظاهرة فضائية هبطت أمامها فجأة ..ويتدلى فكها حرفيا لدرجة جعلته يقترب منها ليهمس بأذنها أن تغلقه قبل أن تدخله الحشرات ... لكنه لم يستطع أيضا أن يفهم ما حدث فبمجرد إتمام إجراءات العقد ..كان موعد إجراء جراحة أبيه قد حان ليتم اصطحابه من قبل العاملين لتجهيزه للجراحة ...والتي امتدت لما يقارب الثلاث ساعات كادوا فيها يفقدون أعصابهم من شدة القلق والتوتر ..مما لم يدع أي مجال للسؤال والفهم .. وما زال حتى الآن وبعد مرور ما يزيد على ثمانية وأربعين ساعة لم يفهم ..فأبيه ما زال بحجرة العناية الفائقة .. والطبيب رغم أنه طمأنهم على نجاح الجراحة واستقرار الحالة .. رفض تماما زيارتهم له خلال اليومين السابقين ..ما زاد من شعورهم بالقلق ولم يدع مجالا للتساؤلات الجانبية ...إلا أن الطبيب أخيرا سمح لهم اليوم بالزيارة ...بشرط ألا يدخل له إلا واحدا فقط بكل مرة ولمدة لا تزيد على دقائق معدودة ولا يجعلوه يتحدث خلالها إطلاقا ..لتدخل أمه أولا ... ليراها من خلال الزجاج تمسك بكف أبيه بين يديها... وتنظر له بنظرات يكاد يقسم أنها مليئة بالحب بل بالعشق ..ويراها تقبل كفه وجبينه برقة ..قبل أن تخرجها الممرضة ويلمح هو تساقط دموعها التي حاولت إخفائها عنه.. هو لم يعارضها عندما قررت الدخول أولا ..رغم شوقه لرؤية أبيه والاطمئنان عليه عن قرب ..لكنه شعر بحاجة أمه الأكبر لرؤية أبيه .. أمه التي رفضت مغادرة المشفى طوال اليومين السابقين ..رغم أن طبيبها صرح لها بالخروج لكنها طلبت منه أن تظل ليومين آخرين ..واستجاب لها بعد علمه بحالة زوجها الحرجة ...وخوفا من أن يضر القلق الزائد والاضطراب بحالتها ...
ورغم أن ياسر حاول أن يفهم ما حدث منها ..لكنه لم يستطع الضغط عليها ..فما زالت العلاقة بينهما متوترة بعد كل ما حدث .. فاكتفى بضمها إليه ما أن رآها صباح يوم زواجها من أبيه ليهمس بأذنها أن تسامحه ..فتكتفي هي بضمه إليها بقوة طالبة منه عدم الحديث عن الماضي ثانية وتركه ليذهب .بخيره وشره ...لتتهرب بعدها من أي محاولة منه أو من ابنة شقيقتها لمحاولة استقصاء ما حدث وأدى لهذا الزواج السريع ... أفاق من شروده منتفضا عندما شعر باحتراق يده ليقف بسرعة عندما طال الشعور بالاحتراق فخذه نتيجة سقوط قطرات من فنجان مُد أمامه بصورة رعناء جعلت السائل بداخله يهتز مسقطا جزء مما بداخله عليه ..ليرفع رأسه وهو متوقع لما سيراه ...ليجدها تنظر له بعدم اهتمام لما فعلته وتقول ببرود :
"لي نصف دقيقة أناديك لتأخذ فنجان قهوتك وأنت شارد لا ترد ..فدفعت به أمامك لعلك تفيق من حالة التيه التي تعيشها"
لينظر لها بغيظ ويحاول جاهدا منع نفسه من دق عنقها وهو يقول من بين أسنانه:
"ومن طلب منك إحضار القهوة لي .. انظري أيتها الحمقاء الغبية لما فعلته ..لقد أفسدتِ بنطالي وأحرقتِ يدي"
لتمر بعينيها على النقاط التي لوثت بنطاله قبل أن تقول له بسخرية مستهينة:
"ممم أظن شكله هكذا أفضل ...بالإضافة لأنها مجرد قهوة ستزول عندما تغسله فلا تكبر الأمر ..- لتضيف بسماجة - وكف عن النظر لي بتلك الطريقة كما لو كنت ترغب بقتلي أو ضربي ..فأنت تعلم أنك لن تستطيع أن تفعلها "
لقد أوصلته لآخر مداه.. حقا لقد طفح الكيل ..فلم يشعر بنفسه إلا وهو يهجم عليها محاولا جذبها من شعرها المختفي خلف طيات حجابها ..لتصرخ ما أن شعرت بنيته وتقذف بباقي كوب القهوة الذي لم ينتبه أنها ما زالت تحمله ليلوث ثيابه بأكملها ..ليجن جنونه أكثر ويجري ورائها بحجرة أمه التي يبقون بها حتى موعد زيارة أبيه ..والتي تلازمها بها تلك الحمقاء طوال اليوم ..لتكتم على أنفاسه فلا يكاد يستطيع البقاء والجلوس مع أمه على راحته ..لتخرج أمه لحظتها من باب الحمام الداخلي الملحق بالحجرة لتختبئ تلك الحمقاء خلفها ..ويحاول هو جذبها من خلف أمه بينما تناوره هي يمينا وشمالا متخذة من أمه المصدومة بما يفعلوه درعا ..وهو يتوعدها بأنه لن يتركها بينما تخرج هي له لسانها ....ليتسمر كلاهما مكانه على صرخة أمه الناهرة لكليهما بالتوقف.. ليفاجئ بتلك المدعية تتمسك بأمه مدعية الحزن والبكاء ...رغم عدم وجود دموع بعينها وهي تقول بحشرجة كاذبة:
"أرأيت خالتي ..ابنك يرغب بضربي ..لمجرد أن بضع نقاط من القهوة وقعت عليه رغما عني وأنا أناوله الكوب الذي أحضرته له من مقهى المشفى... يظنني تعمدتها ..حقا خيرا تعمل شرا تلقى "
ليقاطعها صارخا بتكذيب وهو ما زال يحاول الوصول إليها خلف ظهر أمه وهى تناوره:
"إنها كاذبة أمي لقد تعمدت أن تسكبه علي ..انظري بنفسك لملابسي لقد ..."
لتصرخ أمه بهما وهي توقف كلاهما عن التحرك حولها بإمساك كلا منهما من أذنه بينما تقول بغضب:
"لا ادري أي جنون تلبسكما لتتصرفا معا كقط وفأر ..ولا تراعيا لا سنكما الذي تجاوز روضة الأطفال بسنوات طويلة ..ولا مكان وجودكما ..إن لم تستطيعا البقاء صامتين وتحترما كونكما ابني خالة ..فلا ارغب بسماع صوت أي منكما "
كان ياسر قد خلص أذنه من أمه ببداية حديثها بينما نظر لها بعتب لم تهتم هي له ..ليقول ما أن أنهت كلامها:
" إنها هي يا أمي... لتقاطعه الأخرى التي تركت خالتها أذنها لتتراجع للخلف وهي تقول "بل هو ..." لتقاطعهما أمه بحدة:
"..لا ارغب بالمعرفة ليلزم كلا منكما جانب الحجرة ..ولا أرغب بسماع صوت أي منكما "
..ليناظرها كليهما بذهول قبل أن ينظرا لبعضهما وهما يتذكران نفس الجملة منذ عدة أيام على لسان أشرف ..بينما يتساءلان إن كان الأمر توارد خواطر أم أنهما من يثيران نفس رد الفعل لدى الجميع ..
جلست تقى متذمرة على مقعد منفرد بجانب الحجرة بينما جاور ياسر والدته على أريكة مزدوجة بالجانب الآخر ..لتنظر هي له بغيظ ..خاصة مع تعمده دوما إقصائها عن خالتها ..كما لو كان يخبرها بلا كلمات أنها أمه هو وعادت له ..وأن لا مكان لها بينهم ..لتغلق عينها وتستند برأسها على حافة المقعد وهي تفكر بأنها رغم سعادتها بمفاجأة عودة خالتها لزوجها ..إلا أن الأمر يشكل لها أزمة كبرى ..فرغم مشاكلها مع والدها والمقاطعة شبه التامة بينهما ..إلا أنها تعلم انه لن يقبل ببقائها وحدها بمنزل جديها رحمهما الله ..وستسانده والدتها بحجة العيب والأصول والعادات والناس والخوف عليها ..وبالطبع لا يمكن أن تنتقل مع خالتها لمنزل السيد أشرف لوجود ابنهما معهما ..فالأمر لن يكون مقبولا لا منها ولا من أسرتها فبقائها مع شاب مثله بمنزل واحد حتى بوجود خالتها وزوجها أمر غير مقبول تماما ..مما يتركها بمشكلة لا تعرف كيف ستحلها ..خاصة أن فكرة عودتها للسفر والعيش مع أسرتها مرفوضة لديها ..وعودتهم هم غير محتملة ..لتزفر بعمق وضيق وهي تدعو بداخلها أن لا تتصل أمها قريبا حتى تكون استطاعت التفكير بحل ما ..فهي تعمدت أن تحدثها اليوم صباحا سائلة عنهم في محادثة أسبوعية روتينية تعمدت أن تختصرها بحجة الانشغال.. متلافيه إخبار أمها عمدا بتطورات الأحداث مع خالتها ومعتمدة على انشغال عقل خالتها بالقلق على زوجها مما لن يجعلها تفكر بمهاتفة شقيقتها حاليا ..تعلم أن المسألة مجرد تأجيل.. لكنها لا تملك حلا آخر حتى الآن ...لتفتح عينيها ناظرة بحقد لياسر لتقول لنفسها بتجني ..أنه السبب فلولا وجوده لاستطاعت البقاء مع خالتها وزوجها ....
-------------
"هذا هو رقم هاتفها سيدتي"
تناولت إيفا الورقة من سليم ..الرجل المكلف بخدمتها وحراستها من قبل كارل رجل زوجها الأول بناء على أوامر ديمتري .. لتشير له بعدها بغرور وتكبر أن يتركها وحدها فيغادر الجناح تاركا إياها واقفة أمام باب الشرفة المطل على نهر النيل تنفس دخان تبغها بغضب بارد لا يظهر على ملامحها الجامدة المعالم ..لتتجه للأريكة وتجلس عليها عاقدة ساقيها بينما تأخذ هاتفها من المنضدة المجاورة وهي تقول لنفسها أثناء طلبها للرقم المدون بالورقة ...أتظن انك بسفرك تستطيع إبعادي عن مقابلتها خليل ..أخطأت عزيزي ..أخطأت كثيرا ..وستدفع غاليا ثمن هذا الخطأ"
---------------
قبلها والدها متمنيا لها ليلة سعيدة على باب حجرتها قبل أن يتجه لحجرته المجاورة لها ..وما أن دلفت للداخل حتى ألقت بحذائها وحقيبتها لتسير حافية حتى الشرفة فتفتحها مستنشقة النسيم العابق برائحة البحر التي تطل عليه شرفتها لتنظر إليه بشرود دون أن تراه فعليا ..ليس فقط لكون الظلام مخيما عليه مخفيا ألوانه الصافية الرائعة المتدرجة بين الأزرق والأخضر بكل دراجاتهما.. لكن أيضا نتيجة لهذا الشعور بالقلق والخوف الذي يسكنها منذ عدة أيام شاغلا عقلها وروحها عن تذوق الجمال حولها في تلك المدينة الساحلية الصغيرة الساحرة ..هناك أمر يشغل أباها ..بل يقض مضجعه ..رغم محاولته ألمداره والظهور بمظهر السعيد المستمتع.. لكنها تشعر به بل تكاد تلمس قلقه واضطرابه بيديها ..تتمنى لو تعرف ما وراء حالته الغريبة تلك ...منذ متى وأبيها المدمن على العمل يأخذ إجازات مفتوحة ..بل ويصر على أن يغلق هاتفه ويطالبها أيضا بإغلاق هاتفها بحجة الاستمتاع دون مقاطعات ومنغصات ..وأي استمتاع هذا وهي تراه دائم الشرود والقلق و عيناه حائرتان ..يتلفت حوله كل عدة دقائق كما لو كان هاربا من شيء ما ..منذ متى يقوم والدها بعمل توكيل عام لغيره بالإدارة يشمل السماح بالتوقيعات المالية وصرف الرواتب ..صحيح أن أكرم يعد زوجها ..وأبيها يثق به ..لكنها تعلم أن أباها دوما ما كان حريصا فيما يخص مسألة التوكيلات ..لقد رفض أن يقوم بعمل توكيل لها هي نفسها في فترة سفره لأحد المؤتمرات لتقوم بصرف الرواتب وشراء المستلزمات والمستهلكات الخاصة بالمشفى بفترة غيابه مفضلا فتح اعتماد مستقل باسمها بالمبلغ المتوقع الاحتياج إليه بفترة سفره ..رافضا فكرة التوكيل رفضا باتا.. فما الذي حدث له لتتغير قناعاته هكذا ؟!!..ليقاطع شرودها صوت هاتفها الذي رفضت إغلاقه مدعية لأبيها أن أكرم سيقلق إن وجده مغلقا - رغم كونه لم يهاتفها إلا مرة واحدة خلال الأيام الماضية - لا تريد أن تظلمه فلابد أن ضغط العمل عليه كبير.. خاصة بعد تكليفات أبيها له ..وسفره معها تاركا إياه متحملا مسؤولية المشفى الطبية والإدارية بجوار التزاماته الأخرى ..لكنها رغم ذلك تشعر به هو أيضا متباعدا عنها مؤخرا.. كانت قد وصلت لحقيبتها وأخرجت الهاتف لتنظر للرقم أمامها بلا اهتمام .. فهو رقم مجهول لها ... لتلقى بالهاتف على المنضدة عندما توقف الرنين ..وما أن استدارت راغبة بتبديل ملابسها والخلود للنوم في محاولة للهرب من أفكارها القلقة حتى عاود الهاتف الرنين بنفس الرقم الغريب ..لتقطب حاجبيها بضيق ..وتقرر الرد
لتنتفض دواخلها وترتخي ساقيها فجأة لتجد نفسها ترتمي جالسة على الأريكة دون وعي ...بينما يأتيها صوتها الذي لم تسمعه منذ سنوات طويلة ..سنوات لم تجعلها تنساه ..لم تمحوا نبراته من ذاكرة قلبها وعقلها.. رغم أن المرة الأخيرة التي استمعت إليه بها كانت بعمر السادسة ... لترتعش يديها الممسكة بالهاتف فتقبض عليه بقوة بينما تمتلئ عينيها بالدموع وهي تسمعها تناديها بلغتها:
"سارة صغيرتي... دميتي ...هل تسمعيني ..أنا والدتك إيفا ..لا يمكن أن تكوني نسيتني يا دميتي الحبيبة"
..لم تستطع التحكم بدموعها أكثر لتسيل على وجنتيها بلا توقف وهي تسمع لفظة الدلال التي اعتادت والدتها مناداتها بها قديما ..دميتي الحبيبة...
ورغم وجيب قلبها الذي انتفض شوقا لتلك التي تناديها عبر الهاتف ..إلا أنها قست صوتها وهي تجيبها بنبرة حاولت جعلها باردة لا تشي بتأثرها وهي تجيبها :
"ماذا تريدين؟!"
ليقابلها صمت استمر للحظات كما لو كانت لا تصدق تلك الطريقة التي تجيبها بها ابنتها لتعود للسؤال:
"سارة !! هل سمعتني ..أنا والدتك"
لتقاطعها سارة بصوت تسلل إليه الغضب رغم ادعاء البرود:
"سمعتك جيدا ..وأسألك ماذا تريدين ..ما الذي ذكرك بي بعد كل هذه السنوات "
لتقول الأخرى باندفاع وتبرير:
"صغيرتي ..أنا لم انسك أبدا ..لا أدري ما أخبرك والدك عني ..لكنه هو.."
لتنتفض واقفة وهي تقاطعها صارخة بنشيج باك لم تعد قادرة على التحكم به:
"لا تدعي أكاذيبك على أبي .. إياك أن تتهميه أنه سبب هدم أسرتنا وتفريقنا ..إياك أن تجرئي على أن تأتي بسيرته بكلمة مسيئة"
ليأتيها صوت أمها بنزق وتشكك وهي تقول:
"كيف تحدثيني بتلك الطريقة يا فتاة أنسيت أني أمك ..لا أكاد اصدق أنك سارة ابنتي الرقيقة المهذبة "
لترد عليها بسخرية مؤلمة:
"ماذا أمي؟.. أتظنين أنك ستتغيبين لما يقرب من ثمانية عشر عاما وتعودين لتجدي نفس تلك الطفلة البلهاء الصغيرة التي كانت تظن أن الشمس تشرق فقط من خلالك ما زالت باقية بانتظارك ..أم تظنين أن أبي أبدلني بأخرى ..لا سيدة إيفا ..أنا هي نفس تلك السارة التي كنت تأخذينها معك بحجة اللعب معا بالحديقة لتتركيها مع صديقتك وتتغيبي طيلة النهار وتعودي لتخبريها أن لا تخبر أباها انك تركتها ..وأن تقول له أنكما كنتما معا طوال اليوم ..مدعية لها أنه سر لأنك تعدين مفاجأة له .. ويال تكرار مفاجآتك التي لم تكن تنتهي ..أنا نفس تلك السارة التي استيقظت عطشى ذات ليلة كان أباها يبيت بعمله في نوبة أسبوعية معتادة ..لتسمع صوتا غريبا وهي بطريقها للمطبخ فتظنه لصا فتخاف وقبل أن تجري لحجرتك تستنجد بك تجد باب الحجرة يفتح وترى رجلا غريبا يخرج منها ..رجلا لم يكن أباها بكل تأكيد رغم خروجه من حجرته ... فترتعب وتختفي خلف الأريكة وهي تنتفض خوفا على أمها بداخل الحجرة .. خوفا أن يكون من ظنته لصا قد أذاها .. لتجد أمها تلحق باللص ضاحكة بغنج وسعادة... بثوب نوم فاضح وهما يتبادلان القبلات والأحضان الحارة ...ربما كنت وقتها فتاة صغيرة لا تعي جيدا.. لكن للأسف لم أكن طفلة للدرجة التي لا أفهم فيها أن أمي ترتكب أمرا خاطئا من وراء أبي ...لم أكن صغيرة حتى لا أفهم حالة أبي الغاضبة الحزينة والشجارات المستمرة ...رغم تعمدكما الصمت أمامي ..رغم ظنكما اني لا اعرف أو افهم ..لكنكما لا تدريان كيف لطفلة صغيرة وحيدة شديدة الارتباط بأبويها أن تفعله عندما تشعر بتهديد غير مفهوم لها ولحياتها مع والديها ..كيف تعتاد الاختباء بالزوايا والأركان وخلف الأرائك لتتنصت عليهما ... فترى الكثير وتسمع الأكثر وهما غافلان ..قد لا يساعدها عمرها الصغير على فهم كل ما يقال ..لكنها تظل مختزنة إياه بذاكرتها لتعيه يوما بعد يوم ..وتفهمه عاما بعد آخر ..لتكبر وهي تحمل بداخلها وصمة أم خائنة ...وشعور بذنب قد لا يكون ذنبها فعليا ..لكنها لا تستطيع تنحيته ...بأنها لو كانت منذ البداية أخبرت أباها بأسرار أمها الصغيرة ..ربما كان أباها استطاع منع أمها من خيانتهما ..ربما لم تكن أمها لتتمادى للنهاية ..ربما لم تكن لتتحمل عبئ تلك النظرة الحزينة المكسورة المتألمة والمتأملة بعيني أبيها كلما نظر إليها ..كما لو كان يتسأل بداخله إن كانت ورثت جينات الخيانة من أمها ..إن كانت ستكسر قلبه وتنكس رأسه يوما.. لتعيش حياتها تحاول دوما إثبات العكس له ..تحاول أن تعوضه ..تكون له نعم الأبنة البارة التي لا تكسر له هامة ولا ترفض له طلبا ..تعيش على أمل أن تستطيع يوما محو نظرة الحزن والألم من عينيه ..وترى الفخر والسعادة بهما ..لأنه يستحق ..هو فقط من يستحق "
. ..ليأتيها صوت أمها صارخا كما لم تسمعه يوما ..وهي تقول بغضب:
"يبدو أن أباك سمم أفكارك عني ...وغذى خيالات وهمية حمقاء لديك ..أنا أمك التي تحبك ودوما ما دللتك ...كنت دوما أشبه بي من خليل ..." لتصمت ثانية لثواني ..حاولت سارة خلالها أن تنهي المحادثة ..رغبت حقا بأن تغلق الخط بوجهها بعد أن قالت لها ما تريد ..لكن رغما عنها ظلت يديها متشبثة بالهاتف قرب أذنها ..لم تستطع قطع هذا التواصل معها رغم صعوبته ..رغم الم ما يقال به من كلمات ..إلا أنها رغم الغضب ..رغم الحزن ..رغم وجع الذكريات التي أخفتها دوما خلف أقنعة النسيان.. لا تستطيع أن تمنع قلبها الذي دق اشتياقا لها ما أن سمع صوتها ..لا تستطيع أن تجبر أصابعها على إنهاء محادثة مؤلمة مرفوضة من عقلها لكن قلبها يشتاقها ينهل من نبرات صوتها بلا اكتفاء ..حتى سمعتها تقول بهدوء آمر:
"الحديث بالهاتف لا يصلح ..أخبريني أين أنت وسآتي إليك ..لقد أتيت لمصر لكي أراك ..وذهبت لخليل ليحدد لي موعدا معك حتى لا أفاجئك ..ليفاجئني هو ويأخذك بعيدا ليمنعني رؤيتك .."
أغمضت عينيها بينما ما زال صوت أمها يصلها وهي تتهم أباها بمحاولته الفصل بينهما لتبتسم بسخرية مريرة وهي تحدث نفسها .." ها قد تحقق ما كنت تتمنينه وعرفت سبب قلق وشرود أباك ..وليتك ما عرفتي ..بعض الأماني يجب أن لا تتحقق ..لأن تحققها يفتح أبواب من الألم ...لو علمنها لما تمنيناها يوما"
"لتقاطع حديث أمها بنبرة باترة:
"لا "
ليأتيها الصوت المستنكر المتسائل عن معنى لا ..لتجيبها بنهي قاطع يقطع داخلها قبل أن يشق حنجرتها حاملا الحروف التي تقتلها لكنها مجبرة على قولها ..فما كانت لتجرح أباها أو تفعل ما يؤذيه :
"لا تعني لن أقول لك أين نحن ..لن أقبل بلقائك ..لا أريد رؤيتك ..عودي من حيث أتيت ولا تحاولي رؤيتي أو التواصل معي ..فلن أقابلك إن أتيت لمنزلي ..وان أتيت لعملي سأمنع دخولك عندي ..وإن حاولت قطع طريقي بأي مكان سأتجاهلك ..فلا تحرجي نفسك معي .. أنا لا أريدك بحياتي ...لو أردتك لكنت تواصلت معك منذ سنوات ..فإن كنت فقدت ذاكرة السنوات ..يسعدني أن أذكرك أنا الآن بالرابعة والعشرين ..وكان بإمكاني الانفصال عن أبي والحضور إليك أو محاولة التواصل معك منذ سنوات لو أردت ..لكني لا أريد ..لا أريدك بحياتي ..فحياتي مكتفية وممتلئة بأبي وزوجي"
لتقاطعها إيفا بصوت مصدوم:
"زوجك؟ هل تزوجت؟ كيف ومتى ..لقد اعتدت متابعة أخبارك من وقت لآخر ولم اسمع بهذا الأمر"
لتقول بهزء قبل أن تنهي المحادثة:
"يبدو أن من ينقل لك الأخبار ليس كفؤا كفاية ...لقد تزوجت من رجل هو صورة مصغرة لأبي ..ويعمل طبيبا مثله ..وأنا سعيدة مكتفية بحياتي ..ولا مكان لك فيها فعودي من حيث أتيت وانسيني كما كنت طوال الأعوام الماضية ..ولا تحاولي رؤيتي أو مهاتفتي "
لتغلق الهاتف قبل أن تفقد تماسكها المزعوم بلحظات لتنفجر بعدها بنشيج باك دون أن تنتبه لهذا الواقف في الباب الفاصل بين الحجرتين..
..والذي جاء ليطمئن عليها بعد سماعه صوت هاتفها الذي تكرر رنينه عدة مرات دون إجابة ..ليستمع مصدوما لحديثها كاملا ..ويعرف كم تعذبت صغيرته التي كان يظنها جاهلة بالماضي ..ليجدها تختزن بداخلها العديد من الجروح المتقيحة ..ويدعو بداخله أن لا تكون علمت كل شيء ..فما عرفته يكفي ويزيد لتحتمله فتاة بعمرها ورقتها ..لينسحب بهدوء دون أن يشعرها بوجوده ... ورغم قلبه الذي تقلص قلقا عليها ورغبة بضمها لصدره والمسح على رأسها وطمأنتها ..لكنه شعر أن صغيرته تحتاج لتكون وحدها الآن ...كلاهما بحاجة للوحدة والتفكير .. ورغم ألم صغيرته وحزنه لأجلها إلا أنه لم يستطع منع شعور الراحة والهدوء تسلل إليه لمعرفته بأن سارة هي من ترفض رؤية إيفا ..وأنه لم يعد محتاجا للقلق من لقائهما والخوف من ما يمكن أن تبثه إيفا لها من أكاذيب ..أو أن يقلق من أن تحاول التأثير عليها لتأخذها معها ...فسارة هي من ستقف وتتصدى لها ... وهي من سترفضها وتلفظها دون أن يحتاج هو للتدخل..
ولم يكن كلاهما هو و أبنته ليتصورا حالة الجنون التي تلبست إيفا رغم برودها الشهير ..والتي جعلتها تحطم هاتفها بعد إغلاق سارة للخط .. وتنتابها حالة هياج وغضب وهي تصرخ بجنون بأنها لن تسمح لسارة بتنحيتها ولفظها من حياتها ..لن تدعها تقصيها وترفضها.. ستعيدها لها ولو رغما عنها هي نفسها .......
---------------------

دخل صارخا للحجرة الصغيرة المشبعة بالرطوبة بجدرانها المتشققة و التي يستأجرها بأحد المنازل القديمة المتهالكة ..حيث يقيم فيها بالعاصمة ..والتي يشاركه بها من يومين أباه وجده ..لينتفض كلاهما على صوته وهو يهتف:
"ألم أحذركم من مغبة ترك الأمر ..ظللت يا جدى تقول ..أصبر أصبر حتى وقعت المصيبة "
ليعقد جده حاجبه بينما يهتف أبيه بحدة:
" صلاح ..كف عن الصراخ والعويل كالنساء ..وقل ما ورائك دون مقدمات.. ماذا حدث؟" ليجيبه بغيظ وغضب:
"سعاد تلك الفتاة التي تعمل عاملة بالمشفى ..والتي أشاغلها لتأتيني بالأخبار ..أخبرتني منذ قليل أن المشفى كلها لا سيرة لديها إلا عن قيام الدكتور خليل بنقل أملاكه لزوج ابنته ..البعض يقول أنه قام بعمل توكيل رسمي عام له ..لذا هو من يقوم بالإدارة وصرف الرواتب ..والبعض يقول أنه كتب باسمه المشفى وكل أملاكه ..وسواء هذا أو تلك ..فالأكيد أن هذا الطبيب صار هو المتحكم في أملاك خليل بدليل كونه هو من يوقع حاليا أذونات الصرف... وأصبح توقيعه معتمدا ومقبولا بالمصرف الذي يحتفظ خليل بأمواله فيه ..أي أن هذا الطبيب قادر على إفراغ والاستيلاء على كل ما يملكه عمي الدكتور خليل دون أن يراجعه أحد ..هو يتمتع بملايينه ونحن هنا ننتظر ونصبر ونكاد نتضور جوعا بالانتظار"
...ليتبادل أباه وجده النظرات القلقة ..فيضيف محفزا جده فهو الوحيد الذي يمكنه منحه الأذن لفعل ما يريد:
"جدي طريقة المهادنة والصبر لن تُجدي ..دعنا نتصرف بطريقتي قبل أن نخسر كل شيء لهذا الطبيب الصعلوك "
ليزفر جده بضيق ويحني رأسه مسندا إياها على عصاه لحظات قبل أن يرفع رأسه مانحا إياه الأذن بنبرة تحذيرية:
"حسنا صلاح ...لن ننتظر أكثر ..وسننفذ فكرتك رغم عدم اقتناعي بها ..وخوفي أن تجر علينا البلايا ..وتفتح أبواب جحيم يفوق قدراتنا"
ليقاطعه صلاح بتأكيد:
" لا تخشى شيئا جدي...خليل لن يفضح نفسه أمام الناس ويتهم عائلته ..خاصة أننا سنخبره فورا بوجودها معنا ..كما أننا لن نؤذيها ..فقط سنضمن حقنا عن طريقها - ليضيف بخبث وعينين تلتمعان شرا - ..كما أنه آن الأوان لابنة عمنا أن تتعرف على عائلة أبيها"
ليضرب جده بعصاه الأرض وهو يهتف بضيق:
." يبدو أنه لا فائدة ولا طريقة أخرى لدينا سوى تلك الطريقة ..لكني أحذرك صلاح ..لا أريد غباء وتهورا ...نريد الفتاة لدينا بهدوء ودون إيذاء .. ودون أن يعرف أو يشعر بك أحد "
------------------------
هتف بسخط وهو يحرك يديه بشعره بينما يمسك الهاتف بالأخرى:
"سامح الأمر لا يريحني ..انسحب من الموضوع ....يبدو أنهم يشكون بك ..بدليل تغيريهم للموعد أكثر من مرة "
ليستمع لهذا الأحمق الغير مبالي بسلامته وهو يتحدث بثقة عن كون الأمر مجرد مناورات عادية ..ومحاولة للتأكد منه لا أكثر.. ورغم أن ما يقوله يتفق مع ما اخبره به اللواء منصور إلا انه لا يشعر بالراحة .. ليقاطع حديثه أصوات شجار تأتي من الخارج تحمل صوت أمه وهمس .. ليتحرك خارجا وهو ما زال يستمع لسامح متتبعا الصوت حتى باب المطبخ ..ليتسمر واقفا وهو يرى أمه وثريا الخادمة تقيدان ذراعي همس التي تحاول الإفلات منهما.. بينما تخترق أنفه تلك الروائح النتنة ..ليجد يده تتحرك لتسد أنفه تلقائيا بينما يطلب من سامح البقاء للحظات على الهاتف ..ويسأل الواقفين بظهورهم أمامه عن ما يحدث ..لتلتف الثلاث رؤوس إليه همس بوجه نزق غاضب محمر.. وأمه بقلق ..الخادمة بارتباك ..ليسمع والدته تستنجد به قائلة:
" خالد حمدا لله ..تعالى لتساعدنا على منع تلك الحمقاء من أكل الفسيخ ..الطبيب حذرها من الطعام المالح والحريف وخاصة بعد زيادة الأملاح لديها نتيجة جنونها بأكل المخللات لتأتي اليوم بكم من الفسيخ راغبة بأكله .."
ليرتفع حاجب خالد بذهول وهو ينظر لمنضدة المطبخ التي تحوي كيسا بلاستيكيا سيئ المنظر مفتوحا ويوجد بداخله أوراق داكنة موضوع فوقها أسماك نيئة مصفرة اللون تفوح رائحة العفن منها لدرجة تكاد تدفعه للتقيؤ .. ليرفع هاتفه بينما يستمع لصوت ضحكات سامح الذي يبدو انه استمع لكلام والدته ليسأله بنبرة مهددة:
"سامح ..هل أنت من أحضر الفسيخ لهمس"
لينفي سامح بصوت ضاحك:
"أقسم ببراءتي هذه المرة يا صهري.... فالوجبة الوحيدة التي نختلف عليها أنا وهمس.. هي الفسيخ أنا لا أحبه ..ولا أطيق رائحته ..بل أننا كنا نترك المنزل أنا وأبي وأكرم لها هي وأمي عندما تقرران أكله ..وغالبا ما كانت تشاركهم تلك الجريمة خالتي وبعض الجيران ..يا الهي يا خالد ..لقد فقد قصرك هيبته ..فرائحة الفسيخ ستبقى عالقة بجنباته ولن تتخلصوا منها لأيام مهما فعلتم"
لتنطلق ضحكاته الساخرة مجلجلة ليقاطعه خالد بغيظ وهو يقول :
"أغلق الخط سامح قبل أن أغتالك مع شقيقتك الحمقاء" لينهي المحادثة ويناول الهاتف لوالدته التي أخذته وخرجت من المطبخ هي وثريا ..
كان قد قام أثناء حواره مع سامح باعتقال زوجته وتقيد يديها التي كانت تحاول بهما الوصول لاختطاف شيء من الطاولة... ورغم إبعاده إياها لآخر المطبخ إلا أن عينيها ما زالت تنظر للكيس على الطاولة برغبة وشوق ..بينما لا تكف عن الاحتجاج وطلب فك قيد يديها ومحاولة التفلت منه ..ليجد أن الحل الأمثل هو إخراجها من نطاق المطبخ تماما .. لتبتعد عن مصدر الإغراء... ويبتعد هو عن تلك الرائحة الرهيبة التي تكاد تخنقه ..فيديرها إليه ويحملها كجوال فوق كتفه خارجا بها متجها لحجرتهم بالأعلى ليهتف أثناء مروره بوالدته وثريا الناظرين له بابتسامة تشجيع ومتجاهلين صراخ همس الغاضب :
" أرجو أن تتخلصوا حالا من تلك المصيبة التي بالمطبخ ..لا أريد لها وجودا بالقصر القوها بأبعد سلة مهملات بالمنطقة ..وحاولوا بأي طريقة التخلص من تلك الرائحة الكريهة "
ما أن وصل لحجرتهم حتى أغلق بابها بقدمه قبل أن يلقي بهمس برفق على الفراش ليجدها تنتفض واقفة وتحاول تجاوزه لتخرج ..وهي تهتف بصراخ غاضب:
" لا ..لا تجعلهم يلقوا به ..أنه من أفضل أنواع الفسيخ ..لقد تكبدت مشوارا صعبا لأحصل عليه من فسخاني لا يوجد له مثيل بمنطقة القلعة .. إنني أريد فسيخي ..أنه طعامي الذي أحبه ..كيف تمنعوه عني ..أنا لا أسمح لكم "
لينظر لها خالد ذاهلا وهو يردد بعدم تصديق:
تريدين أكل طعام ذو رائحة رهيبة ..أحضرته من مصدر مجهول من محل أسمه ليس له مثيل؟!! ..بالتأكيد ليس له مثيل في الرائحة المقززة
لتنظر له همس بتكبر وهي ترفع رأسها لتقول بغرور:
"وما أدراك أنت بالطعام الجيد ومحلات الفسيخ الشهيرة ..انه أفضل حتى من شاهين " ليسأل بهزء :
"ومن شاهين هذا "
لتنظر له كما لو كان كائنا فضائيا:
"ماذا ؟! أهناك من لا يعرف شاهين أشهر فسخاني بمصر"
ليقول لها هازئا بينما يربع يديه دون أن يتحرك من أمامها تحسبا لحركة جنون تحاول بها اللحاق بفسيخها قبل التخلص منه:
" لا للأسف لم يحدث لي شرف التعرف عليه ..ولا أرغب بهذه المعرفة ...في الحقيقة ..لا أكاد أصدق أنك ترغبين بأكل سمك نيئ ..حتى أخيك الأحمق سامح الذي يأكل كل ما هو عجيب ..وقف على حدود الفسيخ ولم يصل جنونه إليه
. ليقاطع صراخها الغاضب بنبرة حاسمة نادرا ما يستخدمها معها لكنها بحاجة إليها أحيانا:
" اسمعيني جيدا همس.. لقد تحملت طلباتك العجيبة ...دوم و حرنكش ...لكن الفسيخ لا ولا ... هذا كثير لن اسمح لكِ بإطعام أبني طعاما فاسدا متعفنا ذي رائحة نتنة" لتقف أمامه متخصرة وهي تهتف به بغضب:
" ماذا... ماذا أعد واسمعني من هذا الذي تحمل من ؟!! ومن التي تتحمل كل ليلة قبل نومها ... تلك الأصوات البشعة والدق المسمى موسيقى كلاسيكية وأوبرالية ...مرة لبيتهوفن وهذا الكوسيكوفسيكي ..ليقاطعها هاتفا اسمه موسكوفيسكي وليس كوسيكوفسيكي ..لتصرخ هاتفة :
"ارحمني كوسكوا موسكوا كلها دق يصيب الإنسان بالصداع ورغم هذا تحملت لأجلك ولم أقل كثييير ..تحملت وأنت تخبرني أنك ترغب بأن يستمع أبنك لتلك الموسيقى الجنائزية ..بحجة رغبتك بأن يولد بحس فني ..وخاصة وأنت تخبرني عن تلك الدراسات العجيبة عن أهمية الموسيقى الهادئة لصحة وراحة الجنين ..والتي أكاد أجزم أنهم لم يقصدوا بها موسيقاك البشعة ..بل وأكاد أقسم انه لو كان ابني قادرا على النطق لخرج من رحمي صارخا يطلب الرحمة من سماعها كل ليلة .. ..لتكمل دون اهتمام بملامحه الرافضة لما تقول.... ورغم تحملي هذا العذاب الليلي اليومي إرضاء لك ولأجل خاطرك... لا تتحمل أنت بعض الرائحة التي ستزول سريعا لأجلي ..وترغب بحرماني من أكل الفسيخ وأنا التي أتحمل موسيقاك البشعة ولوحاتك التي تسبب لي الاكتئاب "
ليجد نفسه يضرب كفا بكف أمام منطقها العجيب وهو يقول بذهول ..
"أتريدين أن تساوي بين موسيقى راقية تغذي الروح ..وبين طعام فاسد يصيب بالمرض ..وعلى كل حال المسألة ليست تجبرا مني لحرمانك من شيء تريدينه ..بل هي أوامر طبيبك الذي منع عنك تماما أكل أي شيء مالح "..ليقاطع احتجاجها الغاضب بصوت حازم بات :
"همس الموضوع انتهى ولن نظل نناقشه طوال الليل ..والفسيخ لابد أنه الآن أصبح وجبة لقطط وكلاب المنطقة بمقلب القمامة ..هذا إن استطاعوا تحمل رائحته ..وعسى أن لا يظن السكان أنه يوجد جثة متعفنة ملقاة بالقمامة ويقومون بإبلاغ الشرطة بعد انتشار الرائحة "
لتتركه بغيظ متجهة لحمام الغرفة بينما يسمعها تدمدم بغضب وتتوعده بالعقاب لحرمانها من طعامها .. ليرتمي بإجهاد على الفراش ويقوم بإمساك جهاز التحكم بمشغل الموسيقى ليبدأ بتشغيل إحدى سيمفونيات بيتهوفن في محاولة لتهدئة أعصابه ..وما أن أغمض عينيه وبدأ بالاسترخاء حتى فوجئ بعاصفة ترتمي فوقه لتختطف من جواره جهاز التحكم وتطفئ الموسيقى ..بينما تقول بحقد غاضب :
"من الليلة لن تسمع موسيقاك المزعجة تلك قبل النوم "
ليجلس على الفراش بغضب محاولا الإمساك بيدها وأخذ الجهاز لتبعدها وتضعه بالجارور بجوارها بينما تتجاهل حديثه الغاضب عن عدم قدرته على النوم دون موسيقاه:
لتنظر له بتشفي وهي تقول قبل أن تطفئ الضوء وتستلقي مانحة ظهرها له :
"تحمل... كما أتحمل أنا وأتنازل عن رغباتي ستتحمل أنت أيضا ..وتتنازل عن رغباتك ..ومن اليوم لا موسيقى قبل النوم ..تعلم النوم بدونها"
ليظل ناظرا لظهرها للحظات كاظما غيظه قبل أن يستلقي غاضبا هو الآخر ..ويظل يتقلب لوقت طويل ..مفتقدا موسيقاه قبل أن يستطيع أن يغفو...
-----------------------------

تعالت الدقات على باب الشقة فخرجت من المطبخ وهي تمسح يديها بقطعة قماش بينما تصيح بضيق:
" قادمة يا من بالباب أتظنني أقف ورائه"
..لتفتح بغيظ فتفاجئ بالواقف متكئ على الجدار وينظر لها ببسمة سمجة بينما تتعلق سيجارة مشتعلة بزاوية فمه انزلها ونفخ دخانها بوجهها وهو يقول :
"كيف حالك شقيقتي العزيزة"
..لترفع حاجبها وهى تناظره بملل وتساؤل:
" سعيد؟ ما الذي رماك علي الآن فحسب علمي أنت لا تستيقظ باكرا"
..ليزيحها بيده من أمام الباب بينما يدلف للداخل قائلا:
"ألن تدخليني وتضيفيني أولا يا شقيقتي الكبرى... أم سنتحدث أمام الباب .. على مرأى من الجيران "
التفتت ناظرة إليه بتوجس بينما يسحب كرسيا من أمام منضدة الطعام ويجلس عليه مستندا بكوعه ..وهو يتلفت حوله سائلا :
ألا يوجد احد هنا "
لتتوجه إليه ساحبة مقعد آخر لتجلس عليه بحنق وهي تنظر له بحدة مجيبة:
"كلهم بمدارسهم"
..ليقاطعها بتلهف : "وهند "
فتضيق عينيها وهي تنظر له بضيق وقلق بينما تجيبه:
"بجامعتها "..لتقرب وجهها منه وهي تعيد سؤالها :
"لم تخبرني بعد ... ما ألقاك على في هذا الوقت يا سعيد؟.. لماذا تذكرتني اليوم.. وماذا تريد مني... ولا تخبرني أنك اشتقت لي ولأبنائي ..فلن أصدقك"
..ليجبها ببسمة تنضح خبثا :
"وهل أنساك أبدا يا شقيقة .. أنت تظلمينني ...فدوما أنت ببالي وقلبي لكنك تعلمين أني كنت ممنوعا من دخول بيتك"
..ليستطرد بغيظ وحقد :
"أنسيت أن زوجك طردني منذ ثلاثة أعوام من هنا... محرما على أن أطأ عتبة هذا البيت" ..ليضيف بغل ..
"لكنه رحل ...وها أنا هنا وأنوي أن أطأ أكثر من العتبة"
ناظرته نبيلة بتوجس قائلة:
"نعم اذكر جيدا أنه بسببك اقسم زوجي ألا يطأ باب بيته أحدا من أهلي ..لأنه امسك بك تتلصص على ابنته من ثقب باب حجرتها... بينما أنا أُعد لك الشاي الذي طلبته مني بالمطبخ ..وكاد يطلقني يومها بسببك"
..لتنظر إليه بينما ترى ابتسامته تتسع وهو يريح ظهره لمسند مقعده لتساءل بنزق :
"سعيد ادخل بالموضوع.. وارحمني من قصة الاشتياق والعواطف فلن أصدقها... أنت لا تحب أحدا... ولا تهتم سوى بنفسك.. فقل مباشرة ماذا تريد"
..ليجيبها بكلمتين جعلا عينيها تتسع اندهاشا وتوجسا:
"أريد هند"
ظللهما الصمت للحظات وهي تنظر له بحدة وحاجب مرتفع قبل أن تسأله بقلق عن ما يقصده:
"كيف تريدها لا افهم؟!!"
..ليجبها بسماجة وهو يرفع يديه ويشبكهما معا خلف رقبته بينما يزيد من اتكائه على ظهر المقعد :
"أريد بالزواج منها "
لترد عليه ذاهلة:
"أجننت يا فتى!! ..أتتخيل أن توافق عليك الطبيبة المغرورة مدللة أبيها ..أتظنها ستقبل بفتى عاطل ضائع بلا شهادة ولا مهنة يقضي وقته بين المقاهي.. و يتعاطى المخدرات والحشيش ويرافق الخارجين عن القانون ..إما انك قد جننت ..أو متعاطي شيئا من تلك المصائب التي تذهب بعقلك لتجعلك تحلم بالمستحيل "
...ليضيق حاجبيه وهو يرد بحدة:
"من قال لك أنني أتعاطى شيئا.. أخبريني من هو لأقطع لسانه .. ثم ما مسألة عاطل ضائع تلك .. أنا رجل "كسيب"( يتحصل على مال وفيرا من عمله) ولدى حرفة بيدي... تعلمين أني ميكانيكي سيارات واكسب جيدا ..و ما مسألة مصادقتي للخارجين عن القانون ..تلك وشاية حقيرة ومغرضة من الحاقدين علي ..أما المقاهي والحشيش فأنا شاب أعزب و اسلي وقتي ككل الشباب "
..لتقاطعه بضحكة ساخرة وهى تقول:
"هذا الكلام تذهب لتخدع به غيري... فانا وأنت نعلم انك كاذب... وانك طردت من كل الورش التي عملت بها لسوء خلقك وسلوكك... وانك تعيش عالة على أبيك وأمك وأخيك الأكبر ..فلا تتبجح بمآثر كاذبة أمامي .. وأخبرني ما حدث لعقلك لتظن أن فتاة كهند طالبة طب.. قاربت على التخرج ستوافق بشاب صائع ضائع مثلك"
.. ليرد عليها ببسمة ممتلئة خبثا وهو يعتدل بجلسته مقربا رأسه منها:
"ومن قال أننا سننتظر موافقتها ...أو أنها ستكون مخيرة على الموافقة من الأساس"
...لتنظر له بتوجس وهى تسأله بصوت منخفض:
"ماذا تعني"
لتزداد لمعة عينيه خبثا .. وتلتوي زاوية فمه بشكل مقزز بينما يجبها بصوت كفحيح الأفعى:
"اعني يا عزيزتي... أن الطبيبة المغرورة ابنة زوجك لن تستطع الرفض... و ستقبل صاغرة.. بل هي بنفسها من ستقبل قدمي لأتزوجها"
..لتشعر نبيلة لحظتها بالقلق مما يعنيه فتسأله بصوت احتكمته الغصة :
"ماذا تعني يا سعيد ؟ فيما تفكر أيها الأحمق وعلى ما تنوي"
..لينظر لها لثواني بصمت قبل أن يعود لإراحة ظهره للخلف وهو يرد عليها :
"سأخبرك !!"
---------------------------
تجلس بمكتبها بالمجموعة منشغلة بوضع ميزانية تقريبية للبرنامج الترفيهي الذي تجهزه لزيارة وفد الشركة الإيطالية لتوقيع العقود النهائية مع المجموعة ..عندما قاطع تركيزها خيال يميل على مكتبها ..لترفع رأسها لتتنهد داخليا بضيق وهي ترى علي ..زميلهم بالمجموعة بقسم المحاسبة والذي لا يكف عن الحوم حولها منذ بدأت العمل بالمجموعة ..وهو ينظر لها بإعجاب سافر لا يخفيه .. ويفتعل الحجج للقدوم لمكتبها كل يوم ..ورغم محاولتها التصرف معه بتهذيب وإفهامه عدم اهتمامها به ولا رغبتها بمصادقته أو معاملته بأي صورة تتعدى الزمالة دون أن تحرجه ..إلا أنه لا يرتدع وحقا صبرها قارب على النفاذ ..فيبدو أن معاملتها المهذبة له ..جعلته يسئ تفسير رفضها المهذب ..ويحتاج لوقفة حسم صريحة ومباشرة.. هي لا تدرى إن كان يعلم صلتها بخالد أو لا ..لكنها لا تظن ذلك ..وإلا ما فكر أن يتجاوز حدوده معها ...فأغلب العاملين لا يعرفون صلتها بخالد ..بل يظنوها موظفة عادية ...
لترفع رأسها إليه سائلة بتجهم:
"أتريد شيئا أستاذ علي "
ليرد ببسمة سخيفة تكاد تشابه بسمة إعلانات معجون الأسنان قائلا:
" علي فقط دون أستاذ ...لقد أتيت لمساعدتك بالميزانية الخاصة بالبرنامج الترفيهي ..فقد سمعتك أمس تسألين الأستاذ حافظ رئيس القسم عن سقف الإنفاق المسموح ..واللوائح والأنظمة المتعلقة بالأمر ..وكيف يجب أن يتم حساب النفقات التي لا يوجد لها فواتير ..كبعض النفقات النثرية والإكراميات والهدايا البسيطة التي يشتروها الضيوف من بائعي التحف الجوالين بالمناطق الأثرية ..ولا يوجد لها أوراق تسجيل ..فقررت أن آتي لمساعدتك وتعليمك كيفية احتسابها وتسجيلها " قالها وهو يقرب كرسيا من مكتبها ليجلس قريبا منها بصورة أكبر مما يمكن أن تقبلها ..لتنتفض واقفة وهي تقول بصوت ناهر يحمل مزيجا من حزم وأمر :
"أستاذ علي ..ما أردت معرفته عرفته مباشرة من رئيسك المباشر ..ولو احتجت شيئا سألجأ إليه ..مساعداتك غير مطلوبة .. وأرجو أن لا تتعب نفسك ثانية ..ولا داعي للحضور لمكتبي دون أن يكون هناك سبب فعلي ..والآن تفضل فلدي عمل كثير ارغب بإنهائه" ..ليقف بوجه محتقن حرجا وهو يقول بصوت محرج :
"عفوا آنسة ماهي ..يبدو أني فعلت شيئا أغضبك دون قصد ..لقد أردت فقط أن .."
ليقاطع تبريراته صوت همس الحازم من أمام الباب:
"أظنك أوضحت موقفك بما يكفي سيد علي ..والآن عد لمكتبك ولا تغادره ثانية ..فلو تكرر الأمر سأقوم بتحويلك للتحقيق "
لينتفض الشاب حرفيا ما أن سمع صوت زوجة الرئيس ونائبة نائبه ليغمغم معتذرا وهو يخرج مهرولا بسرعة كما لو كانت الشياطين تطارده:
لتتبادل كلا من ماهي وهمس النظرات قبل أن تنفجرا ضاحكتين ..لتقول لها همس وهي تغمزها بتواطؤ ..عندما يضايقك المعجبين هاتفيني لأحضر لإرعابهم وإبعادهم عنك ..أظن أنه من الأفضل أن أنقل مكتبي قريبا منك لمساعدتك على طرد المعجبين أيتها الجميلة ..أو ربما أعطيك بعض الدروس في كيفية التخلص منهم ..أو الأفضل أرسلك لأخي سامح ليعملك الطريقة المثلى للتعامل معهم.. وخاصة السمجين منهم ..صدقيني لديه طرق ردع ستبهرك وتجعل الجميع يهابك ولا يقترب منك ..يكفي أن يعلمك حركة مقص القدم ...مقص قدم واحد لأحدهم فينتشر الخبر ويبتعد الجميع ..لكن الأمر يحتاج تدريبات مكثفة من أخي الخبير ..لتغمزها بعينها قبل أن تتركها خارجة"
بينما تغيم عيني ماهي بتخيل سامح وهو يعلمها كيف تتخلص من مطاردة المعجبين ..وإلقائهم على وجوههم ..ليخرجها من حالة التيه التي رسمت بسمة بلهاء على وجهها رنين هاتفها لتنظر له فتتبدل ملامحها للضيق وهي ترى اسم أمها يومض على شاشة الهاتف لتتجاهل الرنين بعد أن ألغت صوته .. خاصة وهي تكاد تجزم بسبب طلبها إياها ..لابد أنها ستحاول إجبارها على حضور غداء أو عشاء أو حفل مع هذا المدعو عاصم والذي تكاد أمها تثير جنونها وهي تقحمه معها بدعوات يومية ..هي لا تكاد تفهم ما يحدث ..لقد ظنت بالبداية انه قد يكون معجبا بأمها ..لكن سير الأحداث ..ومحاولات أمها جمعهما معا بصورة متكررة ومنفردة يجعلها تشك بكونها هي المقصودة ..الأمر الذي يسبب لها غيظا واختناقا ورفضا باتا ..ولو تأكد لها أن أمها بالفعل تدفعها للارتباط بشخص كهذا ..فالأمر سيؤدى لحرب شعواء بينهما ..فهي أبدا لن تقبل أن تكون بيدقا في خطط السيدة رقية مرة أخرى ..وبالتأكيد لن تقبل بأن تقترن بشخص مخيف ..وغير مريح كعاصم مهران
-----------------------
صرخت بوجهه وهي تضرب بيدها على صدرها بينما تهب واقفة:
"أجننت يا سعيد ...قد أكون اكرهها ...وأتمنى إذلالها ...وارغب بأن لا تكمل تعليمها لتصبح طبيبة وترفع أنفها وتتعالى علي ...لكن ليس لدرجة أن أوافق أو اسمح لك باغتصابها !! ماذا تظنني !! أنسيت أنها رغم كل شيء أخت أبنائي ..وما يمسها يمسهم ... أتريد أن يعرفوا أن خالهم أغتصب أختهم... إن حسين سيقتلك حينها ...فلا يغرك صغر عمره وشجاره الدائم معها فهو عصبي غيور .. ولا يخدعنك مشاكله معها ..فهو رغم غيرته منها إلا أنه بداخله يفخر بها .. ومهما حاولت أن اجعله يكرهها إلا أنني واثقة انه يحبها كأبيه"
..ليقاطعها هو بسماجة بينما يقف مقابلا لها:
" نبيلة ..شقيقتي العزيزة ..لا تعيشي دور القديسة ..التي تخاف على ابنة زوجها ..وعلى مشاعر أبنائها ..فانا أدرى الناس بك ..وبمدى كرهك لها ...أليست هي نفسها هند التي كنت تحرقينها بالنار وهي طفلة ...وكم دعوت عليها وتمنيت موتها...أليست من تسببت بطلاقك من أبيها يوما وإلقائك خارج بيتك بعد أن ضربك حتى كاد يكسر عظامك عند علمه بضربك إياها ..ولولا حملك بحسين لما أعادك لعصمته ..لكنه قيد يدك عنها بيمين طلاق معلق... وكنتِ تظني أنك ستستطيعين نيل انتقامك منها بعد موت أبيها لولا معاشها الذي تذلك به لأنها تعاونك به بنفقات البيت"
ليزداد احتقان وجهها وتهدج أنفاسها وهي تتذكر غيظها ونقمتها من تلك الفتاة ..لتلتفت إليه بغيظ وهى ترد:
"ها أنت قلتها ...حتى لو كنت بهذا الشر مثلك ...فلست حمقاء لتركك تنفذ مخططك الدنيء ..حتى تجبرها على الزواج منك ... وينقطع المعاش الذي تعاوني به ..ليعاود الجلوس وهو يقول لها:
"ومن قال انه سينقطع"
..لتنظر له بعدم فهم ..وهي تسأله:
"كيف لن ينقطع ...ألا تعرف أن معاشها سيقطع إما بحصولها على وظيفة أو زواجها" ..ليرد بخبث
"هذا لو كان زواجا موثقا أو تم الإبلاغ عنه.. لكننا سنجعله زواجا عرفيا حتى لا ينقطع المعاش... ولكي عندي أن تحصلي عليه كاملا من الصراف ليدك دون وسيط ...و دون أن يمن عليك أحد ...بل هي من ستكون ذليلة تحت قدميك"
..لتنظر له بتردد كما لو كان كلامه بدأ يلقى قبولا لديها ..لتقول بتردد:
"وما الضامن لي أنك ستنفذ ما تقوله ... وماذا ستستفيد أنت.. فلا أظنك تنوي الخروج من الموضوع بمجرد زوجة بعقد عرفي وبلا نفقات زواج"
..ليضحك ملئ شدقيه وهو يجبها بغموض :
" يعجبني ذكائك يا شقيقتي ...أنا أيضا سأستفيد الكثيييير من ورائها" لترفع له حاجب متسائل فيرد عليها موضحا:
"أولا سآخذ حقي منها.. سأذلها واكسر انفها كما أذلتني بنظراتها المحتقرة لي دوما.. وترفعها حتى عن الرد علي بسلام عابر ..وآخذ حق القلم الذي ضربه لي أبيها في آخر مرة كنت بها هنا قبل تحريمه هذا المنزل علي وطردي منه كحشرة يلقي بها على الدرج وهو يسبني ويضربني بحذائه ...وأيضا" ليصمت قليلا قبل أن يقول بخفوت:
"لي عدد من الأصدقاء والمعارف بحاجة لفتاة لديها خبرة طبية.. تستطيع إعطاء الحقن بالوريد ..وتستطيع أن تعقم و تخيط الجروح ويمكنها معالجة بعض الإصابات التي يتعرضوا لها أحيانا .. أي أنهم يريدون من يعالجهم بعيدا عن الأماكن الرسمية التي تقوم بالتبليغ غالبا ... وطبعا كل هذا سيكون بمقابل"
..لترد عليه نبيلة مقاطعة:
"وطبعا هذا المقابل أنت من سيتحصل عليه ..أي انك ستستغلها بالعمل وتعيش على حسابها ...وأظنها لن تكون كأي ممرضة عادية تعطى حقنا للمرضى أو تخيط جروح مصابين بل أنا أكيدة أنها ستعطي حقنا من نوع خاص ...وتعالج جروحا أيضا من نوع خاص ..أم تراني مخطئة" ..لتزداد قهقهته ارتفاعا وهو يرفع حاجبه ويرد عليها ..
"الم أقل لك سابقا أن ذكائك يعجبني يا شقيقتي العزيزة"
لتنظر له لدقائق بينما تقلب الأمر برأسها ..جزء منها يرفض ويحذرها من مغبة فعلة بشعة كتلك ..وخاصة لو علم أبنائها وخاصة حسين ..فلن يسامحوها وستكون النتائج كارثية على الجميع ..وجزء يؤيد تلك الأفكار الشيطانية التي ستمكنها من إذلال هند ... وكسر انفها فلا تقوم لها قائمة أبدا ..لتبرر لنفسها الأمر بأن سعيد ينوي أن يتزوجها ..فهو لن يغتصبها ويلقي بها ..بل فقط سيفعلها ليجبرها على الموافقة ..لتبتلع لعابها وهي تنظر له بتفكير قبل أن تقول له بتردد:
"دعني يومين أفكر واقلبها برأسي "
لتزداد ابتسامته خبثا واتساعا وتلتمع عينيه بنشوة نصر قريب يستشعره وهو يميل عليها محاولا استمالتها أكثر ..وقاتلا أي خوف أو قلق أو تردد بداخلها ..
-----------------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 22-08-18, 03:46 AM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل الرابع عشر
--------------
استيقظ من غفوته ليشعر بهذا الدفيء الذي يغلف كف يديه لتتحرك رأسه تلقائيا باتجاهه فيجدها جالسة بجواره كما أعتاد طوال اليومين السابقين ..تمسك بكفه بين يديها فتشيع الدفيء بجنبات روحة المشتاقة ..تروي بذورا قد تيبست من شدة الجفاف ..تعيد لها الحياة والنضارة ...بمجرد لمسة من يديها ..لكنه لن يعود للسعي لنيل رضاها فقد تعلم درسه ..فحبيبته طفلة عنيدة ..حالمة ...مدللة ..رغم تخطيها منتصف الأربعين ..تحتاج للحزم والتقويم ..تحتاج للشدة لتستقيم حياتهم الباقية ...لذا يجب أن لا يعود لسابق عهده معها ...فهو من أفسدها باللين والدلال ..لن يغدق الحب عليها دون انتظار المقابل ..لن يعطي دون أخذ ..فتعود للتعود على الأنانية من جديد... وتنشغل بنفسها وهواجسها دونه وتنساه ..سيعيدها لعالمه لكن بشروطه هو ..ليعلمها جمال العطاء في الحب ..روعة التشارك بالمشاعر ..فقط يجب أن يجبر نفسه على التحمل قليلا ..وعلى كل حال وضعه الصحي يحتاج الهدوء والتروي ..ورغم شوقه الظامئ لها بعد طول صيام ..إلا أنه لن يرتوي الآن ..وبما أن حالته الصحية لن تسمح بقربها حاليا بكل الأحوال ..فليستغل الوقت حتى يحين وقت الارتواء ..لترويضها وتأديبها وتعليمها كيف تكون حبيبة بلقب زوجة ..وليس زوجة بعقد عمل كما كانت تشعره بالسابق ..قد تكون اعترفت له بالحب ..لكنه سيعلمها أن تتخطى معه حدود الحب ..سيعلمها معنى أن تذوب به عشقا ..حتى تشعر أن أنفاسها تختنق وهو بعيد عنها ..سيجعلها تشتعل له شوقا ..وتموت حنينا إليه ورغبة به ..وتسعى له بلهفة سنين البعاد والابتعاد ..سيعلمها أن تأتيه مانحة لعطاياها بنفس راضية.. وروح مشتاقة وعقل مستسلم وقلب نابض بالحب والرضا ..
لاحظ أن عينيها ما زالت ساهمة شاردة بالفراغ ..فتعمد سحب يديه بشيء من الحدة ليعلمها باستيقاظه ..فوجدها تنظر إليه بارتباك ومفاجأة .. بينما تضم كفيها معا وتضمهم لمعدتها وهي تخفض وجهها الذي زاده احمرار الخجل روعة جعلتها تبدو لعينيه كما لو كانت ما زالت صغيرته التي لم تصل بعد لسن العشرين ...ليبعد عينيه عنها ويحاول مدارة مشاعره وهو يسألها بنيرة شابتها الحدة:
"كم الساعة الآن "
لترد بخفوت وهي ما زالت تهرب بعينيها من لقاء عينيه:
"العاشرة صباحا ..لقد نمت لفترة طويلة بعد التغيير على الجُرح و تناولك جرعة العلاج ...لقد مر الطبيب المناوب منذ قليل لمتابعة مؤشراتك وطمأنني على استقرار حالتك ..وأخبرني أن كثرة النوم عرض طبيعي ناتج عن جرعات العلاج المكثفة ورد فعل الجسم لاستعادة قدرته على التأقلم والشفاء ...كما أخبرني أنه إذا ظلت حالتك بنفس معدلات الاستجابة والتحسن فيمكن أن تخرج بعد عدة أيام وتتابع باقي العلاج بالمنزل ....بشرط المتابعة ..والرعاية ..والاهتمام بمواعيد العلاج والالتزام بالراحة التامة ..لتصمت قليلا قبل ويبدو على ملامحها الارتباك ..شعر هناك شيئا يشغلها وترغب بالحديث عنه ...لكنه لم يسألها ..يجب عليها أن تتعود هي البوح ..أن تتعود اللجوء إليه دون أن يجبرها أو يحايلها لتفعل ..ليزيح وجهه للناحية الأخرى بينما يسأل بخشونة:
"لماذا لم تعودي للمنزل مساءا مع ياسر وتأتي بالصباح كما طلبت منك أمس ..أنا لم أشأ المجادلة معك أمس أمام ياسر ..وخاصة أني ما زلت مجهدا ولا أتحمل كثرة الكلام والنقاش ..بعد ذلك ما أقوله ينفذ مباشرة دون جدال ..لا أريد أن يتكرر موقف أمس ثانية ..ليس مسموحا لك تكسير قراراتي ومناقشتي بما أقول ..مفهوم تقى "
لتقول بتبرير :
"لم أشأ تركك وحدك في أول يوم تُنقل فيه لغرفة عادية ..كما أن الجناح هنا كبير والأريكة واسعة ويمكنني النوم عليها و"
ليقاطعها بصوت بات:
"تقى ..لن أعيد ما قلته .. كما أن ياسر يبيت معي ..فلم أكن وحيدا ..بالإضافة لأن نومك على الأريكة غير –كاد يقول مريح لك – ليغير رأيه ويقول بحدة :
"غير لائق فهناك احتمال لدخول الطبيب ليلا للمعاينة ..ولا أحب أن يرى احدهم زوجتي وهي نائمة ..كما أن قضائكما الليل أنت وياسر بالتناوب بين النوم على الأريكة والجلوس بجواري ليس أمرا مريحا لي ..اليوم مساءا ستعودين للمنزل ..ستذهبين لمنزل والديك لتبقى مع تقى ابنة أخيك مؤقتا ..وتحزمين أشيائك لتكوني جاهزة للانتقال لمنزلي بمجرد خروجي "
كان يراها تقضم شفتيها بقلق ..ويشعر بها ستكاد تنفجر من كتمها لشيء تود قوله ..لكنه ادعى التجاهل..ليسألها عن ابنه مانعا نفسه من السؤال عما يشغلها ..فيجب أن تبوح بما يشغلها من تلقاء نفسها:
"هل تعلمين إن كان ياسر وتقى ذهبا لعملهم اليوم أم لا ؟... لقد أطالا الغياب عن العمل وهذا الأمر لا يجوز ..ولا يجب أن يستغلوا صلتنا بخالد أكثر من ذلك"
لتقاطعه بتأكيد:
"لقد عادا اليوم للمداومة ..ياسر خرج وأنت نائم ..وتقى هاتفتني صباحا بطريقها للعمل وأخبرتني أنها ستأتي إلى هنا بعد انتهاء دوامها "
ليقطع كلامها صوت رنين هاتفها بنغمة منخفضة لتنظر له وتزداد ملامحها ارتباكا بينما تقوم بتجاهل المكالمة وإلغاء الصوت ..لينظر لها وللهاتف بيدها بتوجس وارتياب ويسألها بحدة:
"من الذي يتصل " لتزفر بعمق بينما تجيب بصوت و ملامح تجمع ما بين القلق والحيرة:
"إنها مها شقيقتي ..لابد أنها قلقة لأني لم أهاتفها منذ فترة ..تقى أخبرتني أنها لم تخبرها شيئا عن مرضي بالفترة السابقة حتى لا تقلقها ..وأيضا...لتصمت قليلا بينما تتهرب بعينيها منه وهي تضيف بارتباك:
"لم تخبرها بزواجنا ثانية ..وأنا أخشى الرد عليها لأني إن أجبت فلابد إن اخبرها بعودتنا معا"
ليقطب بحيرة ويسألها بتوجس:
"وما المشكلة بمعرفتها لعودتنا والتي تجعلك غير راغبة بالرد وإخبارها ..ما شانها هي ..المفروض أن تسعد لأجلك "
لتقاطعه بلهفة وتوضيح:
"بالطبع هي ستفرح ..فهي تقدرك ودوما ما تمنت أن نعود معا ..لكن ...المشكلة متعلقة بتقى "
ليقول بعدم فهم:
"أي مشكلة؟!! ما بها تقى"
لتتنهد بعمق بينما تفتح كفيها محركة إياهم بكل اتجاه وهي توضح المشكلة:
"تقى كانت تعيش معي ..وبعد عودتنا لابد أن انتقل معك وهذا يعني بقاء تقى وحدها بالمنزل ..وهو ما لن يكون مقبولا لا منهم ولا حتى مني ..فلن آمن على شابة مثلها البقاء وحيدة ..وستكون عرضة للأقاويل ..ومستحيل أن يقبل أباها مسعد بذلك ..لقد قبل بقائها معي على مضض ..خاصة مع اضطراب الوضع بيننا منذ طلاقي.. حيث اتهمني بالهاتف أني لابد قد فعلت ما يشين لتطلقني هكذا... فهو لن يصدق أن السبب منك ..خاصة بعد رفضي لتدخله عندما أراد الاتصال بك ومحاولة إعادة المياه لمجاريها بيننا ..ومن وقتها ونحن لا يوجد بيننا أي تواصل مطلقا ..فقط أتواصل مع مها ..والآن أنا حائرة ..تقى لا ترغب بالعودة للعيش معهم ..تقول أنها اكتفت من الغربة عن وطنها ..رغم أني اشك بكلامها وأظن أن هناك خلافا ما مع أبيها ..وهم ليس بنيتهم العودة ..وفي نفس الوقت لن يقبلوا بقائها وحدها ولا أنا ..وكذلك لن يقبلوا ولا هي أيضا أن تقيم معي لوجود ياسر معنا فلن يكون مقبولا أن تعيش مع ابن خالتها الشاب الأعزب بمنزل واحد حتى لو كنا معها ..مسعد لن يقبل ..وحقا أنا حائرة ولا اعرف ما أفعله ..لذا أتهرب من الرد عليها ..رغم أن هذا ليس حلا وسيثير قلقها أكثر " لتصمت بملامح حائرة ..بعد أن أخبرته بما يؤرقها لينظر لوجهها المطرق وملامحها القلقة وحاجبيها المقطبين ..ليجد نفسه يخفي ابتسامته بشق الأنفس بينما يتنهد راحة بعد أن اطمئن على أسباب اضطرابها .بينما يقول بمكر :
"وماذا تعطين لمن يجد لك حلا لتلك المعضلة يرضي جميع الأطراف ..فلا تحتاج تقى للسفر ...ولا للبقاء وحيدة لتثير الأقاويل عنها .. وقلق الجميع عليها "
لتلمع عينيها حبورا وترقبا وتهتف بسرعة بينما تمد يديها بتلقائية لتمسك بكفه دون وعى:
"ما هو هذا الحل أخبرني إياه بسرعة ..لقد أعياني التفكير .. وتعبت من تجاهل اتصالات مها"
ليجبها بشقاوة ونبرة متلاعبة رغم جدية ملامحه:
"أخبرتك ..لابد أن آخذ مقابلا لإخبارك بالحل ..انسي العطايا المجانية التي كنت أمنحك إياها سابقا ..من الآن كل ما ستنالينه مني سيكون له مقابلا تدفعيه "
أخذت تنظر له بحيرة بالبداية قبل أن تنتبه لتلك النظرة الماكرة بعينيه ...لتشع عينيها بعواطف ملئت روحها لهذا الرجل الذي ملكته أعواما دون أن تقدر قيمة ما تملك ..لتفقده فتفقد روحها ببطء حتى قاربت الموت ..وتعود فتنتعش بإكسير الحياة بعودته إليها ..لتعاهد نفسها أن تتمسك به وتمنحه ما يستحقه من عشق كان مخفيا بجوانحها دون أن تشعر ..فتميل إليه قائلة بنبرة متدللة مليئة بالحنان والرقة:
"وأنا كلي ملك لك ..وموافقة مقدما على دفع أي مقابل تقرره "
لتحاول تجاهل خجلها بينما ينبض قلبها شوقا فتميل مقبلة وجنته الخشنة بلحيته النامية لعدم حلاقتها لعدة أيام ..لتشعر بانتفاضته فتنظر له بمواربة من بين رموشها و بقلبها يتضخم ونبضها يتسارع.. وهي ترى ملامح الصدمة مرتسمة بوضوح على وجهه الذي اكتسى بالذهول حتى تدلى فكه ..فهي تبادر بالتقرب منه للمرة الأولى من تلقاء نفسها ..وهو أمر لم تفعله أبدا بالسابق ..لتعيد العهد على نفسها أن تعوضه كل ما فات ..لتميل على خده الآخر مقبلة برقة وهي تقول بصوت خرج متغنجا دون قصد منها .."
أنا مدينة لك برد ديوني على العديد من عطاياك القديمة ..فقد تعلمت أن ترك الديون يزيد نسب الفوائد المستحقة عليها ..وفوائدك لدي كبيرة جدا ولا ارغب بإضافة المزيد ..بل بالبدء بالسداد ..ل "
لتشهق بمفاجأة عندما يلتفت برأسه ليقابلها بوجهه بينما تلتهم شفتاه باقي الحروف من فمها ..وتلتف كفه على رأسها من الخلف تجذبها إليه أقرب وتثبتها بالوضع الذي يريده حتى ينهل من رحيقها الذي اشتاقه مرارا وتكرار ...رغم نغزات الألم بقلبه الذي لم يبرأ بعد من الجراحة بينما يقول بأنفاس لاهثة ملتهبة شوقا...من بين لثمات العشق .."إذا ابدئي بالسداد.. فلن يكفيك العمر لسد ديونك" ... لتشهق محاولة الابتعاد بعد لحظات لأخذ أنفاسها ...فيعود لسحبها ثانية إليه متجاهلا الألم المتزايد بصدره فألم شوقه أقوي من شعوره بألم قلبه المتعب... ليقول بزمجرة لاهثة .."لا تبتعدي ثانية قبل أن أسمح لك "..ليعود للارتواء وهو يقول: .."لم اروي شيئا من ظمئ بعد" .. لتحاول الابتعاد ثانية وهي تقول بارتباك وصوت متهدج:
"أشرف ..نحن بالمشفى... وقد يدخل أحد علينا ..كما أنك ما زلت مريضا "..لتضيع الحروف من لسانها بينما تشعر بشفتاه تكاد تلتهم ما تطاله من بشرة وجنتها وفكها... لتتأوه بألم وهو يسحب حجابها بحدة كاشفا عن رقبتها ويجذبها إليه حتى كادت تقع من فوق كرسيها مرتمية على صدره ..بينما يعيد وصمها باسمه تاركا أثاره على جيدها ونحرها... لتعيد التأوه ثانية بعاطفة أنستها المكان والزمان ..والحل المنتظر لمشكلة ابنة شقيقتها....
--------------------------------------

ما أن هم بالكلام بصوته الجهوري كعادته حتى أشارت له بإصبعها على فمها لتقول بصوت خافت:
أخفض صوتك حسن نائم بالداخل ...لم يذهب للمدرسة لأنه كان متوعكا بالصباح ..ولا أريد أن يسمع شيئا.. أصلا ما زلت قلقة ولست مقتنعة بكل بفكرتك الغبية "
ليحتد قائلا بصوت غاضب:
"نبيلة لن نظل نعيد الكلام ...هي ليست قصة ..لقد قلبتها في رأسك طوال اليومين ..وكل مخاوفك التي أثرتها فندتها لك ..هند لن تستطيع الصراخ لأنها ستكون مغيبة عن الواقع ..كما لن تستطيع الإنكار أو حتى الرفض والتجاهل ..ولا حتى مداواة الأمر بإحدى العمليات الحالية ..لأنني سأقوم بتصويرها معي.. وبما أنها ستكون متجاوبة معي بسبب حبوب الهلوسة والمخدر التي ستضعينها لها قبل خروجك لن تستطيع الادعاء أن الأمر لم يحدث ..أو أنه حدث رغما عنها ..فالشريط المصور سيثبت العكس ويكذب أي ادعاء منها "
كانت ملامحها ممتعضة وقلبها منقبض ..لكن رغم هذا لا تستطيع منع مشاعر الغيرة والرغبة بالتشفي من هند من التوغل للقضاء على بوادر الرفض بداخلها.. لتجد سعيد يدس كيسا صغيرا بيدها وهو يقول بتحذير:
"هذا الكيس حافظي عليه كعينيك واحفظيه بمكان لا يصل له أحد "
نظرت بتعجب للكيس شديد الصغر الذي يحوى مسحوقا أبيض بداخله ..لتسأله بتوتر:
"ما هذا " .... ليرد بخبث
" مسحوق السعادة ..لا تعرفي كم كلفني هذا الكيس الصغير ..إنها المادة السحرية للسعادة والطيران فوق السحاب ..ومن الصنف والنوع الأغلى والأعلى "
ليغمز بمكر وهو يقول " الغالي للغالي ..إنها من الصنف الخاص بالصفوة ..لكنها لا تغلى على طبيبتنا العزيزة ..عليك وضعها لها في الموعد في طعام أو شراب تكونين واثقة مئة بالمائة أنها ستتناوله ..فلن استطيع توفير صنف كهذا ثانية ...فالحصول عليه ليس سهلا ولا رخيصا.. واحرصي على عدم اقترابك أو أطفالك من أيا كان ما ستضعين به هذا ..متى ستكونين جاهزة للتنفيذ"
لتقول بتفكير وهى تدس الكيس بصدرها ..بعد غد مساءا ...سآخذ الأولاد ونذهب لأمي ..وهى لا تذهب للعيادة ليلتها ..وتبقى بالمنزل معتزلة بداخل حجرتها ..لكنها تشرب بكثرة ذلك النوع من القهوة الجديدة التي تذوب بالماء الساخن ..لتعوج فمها بسخرية هازئة وهي تضيف ..تظن نفسها ابنة أكابر بنت عبد السلام ..وتخفي العلبة بحجرتها ..سأخلط هذا الشيء به قبل خروجنا أثناء انشغالها أو دخولها الحمام ..هي دوما تصلي العشاء ثم تصنع لها كوبا منه وتجلس تشربه وهي تستذكر " ليهز رأسه بتفكير وهو يؤكد عليها:
"حسنا لكن لا تخرجي قبل أن تتأكدي أنه صنعته وبدأت بشربه ..عندها تخرجين وتتصلين علي ..سأكون قريبا من هنا ..وبمجرد مرور بعض الوقت وتأكدي من سريان مفعول المخدر بعقلها ..سأصعد إليها وادخل لها بالمفتاح الذي منحتيه لي "
لتقول له بتحذير وتوتر:
"مسعد ..حذار أن يراك أحد وأنت تدخل بالمفتاح ..أو تفتعل مصيبة تفضح الأمر وتفضحنا معه ..لو شعر حسين بشيء فستكون مصيبة ..ناهيك عن الجيران ..فالأصوات هنا تسرى بسهولة "..ليغمز لها بعينيه وهو يقول:
"لا تقلقي يا شقيقة ..وحتى لو رآني أحد فسيكون هذا بمصلحتنا ..لأنه يعني أنها تواعدني بالبيت وهي وحدها بعد خروجكم ..على كل حال سأكون حريصا لا تقلقي"
لترتبك ملامحه وهو ينظر خلفها ويشير لها برأسه ..لتلتفت بقلق ..فتجد حسن ابنها الأوسط ذي السنوات العشر يقف ناظرا لهما بتوجس ممتزج بخوف ..لترتبك قليلا خوفا مما قد يكون سمعه ..قبل أن تخفي قلقها وهي تصرخ بوجهه:
"ما الذي أخرجك من فراشك ؟..منذ متى وأنت واقف تتنصت علينا؟!! "
ليتراجع الفتى بخوف وهو يقول بصوت مرتعب متقطع:
"لقد شعرت ..بالعطش ..كما رغبت .. بدخول الحمام"
لتقترب منه ماسكة إياه بعنف من طوق بجامته المنزلية وهي تسأله :
"منذ متى وأنت واقف هكذا ..لما لم تنادي أو تنبهنا عندما خرجت"
ليبدأ الصغير بالارتعاد وهو يقول باكيا:
"لقد خرجت الآن فقط ....كنت أريد الذهاب للحمام ليتهدج صوته أكثر وهو يسألها:
"لماذا أنت غاضبة مني أمي ..أنا لم أفعل شيئا"
ليقترب سعيد منها مخلصا الفتى من بين يديها ..بينما يربت على رأسه بحنو كاذب وهو يهبط بركبته لمستواه ناظرا في عينيه بينما يقول بنبرة تحمل وعيدا وتحذيرا ارجف الفتى أكثر:
"يكفي نبيلة ..حسن فتى جيد ..ولا يكذب ..هو خرج الآن ولم يكن يتنصت علينا" ..ليضيف بينما يظهر أسنانه بابتسامة مخيفة وهو يخرج من داخل جيب بنطاله الخلفي مطواة صغيرة ..يتلاعب بها أمام عيني الفتى المرتعب:
"وحتى لو سمع شيئا.. فهو لن يتحدث أو يفتح فمه بحرف أمام أحد ..فهو لن يريد إغضابك ..أو إغضاب خاله ...ليربت على وجنة الفتى بالمطواة وهو يقول بتحذير " أليس كذلك يا حسن "
ليهز حسن رأسه بإيجاب وانتفاضته تزداد وضوحا ..بينما يعتدل خاله بعد أن حدجه بنظرة مرعبة ..ليتجه لنبيلة الغاضبة والممتعضة الملامح وهو يقول لها ساخرا قبل الخروج :
"سأنتظر اتصالك بعد غد ..وبدلي لصغيرك ملابسه .. فيبدو أننا أخرناه طويلا عن الذهاب للحمام" لتتعالى ضحكاته الساخرة أثناء إغلاقه للباب تاركا نبيلة تتجه بغضب لهذا الصغير المرتعب...
-----------------------------------

رآها تلتفت مغادرة ما أن وجدته يتحدث بالهاتف ليشير لها بالبقاء ..كان يرد على شقيقته همس معتذرا عن عدم قدرته على حضور الحفل العائلي الذي تعده اليوم لحماتها بمناسبة ذكرى مولدها ..ويبلغها أيضا بأن سارة لم تعد بعد ..وستعود غدا مساءا.. بعد أن أبلغته بأنها غير قادرة على التواصل معها وهاتفها مغلق على الدوام ..ليقطب حاجبه مفكرا بغرابة تصرفات سارة مؤخرا ..فهي بالفعل تغلق هاتفها دائما ..وكذلك والدها ..ولولا أنها تحدثه مساء كل ليلة لعدة دقائق تطمئنه بها عليهما لشعر بالقلق ..ورغم أنها تدعي رغبتها ووالدها برحلة خاصة دون أي مقاطعات ...إلا انه يستشعر بصوتها شيئا غير مريح ..كما أن تصرف الدكتور خليل أيضا غريب وغير منطقي له ..فهو الأدرى بمدى حرص أستاذه على متابعة دقائق العمل ..والحالات بالمشفى ...حتى تلك التي لا يشرف عليها مباشرة ..لقد كان يقضي ساعات على الهاتف يتابعه بكل صغيرة وكبيرة وهو بالخارج عندما يكون بأحد المؤتمرات ..ليخرجه من شروده صوت نحنحة هند المتململة ..لينهي ثرثرة همس بكلمات مقتضبة عن مدى انشغاله... ويلتفت لتلك التي تهرب بعينيها بعيدا عنه ...ليتحرك ملتفا حول مكتبه ليقف بمواجهتها مجبرا إياها على النظر لوجهه ..ليجدها تركز عينيها على ياقة معطفه ..بينما تخبره بإيجاز عن قيامها بإعادة توزيع مواعيد الأسبوع لتعود لوضعها السابق مساءا عدا الاثنين والخميس والجمعة قبل تقليصها خلال الأسبوع المنصرم نتيجة انشغاله ليومين فقط بفترة بعد الظهيرة ..وقيامها بتعليق ورقة بباب العيادة بالمواعيد المعتادة .. كان شعوره بالحنق والحيرة يزداد طوال حديثها الجدي المماثل لجدية وتجهم ملامحها.. هناك أمر ما يجرى لهند ..يجعلها متغيرة من ناحيته ..هي تخفي عنه شيء يخصها.. وهذا الأمر يضايقه ولا يريحه ..ليجد نفسه يقاطعها بحدة سائلا:
"ماذا هناك يا هند؟"
لتتوتر ملامحها وترتفع عينيها الذابلتين لتقابل عينيه ..بينما تقول باضطراب:
"ماذا تعني دكتور؟! ..لا أفهم عن ما تسال! "
ليجد نفسه يقترب برأسه من وجهها قابضا بعينيه على عينيها حتى لا تهرب من نظراته ..بينما تتراجع برأسها للخلف وتزداد وتيرة تنفسها وهو يقول:
"ماذا يحدث لك ..ماذا تخفيه عني ويوترك هكذا ..هناك شيء يحدث معك لا تخبريني به ..والأمر لا يريحني ..بل ..يقلقني عليك ..أنت تتهربين من النظر لوجهي ..تتهربين من البقاء معي وحدنا كلما عرضت عليك مساعدتك بمراجعة دروسك ..تكادين تقفزين من شدة القلق والتوتر كلما تواجدت بمحيطك" .. ليرتفع صوته بحدة بينما يسألها بقوة مصرا على نيل جواب يريحه من هذا القلق والتشتت الذي يجعله لا يكف عن التساؤل عن ما يحدث لها .. مع شعور خانق بعدم الراحة يقض مضجعه:
" أنا أرغب بالفهم ..أريد إجابة واضحة عن ما يحدث معك دون تهرب ...هل عاد مسعد لمضايقتك ..هل فعل شيئا لك ..هل ..هل هناك شيء أو شخص آخر يضايقك ..أو يشغلك؟"
هزت رأسها بنفي بينما تغمغم عن كونها لم تراه من فترة ولم يعد يعترض طريقها...
كان يسألها عن هذا الوغد رغم يقينه أن الأمر يتعداه ..لكنه يريد فتح حوار معها ..يرغب أن يفهم أسباب تباعدها ..يشعر باختناق لا يفهم له سببا لتنحيتها إياه عن حياتها ..ربما هو التعود.. فدوما ما كان هو الأقرب لها ..دوما ما أحب نظرتها إليه ..تلك النظرة التي تشعره أنه بطل خارق .. دوما ما كان حاميها ..ومن تلجأ إليه ..فماذا حدث ..يشعر بضيق وانقباض بصدره لا يعرف له سببا بينما يسألها بتوتر وتردد :
"إذا ما هو السبب الذي يسبب لك هذا الذبول و الاضطراب والتباعد ..هند صارحيني ..دوما ما كنت الأقرب إليك "
لتقاطعه بسخرية باسمة وحروف تقطر حزنا وهي تقول:
"طبعا دكتور.. دوما ما كنت بمثابة شقيقي الأكبر. ..صدقني ..لا يوجد شيء لأخبرك إياه ..هي فقط مشاكلي المعتادة مع زوجة أبي ..واضطرابات اقتراب موعد الاختبارات ..بالإذن سأذهب لجمع أشيائي والذهاب "
ليجد يده اليمنى تتحرك تلقائيا ممسكة ذراعها الأيسر مانعة إياها من التحرك لتعود للالتفات إليه بملامح مصعوقة ..ليشعر بالحرج ..ويترك ذراعها ..دون أن يفهم لما شعر فجأة بضيق ..ليس لكونه قام الإمساك بها رغم أنه لم يفعلها سابقا ..لكن لأنه شعر للحظة وهو يمسكها بأحقيته بتلك اللمسة .. كما لو كانت حقا من حقوقه ..مما أشعره بالاضطراب وجعله يدير وجهه ليقول بنبرة مرتبكة غريبة حتى على أسماعه هو:
"لا تذهبي وحدك ..لحظات سأحضر أشيائي ونعود معا ".. ليقاطع كلماتها قبل أن تنطقها ..
"أعرف أننا ما زلنا بفترة العصر والوقت مبكر ...لكننا سنعود لنفس المنزل ..فطبيعي أن نعود معا ..ورجاء... كفى عن تلقيبي بدكتور ونحن وحدنا ...فلم اعتد تلك الحواجز منك بيننا ..ولا أستسيغها ..على الأقل حتى تمنحيني سببا مقنعا لوضعك إياها بيننا مؤخرا "
لتلتفت خارجة من أمامه دون رد ..تاركة إياه ..بعقل مشتت وفكر حائر ..لا يعرف ما يحدث له ..لماذا هذه الغصة التي شعر بها وهي تخبره أنه بمثابة شقيقها الأكبر ..رغم انه دوما ما كان كذلك وأخبرها وأخبر الجميع أنها يرى نفسه كذلك ...لماذا لم يطاوعه لسانه على سؤالها إن كان هناك شيء ما يربطها بشقيقه سامح تحديدا ..بل لماذا لا يستسيغ الفكرة ولا يطيقها ..ما الذي يحدث له ؟!!...
--------------------------------------


وقف خالد بالردهة يكمل تعليق أوراق الزينة والبالونات الملونة التي أجبرته همس على تعليقها ..رغم اعتراضه هو ووالدته ..لكنها كالعادة تثير جنونهما حتى يرضخا لما تريد.. ليبتسم بداخله برضا ..فهو رغم مشاكساتها معه ..ورغم شجارهما وخلافهما معا أحيانا ..إلا أنه سعيد معها ..سعيد جدا ..يشعر بالحياة تتدفق بداخله جوارها ..يعشق حتى خلافاتهما ..كما يعشق قلبها الطيب رغم جنون أفعالها ..لتزداد ابتسامته اتساعا وهو يتذكر نهوضها من جواره بالأمس لتفتح له موسيقاه التي يحبها بعد أن حرمته منها لليلتين كاد يقتله فيهما الأرق ..لتقول له بنزق يخفي اهتمامها به:
"سأوقف عقابك فقط لأنك لا تجعلني أنام من كثرة أرقك وتقلبك .. ليلتفت إليها ما أن تمددت بجواره محتضنا إياها بقوة ..ليخبرها بينما يدفن وجهه بعنقها:
"بل يؤرقني أكثر نومك بعيدة عني .. ابتعاد رأسك عن صدري يجعلني أشعر بالخواء والفقد .. وهو ما يؤرقني أكثر "
ليجذبها إليه أكثر بينما يلتف لينام على ظهره ساحبا إياها لتستقر رأسها على صدره ..ليشعر بزفرة الراحة التي أطلقتها حمقائه ..فهو يعرف أنها مثله ..لا تستطيع النوم بعيدا عنه ..ليغرق بعدها كلاهما في نوم مريح تحاوطهما مشاعر السعادة والرضا مع أنغام موسيقى ...قد تكرهها هي ويعشقها هو ..لكن رغم اختلاف طباعهما ..وأذواقهما.. ونشأتهما... استطاع كلاهما أن يجعلا هذا الخلاف عنصر إثارة بحياتهما ..تعلما أن يتنازل كلا منهما عن بعض ما يريد للآخر ..تعلما أن يتقبلا اختلافهما ..لم يحاول أيا منهما أن يغير الآخر بل قبله كما هو ..فهما أحبا بعضهما كما هما .. لذا فليتحمل خالد بعض الأطعمة الغريبة والطباع المجنونة ..ولتتحمل همس بعض الموسيقى الوترية واللوحات السريالية ..فالمقابل ..هو هذا الحضن الدافئ من الحنان والحب والتشارك ..ويا له من مقابل كبير أمام تنازل بسيط ..
أخرج خالد من شروده الباسم صوت جرس الباب ليترك ما بيده ويذهب لفتحه فالجميع منشغل بالمطبخ .. ارتفع حاجبه بلوم ما أن رأى مدحت أمامه بجوار ماهي التي سلم عليها أولا مخبرا إياها عن مكان تواجد أمه وهمس.. لتخبره أنها ستدخل إليهم لترى ما يفعلونه ..بينما جذب هو ابن عمته وهو يقول له لائما:
"مرحبا بالغائب ..لولا معرفتي بالصدفة من شقيقتك بعودتك وتصميمي على أن تحضرك معها لم تكن لتحضر إلينا من تلقاء نفسك ..ألم نتفق أن تأتي لي عند عودتك ..هل تحتاج دعوة رسمية للقدوم لزيارة بيت خالك "
تهرب مدحت من النظر لخالد بينما يحيه بهدوء ويدخل معه لحجرة المكتب وهو يفكر بكم يشعر بالألم والندم على ما فعله بهذا الرجل الرائع ..والذي لم يعرف قيمته إلا مؤخرا ..ما زال بداخله مزيج من شعور يجمع بين الغيرة من خالد والتبجيل والتقدير لقريبه الرائع الذي استطاع أن يهزم كل ما واجهه من صعاب ..لكن الشعور الطاغي على كل ما عداه بداخله هو الشعور بالذنب ناحيته والإحراج المشوب بشعور النقص أمامه ..والذي يجعله راغبا بالتهرب منه ..هو لا يستطيع أن ينسى أو يسامح نفسه على خطته الدنيئة للتلاعب ومحاولة سرقة ابن خاله الذي ائتمنه على عمله وماله ..لا يشفع له أمام نفسه تلاعب أمه به لتقنعه أن خالد هو من سرق حقوقهم ..وأنه فقط يسترد ماله منه ..ورغم أن خالد قد منحه الغفران مؤخرا ..لكن بداخله ما زال لم يغفر لنفسه.. ما زال غير قادر على رفع عينيه لعيني ابن خاله دون أن يشعر بأن هناك بقايا لوم وخذلان بعينه .. قد تكون حقيقية ..أو مجرد هواجس تعكس شعوره هو ..لكنه بكل الأحوال يحاول الابتعاد قدر المستطاع عنه ..ربما لهذا لم يستطع اللجوء إليه بمشكلة أمه مع عاصم .. آه كم هو نادم على ما فعله ..وكم يلوم نفسه و أمه ..على خسارتهم لحق طلب الدعم من ابن خاله..
ليقاطع تفكيره صوت خالد الذي يسأله بهدوء عن أحواله ..لينقذه من إجابة سؤال لا يعرف هو نفسه إجابته صوت جرس الباب ..ليسمع صوت ماهي من الخارج تهتف أنها ستفتحه هي..
---------------------
كان واقفا أمام الباب يوازن على يده علبة الحلوى المنزلية التي صنعتها أمه وأصرت على أن يأخذها معه كمساهمة بحفل عيد مولد السيدة سمية حماة شقيقته ..وخاصة أنها لم تستطع الحضور لأن ابن خالته الأكبر قد أنجبت زوجته مؤخرا ..واليوم عقيقة الطفل ..لقد مر عليه هو بنفسه عصرا لتهنئته وإعطائه نقوط المولود قبل أن يعتذر منه لعدم استطاعته حضور العقيقة مساءا ليحضر لهنا ..لكن والديه سيذهبان لهناك حتى لا تغضب خالته ..
والدته قد صنعت أيضا شالا أنيقا ليأخذه معه للسيدة سمية كهدية لعيد مولدها ..وفى الواقع لقد رحمته من التفكير بهدية مناسبة ... فأمه بارعة بأعمال الإبرة وكثيرا ما صنعت لهم أشياء عدة رائعة بإبرتها وخيوطها ..ورغم كل محاولاته إقناع أمه بالاكتفاء بالشال كهدية حيث لابد أنهم تعاقدوا مع أفضل محال الحلوى فلا داعي لتصنع المزيد لكنها أصرت ..وها هو يعاني ..بحملها وخاصة أثناء مجيئه بدراجته البخارية مع تنبيهات أمه على ضرورة عدم جعلها تميل حتى لا تفسد .. كان يضغط الجرس بنفاذ صبر للتخلص مما يحمله ...عندما فُتح الباب ليستمر إصبعه للحظات على الجرس مع شعوره بتجمده مرافقا لتصاعد دقات قلبه ... فما أن شاهدها أمامه حتى تسمر حرفيا .. إلى أن سمع صوتها المؤنب وهي تقول بينما ترفع حاجبها وتشير برأسها ليده:
"ارفع إصبعك عن الجرس ..فإن لم تنتبه فقد فتحت الباب بالفعل ..فكف عن الإزعاج"
ليرفع إصبعه مع حاجبه الأيسر ويدفع بما يحمله بيده اليمنى إليها بحدة وهو يقول:
"وهل يمكن أن لا ينتبه أحد عندما تفتح له سمو الأميرة ماهينار الباب بنفسها ..احملي هذه جيدا ولا تُميلي العُلبة فتفسديها و تقتلني أمي" .. ليتدارك كلامه عندما شعر ببسمتها الخبيثة لدى سماعها كلمة ستقتلني..
"لكني عندها سأخبرها انك من افسد تحفتها التي أعدتها كهدية لزوجة خالك ..وتقتلك أنت بدلا مني "
كان يحادثها بينما تمر عيناه رغما عنه على قدها الممشوق الرائع المغطى بثوب أنيق ارجواني اللون يليق بها .. بتنورة متسعة بالكاد تغطي ركبتيها ..ونصف علوي محكم حتى الوسط بفتحة صدر بيضاوية تميل للاستطالة أفقيا ..ليست متسعة لكنها تظهر رقبتها وبداية عظمة الترقوة وبكم قصير جدا لا يكاد يخفى إلا بدايات الذراع .. لتعود رحلة عينيه ثانية لتشتبك بعيناها الكهرمانية الرائعة ..كانت جميلة لحد الألم لقلبه الذي يحارب الغرق أكثر في بحور هواها المستحيل بالنسبة له ..لاحظ أنها تبادله التحديق ..كان يشعر أنها تبادله الاهتمام ..لديه شبه يقين أنها تميل إليه رغم مشاداتهم الدائمة ..لكنه يخشى أن يكون مجرد اهتمام عابر من أميرة مثلها لواحد من العامة لم تعتد نوعه بمحيطها ..وحتى لو كان اهتماما جديا ..فكيف يمكن أن يتقبله أو يسعى لتقويته ..وهو يعلم أن الطريق بينهما مقطوع ..فكيف لمثلها أن ترتبط بشاب ببداية حياته لا يكفي دخله ثمنا لوقود سيارتها وثمن لثوب من أثوابها الباهظة ..كيف لمن تربت بالقصور ..أن تعيش بالحارات الضيقة ..وبالمنازل الصغيرة ... كيف لمن يكاد يجزم أن مساحة حجرتها أكبر من حجم منزلهم ..وأن دولاب ملابسها ربما يفوق حجم حجرته بأكملها ..أن تتحمل شظف العيش مع شاب بظروفه ..فقط لو يستطيع مقاومة مشاعره ناحيتها ويقاوم معها تلك النظرة بعينيها التي تحمل رغم لمعة الكبرياء شعاع ألم.. ونداء احتياج يجذبه إليها رغما عنه .. ليقطع تواصلهم البصري تزامن خروج همس والسيدة سمية مرحبة به مع وصول ريهام واحمد بنفس الوقت ...

كانت ريهام تستمع للوم همس الغاضب لها على ابتعادها وعدم تواصلها معها طوال الفترة السابقة ..لتحاول مراضاتها وإخبارها عن انشغالها ما بين الأطفال والعمل ..حيث عادت للعمل مع أحمد بالشركة ..لتسألها همس بتعجب:
"غريب أمر عودتك ..ألم تخبريني أنك لن تعملي ثانية لتتفرغي للطفلين ..أنت أصلا لست من هواة العمل يا ريهام فلما قررت العودة ..خاصة وطفليك ما زالا صغيرين ويحتاجان رعايتك ..هل عادت حماتك لمضايقتك فقررت الهروب منها للعمل؟!!"
لتغيم عيني ريهام وهي تتذكر حماتها التي تمر بحالة غريبة منذ عدة أيام تشعرها بالقلق هي واحمد... وتجعلها تظن أنها قد علمت بأمر حماها.. أو على الأقل تشك بشيء ..فهي صامته شاردة ..لا تفتعل معها المشكلات كالعادة ..ورغم ذلك تشتعل عصبية عدة مرات يوميا دون سبب محدد ...لكنها عصبية على أي وكل شيء وليست موجهه لها تحديدا ..لكنها لم تكن لتخبر همس بشيء من ذلك ..فرغم قوة صداقتها لهمس إلا أن موضوع حماها هو أسرار تخص بيتها وعائلة زوجها ولم تكن لتخبرها لأحد ..حتى لأعز صديقاتها ..لتخبرها بدلا من ذلك بأنصاف حقائق دون أن تفصح عن ما ورائها:
"كلا همس... هي لا تضايقني ..ليس أكثر من المعتاد على كل حال ..لكني شعرت بالملل ..فبوجود حماتي المتعلقة و الدائمة الاعتناء بالطفلين ..وكذلك المربية .. يتبقى لي وقت فراغ كبير يشعرني بالملل ..وكذلك أحمد مضغوط بقوة لدرجة كدت أن لا أراه ..فما بين عمله بالجامعة والشركة ورسالته التي اقترب موعدها النهائي دون أن يتمكن من إنجاز المطلوب فيها ..يكاد لا يجد وقتا لنا ولا حتى لنفسه ليستريح قليلا ..فأردت أن أعاونه حتى أخفف عنه بعض العبء"
لتقطب همس بحيرة وهي تقول:
"وأين أباه ..المفروض أن حماك هو المسئول الأول عن العمل بالشركة ..ويعرف ظروف زوجك فلما لا يتحمل هو مسؤولية العمل الآن ...ويترك زوجك للتفرغ للرسالة ولطفليه مؤقتا على الأقل حتى ينتهي من رسالته ..خاصة أن حماك بصحة جيدة ..وقادر على القيام بعبء العمل وحده في ظل هذه الظروف"
ليلتوي فم ريهام بضيق حاولت إخفائه وهي تقول لهمس:
"حماي مشغول حاليا بمشروع جديد دخل إليه دون علم أو رضا أحمد ويكاد يتسبب بغرق الجميع ..وخاصة مع الضغوط والظروف الحالية "
لتتعمد تغيير موضوع الحديث ..حتى لا تلتقط همس بذكائها الكبير ما وراء الكلمات ..لتسألها عن الحمل وما تشعر به ومشاكل الوحم ..لتنطلق همس بحوار شاكي حول أعراض الوحام ورفض خالد الرضوخ لطلباتها بالطعام ..لتشرد ريهام عن حديث صديقتها بينما ترفع عينيها لتلتقي بعيني حبيبها وزوجها أحمد الجالس بالطرف الآخر من القاعة مع خالد وسامح ومدحت ..ليتبادل كلاهما نظرة مليئة بالحب والتفاهم ..فمنذ الخلاف الذي حدث بينهما ورغم صعوبته وقتها ..إلا أنه زاد من تقاربهما ..فأحمد صار يشاركها بكل ما يحدث ..وهي لم تدخر وسعا بمعاونته ..فأصبحت تقوم بمساعدته بتجميع المواد العلمية الناقصة برسالته ..وتكتب له الأجزاء التي ينتهي منها وتقوم بتنسيقها وإرسالها للمشرف على بريده الإلكتروني وتتلقى التعديلات وتساعده بعملها ..وأيضا تساعده بالعمل بالشركة وتحاول بالوقت نفسه التقصي بشكل غير مباشر عن تلك الموظفة التي لاحظت بنفسها تقارب علاقتها بحماها بصورة فجة.. وأشارت على أحمد أن يستأجر شخصا موثوقا به من إحدى شركات الأمن التي انتشرت مؤخرا ..ليقوم بتتبعها وجمع المعلومات عن حياتها الماضية والحالية ..حتى يستطيعا التصرف بالأمر على بينة ووضوح ..وبالفعل ..قام بذلك وما زالا بانتظار تقريره ....
-----------------

كانت الضحكات تملأ القاعة الكبرى بالقصر بعد أن انتهوا من إطفاء الشموع ومنح الهدايا لصاحبة العيد التي كانت تشعر بمزيج من الحرج والسعادة لمفاجأة كنتها لها بتلك الحفلة الجميلة الهادئة ..والمقتصرة على الأصدقاء والمقربين ..خاصة وقد فاجأتها همس بدعوة اثنين من صديقاتها المقربات بالنادي ..لقد حسدوها حرفيا على تلك الكنة الرائعة والمحبة والمهتمة برضاها عليها.. والتي كانت تدور حولها تشاكسها وتدللها كما لو كانت طفلتها وليست حماتها.. كانت تنظر للجميع بسعادة وتأمل خاصة وقد استأذنت الصديقتان منذ قليل وتبقى فقط ريهام وأحمد وماهي ومدحت وسامح.... الذي أخذت تراقب نظراته المسترقة لماهي ..يبدو أن الفتى المشاكس مهتم ..بل مما تراه أكثر من مهتم بمهينار ..تكاد تجزم أنه واقع بغرامها ويحترق غيرة ..لقد لاحظت اشتعال عينيه وتبرمه وحركاته الغاضبة عندما كان أحمد يسلم على ماهي وهو يبدي إعجابه بها بكلمات مجاملة عادية.. لكن يبدو أنها أثارت ضيق هذا الشاب الغضوب سريع الانفعال ..حتى أنها شعرت به يكاد يضرب خالد عندما ربت على كفها وهو يتحدث معها مهنئا إياها على نجاحها وإثبات جدارتها بعملها.. ويبدو أنها لم تكن الوحيدة التي لاحظت ..فهي تكاد تجزم أن الجميع لاحظ ما يحدث ...فمدحت المراقب لشقيقته بطريقة غريبة تحيرها لاحظ هو أيضا ..بدليل تلك النظرات المتأملة التي ظل يرمق بها الشاب لفترة طويلة ..لقد توقعت أنه سيثور ويحاول إهانة سامح بشكل ما... لكنها فوجئت به يجالسه بأريحية ويتبادل معه الحديث والمزاح ..دون أن يكف عن مراقبته وخاصة كلما شاركتهم ماهي الحديث أو مرت بجوارهم ...أيضا ابنها يبدو انه يتعمدا إثارة غضب سامح وإشعال نيران غيرته وهو يكثر من المزاح مع ماهي بطريقة تفوق ما أعتاد عليه معها....بينما يرقب رد فعل سامح بجانب عينيه وهو يكتم بسمته مكتفي بالتواء بسيط بجانب فمه تحفظه أمه جيدا عندما يتعمد التلاعب بشخص ما ويكتم ضحكاته بينما تلمح بعينيه تلك النظرة الشقية المتلاعبة ..
أما ما حسم أي شك في مشاعر سامح لديها و لدى الجمع المراقب ...هو رد فعله عندما أخذت همس تداعب ماهي حول أحد زملائها الذي يبدو معجبا بها بالعمل ولا يكف عن التطفل على مكتبها عارضا خدماته ..وكيف عرضت عليها أن ترسلها لسامح ليعلمها حركات المقص لتوقعه بها على وجهه عندما يعاود الذهاب لمكتبها بحجج مختلفة ..لينتفض سامح واقفا وهو يقول بانفعال لم يستطع أن يكبته كما يبدو:
"إنها لا تحتاج لخدماتي ...فيكفي أن توقفه عند حده بكلام مباشر ..إلا لو كانت سعيدة بمطاردة المعجبين بجمالها لذا لا تصدهم بالقوة الكافية "
ليسود الصمت بين الجميع ..بينما تلاحظ هي بسمة كلا من مدحت وخالد والتي أخفياها بسرعة ونظرة التأمل من أحمد ..وحرج همس و ريهام ..و نظرات ماهي المشتعلة غضبا و هي تنظر لسامح بتوعد بينما تقول له ببرود:
"شكرا لكونك تراني جميلة ..و لا تقلق بالفعل لا أحتاج خدماتك ..و أنا قادرة على إيقاف أيا كان عند حده ..عندما أريد.. فقط إنني أتمتع بشيء يبدو انه لم يمر عليك يسمى الذوق"
يبدو أن ارتباك سامح بعد انتباهه لكلماته وانفعاله هو ما منعه من الرد عليها بحدة .. لينقذ الموقف رنين هاتفه ليعتذر للجميع بحرج وهو يبتعد للقاعة الخارجية بحجة الرد على الهاتف
------------------------

ظلت تنظر للهاتف بيدها لدقائق تكاد تنفجر غضبا رغم أن ملامحها لا تظهر شيئا ..فلم تستطع التواصل مع سارة أو خليل ..فهاتفيهما مغلقان على الدوام ..وما أن يأتيها إشعار فتح هاتف احدهما لتسارع بالاتصال حتى تجده إما منشغل أو لا يتم الرد ويتم إغلاقه ثانية بعدها مباشرة ..رغم أنها تتعمد الاتصال من أرقام مختلفة.. ..لترفع رأسها أخيرا ناظرة للواقف بجوار مقعدها منتظرا أوامرها لتتكئ على ظهر المقعد بأناقة بينما تضع ساقا على الأخرى لترتفع تنورتها الضيقة قاتمة الزرقة .. وشديدة القصر حتى أظهرت ساقها وجزئا كبيرا من فخذها الأبيض .. ظلت تنظر لوجهه للحظات أخرى متجاهلة ارتباكه ونظراته التي تخونه كل لحظة لتسترق لمحات من جسدها ..خاصة مع بلوزتها البيضاء الشفافة بحمالاتها الرفيعة والتي تظهر معظم نحرها.. وتصل نهايتها بالكاد لبداية التنورة ..لتقول له بصوت يجمع بين الأمر والنعومة:
"سليم ..قم بإلغاء تذكرة العودة الخاصة بي والمقرر موعدها بعد غد ..ودع موعد العودة مفتوحا مؤقتا ...وبعدها أريد منك خدمة تخصني ...لا تتبع أوامر السيد كارل" ..كانت تعي أن كارل هو المسئول عن رجال المنظمة بالشرق الأوسط ..فزوجها ديمتري لا يظهر بالصورة ولا يعرفه إلا القلة المقربة والصفوة العليا من رجال المنظمة.. لتضيف بينما تقف مقتربة منه دون أن تلمسه ..لكنها تقرأ عينيه المأثورة بها بوضوح :
"بمعنى أنني أريدها بصورة سرية لا يعرفها غيرنا"
ليقول سليم بارتباك وقلق:
"لكن سيدتي ..تعرفين الأوامر ..لا يجوز لي التصرف بأي أمر دون أوامر وإذن السيد كارل ..ومن يخالف ذلك يتم تصفيته"
لترفع إصبعها السبابة وتمرره على خده حتى فكه وهي تطقطق بفمها بنفي هادئ بينما تقول له بإقناع:
"سليم ..سليم ..وهل تظن أنني لا أعرف الأوامر والنظم ..أو قد أفعل لك أو لي شيئا يسبب مشكلة لنا مع المنظمة ..الأمر الذي أريدك به أمر شخصي ..لا يخص عمل المنظمة لا من قريب ولا من بعيد .. بل فقط مجرد خدمة شخصية لي ..فهل ستقوم بها ..أم أبحث عن آخر ..يرغب بأداء خدمة صغيرة غير هامة ويأخذ مقابلها نصف مليون دولار.. صافيين غير شاملين لأي نفقات تخص المهمة "
ليزدرد سليم ريقه بصعوبة وتتوهج عينيه لدى سماعه الرقم وهو يقول بصوت يجمع بين التردد والطمع:
"ما هي تلك الخدمة بالضبط سيدتي ..إن كانت بالفعل لا تتداخل مع عملنا فسأقوم بها لأجلك "
لتلتمع عينيها الزرقاء بشعاع بارد وهي تقول بصوت آمر:
"أريدك أن تستأجر فيلا أو شقة بمنطقة منعزلة ...وتقوم بمراقبة رجل وفتاة سأعطيك بياناتهما وعنوان منزلهما وعملهما ..هما الآن مسافرين ..لكنهما سيعودان قريبا ربما خلال يومين على الأكثر ..وقتها أريد أن يكون المكان جاهزا .. لاستقبالهما ..فبمجرد ظهورهما أريدك أن تقوم باختطافهما دون أن يشعر بك أحد ..لا أريد لمخلوق أن يعرف أو يشعر باختفائهما ..أستأجر معك ..ما تشاء من الرجال الذين تثق بهم ..ويفضل أن لا يكونوا من رجال المنظمة حتى لا تتسرب الأخبار ..بمجرد أن يكونا بين يديك بالمكان المستأجر أبلغني ..فبعدها سأجعلك تقوم بإنهاء إجراءات السفر للفتاة "
كان يستمع لها مقطبا بينما يزداد شعوره بالقلق ..ليسألها بتوتر:
"إجراءات سفر عادية أم بطرقنا المعتادة بالتهريب "
لتنحني على الطاولة مخرجة واحدة من سجائرها ...ليسارع هو بإشعالها لها.. لتنفخ دخان تبغها بوجهه بينما تقول بغموض:
"سنرى كيفية سفرها لاحقا ..فهذا سيعتمد على الفتاة وعلى مدى موافقتها على مصاحبتي ...لأنها ستصاحبني بالعودة بجميع الأحوال ..طوعا ..أو قسرا ..لكن كن مستعدا لكل الاحتمالات "... لتضيف بداخلها ...سترى كيف سآخذها منك وأحرق قلبك يا خليل .. أنت من بدأت وجعلتها تكرهني ..كنت فقط أريد رؤيتها ..والتمتع بقربها بعض الوقت.. أريد بعض التواصل معها ..لكنك حرمتني من القليل الذي أردته ..فسأحرمك منها تماما ..سأعرف كيف أعيدها لي وأقنعها بحبي ...واجعلها تترك هذا الحقير الذي ارتبطت به ..وإن لم استطع فعلها هنا ..فسأفعلها بلندن ..حيث يكون أمامنا كل الوقت لإعادة التعارف والترابط من جديد ....
--------------------------


لاحظ مدحت تململ خالد وقلقه منذ خروج قريب زوجته سامح ... لقد عاد إليهم بعد أن أنهى محادثته الهاتفية بملامح غامضة ومال على خالد الجالس بجواره ليهمس بأذنه ببعض الكلمات التي جعلت خالد يضطرب ..وسمعه يرد عليه بصوت خافت "الآن ..وفورا ..وهكذا فجأة دون مقدمات.. الأمر مقلق ..ارفض بأي حجة ..لابد أن نؤمنك أولا.. سأهاتف اللواء منصور"
ليهز سامح رأسه رفضا بينما تعلو وجهه نظرة تصميم غامضة .... ليستأذن بعدها من الجميع متحججا بضرورة ذهابه لمقابلة أحد أصدقائه الذي يحتاج إليه بأمر عاجل ..ليصاحبه خالد حتى الباب بينما كان واضحا تبادلهم حوار هام .. وغامض له ..وبعدها أختفي خالد بمكتبه لبعض الوقت... ليعود لهم بذهن مشتت وملامح قلقه رغم محاولته مداراتها ....
لقد أثار سامح لديه مزيجا من الشعور بالإعجاب والحنق والحيرة.. فالشاب الذي يقاربه عمرا يبدو واضحا أنه معجب بشقيقته ..لكنه في الوقت نفسه لا يقوم بخطوة جادة نحوها ..هو لم يرى منه أي تجاوز ناحيتها ..لذا رغم شعوره بالحنق من تلك النظرات التي يسترقها ناحية شقيقته إلا أنه لم يستطع أن يقوم بأي رد فعل تجاهه ..فهو لم يرى منه تجاوزا أو حتى نظرات معيبة ..فقط تلك اللهفة والغيرة وهذا الاهتمام الزائد ..لما لا يقوم بخطوة رسمية تجاهها إن كان معجبا بها كما شعر....ربما لو كان بوضع عادي لفكر مرات عدة قبل أن يشعر حتى بالرضا لارتباط كهذا ..لكن بالوضع الراهن ..هو يرغب بإنقاذ أخته من تلك الشباك التي تحاك حولها ..وهذا الشاب ..رغم انه من مستوى اجتماعي بسيط ..إلا أنه قد يكون هو الحل لوضع شقيقته المعقد ..وخاصة مع تأكده من كون مشاعره متبادلة .. فاهتمام ماهي به وبرد فعله كلما تحدثت بأمر ..كما لو كانت تنتظر رأيه هو تحديدا على ما تقول ....ونظراتها التي تخونها وتعود إليه كل دقيقة لترتبك وتهرب بعينيها ما أن تشتبك نظراتهما ..أكدت له أن الأمر متبادل بينهما ..قد يثير الأمر حنقه وحميته ..وضيقه كأخ ..لكنه بوضع لا يسمح بتغليب مشاعر الحمية الأخوية على مصلحة مهينار حاليا ..لذا تعمد التقرب منه والتحدث معه ..وقد أعجبه حقا ..لكن ما حدث قبل ذهابه يحيره ..هناك أمر بين سامح وخالد يثير القلق والحيرة بنفسه.. ربما لذلك وافق على الرضوخ لطلب زوجة خاله البقاء هو وماهي وإكمال السهرة معهم.. رغم ذهاب الجميع ..بل أن السهرة قد طالت فقد تشاركوا العشاء معا وجلسوا للتسامر.. وحمد الله على حالة الشرود والقلق التي انتابت خالد منذ ذهاب صهره منذ ما يقارب الساعتين .. فشغلته عنه وعن سؤاله عن مشاريعه المستقبلية ...كان يشعر بالراحة لوجوده هنا ..ويشعر بنوع من الهدوء يحتاجه حاليا بشدة ...وخاصة أنه كان راغبا بالتهرب من والدته التي أصبحت تحاصر شقيقته بالدعوات المستمرة لعاصم سواء عندهم أو بالخارج ..كما أصبحت تظهر حنقها منه على ملازمته المستمرة لشقيقته في كل مكان مما لا يدع لعاصم الفرصة للانفراد بها ..ويبدو أن الأمر بدأ يثير غضب وغيظ كلاهما ..كما يثير حيرة ماهي وإن كانت تبدي سعادتها باقترابه منها .. لا يظن أن الأمر سيستمر طويلا ..فضغوط والدته الناتجة عن ضغوط وتهديدات هذا ألعاصم عليها ستجعلها تبدأ بالضغط أكثر .. وبمعرفته بأمه ربما تبدأ باستخدام بعض من أساليبها المتطرفة لإجبار ماهي على الموافقة ...يكفي أن تخبرها بكونها ستسجن لتجعل شقيقته تخضع ..فهو يعرف أن ماهي رغم إخفائها مشاعرها وإظهارها لنوع من البرود والتباعد إلا أنها عاطفية وتعشق أمهما ..وقد تستغل والدته هذا الأمر لصالحها ..ليفيق من شروده على هتاف ماهي وهي تجاور همس وتشاهد معها صورا تخص خطبة أخيها الأكبر كم فهم من حوارهما الذي لم يكن يركز به بشكل كامل ليراها تختطف البوم الصور وهي تقول:
"يا إلهي إنها سارة خليل ...كم الدنيا صغيرة ...لقد كانت زميلتي بالجامعة الأمريكية.. لكنها لم تكن بقسمي ..بل كانت بقسم مدحت رغم انه كان يسبقها بسنوات الدراسة " لتلتفت لشقيقها وهي تهتف بحبور:
"لابد أنك تذكرها مدحت ..أظن انك من أطلق عليها وقتها سارة الذهبية ..أنظر لصورتها بحفل الخطبة بجوار الدكتور أكرم شقيق همس الأكبر ..لقد كانت رائعة بحق "
كانت شقيقته تثرثر دون أن يسمعها حقا ..فقد تجمدت كل خلجاته بمجرد سماع اسمها .. لتهدر نبضاته بعنف وهو ينظر لصورتها بينما يمسك آخر بيدها واضعا خاتمه بها ..ليغمض عينه بألم ..وما أن هم بالقيام مدعيا رغبته بالرحيل هربا من هذا الشعور المؤلم... وتلك الذكريات التي حاول جاهدا ولسنوات الهروب منها ..ليسبق نهوضه رنين هاتف خالد الذي أختطفه من على الطاولة بملامح قلقه متجهمة ..لينتفض واقفا وهو يصرخ بغضب جعلهم جميعا ينتفضون وقوفا:
" ماذا تعني بكونه أصيب بطلق ناري ..وأين كنتم ..كيف يحدث ذلك وقد أكدت لي أنكم أمنتموه بصورة كاملة لا مجال فيها للخطأ ..ليزداد صراخه بينما يتجاهل أسئلة زوجته ووالدته القلقة.. وهو يقول "أين هو الآن ..لا ..لا دع عربة الإسعاف تنقله لمستشفى (***) إنها قريبة من مكانكم كما أن شقيقه يعمل بها "
لتصرخ همس هاتفة "سامح أخي " ..بينما يشعر هو بارتعاد جسد شقيقته ماهي وتسارع أنفاسها باضطراب ..ليجد نفسه يلف ذراعه حول كتفها بمؤازرة فتلقى برأسها على كتفه وتتشبث بأظافرها بقميصه كما لو كانت تطلب دعمه دون وعي ..بينما ينهي خالد حديثه الغاضب .. ليضم زوجته الباكية بينما يقول لها بصوت مضطرب:
"لقد أصيب سامح بطلق ناري ..تعالي معي ..سنلحق به إلى المستشفى وسأهاتف أكرم ليكون بانتظار سيارة الإسعاف ..وأشرح لك كل شيء بالطريق ..ليتجه كلاهما بسرعة ناحية الباب دون أن ينتبها لهما.. بينما تتبعهما زوجة خاله بقلق ..طالبة الذهاب معهما ..ليرفض خالد طالبا منها الانتظار وهو سيهاتفها ليطمئنها لاحقا ..
كانت تمتمات ماهي باسم سامح تصل إليه مع ..شهقات بكائها الخافتة ..ليلتفت إليها قائلا بحنان :
"لا تقلقي ..سيكون بخير بإذن الله"
لترفع إليه عينان غارقتان بالدموع والخوف والارتباك ...ليربت على شعرها بمحبة ويقول لها تعالي لنلحق بهم ..لقد أعجبني هذا الشاب الذي يبدو أنه استطاع اختراق حصون مشاعر ابنة عز الدين المنشاوي وتحمل برودة الجليد التي تحاوط نفسها بها.. وهذه مهمة كنت أظنها مستحيلة ..لذا لابد أنه شاب قوي وشديد التحمل .. ولن يستسلم بسهولة لطلقة رصاص تقضي عليه أيا كان سببها ..سأذهب معك لنلحق بهم ونطمئن عليه "
قالها ساحبا إياها من يدها ورائه كطفلة صغيرة... مودعا زوجة خاله الشاردة بقلق ..وقلبه يبتهل أن تكون إصابة الشاب بسيطة ..ففضلا عن إعجابه به ..إلا أن فقدانه سيترك شقيقته بحالة ضعف وضياع وتيه قد تضعفها وتجعلها عرضة للاستغلال من أمه وعاصم .. لذا أدخلها سيارته ولحق بخالد على الطريق وهو يدعو لسامح بالنجاة ..........

----------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 22-08-18, 03:48 AM   المشاركة رقم: 20
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل الخامس عشر
---------------------------
كانت تنزل الدرج بثوب أبيض وملامح ميتة... تتحرك ببطء كما لو كانت تساق لحتفها... عيناها معلقتين بعينيه بنظرة خذلان تقتله ...بينما أمهما تمشي خلفها ..تكاد تدفعها دفعا لتصل إليه ..ويراه هو ..واقفا أسفل الدرج بنظرة انتصار وبسمة تحدي.. يمد يده ليسحبها إليه بعنف ..ويخرج من جيبه قيدا حديديا يضعه حول يديها.. وبعد إحكام غلقه يجرها منه لتخرج معه لخارج أبواب فيلتهم ..لتتبعه هي مستسلمة ..وأمه مبتسمة .. ليحاول هو التحرك لمنعه من أخذها فيجد قدميه مثبتة بالأرض بقيد حديدي يشابه هذا الذي التف حول يديها ..لتقف على باب المنزل فجأة تقاوم سحب عاصم لها وتنظر إليه ثانية بحزن وعيون ممتلئة بالدموع وتناديه بصوت مختنق لمرات عدة ..دون أن يجد القدرة على الرد عليها أو الذهاب إليها.. ليسمعها تخبره بصون منهار "لن أغفر لك أو أسامحك ..لقد قتلتني معهم " ليسحبها الآخر بعنف ويأخذها بعيدا عن عينيه .. بينما يصرخ هو بجنون بعد أن اختفت من أمامه.. يتحرك بعنف محاولا التخلص من قيده بلا فائدة .. ظل يحاول ويحاول ..بينما تتعالى الأصوات من حوله رغم اختفاء وجوه أصحابها.. صوت ضحكة أمه وعاصم المنتصرة ..وصوت بكاء ماهي المتألم .. ليهب جالسا بفزع مستيقظا من كابوسه صارخا باسم شقيقته .... لتهدأ وتيرة أنفاسه المتسارعة رويدا رويدا بينما ينتبه عقله المشوش لكونه ما زال بفراشه ..وأن ما حدث كان حلما ..لا بل واقع يوشك على الحدوث ويكاد يطبق على أنفاسه ..ليعود للاستلقاء على فراشه ماسحا وجهه بيديه ومخللا شعره بأصابعه بينما تشخص عينيه لسقف حجرته ...متذكرا نظرة ماهي بالحلم .. نظرة الحزن والخذلان منه التي رآها بعينيها بحلمه هي نفس النظرة التي رمته بها أمس عند عودتهم من المشفى بعد أن اطمئنا على استقرار حالة سامح ... الذي علما أن الرصاصة أصابت فخذه فقط لحسن حظه.. لقد استطاع استنباط بعض الأمور من أحاديثهم بالأمس ...وخاصة عندما رأى اللواء منصور قريبهم من بعيد وذهب للسلام عليه وسمع بعض أطراف الحديث بينه وبين خالد... ليفهم أن هناك من كان يحاول التلاعب بعمل خالد وسرقته ..وأن سامح اكتشفهم وأوهمهم بأنه معهم ليكشفهم متلبسين ..لكنه فهم أيضا أنهم تسببوا بأذى وخسائر كبيرة لخالد ..وأن خالد لا يريد للأمر أن ينتشر وسيتم اتهامهم بالسرقة فقط دون ذكر أي تلاعبات أخرى بمشروعه ..بمساعدة اللواء منصور.. للحفاظ على سمعة المجموعة ..لقد شعر بالإحباط ..فمن الواضح من حالة خالد وكلامه عن الخسائر التي تسببوا بها أن الأمور ليست هينة .. أما من ناحية سامح ..فقد علم أنه سيظل ممنوعا من الحركة ومحتجزا لمدة لا تقل عن أسبوعين ..خاصة وانه تعرض أيضا لضربة برأسه.. ورغم أنها ليست قوية حسب ما فهم منهم ..لكن يبدو أنهم قلقين لأنه سبق أن تعرض قبلا للإصابة بنفس المكان ..لذا سيظل تحت الملاحظة بحجرة العناية الفائقة ما أن يخرج من العمليات ..و حتى عصر اليوم قبل أن يتم نقله لحجرة عادية بعد الاطمئنان على حالة رأسه...لقد عاد مع ماهي ليلة أمس متأخرين ..حيث كادت تتوسله البقاء هناك حتى تراه ..لكنه شعر بكون الموقف أصبح محرجا لهما ..خاصة مع اطمئنانهم عليه بعد خروجه لغرفة العناية ..ليصر على العودة ...ليجدا والدتهما بانتظارهما رغم تأخر الوقت... ..كانت جالسة بتحفز بصالون المنزل ..تضع ساقا على الأخرى وتحركها بتوتر وما أن دلفا من الباب حتى هتفت بهما بحدة تسألهما عن سبب تأخرهما ولما لم يكونا يجيبان على هواتفهما ..لقد شعر أن أمه تنوي تفجير الموقف وإبلاغ ماهي بموضوع عاصم ..وحاول المراوغة والتأجيل ..لكن يبدو أن عاصم مارس ضغوطه عليها ...خاصة بعد اعتذار ماهي عن مصاحبة أمها للحفل الذي أعده عاصم مفضلة الذهاب لحفل ميلاد زوجة خالها ... لقد كانت مهزلة فعلية وأمه تبلغها أن تفرغ نفسها باقي الأسبوع لتستعد لحفل خطبتها الخميس القادم ..أي بعد ثلاثة أيام من اليوم ...لقد كانت صدمته توازي صدمة ماهي التي لم تكن تفهم عن أي خطبة تتحدث أمها ..بينما لم يتخيل هو أن تبادر أمه لتحديد موعد الخطبة ووضع الجميع أمام الأمر الواقع ..لتشتعل الحرب بين ماهي وأمه التي أبلغتها بأن عاصم مهران تقدم لخطبتها ..وأنها وافقت عليه فلن تجد لها زوجا أفضل ..لتثور ماهي بجنون رافضة الأمر ..مخبرة إياها أنها ليست دمية تحركها كما تريد ..وأنها لن تتزوج عاصم هذا ولو كان آخر رجال الأرض .. متعجبة كيف توافق أمها على رجل مثله ..يكبرها عمرا وذي سمعة سيئة ..لتلتفت إليه طالبة منه التدخل ومؤازرتها ..لتقاطعها أمه مخبرة إياها بمعرفته بالأمر وموافقته عليه ...يا الله ..لن ينسى أبدا تلك النظرة بعينيها ..نفس نظرتها بالحلم ..نظرة لامعة بدموع الخذلان التي تخبره أنه كسرها ..قبل أن تمنحه ظهرها متوجهة للدرج لترتقيه ببطء وهي تقول ببرود لم يخفي بحة الألم
" أنا لن أتزوج من عاصم هذا ولو وافق عليه كل عائلتكم الموقرة من أصغرها لأكبرها ..بل لو وافق كل أهل الأرض ..فانا لن أوافق" ..ليمد يده مانعا أمه من اللحاق بها ... مخبرا إياها أن تتركها قليلا لتهدأ ...لقد خشي أن تخبرها أمه بالصفقة التي عقدها عاصم فتكسرها كسرا لن يُجبر وهي ترى نفسها مجرد متاع يقدم لسداد الديون ..أو تضغط عليها بتهديدات عاصم بسجنها بالإيصالات التي أخذها عليها وعقد الفيلا المزور ...ظل محدقا للسقف يفكر في حل لتلك المصيبة ..اللجوء لخالد لا يبدو حلا عمليا خاصة مع ما فهمه من المشاكل التي تواجه حاليا ...لكنه في الوقت نفسه قد يضطر للجوء إليه كحل أخير ...لكن الفكرة التي تراوده حاليا مرتبطة بسامح ..رغم أن الشاب بوضعه الحالي يصعب أن يقوم بتقدم يرجوه هو تجاه شقيقته ..وهو صعب أن يعرض أخته عليه ..فالشاب يجب أن يتحرك أولا حفظا لكرامة شقيقته ..المشكلة انه لا يملك رفاهية الوقت .. ..ليغمض عينيه بتعب وهو يزفر بعمق.. لينفض الغطاء من فوقه وينهض متجها للحمام أملا بأن يخفف الاستحمام من صداع رأسه ...فلديه مواجهة لن تكون هينة مع شقيقته...
كان يرتدي ساعة يده وهو يهبط الدرج متوجها لحجرة الطعام ليجد أمه ترتشف قهوتها بملامح مغلقة غاضبة ..ليحرك كرسيه جالسا طالبا قهوة من الخادمة التي اقتربت ما أن رأته لتضع أمامه الطعام ليزيح الطبق رافضا ..بينما يسأل أمه عن ماهي ..لتجيبه بحدة:
"شقيقتك الحمقاء لم تستمع لكلامي وخرجت مبكرا ..أخبرتني الخادمة أنها رفضت حتى أن تتناول طعامها مخبرة إياها أنها ذاهبة للعمل -لتضيف بسخرية – لا أدري أي عمل هذا الذي تفني نفسها به لأجل بضع قروش لا تسوى وهي ستتزوج رجلا من أغنى أغنياء البلاد"
ليرفع عينيه إليها وهي ترغي وتزبد ينظر لملامحها ببرود وهو يرتشف قهوته دون أن يشعر بطعمها ..ويتساءل بداخله ..ألا تهتم ولو قليلا بمشاعر أخته ..ألا يفرق هو أو شقيقته معها بشيء ..ليتنهد بعمق وهو يفكر لما لم تكن كزوجة خاله سٌمية ..حنونة محبة مساندة لولدها دوما كما كانت مساندة لزوجها بالماضي ..لتغيم عينيه بتساؤل لم يطرحه على نفسه سابقا ..ترى هل كان لوالده بعض العذر في تركها والهرب بعيدا عنها ..ليسخر من سؤاله وهي يجيب بداخله بالتأكيد له كل العذر بالهرب منها ..لكن ليس له أي عذر بالهرب منه ومن شقيقته ..ليقطب حاجبه مفكرا بأبيه ..رغم كرهه للأمر لكن ربما يجب أن يحاول أن يبحث عن مكانه.. على الأقل لحل مشكلة عقد الفيلا ..ليخرج من شروده على صراخ أمه الغاضب:
"مدحت لماذا لا تجيبني؟! "
لينظر لها ببرود بينما يرتشف آخر رشفه من قهوته التي بردت وهو يقول:
"ماذا هناك أمي ؟؟" لتهتف بنزق حاد
"ماذا هناك؟؟ كل هذا الذي كنت أقوله حول المصيبة التي وقعنا فيها ..وغضب عاصم وتصميمه على سرعة تنفيذ الاتفاق ..وأنت تسأل ماذا هناك ..ماذا بك أنت لماذا أنت فاشل هكذا ولا تساعدني بشيء؟! ...بل أشعر أنك تساعدها هي على الابتعاد عن عاصم بدل تقريبها إليه!!"
ليقاطعها بهدوء وهو يقف حاملا مفاتيح سيارته:
"اسمها المصيبة التي وقعتي أنت فيها ..أنت من أوقعت نفسك بها أمي ...لا نحن ..نحن فقط مطالبين بحل الموقف ..بأن تكون ماهي كبش فداء وأن أساعدك أنا بذبحها وتقديمها قربانا لهذا ألعاصم "..ليستبق انفجار غضبها الذي رآه بتوتر جسدها وفمها المتشنج ..وهو يضيف أثناء استدارته خارجا:
"لا تستعجلي أمي ...سأحاول حل الموقف ..وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ..أو على الأقل إنقاذ ما يستحق الإنقاذ" ليخرج تاركا إياها مقطبة حاجبيها بقلق وتفكير ..بداخلها شعور مبهم بأن مدحت يعني شيئا آخر غير ما ترتجيه هي.......
------------
أنهى توقيع الأوراق أمامه بينما يستمع لسكرتيرته تقى تتلو عليه برنامج العمل الذي اضطرت لتعديله ..نتيجة تأخره ساعتين صباحا لمروره على المشفى قبل حضوره ..لكنه عندما علم أن الزيارة لن تسمح لسامح قبل العصر ..قرر المجيء للعمل حتى موعدها ... تاركا همس ووالديها برفقة أكرم الذي جعلهم يبقون بالحجرة المقرر نقل سامح إليها فور السماح بخروجه من حجرة الرعاية ..لينتبه على تقى وهي تقول:
"مكتب السيد عاصم مهران اتصل أكثر من مرة طالبين تحديد موعد عاجل معك للقاء السيد عاصم ...فبماذا أرد عليهم؟! "
ليرجع بظهره للخلف مستندا على مقعده عاقدا حاجبيه بتفكير قلق ..فيما يمكن أن يريده منه عاصم مهران ..لقد علم من أمه أنه يظهر بكثرة مع عمته في الآونة الأخيرة سواء بالنادي أو الحفلات العامة ..وأحيانا ترافقه ماهي ..لقد كان ينوي سؤال ماهي عن هذا الأمر ..خاصة انه لا يريحه أو يعجبه ارتباط اسم عمته وابنتها بهذا ألعاصم ..لكن ما يحدث لديه مؤخرا شغله عن الأمر ..ليجيب على تقى المنتظرة رده :
"ابلغيهم بأنني سأنتظره اليوم في الواحدة ظهرا ..أي بعد ساعتين ونصف من الآن والغي الاجتماع المقرر لرؤساء الأقسام مؤقتا حتى تعود السيدة همس ونعيد تحديد موعد له"
لتجيب بمهنية:
"حسنا سأبلغهم لكني يجب أن أوضح أن الذي فهمته من مدير مكتبه أنهم يرغبون بذهابك أنت له "
ليضرب مكتبه بحدة وهو يجيب من بين أسنانه:
"هو من يريدني ..إذا ليأتي هو ..أنا لا اذهب لأحد ..ابلغيهم بذلك وإلا الغي الموعد"
لتومئ بموافقة بينما تقول بصوت هادئ:
"سأبلغهم ..هل هناك تعليمات أخرى "
ليناولها الملف الذي أنهى توقيعه بينما يخبرها بإرسال القهوة إليه ..وعدم إزعاجه قبل موعد المقابلة التالي "
لتخرج بهدوء تاركة إياه شاردا بقلق في سبب طلب عاصم لقائه ........
------------------------

ما أن خرج من حجرة الرعاية بعد اطمئنانه على حالة أخيه حتى لمحها ببداية الرواق تتقدم بخطوات مسرعة .. وتتلفت حولها بحثا عن شيء ما ليجد عينيه تمر رغما عنه عليها بتمهل ..لا يدري لم شعر بتلك المشاعر لدى رؤيتها ..منذ متى وهو يشعر باللهفة عليها ..بالرغبة في تأملها كأنثى ..بالضيق لحركتها المسرعة التي تؤدى لتحرك مفاتنها باهتزاز واضح ..خاصة مع بلوزتها الضيقة التي تبرز معالم أنوثتها بوضوح ...كيف لم ينتبه لامتلاكها تلك المعالم البارزة رغم نحولها الشديد ..ليجد نفسه يتلفت حوله ناظرا إن كان هناك من ينظر لها مثله .. كانت تعطيه جانبها بينما تسأل إحدى الممرضات المارات شيئا ..فيجد نفسه يطحن أسنانه مع ملاحظة قصر طول البلوزة التي ترتديها فلا تكاد تصل لمنتصف أردافها... مع ضيق بنطالها الجينز مما يبرز معالمها بوضوح يثير غضبه ..لترتفع عينيه لتقابل عينيها بعد أن أشارت لها الممرضة عليه لتقترب منه بلهفة وهي تسأله بقلق:
"أكرم كيف حال سامح ..ماذا حدث له ؟؟أنا لم أفهم شيئا من اتصالك المبهم السريع صباحا وأنت تخبرني بإلغاء حجوزات العيادة وتعليق اعتذار للمرضى ببابها لعدم قدرتك على الحضور اليوم نتيجة إصابة سامح واحتجازه لديك بالمشفى ..وصعدت لشقة والديك فلم أجد أحدا.. مما زاد قلقي فقررت الحضور للاطمئنان"
يا الهي ..ما هذا الشعور الذي يثور بداخله ..لماذا أحس بالضيق والاختناق وهي تخبره بقلقها على شقيقه ..لماذا يقف صامتا كأبله لا يرغب حتى أن يفتح فمه خوفا مما قد يفلته لسانه ليبتلع ريقه بصعوبة وهو يرى نظراتها المتعجبة له وهى تسأله بتوجس:
"أكرم ماذا هناك ..لماذا أنت صامت هكذا ..هل الأمر خطير؟! ..هل سامح.."
ليقاطعها بحدة لم يعد يتحكم بها:
" سامح بخير ...لماذا أنت قلقة هكذا .. أم لم تعودي تستطيعي إخفاء لهفتك عليه رغم أني أخبرتك بالهاتف أنها إصابة بسيطة ..ولا داعي لتحضري أو تخبري أحد ..فلماذا لم تلتزمي بما قلته لك "
لينتبه لإجفالها من حدته وتراجعها خطوة للخلف بملامح مرتبكة وهي تقول بحرج ممزوج بالكبرياء رغم لمعة الدموع التي رآها بعينيها وهي ترفع رأسها ناظرة إليه:
"آسفة إن تخطيت حدودي ولم التزم بكلامك دكتور ..أنا لم اخبر أحد بشيء .. فقط أردت الاطمئنان على حال جار اعتبرته دوما بمثابة أخ لي ..لكن يبدو أني تجاوزت حدودي ..اعتذر منك"
لتستدير راغبة بالمغادرة ..ليجد يده تمتد بسرعة لتمسك مرفقها موقفا إياها... لتسحب يدها بحدة وهي تستدير ناظرة له بعيون غاضبة مرتبكة... ليبادرها بصوت نادم :
"بل أنا من أعتذر هند ..أنا آسف... لم يكن يحق لي مهاجمتك بهذا الشكل ..أرجوك سامحيني .. أنا مرهق بشدة فلم أنم منذ الأمس.. اعرف انه ليس عذرا يبيح لي مهاجمتك هكذا لكني أرجو عفوك" .. ليضيف بعد لحظة توقف لم تنبس هي فيها ببنت شفة:
"كما أني قلق عليك بسبب تغيبك عن محاضراتك بهذا الوقت مع اقتراب الاختبارات " ليضيف بصوت خرج رغما عنه ممزوجا بنبرة توسل:
" تعالي معي لحجرة مكتبي لنتحدث قليلا بهدوء "
ظلت للحظات تنظر له بتردد .. شعر به واضحا من تشنج جسدها وتهدج أنفاسها .. قبل أن يشعر بارتخاء كتفيها وإيماءة رأسها موافقة لتتبعه لحجرة مكتبه ليوارب الباب خلفهم ويجلسها على أحد المقعدين أمام مكتبه ويجلس هو على الآخر متجاهلا مقعده خلف المكتب ..ليميل بجسده قليلا ساندا كوعيه على فخذيه وعاقدا يديه معا ليقول لها بهدوء بعد أن تماسك قليلا محكما عقله الذي شعر أنه كان غائبا للحظات أثناء انفعاله الغير مبرر معها بالخارج:
"أعتذر ثانية هند ..أرجو أن تقدري حالتي ..سامح أصيب بطلق ناري وتسببت الرصاصة بتهتك في عضلات الفخذ ولحسن الحظ لم تصب الأوعية الدموية سيحتاج لراحة تامة لمدة أسبوعين ..لكنه أيضا تلقى ضربة على رأسه ..ومع إصابته السابقة بها ..وحدوث تشوش بالرؤية لديه كان لابد من وضعه تحت الملاحظة لفترة للتأكد من عدم حدوث أي مضاعفات أو تجمعات دموية ..حتى الآن المؤشرات مطمئنة ..ليضيف بمزاح حاول به تخفيف الجو المضطرب بينهما ....رأسه أصلب من الأعمدة الخرسانية التي يعمل بها... لم يصب سوى بكدمة وارتجاج طفيف ..لقد كان محظوظا "
كان حاجبيها معقودين بحيرة وهي تسأله:
"الحمد لله ..لكن كيف أصيب ..من أطلق عليه الرصاص ولماذا؟"
ليشيح بكفة وهو يقول بادعاء محاولا إخفاء الحقيقة:
"مجرد سوء حظ ..تواجد في المكان الخطأ بالوقت الخطأ وسط تبادل لإطلاق النار بين بعض اللصوص والشرطة ..مجرد حادثة غير مقصودة.. الحمد لله أن الأمر كان بسيطا"
لتهز رأسها بينما تقف متأهبة للرحيل لترفع يدها لأعلى لتعليق حقيبتها ذات اليد الطويلة بوضع مائل على جذعها مما جعل بلوزتها تزداد التصاقا بصدرها و لفت عينيه رغما عنه ...ليقف مشيحا بوجهه بينما يستغفر بداخله وهو يضغط على نواجذه ..ليلتفت بعد لحظة إليها ناويا لفت نظرها لضيق ما ترتديه وإن كان لا يعرف كيف سيبدأ حديثه معها عن هذا الأمر ..لكنه لا يستطيع الصمت ... ليقاطع محاولاته قبل بدئها فتح الباب و دخول سارة التي بادرته بالتحية وهي تقترب منه لتضمه بسرعة قبل أن تبتعد ناظرة لعينيه وهي تقول بمواساة:
"ألف سلامة على سامح يا أكرم ..لقد عدت وأبي للمشفى من المطار مباشرة عندما هاتف أبي وهو بالطريق أحد الأطباء ليسأله عن شيء ما يخص إحدى الحالات وأخبره بأمر إصابة شقيقك...لماذا لم تهاتفني وتخبرني فور حدوث الأمر؟!"
لتنتبه لحظتها لمن تقف خلفها فتستدير لتحييها برقة وهي تقول باعتذار:
"عفوا هند لم انتبه لك من شدة قلقي ..كيف حالك لابد انك أيضا قلقة على سامح ..لقد كنت مع أبي منذ قليل عند حجرة الرعاية واخبرنا الجراح المتابع له أنه بخير وسينقل لحجرة عادية بعد قليل " لترد عليها هند التحية بخفوت وهي تخبرها أن الدكتور أكرم طمئنها على سامح بالفعل " ليلاحظ أكرم وجه هند الممتقع ..وملامحها المنقبضة وهي تشيح بوجهها بعيدا عنهما قبل أن تعود سارة للحديث وهي تخبره أنها مرت مع أبيها للحجرة المحجوزة لسامح وسلمت على والديه وعلى همس وطمئنهم أبيها على سامح وقد تركته معهم وجاءت للبحث عنه" لتقاطعها هند بصوت استشعر حزنه واختناق حروفه خاصة مع إشاحتها لوجهها المنقبض بعيدا عنه دون أن يفهم إن كان السبب متعلق بقلقها على سامح أم ما زالت غاضبة من طريقته السابقة معها ...أم أن هناك شيئا آخر لا يفهمه .. تهرب بعينيها بعيدا بينما تقول :
"سأذهب للحجرة المحجوزة لسامح لأسلم على همس ووالديك قبل ذهابي للكلية لاستكمال محاضراتي ..ولا تقلق دكتور بمجرد عودتي سأمر على العيادة واضع ورقة تنبيه على الباب باعتذارك عن الذهاب اليوم وكذلك سأهاتف من لديه حجز مسبق لتأجيل الموعد ..لتضيف موجهة الحديث لسارة ..
"عفوا سارة سعدت برؤيتك.. لكني مضطرة للذهاب فلدي محاضرة متأخرة يجب اللحاق بها ..هلا أبلغتني برقم حجرة سامح لأمر عليها بطريقي للخروج؟!"
لم يهتم أكرم بالحوار الدائر بينهما قدر اهتمامه بمشاعره المضطربة وهو يناظر كلتاهما معا ..ليجد نفسه يتساءل ..لما لم يشعر بشيء عندما ضمته سارة رغم كونها زوجته شرعا ..بينما مجرد لمسة يد عارضة لهند أربكت دواخله ..لما لم يهتم بالتمعن فيما ترتديه خطيبته ولم ينتبه له من الأساس.. بينما عينيه تفصل ملابس هند البسيطة بتفحص وانتقاد .. ليشعر بتزايد شعوره بالاضطراب ..ويحاول التهرب من إيجاد الرد على تلك الأسئلة المثارة بداخله بالالتفات لخطيبته التي تنظر له بدهشة من شروده بعد مغادرة هند.. ويحاول إبداء الاهتمام بها وإخفاء اضطرابه وهو يسألها عن حالها ورحلتها ..دون أن يشعر باهتمام فعلي بإجابتها وهي تسترسل بوصف تفاصيل تلك الرحلة...
-------------

أخذ يبادل الجالس أمامه النظر بينما يقول ببرود ظاهري محاولا التحكم قدر استطاعته بصوته وملامحه حتى لا يكشف الغضب المتصاعد بداخله:
"هل يمكنني أن أعرف كيف علمت سيد عاصم بالمشاكل والتلاعب الذي تعرض لهم مشروعي "
ليجيبه الآخر ببرود مماثل ونبرة هازئة لا تخلو من تكبر:
"خالد بك .. لا اصدق أن رجلا بذكائك يسأل سؤالا كهذا !!..أظنك تعي جيدا من أكون ..وكيف بإمكاني أن أعرف ما أريد وقتما أريد"
لينظر له خالد للحظات بتفرس هادئ قبل أن يسأله:
"ولماذا تريد أن تعرف ؟!..لا أظن الأخبار ..خاصة السرية تصلك وحدها دون أن تكون قد أبديت رغبة أو أمر بالمعرفة سيد عاصم "
ليرد عاصم بهدوء ونبرة خبيثة بينما تتلاعب أصابعه بحليه فضية تمثل أسدا رابضا فاتحاه فاه معلقة بعلاقة مفاتيحه:
"بالطبع لابد أن اهتم ..خاصة عندما يكون الأمر متعلق بمن سيكون صهرا لي عن قريب "
ليعقد خالد حاجبيه بحيرة وهو يسأله بتوتر :
"صهر؟!!! ومن العروس التي سترتبط بها من عائلتي وتجعلنا أصهار سيد عاصم؟!! "
ليرفع عاصم عينيه إليه ليقول بنبرة تحمل مزيجا من السخرية والمكر:
" غريب ... ظننت أن عمتك السيدة رقية قد أبلغتك ...خاصة وحفل الخطبة يوم الخميس القادم ..سوف اخطب ابنة عمتك ..الآنسة ماهينار عز الدين ..كيف لم تعرف بالأمر حتى الآن ..ظننتك مقرب من أسرة عمتك ..خاصة مع عمل خطيبتي العتيدة لديك ....مؤقتا طبعا ..فلن أترك خطيبتي تعمل حتى ولو كان لدى ابن خالها الذي بمثابة شقيقها الأكبر "
كان خالد يعاني بقوة لمحاولة إخفاء انفعالاته التي أوشكت على الخروج عن حدود سيطرته ..ليتمكن بصعوبة من السيطرة على ملامح وجهه فيما عدا عينيه المشتعلتين غضبا وظل محتفظا ببرود نبرة صوته بينما يرد على هذا المتبجح المغرور قائلا:
"للأسف يبدو أني لست مقربا بما يكفي لأعرف بأمر الخطبة مسبقا سيد عاصم ...لكن هذا لا يفسر لي رغبتك بمعرفة دقائق وأسرار عملي؟! "
ليرجع عاصم للخلف مريحا ظهره على مقعده
بينما يحرك يديه الممسكة بالأسد لتنقر على سطح مكتب خالد بهدوء نقرات متتالية بينما يقول بمراوغة:
"أريد أن أساعدك وأخرجك من مأزقك دون أي عوائق ..ودون أن يمس أسمك وسمعتك شيء "
ليعوج فم خالد ببسمة ساخرة بينما يسأل الجالس أمامه بتوقع:
"وطبعا هذا سيكون من خلال عرضك الشراكة معي بالمشروع ..أليس كذلك"
لتبرق عيني الجالس أمامه بإعجاب ممزوج بحقد لا يستطيع أن يخفيه بينما يقول بتواضع زائف:
"يعجبني ذكائك خالد بك ..ويشرفني أن نتعاون معا ..ليكون بيننا روابط مهنية وعملية ..بالإضافة لصلة القرابة المستقبلية"
ليطرق خالد صامتا للحظات بينما يعتدل للأمام عاقد كفيه أمامه على المكتب قبل أن يقول بصوت بات:
" أشكرك على عرض المعاونة سيد عاصم ..لكني أسف لا يمكنني قبوله ..فلابد أنك تعلم أنني لا أقبل الشراكة في عملي ..وأفضل العمل منفردا "
ليقطب عاصم قليلا قبل أن يعتدل هو الآخر ليميل للأمام مقربا وجهه من خالد بينما يسأله باستهانة:
"وكيف ستستطيع استكمال المشروع والالتزام بمواعيد التسليم ..وخاصة أنك كما اعرف رجل شريف ولابد ستضطر للتضحية بكل ما تم بنائه والعودة للصفر لإعادة البناء على أساس صحيح ..مع ما يعنيه ذلك من خسارة فادحة وتعطيل كبير للوقت ..سيحتاج لمضاعفة المجهود والعمال لتحاول تعويض الوقت الضائع ..وأشك أن تقدر فالأمر يصل لحدود المستحيل ..هذا بافتراض توفر السيولة لديك ..وهو ما أظنك تفتقده حاليا مع المشروعات التي وقعت عقودها مع كلا من التوكيل الألماني والشركة الإيطالية بالإضافة للمشاريع الأخرى التي لديك ..ولو طلبت قروضا بنكية وهو الأمر الذي أعرف أنك ترفضه تماما ..فلابد من تقديم ضمانات ترفضها أنت ...كما أن الأمر سينكشف ...ويعلم الجميع أنك تواجه مشكلات مادية ..وهو ما أظنك تتجنبه بقوة.. " ليصمت للحظات قبل أن يضيف بمهادنة ماكرة "لكنك إن قبلت شراكتي ستتجنب كل ذلك ..سأوفر لك السيولة اللازمة ..كما لن يستطيع احد أن يحاول مطالبتك بأي شروط جزائية نتيجة التأخير فسأتصرف مع الجميع وافتح مواعيد التسليم ..كما سيظل موقفك المالي وسمعة مجموعتك محفوظة دون أي مساس وخاصة أن الكل سيعزو شراكتنا لعلاقة النسب الجديدة بيننا ..ما رأيك؟!! "
ليرد عليه خالد ببرود جليدي يخفي اشتعال نيران غضبه لأقصى مداها:
"أشكرك على محاولتك مساعدتي سيد عاصم ..لكن قراري لم ولن يتغير ..لن اقبل بالشركاء ..ولن الجأ للقروض البنكية ..أم عن مشاكل السيولة المالية وخوفك على سمعة مجموعتي ..فلا تقلق ..سأجد حلا لها "
ليقف عاصم بجمود مواجها خالد ليقول بنبرة تحمل مزيجا من الحدة والوعيد:
"لا تعاند سيد خالد ..وأقبل شراكتي ويدي الممدودة إليك ..الآن أنا عندك ..وهو أمر نادرا ما أقوم به.. وسأقبل التفاوض معك على النسب والشروط ...أما لو خرجت من هنا ..فستخسر هذه الميزة لاحقا ..وأنا واثق أنك ستلجأ لي بالنهاية ..فمثلك لن يقبل أن تنهار مجموعته ويشرد المئات من الموظفين العاملين لديه وأسرهم لمجرد العناد ..كما لن أسمح بأن يكون لك شريك آخر غيري "
لينتفض خالد واقفا ليقول بحدة وكبرياء عنيف:
"لم يخلق بعد من يسمح أو لا يسمح بأمر يخصني سيد عاصم فاحذر كلامك.. ..وأطمئن لا أنت ولا غيرك ..أخبرتك أنا كفيل بمشاكلي ..شرفتني بحضورك سيد عاصم "
ليقبض عاصم على الأسد بيده بحدة بينما يقول بصوت كالفحيح:
"تذكر أني جئتك مادا يدي وأنت رفضتها ..فلا تلمن إلا نفسك بعدها.. أنت لا تعرف من الذي ترفض مساعدته وشراكته لكني واثق أنك ستأتي إلي بنفسك قريبا ..بل وقريبا جدا سيد خالد"
ليستدير متجها إلى الباب قبل أن يقف ملتفتا لخالد ليقول بخبث "أراك بحفل الخطبة يا نسيب ....أم أنها صهر ..عفوا فلست بارعا بمعرفة الفوارق اللغوية.. لكن المهم أننا سنصير أقرباء قريبا ..وشركاء أيضا.. هذا وعد مني"
ليفتح الباب مغادرا.. تاركا خالد يشتعل غضبا وغيظا ..ويسب بداخله عمته وماهي والعائلة بأكملها.... ليرفع هاتفه متصلا بتقى طالبا منها أن ترسل إليه الآنسة ماهينار فورا ..ليأتيه الرد بعد لحظات بأن الآنسة ماهينار قد غادرت منذ عدة دقائق ..ليصرخ هاتفا بغضب :
"ماذا تعني غادرت ..هل هي وكالة بلا بواب ..أبلغي رئيسها أن يتخذ ضدها الأجراء القانوني ..لن اقبل التهاون بالعمل من أيا كان"
ليغلق الهاتف الداخلي بعنف .. ويمسك بالهاتف الجوال محاولا الاتصال بها ليزداد حنقا وغضبا مع الرسالة المقيتة التي تبلغه بأن الجوال قد يكون مغلقا أو خارج النطاق.. ليتصل بمدحت الذي رد عليه بعد عدة رنات ليصرخ به سائلا عن مكانه بينما يتحرك خارجا وهو يحدثه ..فيأتيه صوت الآخر مخبرا إياه أنه بسيارته أمام المشفى الذي به سامح.. ليقف خالد للحظات متفاجئا من مكان وجوده قبل أن يقول له بحدة:
"جيد ابق مكانك أنا بطريقي إليك" ...ليغلق الهاتف دون أن يترك للآخر المجال للرد أو السؤال...........
-----------------------
لا يدري السبب الذي جاء به ليقف بسيارته أمام الجهة المقابلة لباب المشفى الذي به سامح ..لقد دار بسيارته لساعات عدة ..قبل أن يجد نفسه هنا ..ليركن سيارته ويظل قابعا بها لبعض الوقت دون أن يتحرك بينما عيناه شاخصتان لبابها ..كما لو كان منتظرا أن يخرج له الحل من خلف الأبواب ..ظل شاردا للحظات حتى لفت نظره السيارة الليموزين التي تحمل شارة المطار والتي توقفت أمام باب المشفى ليخرج منها رجل كهل تلحقه فتاة جعلته يعتدل بكرسيه ليحدق فيها بحدة وقلب بدأ بالطرق هادرا ما أن تعرف عليها رغم المسافة الفاصلة بينهما ..سارة الذهبية ..عشقه الأوحد ..أكثر من أحب ومن جرح ..لتتابعها عيناه بشوق بينما يرى عامل الأمن بالمشفى يخرج الحقائب من السيارة ..ويبدو أنه يتلقى تعليمات ما من الرجل الكهل ..بينما تبتسم سارة برقة بجواره وهي تخبره شيئا ما ..قبل أن تختفي عن ناظريه مع من معها خلف الأبواب المظللة أمامه.. ليعيد رأسه للخلف مستندا على مسند مقعده بينما يتمتم اسمها بندم وشوق .. ليغمض عينيه مزيلا القناع عن ذكرياته التي حاول الهرب منها وتغليفها بأقنعة النسيان ودفن ذكرياته خلف ظلال من ستائر خادعة جعلته يظن أنه أخفاها ..غطاها بداخله وهرب منها ..لكن نظرة واحدة ..بل حتى قبل النظرة مجرد ذكر عابر لاسمها كان أشبه بهبوب رياح عنيفة أطارت تلك الستائر ..بل اقتلعتها لتترك كل ماضيه مكشوفا ..ماضي هرب منه بإغراق نفسه وسط حياة لاهية ..وأحضان الكثيرات أملا بالنسيان ..رغبة بخلق ذكريات جديدة تمحو ماضيه ..لكنه فشل رغم رفضه الاعتراف لنفسه بكونها مدفونة بأعماقه ..مخفية بباطن روحه ..وكل ما كان يضعه فوق ذكراها مجرد غبار عفن ..فكيف يخفي الغبار بريق الذهب؟؟!!
ليهتف لسانه بحروف اسمها باحتراق:
" سااااااره آآآه يا ذهبيتي " لتغافله دمعة هربت من مآقيه مع ذكرى المرة الأولى التي رآها فيها.....كان جالسا بكافتيريا الجامعة التي لم يكن يذهب إليها إلا لماما وفقط ليقضي وقته بها بتبادل المزاح أو المغازلة مع الفتيات ..لم يكن مهتما بالدراسة ..وكان يأخذ العام باثنين ..لذا كان ما زال بالفرقة الثالثة رغم قضاءه خمس أعوام بالكلية ..كان برفقة مجموعة من أصدقائه يتبادلون المزاح ..عندما رفع رأسه فجأة لتقع عينيه على كتلة مشعة من الذهب ..من رأسها لأخمص قدميها ..كانت تقف على بعد خطوات منه ..تبحث بعينيها عن أحد ما ..بينما الشمس التي كانت تخترقها من الخلف منحت شعرها هالة لامعة من بريق ذهبي ..لينعكس ضيائها على عيناها الذهبية مانحا لها شعاعا اخترق قلبه ...وليكتمل شعوره بكونها بالفعل سبيكة من الذهب الصافي ارتدائها بلوزة بلون عسلي فاتح على بنطال بلون بني وحذاء وحقيبة بلون العسل ...كانت مزيجا من الذهب الأصفر بدرجاته ..ليجد عينيه عالقة بها ..حتى التقت عيناهما ...كانت لحظة تواصل شعر أنها سمرت كلاهما ..قبل أن تشيح بعينيها بخجل وحرج ..ليسمع صوتا يناديها ..بينما تشير لها إحدى الفتيات لمنضدة بجوارهم فتتجه إليها مسرعة ..ليجد نفسه يشد صديقه هيثم المجاور له وهو يشير لها بعينيه وهي تمر بجواره خافضة رأسها .. يسأله إن كان يعرف من تكون تلك الذهبية ..فهيثم يعد قاموسا ودائرة بيانات لكل فتيات جامعتهم ..ليرفع هيثم رأسه ناظرا لمن تكون تلك التي لفتت نظره قبل أن يجيبه بمزاح :
"آه هل لفتت نظرك الشقراء الإنجليزية" ليقطب حاجبيه سائلا:
"أهي إنجليزية"
لينبري هيثم بالشرح:
"نصف إنجليزية ..أبوها جراح مصري معروف وصاحب مستشفى *** التخصصي ..ووالدتها إنجليزية ..يبدو أنهما منفصلين منذ زمن طويل ..ولدت بإنجلترا وتحمل الجنسية الإنجليزية ...لكنها تعيش هنا مع أبيها منذ طفولتها ..وأيضا هي معنا بنفس القسم ..لكنها بالفرقة الأولى....لكن لا تتعب نفسك ..ليست من نوعك اللاهي ... فرغم نصفها الغربي ..إلا أنها شديدة التحفظ ...لا تصاحب الشباب إطلاقا ..لا تستجيب للمغازلات ..أو محاولات التعرف أو المصادقة ..إنها فتاة معقدة ..ليست من النوع المنفتح الذي تفضله أنت"
ليقطب حاجبيه وهو يسأله:
"وكيف عرفت أنت قصة حياتها إن كانت بمثل هذا التحفظ ؟!"
ليضحك هيثم بينما يمازحه بتعديل وهمي لياقة قميصه وهو يقول ..أنا لا يخفى على شيء يا رفيق ..أنا موسوعة " ليقاطعه هاتفا باسمه بحدة خشنة وهو يحذره بعينيه من التمادي بمزاحه اللاهي ليرفع الآخر كفه بطلب سلام وهو يقول ضاحكا :
"حسنا حسنا ما بك أصبحت نزقا هكذا ... ليقول وهو يشير برأسه بخفة ناحية منضدتها التي يشاركها بها ثلاث فتيات أخريات:
"الجالسة بجوارها ناحية اليمين بشعر بني وبلوزة بيضاء هي شرويت .. ابنة خالتي ..كانت رفيقتها بالمدرسة منذ صغرهما ..إنهما صديقتان منذ الطفولة ..وقد علمت منها كل ما يخصها – ليستطرد بهزء-..ولا أدري كيف استطاعت سارة الصامتة المنطوية تلك احتمال مصادقة ابنة خالتي الثرثارة المزعجة "
ليجيبه مدحت بسخرية مازحة دون أن تفارق نظراته سارة التي أسرت عينيه
"كما أحتملك أنا يا ظريف" ليقاطعهم صوت مغناج يعود لواحدة من الجالسات معهم صوت ضايقه رغم أنها كانت صديقته الحميمية في فترة ماضية ليتجاهل محاولاتها إعادة لفت نظره لها بهذر سخيف...ليعض على نواجذه غيظا لأنها قطعت عنه فرصة المزيد من الاستقصاء حول الفاتنة الذهبية ...
فتح عينيه وأدار رأسه ناحية أبواب المشفى محاولا الهرب من ذكرياته التي تهاجمه دون قدرة له على إيقاف تدفقها ..كما لو كان السد الذي كان يحتجزها خلفه قد انهار.. ليلفت نظره قامة يعرفها جيدا تترجل من سيارة أجرة أمام باب المشفى ,,ليقطب بحيرة وهو يتعرف على شقيقته ماهي ..لم يكن حائرا لقدومها فهو كان متوقعا له ..لكنه حائر لاستخدامها سيارة أجرة رغم خروجها بسيارتها صباحا وأيضا لأن وقت عملها لم ينتهي بعد ..لكنه لم يحاول منعها أو التحرك من مكانه وهو يراها تدلف للداخل ...ليعيد رأسه للخلف تاركا نفسه ينجرف ثانية لنهر ذكرياته..
عام كامل منذ رآها أول مرة كان أكثر عام بحياته التزم فيه بالمداومة على الجامعة ..حاول خلاله الاقتراب منها ببطء وساعده بذلك تعرفها بشقيقته ماهي التي كانت صديقة لإحدى زميلاتها رغم اختلاف تخصصاتهم وانضمت لمجموعة سارة.. لكنها رغم نظراتها إليه التي تشي بتأثرها به ..وارتباكها بحضوره ظلت على تحفظها الهادئ معه ..لم تكن تبادله أكثر من التحية العابرة ..وتتهرب بعدها من المكان المتواجد به .. لقد كان يربكها ويستمع برؤية هذا الإرباك في احتقان وجهها واهتزاز حدقتيها المتهربة دائما من ملاقاة عينيه بينما يحيها بكنيتها التي أطلقها عليها "مرحبا بسارة الذهبية " كنية أغضبتها لتطلب منه مرارا الكف عنها خاصة وقد التصقت بها بين الجميع ..دون أن يستجيب ..لتكف بعدها متقبلة إياها بنوع من الاعتياد أو القبول الهادئ
عام كامل ..حاوطها هو بجدار من الحماية الغير مرئي منع فيه أيا كان من الاقتراب منها.. جاعلا أمر كونها بحمايته مثلها مثل شقيقته معلوما للجميع سواها هي ...عام ابتعد فيه عن لهوه وعبثه وقطع علاقاته السابقة بكل الفتيات دون أن يدري السبب ..فهو لم يحاول استبدالها بهم ..كان يحميها حتى من نفسه ..كان يشعر نحوها بمشاعر لم يجربها قبلا .. عام نجح به بدراسته واشترك للمرة الأولى بالأنشطة الصيفية بالجامعة خاصة تلك التي علم إنها مشتركة بها حتى لا ينقطع التواصل معها ويفتقد رؤيتها بفترة الإجازة ..ليبدأ عامه الأخير وتبدأ هي عامها الثاني ..وتزداد مشاعرهم الصامتة لبعضهما صخبا.. مشاعر تفضحها عيونها ونظراتها إليه ويحجمها خجلها .. حتى كان هذا اليوم الذي خُطبت به واحدة من فتيات مجموعتها لأحد المعيدين بالكلية بعد قصة حب كانت مثار حديث الجامعة لعامين كاملين ..ليقابلها ليلا بحفل الخطبة الذي لم يكن مدعوا إليه لكنه رافق شقيقته بحجة عدم تركها تعود ليلا وحدها... خاصة والحفل بأحد الفنادق الحديثة بأطراف العاصمة ...ليفاجئه طلتها المبهرة بثوب ذهبي ملتصق بجزعها العلوي محتشم بقصته الخادعة فرغم أكمامه الطويلة وعنقه المغلق إلا انه يفصل نصفها العلوي بإغراء.. كما يلتصق بجسدها مبرزا أنوثتها بتنوره مستقيمة تنسدل بضيق حتى قبيل ركبتيها لتبدأ بالاتساع حتى كاحلها بذيل طويل نسبيا من الخلف ..وزينة وجه ذهبية رقيقة جعلتها نصب اهتمام ومصب عيون معظم الحاضرين... ليجد نفسه يتجاهل شقيقته مهملا إياها بينما يتابع تلك الذهبية بغيرة مشتعلة ...يسير خلفها كما لو كان حارسا خاصا ...حتى رأى واحدا من الشباب يقترب منها بمحاولة سمجة للتعرف باستخدام كلمات مغازلة يظنها الأحمق مرحة ..ورغم أنها لم تستجب لمحاولات الآخر إلا أنه لم يستطع منع نفسه من التقدم ليقف بجوارها زاجرا الآخر بعينيه وهو يطالبه بالابتعاد قبل أن يسحبها بخشونة لشرفة جانبية مطلة على حديقة خلفية ..ليصرخ بها مطالبا إياها بالجلوس ثابتة بمكان واحد والتزام منضدة شقيقته بجواره ...لتنظر له بعيون تجمع بين التحدي والحبور وهي تسأله عن سبب تدخله بما يخصها ..سؤال ألجمه رغم معرفته لإجابته ..ليتردد بإجابتها بينما يتهرب من عينيها المطالبة له ببوح يفوق قدرته ..بوح سيمنحها عليه حقا ومطالبات لن يستطيع تحقيقها لها ..ليضربه وقتها الوعي بالواقع ..ما هي نهاية علاقته بها ..هو لن يتزوج بها أو بغيرها يوما ..الزواج والأسرة خارج حدود حياته ..قيد يرفضه .. بل إنه كان دوما يصرح بكونه ضد أي ارتباط جدي بأي صورة حتى لو كان عقد زواج عرفي يلجأ له الكثير من أصدقائه لنيل أغراضهم من الفتيات بادعاءات كاذبة ..سعيد كان هو بحياة اللهو والعبث دون روابط ..لكنه أبدا لم يتلاعب بفتاة خادعا إياها بوعود كاذبة عن مستقبل يجمع بينهما برباط جدي ..كان واضحا دوما مع الجميع ..هو يلهو وفقط ..من ترغب بمشاركته لهوه فمرحبا ..ومن تريد الورود والوعود والخاتم فلتبحث عن غيره ..هو ليس متوفرا لهذا النوع من العلاقات ..فكيف أنساق طوال الأشهر الطويلة السابقة لهذا النوع من الروابط ..حتى لو لم يصرح بها ..فمشاعره الواضحة ناحيتها قيد يلزمه بها ...ليقف بتلك اللحظة بمواجهة عينيها الذهبية الناظرة له بأمل ترجوه أن يمنحها وعدا ..أن يبوح بكلمة تمنحه عليها حقا.. وتمنحها سببا يبيح لها تجاوز حدودها لتمنحه بوحا بعشق تخفيه وتفضحه عيناها.. ليجد نفسه أمام مواجهة حاسمة مع نفسه ..هل سيقبل بما تطالبه به بلا كلمات ..فالبوح لسارة بالحب لا يعني إلا طريقا واحدا ..الزواج!! ..فمثلها ليست فتاة لهو ..أو لقاءات سرية بحجرات مظلمة ..هي أرقى وأنقى من ذلك ..فهل سيمنحها بوحا يلحقه ارتباط بزواج ينتج أطفالا يعانون يوما عندما يندثر هذا الحب ..عندما تتحول المشاعر لقيد يخنقه فيجد نفسه يهرب تاركا خلفه امرأة حاقدة وأبناء تائهون ..ليطول صمته بينما تخبو اللمعة السعيدة بعينيها لتتحول لمزيج من الم وحيرة ...قلق وخوف ..لترتعش شفتيها وتهتز الحروف الخارجة منها وهي تعيد سؤاله:
"أجبني مدحت ..لماذا تتدخل بما يخصني ؟... لماذا تتابعني...لما تهتم...لما يجب أن استمع لما تقوله لي ..وأنفذه؟!"
ليتهرب من عينيها وهو يقول:
"أنت ..أنت صديقة لشقيقتي ..و ..و..أنا أعتبرك بمثابة شقيقة لي ..و"
لتقاطعه بصوت متألم ساخر:
"شقيقة؟!!..أنا لا أشقاء لي ..أنا فتاة وحيدة ..وعلاقتي بشقيقتك مجرد زمالة ..لسنا مقربتين لتلك الدرجة ..حتى لو كنا ..فلا أظنك تنصب نفسك حاميا لكل صديقاتها ..لتمنعهن الكلام مع احد.. وتمنع أيا كان من الاقتراب منهن ..معظم صديقات أختك بالداخل ..يتبادلن المزاح والرقص ولم أرك تهتم بما تفعله إحداهن ...لذا أرجو أن تحترم عقلي قليلا وتخبرني بسبب مقنع لأفعالك ..وإن لم يكن لديك سبب ..وكنت فقط تتسلى بدور الحارس الخاص وحامي الحمى ..فأبتعد عني ..ولا تقترب مني ثانية"
قالتها بنوع من التحدي وبصوت مليء بالكبرياء ..لكنه رآها بعينيها ..تلك النظرة اللامعة بدموع رافضة الهطول ..والتي ترجوه أن لا يكسر قلبها ..أن ينفي ما تقوله ..أن يثبت حقيقة مشاعرهما التي تبادلاها بصمت لعام كامل بكلمات صريحة ..لكن عقله المكبل بندوب ماضيه قيد لسانه ..ورفض منحها ما تريد ..ليكتفي بصمت شعر أنه كان أوجع لها من كل الكلمات ..لتتركه مهرولة للداخل ليبقى مكانه للحظات قبل أن يخرج باحثا عنها فلا يجدها بأي مكان بالقاعة ..ليبحث بجنون حتى يراها واقفة بباب الفندق الخارجي لتتوقف بعد لحظات سيارة أمامها ليخرج منها سائق يفتح لها بابها الخلفي ..لتظل عيناه تتابعها حتى اختفت من أمامه.. ليغادر هو الآخر مسرعا متتبعا السيارة من بعيد حتى رآها تهبط منها أمام إحدى الفيلات ..لتدخل أمامه بأكتاف متهدلة وحركات بطيئة تشي بمدى ألمها ..ليقول في نفسه سامحيني سارة ..سأقتل حبي بقلبك حتى لا يبقى منه لديك ذكرى ..ليعود بعدها لسيرته الأولى بالجامعة يلهو مع الفتيات .. يغازلهن بوقاحة علنية ..يرى عينيها تتلون بالألم وهو يواعدهن على مرأى منها.. يدعو شلته القديمة التي كان ابتعد عنها لفترة لحفلات ماجنة بالملاهي الليلة وهو يعلم أن الأخبار ستصل إليها ..يراها تذبل يوما بعد يوم ..تزداد حزنا وانطواء ..تتهرب بعينيها من لقاء نظراته ..لكنه يستمر حتى وصل لما يريد ..عندما استطاعت بيوم أن ترفع عينيها نحوه بكبرياء ..ليرى عينيها فارغة من نظرة العشق ..وعندما ردت سلامه بلا مبالاة ..سلامه الذي كان يتعمد إلقائه عليها كلما رآها ليسمعها قبلا ترده بصوت خافت وعيون منكسه ..لكنها يومها ردته بصوت ثابت النبرات وعيون جامدة خالية من أي شعور ..وقتها علم انه قتل حبه بداخلها كما أراد ..ليقتل معه مشاعره ويخنق نبضاته ..ورغم كل لهوه خلال هذا العام إلا انه أصر على النجاح لينهي علاقته بالجامعة ..ويبتعد تماما عن مجالها ..وهذا ما فعله ... أكثر من ثلاث سنوات مرت على آخر مرة رآها بآخر أيام الاختبارات النهائية ..ليبتعد بعدها تماما ..حتى عن شقيقته خوفا من أن تذكرها أمامه يوما ..ليشكر حظه الذي جعلها لا تسكن بمنطقة قريبة منه و لا تكون ضمن أعضاء النادي الذي يشتركون به ..ليفقد تماما أي احتمالية للقائها يوما ..أو هذا ما كان يظنه ...
لينتفض خارجا من ذكرياته على صوت فتح الباب المجاور له وإغلاقه بحدة بعد مجاورة خالد الذي لم يشعر كيف ومتى حضر لينتبه لحظتها على سيارته المتوقفة خلفه ..بينما يسمع صوته الحاد وهو يسأله مباشرة ودون مقدمات :
"ما موضوع ارتباط عاصم مهران بشقيقتك ..كيف ومتى حدث ..وكيف وافقتم عليه ولماذا ..أريد كل التفاصيل دون مراوغة أو كذب "
ليغمض مدحت عينيه مريحا رأسه أكثر وهو يزفر بعمق قائلا بإنهاك مستسلم:
"سأخبرك"
--------------------
طرقت بابه برقة ..بعد أن علمت من الاستقبال أنه نقل لهذه الحجرة ..لتسمع صوتا يسمح لها بالدخول لتفتح بقلب متلهف اضطربت نبضاته ما أن طالعها مشهد تلك الفتاة الباسمة المحجبة التي تجاوره جالسة بزاوية جانبية على فراشه.. وتدفع لفمه شريحة من التفاح وهى تقول بمرح "أمي قالت أنك تحتاج للغذاء ..والتفاح غالي وقد قطعتها بالفعل لذا ستأكلها " ..كان المشهد صادما لها لدرجة سمرتها وجعلتها لا تنتبه للمتواجدين بالحجرة قبل أن يخرجها من صدمتها صوت همس المرحب بها ..وهي تتقدم إليها لتجرها لداخل الحجرة و تعرفها بالمتواجدين بعد أن سلمت عليها والدتها وعانقتها بترحيب.. لتومئ لسامح المحدق بها بتجهم وهي تسأله عن حاله دون أن تستطيع منع عيناها النظر مرارا لتلك الجالسة بجواره ..لتسحبها همس باتجاه خالتها فوزية التي سلمت عليها بملامح متجهمة لا تحمل ترحيبا بعكس ابنتها سماء التي وقفت مقتربة منها بمرح وهي تسلم عليها قائلة بشقاوة تناقض رقة ملامحها:
"مرحبا بالناس النظيفة ذات الروائح العطرة التي لا نرى أمثالهم إلا بالتلفاز ..أنا سماء ابنة خالة همس وسامح" لتجد يد شاب وسيم بملامح شرقية سمراء وبنية متوسطة يزيح سماء بخشونة ليقف مكانها مادا يده بالسلام وهو يقول مازحا :
"مرحبا بأقارب ابنة خالتي الرائعات ..لقد تقابلنا قبلا بحفل زواج همس ..لكن لا أظن فاتنة مثلك انتبهت لمجموعة الأوباش التي كانت تعيث فسادا بالحفل وتثير استهجان الطبقة المخملية برقصاتها الشعبية على مسرح القاعة " ..لتحاول أن تجاري مزاحه بينما تسحب يدها التي ما زال ممسكا بها بإحراج وهي تقول بتهذيب ."مرحبا ..عفوا يومها لم أنتبه بالفعل للمدعوين .. لكني أعجبت بقوة بمجموعة الشباب الرائع الذي أثار الحياة والمرح بالحفل .."
ليقول بتفاخر وهو يشير لنفسه:
"لقد كنت أنا قائد هذا الفريق الرائع"
ليقاطع استرساله بالحديث صوت سامح الحاد مناديا:
"سيد تعالى لتساعدني بالاعتدال وتضع وسادة خلف رأسي وكفى تفاخرا ..أي إعجاب هذا الذي تظن انك ستثيره ..ألا يكفى أن اسمك سيد "
ليجيبه الشاب بغيظ وهو يعاونه:
"أتعايرني يا ابن خالتي على أني من تحملت خطيئة اسم جدك ..لا ادري لما أصرت أمي أن تحملني أنا جريمة حمل هذا الاسم دونا عن الجميع ..لتنتفض أمه بغضب وهي تصرخ على كلاهما :
"ماذا أيها العاق أنت وهو ..ألا يعجبكما اسم جدكما لأمكما ..لقد كان رجلا لن يصل أيكما لظفره يوما " لتنظر لسامح بلوم وهي تكمل "هل أصبح اسم جدك سُبة تعايره بها يا سامح "
ليرفع سامح يده لخالته وهو يقول مسترضيا إياها دون التخلي عن سخريته:
" على رأسي جدي وأسمه يا خالتي.. لكنها جريمة أن تلصقي اسمه بالفتى ..لقد أضعتِ مستقبله فمن التي سترضى بالزواج من شاب يدعي سيد " ..بينما يصل لماهي صوت سماء المشاغب وهي تقول له بخفوت:
"تستحق ما سينالك من أمي ..تلقى وعدك" لتجد نفسها تتمعن بالفتاة بضيق متجاهلة الحديث المرح بين الباقين حول اسم الجد.. كانت فتاة ملفتة وإن لم تكن فاتنة الجمال ..تشبه والدة همس بتلك العيون المائلة للون الأخضر والتي تحمل لمعة شقاوة ..وملامحها الطفولية والتي تجعل من الصعب تحديد عمرها لكنها تظن أنها ببداية العشرينات ..وبشرتها النقية دون أي إضافة من مستحضرات التجميل قمحية اللون ..مرحة ..شقية ..وواضح أنها مقربة من سامح من طريقة مزاحها ومشاغبتها له أمام أسرتها ..مما أشعرها بالضيق وهي تتساءل عن مدى هذا القرب بينهما ..وهل هناك مشروع ارتباط ما بينهما ..لا تدري لما استشعرت أن الأمر يتعدى مجرد قرابة ..خاصة مع تعليقات خالته التي لا تكف عن حث ابنتها على إطعام سامح والاهتمام به ..لتجد نفسها تنتفض واقفة دون قدرة على البقاء أكثر لمراقبة أنثى غيرها قريبة منه لتلك الدرجة ..وتطعمه بيدها ..لتقول بصوت لم تستطع التحكم بنبراته المختنقة :
"حمد لله على سلامتك بشمهندس سامح ..اسمحوا لي بالاستئذان ..فقد تأخرت"
لتتعلق نظراتها بسامح الذي نظر لها بعمق جعلها تشعر أنه يقرأ ما بداخلها ..ليقطع تواصلهم البصري صوت همس ووالدتها اللتين تطلبا منها البقاء أكثر لتهز رأسها رافضة باعتذار وتحي الخالة وابنتها المبتسمة برأسها ..لتفاجئ بسيد يقف أمامها قائلا:
"حسنا سأوصلك .. حتى أطمئن على ركوبك سيارة أجرة"
ليقاطعه سامح بحدة وهو يقول بغيظ:
"أرح نفسك يا ابن خالتي ..الآنسة مهينار لديها سيارة من الطراز الحديث ..ولا تحتاج خدماتك بالتوصيل " لا تدري لما شعرت بكلماته كما لو كانت إهانة لها ..لذا امتنعت عن إخباره أنها حضرت بدون سيارتها وستعود بالفعل بسيارة أجرة ..لتعتذر للجميع متوجهة للخارج ..دون أن تنتبه لهذا الذي عض شفاهه غيظا منها ومن نفسه ومن نظرات ابن خالته الولهة التي تتبعها ..مانعا نفسه بصعوبة من اقتلاع عينيه التي تنظر لها بإعجاب ..ودون أن تلاحظ أيضا تلك النظرات الغامضة بعيني سماء... والحائرة بعيني أمه ...والغاضبة بعيني خالته ..والمدركة بعيني همس...
-----------------
دخل بسرعة هاتفا للجالسين يتناولون أقداح الشاي الساخن:
"لقد عادا ..هاتفتني سعاد وأخبرتني أن العم خليل وابنته عادا من السفر وأيضا أخبرتني أنها سمعت سارة تخبر خطيبها هذا أنها ستظل بالمشفى حتى آخر المساء لمراجعة الأعمال المتأخرة ..ومرافقة عائلته فأحد أقربائه مصاب ومتواجد بالمشفى.. تلك فرصتنا لأخذها أثناء خروجها ليلا ..فأخذها من جوار المشفى أسهل وأكثر أمنا من منزلها "
لينظر له جده بجمود ويقول بتحذير حاد:
"حسنا صلاح ..سيذهب معك راغب ابن عمك الأصغر ..والسيارة الربع نقل التي استأجرتها من جارنا عبد المعبود معك ..لا أريد أي حماقات أو تهور .. احضراها مباشرة لمنزلنا بالقرية ..وهناك سنعرف كيف نخفيها ..ونبلغ أباها بوجودها معنا حتى لا يتهور ويبلغ الشرطة ..وبعدها نساومه على أن يكتب لنا نصف ممتلكاته التي يجب أن تؤول لنا بالميراث ..حتى نضمن أن لا يستولي عليها الرجل الذي زوجه ابنته "
لتلتمع عيني صلاح بشر وهو يحدث نفسه ..أعدك جدي ..لن أكتفي بالنصف فقط ..بل سأحرص أن احصل على الكل ومعهم تلك الفاتنة الشقراء ..ليتجاهل ملامح والده المليئة بالقلق والتوتر .. وملامح والخوف والرفض الظاهر بعيون ابن عمه راغب ...الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ..لكنه يتمتع ببنية ضخمة .. لا تتوافق مع ضعف شخصيته أمام أفراد عائلته التي حولته لآلة لتنفيذ الأوامر والعمل بكل المهن ... ليخرج بعد أن يشير برأسه لراغب ليتبعه للذهاب والمرابطة أمام المشفى حتى يستطيعا إيجاد الفرصة المواتية لاقتناص صيدهم ....
----------------------------

أغلق الهاتف لينظر للجالسة أمامه تتناول طعامها بأناقة مخبرا إياها بصوت خافت حتى لا يلفت نظر الجالسين حولها بالمطعم:
"لقد عادا ..أبلغني الرجال الذين تركتهم لمراقبة المشفى ..ليستطرد ..فانا كلفت رجالنا بمراقبة مقر منزلهما وعملهما وإبلاغي فور ظهورهما بأي منهما ..حاليا هما بالعمل ..متى ترغبين بالتنفيذ"
لتجيبه ببرود دون أن تتوقف عن تناول الطعام:
"فورا.. وأريدك أن تذهب بنفسك ..أريدهما عندي الليلة ..فلا وقت متبقى لدي ..يجب أن انهي كافة الأمور العالقة لأعود للندن بأسرع وقت"
ليومئ برأسه ويتحرك خارجا لتنفيذ الأمر...
--------- ---------
تحرك بنزق في الرواق المؤدي لحجرة مكتبها ليرى ما الذي يؤخرها عن الخروج وقد تخطى وقت العمل موعد الانصراف منذ زمن ..أتظنه سائقها الخاص المكلف بانتظارها طوال اليوم ..ألا يكفي المصائب التي ابتلى بها منذ هبطت على رأسه وآخرها أوامر أبيه بأن ينقل حجرته كاملة بكل ما فيها للشقة المجاورة والتي كان أباه قد اشتراها له منذ عدة أعوام عندما عرضها جارهم الأستاذ عبد السلام للبيع ليذهب للعيش بالقرب من أبنائه المقيمين بإحدى المدن الساحلية .. ليجدها أبيه فرصة ليوفر له شقة مستقلة لزواجه وبنفس الوقت تكون قريبة منه ..فبادر بشرائها دون الاهتمام بكونه وضع معظم مدخراته فيها ...ورغم معارضته هو وقتها لأنه لم يكن يفكر بأنه سيتزوج يوما أو يسمح بدخول امرأة ما لحياته ...إلا انه لم يستطع منع أبيه من شرائها ..والده الذي حافظ على صيانتها والاهتمام بكافة أعمال السباكة بها تاركا له فقط التشطيبات النهائية لتكون على ذوق عروسه حسب كلامه وقتها ...والآن ما أن شعر أن حياته ستبدأ بالاستقرار ويعود للعيش وسط أبوية متمتعا بأحضان ودلال أمه كما كان بالماضي ..تأتيه تلك المتطفلة المغيظة لتهدم حلمه ..فتحتل حجرته وشقته وجوار أبويه ويتم إبعاده هو لتلك الشقة ..وأيضا سيشتري أبيه لها أثاث يضعه بحجرته بدلا من أثاثه الذي سيلقيه وهو معه بالشقة المجاورة ..لتأخذ تلك المتطفلة راحتها بمكانه هو ..كان قد وصل لحجرة مكتبها ليرفع حاجبه غيظا وهو يراها واقفة تتسامر مع هذا الموظف المدعو علي ولا يبدو عليها أنها تنوي إنهاء محادثتها قريبا ...كما لو لم تكن تعرف أن هناك مخلوقا بانتظارها ومكلف جبرا وقهرا بإيصالها لمنزل جده المقيمة به مؤقتا حتى يتم الانتهاء من النقل وإحضار الأثاث الذي طلبه أبيه عبر الإنترنت واختارته أمه من احد مواقع محال الأثاث الشهيرة ..لتنعم به تلك الوقحة عديمة الشعور ..ليجد نفسه يندفع للداخل هاتفا لها بحقد متجاهلا الآخر الواقف أمامها بابتسامة سمجة:
"ألم تنتهي من عملك بعد؟ ..أم نسيتِ أني قابع بانتظارك منذ ساعة ولست متفرغا لك ..إن لم تأتي فورا فسأغادر وعودي أنت وحدك"
..لتنظر له ببرود قبل أن ترد عليه بسماجة:
"حسنا غادر ..لكن لا تغضب عندما أخبر زوج خالتي بتركك إياي وحدي وعدم إيصالك لي رغم تأكيده عليك ..خاصة وان سيارتي بالتصليح "
ليرد عليها بحقد:
"تقصدين سيارة أمي التي تستولين عليها وأنت لا تجيدين القيادة أصلا وتتسببين بإفسادها كل يوم وآخر لأجبر أنا على إضاعة وقتي بين ورش التصليح المختلفة "
لتهز كتفها باستهانة بينما ترد عليه بتبجح:
"أنا وخالتي واحد ..بيتها بيتي ..سيارتها سيارتي ..وأنا لم اطلب منك أن تصلح شيئا ..أبيك من أمرك ..اعترض عنده ..ما شأني أنا " ليقاطع رده الحاد عليها صوت نحنحة هذا الذي نسيا أمره وسط شجارهم ..والذي كان ينقل نظره بينهما بحيرة وتعجب ..ليقول لياسر بمهادنة :
"عفوا أستاذ ياسر ...أنا من عطلت قريبتك الآنسة تقى ..فقد كنت استفسر منها عن بعض الأمور المتعلقة بالعمل "
لينتبه له ياسر فيستدير إليه سائلا بسخرية:
"حقا ..وما هي الأمور التي تربط بين مديرة مكتب الرئيس ..وبين قسم الحسابات ..وتستدعي كل هذا الوقت في الاستفسار "
ليرد الآخر بإحراج وصوت مرتبك:
"كنت استفسر منها عن إن كان لديها رصيد إجازات مقبول أو اذا كان الرئيس وقع لها طلب إجازة مدفوعة لتسوية راتبها عن الفترة الماضية "
ليرتفع حاجب ياسر باستنكار ساخر وهو يجيبه بهزء:
"يا لك من مراعي سيد علي ..حتى تتابع بنفسك أوضاع إجازات كل موظفي المجموعة رغم انه مسؤولية قسم شئون العاملين المكلفة بإرسال بيان لقسم الحسابات بعدد أيام حضور وغياب كل موظف يقومون هم على أساسه بضبط الأجر الشهري للعاملين"
ليحتقن وجه الماثل أمامه وهو يبدو عاجزا عن إيجاد إجابة مقنعة على كلام ياسر ..لتتدخل تقى بحدة وهي تزجر ياسر قائلة:
"وما شانك أنت ..السيد علي مشكورا أراد تنبيهي لضرورة تنبيه خالد بك لتوقيع خطاب موافقة على إجازة مدفوعة الأجر حتى لا يتم الخصم من راتبي "
ليقاطعها ياسر ساخرا
"حقا يا لك من شهم سيد علي ..شكرا لجهودك" ..ليضيف بحدة "هيا تحركي .. فقد تأخرنا ..وما زال أمامي المرور على أبي بالمشفى بعد إيصالك "
لترفع ذقنها بتكبر ..وتلتفت لعلي متجاهلة إياه لتقول برقة أثارت دهشته وغيظه بآن واحد وهو يسمعها تتحدث بهذه النبرة للمرة الأولى:
"شكرا جزيلا لنصائحك سيد علي ..لكني سألتزم بما يقرره قسم شئون العاملين ..فلا استطيع أن أحرج نفسي بطلب إعفائي من الخصم دون وجه حق ..أو اقبل مالا لم اعمل لأكسبه بجهدي ..وقد تجاوزت نسبة أيام الإجازات المسموح بها بالفعل لذا سأتقبل الخصم دون اعتراض" .. لتميل برأسها للأسفل بادعاء الحرج ...ليجد الغبي الآخر ينظر لها بانبهار بينما يرد عليها بإعجاب:
"أنت رائعة آنستي ..قليلين من لديهم ضميرك اليقظ ..وحسك الخلقي الراقي " ليرتفع حاجبه بدون تصديق وهو يراها ترفرف بعيونها وتخفض رأسها مدعية الخجل ..ليزعق بكلاهما ناقلا نظره بينهما:
"ما شاء الله ..هل احضر لكما شجرتين وكوبي عصير ليمون ..أم أبحث عن عازف كمان ليعزف لكما " ليلتفت لعلي الأقصر منه ممسكا إياه بعنف من ياقة قميصه ليقول من بين أسنانه:
"هل أنا خيال مآته أو كيس جوافة أمامك ..لتغازل ابنة خالتي أمامي دون احترام لوجودي ..أم هل أنت مستغني عن أسنانك ها ..هل أنت مستغني عنها لأني لو رأيتك تحدثها أو تقف قريبا منها ثانية سأحطمهم لك"
ليحاول علي التخلص من قبضته بينما يقول بتبرير:
"عفوا أستاذ ياسر أرجوك ..أنت فهمتني خطأ " ليضيف بتبرير وارتباك بينما ينظر بحرج لتلك التي تقف خلف ابن خالتها متخصرة تدمدم بغيظ دون أن يهتم ياسر بها أو يلتفت لها
ليقرب علي رأسه من إذن ياسر وهو يقول بصوت خافت "صدقني الأمر ليس كما تظن ..ليتردد قليلا قبل أن يقول له بخفوت أكثر " هل أستطيع أن أتحدث معك على انفراد ..غدا أو تحدد لي موعدا مع والدك " لتضيق عيناه وينعقد حاجباه ويميل إليه قائلا بفحيح غاضب ..غدا بمقهى الشركة أثناء استراحة الغداء ..ووالدي لا يستقبل أحد حاليا ..وإياك أن أراك بالقرب منها ..هل فهمت "
ليحرك علي رأسه بموافقة مضطربة وهو يحاول التطاول برأسه لرؤية تلك التي يخفيها ياسر خلفه ..فلا يسمح له.. ليضطر للخروج تاركا المكان لهما ..ليلتفت بحدة لتلك التي كان يشعر بها وهي تحاول مد رأسها والالتصاق به لتتسمع ما يقولانه فيهتف بها بغضب هادر جعلها تنتفض مطيعة دون جدال كعادتها:
"هيا تحركي أمامي بسرعة"
-----------------
كان يدور حول نفسه بقلق ..منذ سمع أمه تحادث خاله بالهاتف ..لتخبره أن أخته لن تذهب للعيادة اليوم بعد أن أخبرتها هند أنها ستبقى اليوم بالمنزل لأن موعد العيادة تبدل من اليوم للغد لانشغال الدكتور أكرم ..ليرى أمه تسارع بدخول حجرتها فيتبعها متسللا ليسمعها تتفق مع خاله على إخلائهم للمنزل وتركها وحيدة ..بعد أن تتأكد من شربها تلك القهوة التي اعتادت احتسائها عندما تبدأ مذاكراتها ..ليبتعد بسرعة قبل أن تراه أمه يدعي انشغاله بحفظ نشيد ما وهو يدور بصالة المنزل ...بينما يسمعها تخبر هند أنها ستأخذهم لزيارة جدتهم بعد العشاء ..وقد يبيتون لديها لو تأخروا ..ليزداد رعبه ..رغم انه لم يفهم بالضبط ما هو هذا الشيء الذي وجد أمه تضعه لها بعلبة القهوة وهند بالحمام منذ قليل ..ولم يفهم ما الذي سيفعله خاله ..لكنه يشعر أنه شيء سيئ وسيؤذى هند ..أخته التي يحبها جدا ويخاف عليها ....لقد فقد الأمل في تدخل شقيقه الأكبر حسين الذي حاول إخباره بما سمعه ..لكنه نهره ولم يعطه فرصة للحديث ..وكاد أن يفضح الأمر وهو ينادي أمه مخبرا إياها أن حسن يريد إخباره بما قالاه هي وخاله وهو عندهم ..لحسن الحظ والدته كانت مشغولة بالمطبخ ولم تسمعه وظنتهما يتشاجران لتصرخ ناهرة كلاهما عن الحديث ..وهو أخذ يتوسل لحسين أن لا يقول شيئا وانه فقط كان يمزح معه ..ليتركه بعدها خارجا بحجة الذهاب للمذاكرة مع زميل له رغم انه يعلم انه يتسكع مع شلة فتية فاشلين ..يقف معهم على ناصية الشارع يضايقون الفتيات بكلام وقح في رواحهم وغدوهم.. ليلغي فكرة اللجوء له من تفكيره .. لقد حاول محادثة هند وتنبهيها لكن أمه كانت تراقبه باستمرار فلم يستطع الانفراد بها ..وأيضا هو خائف من أمه وخاله جدا.. مما يجعله متردد بقوة من أي محاولة للمخاطرة.. لكنه عاد للمحاولة ثانية عندما دخلت أمه لارتداء ملابسها فاقترب من هند ليقول بخفوت:
"هند لا تشربي من تلك القهوة ..إنها سيئة " لتضحك هند وهي تربت عليه:
"لا حسن إنها جيدة وتساعدني على التركيز ..هي فقط سيئة للصغار مثلك ولا تناسب صحتهم...ذكرتني ..سأقوم لوضع الماء ليغلي لأصنع كوبا أشربه بعد أن انتهي من الصلاة " ليحاول إفهامها مقصده وهو يتلفت حوله .. لكن صوت أمه الصارخ به بتحذير عنيف ونظرة مرعبة جعلته ينتفض فزعا ويتراجع للخلف خطوات
أخذت هند تنقل نظرها بينهما بتعجب ..لتقترب من أخيها أكثر وتلف يدها حول كتفيه وهي تسأل نبيلة بضيق:
"ماذا بك؟! لما هذا الصراخ على حسن؟! " لتقترب منهما وهى تنظر لحسن بشر بينما تسال بتوجس :
" ماذا كان يقول لك؟! "
لتنظر لها بتعجب وتجبها بسخرية:
"ماذا بك؟!! ..هل أخي ممنوع من محادثتي أم ماذا؟ ..لم يكن يقول شيئا فقط يخبرني عن دراسته "
لتتعجب أكثر وهي تشعر بارتخاء كتف أخيها التي شعرت بتشنجها منذ لحظات لتفاجأ بنبيلة تجذبه قائلة :
"هيا تحرك أمامي ..وتصرخ بعدها بصوت أعلى ..معاذ ..هيا أنت أيضا لألبسك ثيابك ..لا تدعني آتي إليك وأجرك من أمام هذا التلفاز" ليخرج الصغير متذمرا لمقاطعته حلقة برنامجه الكرتوني المفضل ..بينما تخبرها وهي تجر أخويها للحجرة معها ..حسين سيلحق بنا لهناك ..لقد أخذ مني مالا ليدفعه لحصة مراجعة للرياضيات ..سينهيها ويلحق بنا لبيت جديه ..لتظل هند تنظر لها للحظات بتعجب ..فمنذ متى تهتم نبيلة بإعطائها تقريرا عن خط سيرها هي أو أحد إخوتها ..لتهز كتفيها بعدم اهتمام ..وتتوجه للمطبخ لتصنع لنفسها كوب من قهوتها السريعة التي تعشقها ممنية النفس بسهرة هادئة تحاول بها تعويض تأخرها بالمذاكرة في الفترة الماضية ..لتذهب بعد وضع الماء ليغلي لتؤدي فرضها وتقوم بعدها بخلع إسدال الصلاة الذي ارتدت أسفله منامة قطنية قصيرة تصل لركبتيها بكم قصير وفتحة عنق متسعة قليلا ..لتذهب وتصب لنفسها كوبا كبيرا من القهوة ليساعدها على السهر والتركيز ..وما أن وضعته أمامها وهى تجلس على منضدة الطعام بصالة الشقة ليبرد قليلا ..حتى فوجئت بتلك النظرة المحدقة والغامضة من زوجة أبيها إليها والتي أشعرتها بانقباض لا تدري له سببا ..خاصة مع النظرة الحزينة الدامعة بعيني أخيها حسن والتي لا تدري إن كان سببها تعنيف أمه له ..أم أن هناك شيئا آخر يضايقه ...لتسمع بعدها صوت نبيلة الذي شعرته كفحيح أفعى تلتف حولها وهي تقول ..نحن ذاهبون ..أراكِ بخير "
ليرتفع حاجبا هند بذهول ..فهي لم تقل لها قبلا أراك بخير ..ولا تدري لما شعرتها تعني بها العكس ..لتهز رأسها مع صوت غلق الباب نافضة التفكير بنبيلة وأحوالها الغريبة محاولة التركيز بما أمامها من مراجع
---------------
أوقف السيارة على أول شارعهم وهو يلتفت لأبيه قائلا ..أنزل أنت هنا أبي ..و أسبقني للمنزل ..سأمر على العيادة أولا لأرى الإعلان الذي تركته هند لأعدل المواعيد به ثانية لبعد غد بدلا من غد ..فقد أبلغني الدكتور خليل أنه يريدني معه طوال يوم غد ولن أستطيع القدوم للعيادة ..ولا أحب أن اجعل هند تعود ثانية لتعيد كتابته وتعيد الاتصال بالحالات ..سأرى أنا كتيب الحجز واتصل بهم معدلا المواعيد "
ليهز أبيه رأسه موافقا وهو يقول:
"حسنا بني ..سأذهب للمنزل ..واحضر الأشياء التي طلبتها أمك وانتظرك لنعود معا لأخيك "
ليزفر أكرم بضيق ..وهو يقول لأبيه باستهجان:
"لا أدري سر تصميمكما أنت وأمي على المبيت مع سامح ..أنا موجود ..وهو بخير ..والحمد لله الحالة جيدة ولا تستحق هذا القلق ..كان يجب أن تستمعا لي ..وتعودا للمبيت براحة بمنزلنا ثم آتي لأخذكما له غدا "
ليربت أبيه على كتفه مبتسما وهو يقول برفق:
"أمك لم تكن لتوافق أو تطمئن وتستطيع النوم وهو بعيد عن عينها بعد ما حدث له ..وأنا لن أنام لوحدي بالبيت واتركها بالمشفى حتى بوجودكما معها .. سنستريح أكثر ونحن معا لا تقلق"
ليزفر أكرم بضيق وهو يقول بعدما أعيته الحيل ومحاولات الإقناع بلا طائل ..حسنا أبي ..لكن لا تنسى إحضار أدويتك وأدوية أمي ..نصف ساعة على الأكثر وسنعود معا ..ليترجل كلاهما من السيارة ..متوجها في طريقه
------------------
أخذت ترتشف كوبها ببطيء بينما تحاول التركيز ..كانت قد أنهت أقل من ربع الكوب أمامها ..عندما رن هاتفها لتزفر بعمق وهى ترى أسم أكرم يضئ الشاشة أمامها ..لتتردد قليلا قبل أن تجيب ..كانت تحاول التهرب من ذكراه ..وإجبار نفسها على عدم تذكر ما حدث صباح اليوم ..فهي تشعر بارتباك كبير ..وتشوش يكاد يثير جنونها خاصة مع شعورها بتغير أكرم تجاهها مؤخرا.. لتجيب هاتفة بصوت متردد ..ليأتيها صوت أكرم مشوشا وهو يخبرها عن ذهابه للعيادة لسبب ما ..كان الصوت يتقطع فلم تستطع أن تفهم منه ما يريد وسبب ذهابه للعيادة ..وهل يردها أن تذهب إليه أم ماذا ..لينقطع الخط ..فتحاول هي إعادة الاتصال أكثر من مرة بلا فائدة فتظل حائرة لدقائق عدة لا تدري ما التصرف الأمثل ..هل تذهب للعيادة أم تنتظره ليعيد الاتصال ..فتفهم ما يريد ..لكنها ارتكنت بظهرها لكرسيها وهي تشعر بارتخاء بدأ يزحف لجسدها مع شعور بالانتشاء والطفو ..حتى أنها بدأت تشعر بسعادة غير مفهومة تجعلها راغبة بالضحك ..لتحرك يدها بتثاقل لتصدم بكوب القهوة أمامها فينسكب على المحاضرات التي ظلت تنسقها وتجمعها لوقت طويل ..وبدلا من الغضب ومحاولة إنقاذها وجدت نفسها تنفجر ضاحكة وهي تراقب أوراقها تتشرب بالسائل البني ..كانت تشعر بحالة غريبة من الانتشاء جعلتها تتمايل على كرسيها وهي تدندن وتضحك بينما تنظر لهاتفها الذي عاد ليضيء باسم أكرم لتفتح الخط وهي تقول بمرح ضاحك ..أكرم هل عدت ثانية .. لتنفجر بالضحك بينما تسمعه يسألها بتعجب عن ما يضحكها لتقول له وسط ضحكاتها الرنانة:
"أنت ..أنت تضحكني ..وتؤلمني ..وتبكيني ..وتوجع قلبي". لتعود للضحك .. وهي تقول له بصوت مهتز دون اهتمام أو تركيز بأسئلته الصارخة بتعجب عن ما بها:
"أنا أرغب بالرقص سأقوم لأرقص قليلا ..وأيضا يبدو أن هناك من يفتح الباب .." ليسألها بتوجس عن نبيلة وأخوتها ..لتقول من بين ضحكاتها وصوتها المهتز جميعهم خرجوا سيبيتون لدى عائلتها.. وأنا وحدي تماما ..لأستمتع بالرقص ..وقهوتي سُكبت وأفسدت محاضراتي لتنفجر ..بالضحك من جديد ..بينما تقول وهي تنظر للباب الذي فتح بهدوء ..وسعيد شقيق نبيلة يفتح باب شقتنا ..ويدخل الآن ..لتسمع صراخه بها ..لكنها لا تنتبه لما يقول من بين ضباب عقلها و ضحكاتها المتواصلة ..بينما يختطف سعيد الهاتف مغلقا إياه وهو يسألها بتوجس عن من تحدثه لينظر للاسم على الشاشة بغيظ ...ليسحبها إليه محتضنا إياها بعنف وصوته يصل إليها بذبذبات مهتزة لا تجعلها تعي ما يقوله..
"يبدو أنني يجب أن انهي الأمر بسرعة ..كنت أتمنى أن أستمتع باللعب معك لأطول مدة ..لكن لا بأس فالقادم بيننا أكثر ..لكن الآن لننهي الأمر قبل أن يفاجئنا فارسك الهمام ..أتمنى فقط أن لا يكون التقط صوتي عبر الهاتف ..فلا أريد مقاطعات سريعة" ..... ليبدأ بجذب ياقة ثوبها لينزعه عنها.....
---------------------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أقنعة, المصرية, الأقنعة, الذكريات, الثاني, الجسم, بقلم, رغيدا, رواية, سلسلة
facebook




جديد مواضيع قسم رومانسيات عربية
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 06:44 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية