كاتب الموضوع :
سيمراء
المنتدى :
رومانسيات عربية
رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية
الفصل السابع
"يبدو انكِ متعجلة للتخلص مني ..عموما هو سؤال واحد أرغب بإجابته ..بعدها بإمكانك أن تذهبي للجحيم لو أردتِ ..فلن أهتم ..
نظرت إليه تسأله بلهفة حيرته وأربكته أكثر :
"ما هو السؤال؟!! ..اسأله بسرعة واغرب عن وجهي ..فأنا لا وقت عندي للحديث الطويل "
وقبل أن يرد عليها سمع صوتا يأتي من خلفه ..حيث كان ظهره للشارع فلم يلمح توقف السيارة البيضاء.. ولا خروج تلك السيدة التي يحفظ نبرات صوتها رغم مرور الزمن وهى تهتف:
"آسفة تقى ..تأخرت عليك ..بسبب ...
ليحدث الثلاث أمور في وقت واحد ..التفاتته ناحيتها محاولا تكذيب أذنيه ..سماعه صوت تقى وهي تهتف بجزع – خالتي – وسماعها هي ما أن أصبح بمواجهتها وهي تهتف بتوق – ياااااسر ...
أنفاسه تتهدج وهو يناظر وجهها العائد إليه من بين طيات ماضيه ..يقاوم نبض قلبه المنادي باسمها بلوعة الشوق ..يلجم يديه الراغبة بضمها لصدره بالضغط عليهما حتى كادت أظافره القصيرة تحفر عميقا بلحم كفه ..يكاد يختنق بأنفاسه التي تستنشق الهواء المحمل برائحتها المحببة ..يحارب بعضه بعضه بين نيران شوق وكره.. حنين وبغض... اشتياق واختناق ..ليصرخ بها هادرا ما أن اقتربت محاولة لمسه :
" لا تقتربي!! ...إيااااكِ !..إياكِ أن تجرئي وتلمسني يدك المدنسة" ..ليرى ارتعاشه يدها المعلقة بالهواء.. قبل أن يلتفت مبتعدا ... يهرول كما لو كانت تطارده شياطين الجحيم باتجاه دراجته ..يهرب منها قبل أن يفقد تماسكه ويرتمي بين ذراعيها المعلقين بالهواء تعلق قلبه الخائن بها ....يمنع نفسه من التأثر بالدمعات التي لمحها تترقرق بعينيها قبل استدارته ..يغمض عينيه ليهرب من صورتها التي ارتسمت خلف جفنيه رغما عنه وهو يقارن ملامحها الآن بملامحها المحفوظة بداخله قبل سنوات عشر.. رغم محاولته ادعاء النسيان .. يطير بدراجته مسابقا الريح التي تبدو كما لو كانت تشبعت برائحتها ..فتضربه النسمات حاملة عبيرها إليه ..رغم ما يضعه بينهما من مسافات ...
-----------------
أغلقت الهاتف بضيق يبنما تفكر بوضع مهينار ..كم تشعر بالشفقة على هذه الفتاة ..لا تنكر أنها في فترة ما كانت ميالة لتزويجها من خالد ..ليس فقط لمجرد رغبتها بتزويجه من فتاة مناسبة تعرفها جيدا وتعرف أخلاقها ..ولا لأنها واثقة أن ماهي تختلف جذريا بطباعها عن والدتها ...وأنها تحمل الكثير من طباع وأخلاق أبيها عز الدين ..لكنها أكثر منه قوة في مواجهة الصعاب ..رغم أن ماهي نفسها لا تعي مدى قوتها ..لكن جزء كبير من رغبتها كانت راجعة لشفقتها على الفتاة نفسها ...فأخيها لاهي ومبتعد عنها ..وأمها أنانية ..وتعاملها كبيدق في خططها التي ترسمها للوصول لثروة خالد ..هي لم تكن جاهلة بنوايا شقيقة زوجها ..لكنها فقط كانت تتجاهلها ..لأنها واثقة أن ماهي ليست مسؤولة عن نوايا والدتها ....
لكنها لا تنكر سعادتها بوقوع خالد بالحب ..واختياره لهمس التي اكتسبت محبتها.. و التي زادت مع قربها منها ...رغم بعض الاختلافات والمشاحنات التي لا يخلو منها منزل...خاصة مع اختلاف الطباع والنشأة بينها وبين خالد .. إلا أنها أثبتت نعم الكنه ..أخرجها من شرودها صوت همس السائل:
"ما بك ماما سمية ..شاردة ويبدو عليك الضيق ..هل هناك ما يزعجك"
لتتنهد بعمق متجاهلة الإجابة بينما .. تسألها بصوت منخفض بينما تتلفت حولها باحثة عن ماهي:
" أين ماهي ؟! ألم تكن معك؟! "
لتجيبها همس دون أن تحيد بعينيها عنها كما لو كانت تحاول أن تستشف سبب ما يبدو عليها :
"نعم لكنها أرادت الجلوس بالحديقة قليلا ..وشعرت أنها ترغب بالانفراد بنفسها فتركتها ودخلت "
لتتمعن بوجهها وهي تكرر سؤالها :
"ما بكِ ماما ؟!! هناك ما يضايقك ..أخبريني ربما استطيع أن أساعدك؟!! ..أهو أمر يخص خالد ؟!! فانا اشعر به ضائقا منذ فترة ..وكلما سألته تهرب من الإجابة ..وقد بدأت اشعر بالقلق فعليا "
لتلتفت لها سمية وهي تسألها بانتباه :
"ما به خالد ؟!! أنا أيضا اشعر انه يبدو شاردا وهناك ما يشغله من عدة أيام ؟!!
لتتنهد همس وتزفر بضيق:
"أنا من أسألك ماما !! فأنا لا أعرف ما به ..وهو لا يخبرني شيئا ..ظننتك تعرفين ..وهذا سبب شرودك وضيقك ؟!!"
لتجبها سمية نافية :
"كلا عزيزتي...بل ضايقتني مكالمتي لوالدة ماهي رقية ..عمة خالد ...لقد ظننتها ستهرع عائدة فور علمها بما حدث لماهي ..وعندما لم تحضر طوال الفترة السابقة ..هاتفتها لأعرف سبب تأخرها بالقدوم ..لتفاجئني ببرودها.. وإخبارها لي أنها لن تعود حاليا ..بل ستمد إجازتها أكثر ..حيث ستسافر غدا مع صديقاتها لباريس لحضور أسبوع الموضة هناك وقد تمتد إقامتها هناك لفترة أطول ..دون أن تأتي حتى للاطمئنان على ابنتها ..مكتفية بالقول أنها اطمأنت عليها مني ..وان اهتم بها لحين عودتها "
لتعقد همس حاجبيها وهى تقول بغيظ:
"أي أم هذه ؟!!! إجازاتها وسفرها أهم لديها من الاطمئنان على ابنتها... التي تعرضت لحادثة ..أين لهفة وقلق الأم .. لو أنها أمي لتبرأت منها ..ولقمت بقص وتقطيع وإفساد كل ما ستحضره من باريس ..حتى لا تفضل الموضة على الاهتمام بي"
لتنطلق ضحكات سمية وهي تهتف :
"يا الهي يا همس!!! ..أظنك بالفعل كنت ستفعلينها ..لكنك لا تعرفي عمة خالد ..هي من النوع شديد الاهتمام بالمظاهر ولو على حساب أبنائها "
لتزفر بحيرة وهي تكمل:
"المشكلة الآن!!.. كيف ابلغ ماهي بسفر أمها دون أن تأتي للاطمئنان عليها ...بالأساس ..أنا ما زلت حائرة في أسباب انقطاع التواصل بينهما ..فكل منهما لا تتحدث مع الأخرى مباشرة ..يبدو أنهما متشاجرتان لسبب ما ..وكنت آمل أن أحاول الإصلاح بينهما ..رغم جهلي بسبب الخلاف عندما تحضر ..الآن لا اعرف كيف أخبر ماهي بسفر أمها دون حتى أن تحاول محادثتها مباشرة "
ليقاطعها صوت ماهي قادما من باب الصالون وهي تقول بنبرة يظهر بها الألم رغم محاولتها ادعاء البرود واللامبالاة:
" لا داعي لإبلاغي شيئا لقد سمعت جملتك وأنا داخلة الآن "
لترتبك سمية وهمس قلقا من أن تكون ماهي سمعت حوارهم من بدايته لكنهما شعرتا أن ماهي لم تسمع الحوار كاملا ..بل غالبا الجزء الأخير فقط ..لتقف سمية مواجهة لها محاولة تبرير موقف أمها الغير مبرر :
" ماهي صغيرتي ..اعذري والدتك ..لقد كانت راغبة بالقدوم ..لكني طمأنتها انك بخير ..وإصابتك طفيفة ...وأن لا داعي لإلغاء حجز تذاكر سفرها وترتيباتها المعدة مسبقا ...لأنك ستبقين برعايتي حتى تكون مطمئنة عليك "
لتلتوي شفاه ماهي بابتسامة مريرة.. بينما تلتمع عينيها بدمعات أبت أن تترك لهم حرية النزول .. وتميل ناحية زوجة خالها مقبلة وجنتها وهي تقول برقة :
"ما أطيب قلبك خالتي سمية !!...لا تشغلي بالك بمحاولة إيجاد تبريرات لأمي الغالية ..أو محاولة تجميل و مداراة موقفها فلم يفاجئني عدم قدومها بل كنت متوقعة إياه "
لتنظر لها سمية بحيرة وهي تسألها :
" هل تشاجرتما معا قبل سفرها ؟!! لماذا هذه القطيعة مع أمك يا ابنتي؟!! ...مهما حدث بينكما تظل أمك ..ولا يجب أن تجافيها "
لتزفر ماهي أنفاسها بعمق ...بينما ظهر الألم جليا على ملامحها وهي تجيب:
" لا تقلقي خالتي ..لا يوجد شجار ولا قطيعة ..كل ما في الأمر مجرد خلاف بوجهات النظر حول أولويات الحياة ...التي اختلفت رؤانا حولها ..وتعرفين أمي .. لا تتحمل أو تقبل أن يخالفها أحد رأيها فتتخذ موقفا ضده ..لكن الأمر بسيط وسيزول بعد عودتها فلا تقلقي ..وأسمحي لي أن اصعد لترتيب حاجياتي ..للعودة لمنزلي ..فقد تحسنت صحتي وبت أفضل ..وقد أطلت المكوث لديكم.."
لتقاطعها سمية وهمس معا بصوت واحد مستنكر :
" بالطبع لن نقبل - لا يمكن أن تذهبي "
لتقترب منها همس التي كانت تتابع حوارها مع حماتها بصمت ..بينما يلفها شعور بالحزن على تلك الفتاة الرقيقة التي تشعر أنها وحيدة ...رغم ما يحوطها من معالم الترف والمال ..فهي تكاد تلمس ألمها ..لتحمد ربها بداخلها على أسرتها الطيبة المتحابة ..التي دوما ما أحاطتها بكل الحب والرعاية رغم ضيق الحال ..لكنها أبدا لم تشعر بوحدة أو احتياج لأنهم دوما معها وحولها.. ما زاد من مشاعرها بالعطف نحو ماهي .. لتقترب منها و تلف يديها حول جذعها تعاتبها بمحبة:
" كيف تقولين أنك أثقلت علينا؟!! ..أهناك فتاة تثقل على أهلها عندما تبقى معهم ..أليس خالد كشقيقك ..وأنا وأنت صرنا صديقتين مقربتين رغم فارق الطول بيننا "
قالتها بجدية وهى تشير بيدها على الفارق الكبير بينهما بالطول مما جعل الابتسامة تظهر على وجه حماتها وماهي ..لتكمل هي :
"اسمعي يا فتاة ..هذا منزلك قبل أن يكون منزلنا .. ونحن لا يوجد لدينا فتيات يعشن وحدهن ببيت خالي "
لتقاطعها ماهي بحرج :
"البيت به الخدم والحارس "
لتعترض همس بصوت مستنكر :
"أي خدم وحارس؟!! ..إن وجودهم مدعاة للقلق أكثر من عدمه ..اسمعي... هذا الأمر محسوم ..لا خروج من هنا إلا بعد عودة والدتك أو شقيقك من السفر ..لن تبقي وحدك بالمنزل ..ولا أظن خالد سيقبل بذلك "
"بالتأكيد خالد لن يقبل بذلك "
فاجئهم صوت خالد العائد من عمله ..والذي اقترب مقبلا جبهة همس ووالدته ومحييا ماهي ..بينما يكمل سائلا:
" فقط لو أخبرتموه ما هو الأمر الذي لن يقبل به وتؤكده زوجته العزيزة "
لتخبره والدته بسفر عمته ورغبة ماهي بالعودة لمنزلها.. واعتراضها هي وهمس على بقائها وحدها هناك .. ليعقد خالد حاجبيه وهو يؤكد بصوت صارم :
" بالتأكيد لن أقبل ..ولن تعود ماهينار لهناك وحدها ، هذا أمر مفروغ منه "
..ليقاطع محاولتها للاعتراض ..بحزم هادئ ... ولا مجال للاعتراض أو المناقشة
لتخفض ماهي رأسها بقبول فاتر.. بينما تنسحب معتذرة عن العشاء لرغبتها بالنوم .. والتي شعرت همس أنها مجرد حجة للتهرب منهم.. حتى تخفي تلك الدمعات التي تهدد بالنزول أمامهم لتطلق لها العنان بغرفتها وحيدة ..
---------------------
كان جالسا بسيارته التي ركنها خلف سيارة أخرى بشارع جانبي لكنه يتيح له رؤية مدخل المجموعة والشارع المواجه دون أن يراه الخارج من بوابتها ...لقد حاول المقاومة ...يا الله كم حاول المقاومة ..الهرب.. منع نفسه من الانتظار ...لكنه لم يستطع ...عشر سنوات مرت منذ آخر مرة وقعت عيناه عليها مباشرة ...رغم محاولتها التواصل معه عدة مرات ..لكنه أبى الاستجابة لها ...كان يغلق الهاتف بوجهها كلما اتصلت ...يرفض فتح باب الشقة ما أن يسمع دقاتها ويراها من ثقبه.. فينهرها طالبا منها الذهاب منعا للفضائح ...حاولت توسيط بعض المعارف والأقارب .. دون أن تخبرهم سبب الخلاف ليسمح لها بلقائه أو لقاء ياسر ...لكنه رفض .. وقام بتطليقها غيابيا وإرسال الأوراق على عنوان منزل أسرتها.. الذي علم أنها تقطن به ...كما أرسل لها كامل حقوقها لديه من مؤخر ونفقة ومبلغ مالي يوازي قيمة قائمة الأثاث ....مع تحذير بألا تحاول الاقتراب منه ..أو من ياسر ..
هو أيضا لم يخبر أحدا بالسبب الحقيقي للانفصال!! ..وكيف يمكن أن يفعلها؟؟!! ...كيف يهين نفسه أمام الجميع؟؟!! ..كيف يكسر ابنه بتشويه سمعة أمه بعيون الناس ؟!!...لذا.. اكتفى بكلام مرسل لكل من توسط محاولا التوفيق أو السؤال عن السبب ..عن وجود مشاكل وخلافات يستحيل معها العشرة بينهما دون تفاصيل ......
لمح تقى تخرج من باب المجموعة وهي تتحدث بالهاتف وتتلفت حولها تبدو بانتظار احد ما ...ليرى اقتراب ابنه ياسر منها ...ورغم أنه يعطيه ظهره ..لكنه شعر بغضبه وتوتره من وقفته وتشنج جسده الواضح ..ويبدو أنهما كانا يتجادلان.. لحظات مرت قبل أن يلمح توقف تلك السيارة البيضاء الصغيرة...بجوارهما ..لتترجل منها تلك الفاتنة الأنيقة .. التي ترتدي ثوبا بلون السماء مطبع عليه ورود صغيرة بيضاء ..وفوقه جاكت صغير من خامة الجينز.. يعلوه حجاب ابيض زادها بهاء لدرجة خطفت دقات قلبه... يا الله ما زالت رغم السنوات والجرح الذي أدمى روحه ...كرامته ...رجولته ...قادرة على إثارة الفوضى بمشاعره ..ما زال قلبه يهفو إليه وترتفع نبضاته وتزداد دقاته ..تماما كما رآها لأول مرة ..مراهقة صغيرة لم تتعدى السادسة عشرة من عمرها ... ورغم تغيرها كثيرا عن ما مضى حيث اكتسبت هالة من الهدوء ..إلا أنها على ما يبدو ما زالت تحمل نفس الشعلة التي لم تحملها غيرها يوما والتي تضئ دواخله بقدرة تمتلكها وحدها ...
انعقد حاجبيه وتوترت جلسته عندما رأى رد فعل ياسر المصدوم عندما استدار ورآها .. ليدير سيارته ناويا اللحاق به عندما لاحظ انفعاله وتركه لهما مهرولا باتجاه دراجته ..لتحيد عينيه ناحيتها بنظرة أخيرة ..فينتفض قلبه فزعا وتضغط قدماه على الفرامل تلقائيا ..ليوقف السيارة بصورة حادة وينزل منها مهرولا ناحية تلك الصارخة.. التي تسند خالتها الفاقدة للوعي بين ذراعيها..ليصل إليهم في نفس توقيت خروج بعض حراس الأمن الذين سمعوا صرخة تقى وجاءوا مهرولين للمساعدة ..ليصرخ ناهرا احدهم عندما رأى يده تمتد محاولا إسنادها :
"دعها !! أنا من سيحملها "
...ليتراجع الفتى ناظرا له بدهشة دون أن يهتم هو ...يعرف أن الشاب يرغب بالمساعدة لا غير ...لكنه لم يستطع أن يتحمل رؤية يد رجل تلمسها !!..ليسحبها من بين ذراعي تلك الباكية ويحملها رغم الألم الذي يعانيه وأنفاسه التي تخرج بصعوبة ممزقة صدره ..ليقول بصوت متقطع بينما يتحرك باتجاه سيارته :
" الحقي بي سنذهب بها لأقرب مشفى بسرعة "
كان كلاهما يقف بقلق أمام حجرة الكشف ..تقى تبكي وتدمدم بكلمات غاضبة.. ناعته ابنه بمختلف أنواع الشتائم ..وملصقة به كافة نقائص الكون....دون أن يهتم هو بمحاولة الرد عليها أو الدفاع عنه ..كانت كل حواسه مع تلك المستلقية على سرير الفحص ..يفصل بينهما جدار من الحجارة والسنوات والجروح ..ورغم ذلك يعرف أنه لن يتحمل الحياة أن غابت أنفاسها عن دنياه ..رغم البعد ..الرفض ..الهجر ..لكنها ستظل أكسجين الحياة له ..حتى لو استنشقه عبر المسافات ...
خرج الطبيب ليهرع كلاهما إليه لتسأله تقى عن حالتها ..فيجبها أنهم حقنوها بمهدئ ..وتم إضافة علاج لخفض الضغط وتنظيم ضربات القلب بمحلول علق لها ... حيث كانت ضربات قلبها غير منتظمة نتيجة الارتفاع الشديد بالضغط ..لتخبره أنها تعرضت لموقف سيئ وانفعال شديد ..فيؤكد عليها الطبيب ضرورة إبعادها عن أي انفعالات ..والاهتمام بأخذ أدوية الضغط بأوقاتها وإلا ستكون معرضة للإصابة بجلطة بأي وقت ..
ورغم التزامه بالصمت ..ومحاولته الحفاظ على ملامحه خالية من التعبيرات ...لكنه كان يتابع كلمات الطبيب بتركيز وهلع داخلي ..حبيبته مصابة بضغط مرتفع مزمن ..ومعرضة للإصابة بجلطة بأي لحظة!!! ...حبيبته مريضة وتعاني !!!..وهو غير قادر على مساندتها ...على الاقتراب منها !!..يمنعه عنها أغلال من نار الغيرة ...وقيود غزلت من دماء رجولة مهدورة ...وسلاسل من أيام وشهور وسنوات من البعاد والابتعاد !!..
رأى ابتعاد الطبيب بعد أن أوضح أنها نائمة نتيجة المهدئ ..وستستيقظ خلال ساعتين تقريبا ...وبإمكانهما أن يخرجاها بعدها إن أرادا....أو الأفضل إبقائها الليلة تحت الملاحظة ...ليسمع تقى تخبره أنها ستخرجها فهي تكره البقاء بالمستشفيات ...وستهتم بها بالمنزل ...
لتلتفت بعدها إليه شاكرة وجوده قبل أن يسمعها تسأله وهى تفتح باب الحجرة خلفها إن أراد الدخول إليها معها؟!!
....يا الله ..الدخول إليها ...رؤيتها عن قرب ...لمسها ..استنشاق عبيرها !!...كم يتمنى لو يقبل ...لو يتغاضى عن كل شيء ويدخل ...لكن يظل الماضي والجرح حائلا بينهما ..وتظل كرامته وكبريائه أقوى من رغبات القلب ..ليهز رأسه بالنفي وهو يجبها أن لا داع لإزعاجها ..وانه سيطلب لهم سيارة أجرة تنتظرهم أمام المشفى لإعادتهما لمنزلهما عندما تفيق خالتها.....لترفض هي شاكرة أنها ستتصرف... وقبل أن يجادلها اقتربت إحدى العاملات تطلب من أحدهما الذهاب لاستكمال البيانات ودفع الحساب ..ليهم هو بالذهاب معها... ليفاجئ بيد تقى على ذراعه تمنعه وهي تقول له بارتباك وإحراج :
"أعتذر عماه!! ...لا استطيع أن اقبل أن تدفع أنت حساب المشفى"
هم بمجادلتها لترفع يدها بهدوء قائلة :
" .أرجوك لا تجادلني ...لم يعد يربطك بها شيء يتيح ذلك!! ..ولن تقبل هي عندما تستيقظ ..وقد تغضب مني! ...كما أن الأمر بسيط وسنخرج بعد قليل ..فالمبلغ لن يكون شيئا يذكر "
لم تدع له فرصة للجدال واتجهت لأخر الرواق بصحبة العاملة ..ليجد نفسه أمام الباب نصف المفتوح والذي كان يهرب من النظر من خلاله وهي أمامه ..لتعانده عينيه وتلتقط نظرة منها ..ليجد قدماه تأخذه إليها رغما عنه ليدفع الباب قليلا ويدخل مغلقا إياه خلفه ..
كان يقترب من السرير الأبيض الصغير المستلقية فوقه بشحوب ..لتخذله ساقاه ما أن اقترب ولامست ركبتيه حافة الفراش ..ليسقط راكعا على ركبتيه مستندا بأصابعه على حافة الفراش حيث تستكين أناملها ..لتزحف أنامله كما لو كانت ذات إرادة مستقلة ملامسة إياها ..لتندلع بداخله رعشة شملت كامل جسده.. جعلته يطبق أنامله بقوة مبعدا إياها عن أناملها... دون أن يبعد كفه بالكامل ..كما لو كان راغبا ببقائه قريبا منها رغم عدم قدرته على تحمل لمسها...فيكفيه مجرد القرب!! ..كان وجهها النائم مائلا باتجاهه مما سمح لعينيه بالنظر إليها .. والتدقيق بملامحها الشاحبة
...ورغم أن الزمن ترك بصماته عليها فقد نحلت ..وفقد وجهها استدارته المحببة وظهرت الأخاديد حول فمها وعينيها .. وضاع وهج البريق الذي كان يشع منها.. وبدت كما لو كانت شبحا باهتا لأثيرته الغالية في الماضي ..تلك التي طعنت رجولته في مقتل....إلا أنها ما زالت قادرة على رفع حرارة جسده ومعدل نبضاته ...كما لو كان موشوما بها رغم كل ما حدث! ..
لقد ماتت روحه في نفس اللحظة التي طردها فيها من حياته ..لتخرج مصطحبة أنفاسه وضحكاته ورغباته الحسية معها... ليبقى بعدها جسدا هائما باردا ..فاقدا للهوية ..مغتربا داخل وطنه ..وهل يحيى الإنسان بلا هوية أو عنوان؟؟!! ...
هي كانت عنوانه !! ..وكانت تاريخه ..هي كانت بدايته ونهايته ..فكيف يمكن أن يسامح القاتل من قتله .. ربما لو كان هو القتيل وحده لاستطاع الغفران ..لكنها قتلت من هو أغلى عنده من نفسه ...قتلت حبيبته بداخله ..قتلت براءتها.. طهارتها ..إخلاصها ....فلا تستحق إلا أن تشنق على باب قلبه وتلقى جثتها خارج حياته ..وتدفن بأقصى مكان لا تصل إليه عينيه أو ساقيه ..ليقف بسرعة مستندا على حافة الفراش محاذرا لمسها .كي لا يضعف ..ليلتفت مغالبا نفسه ...وهذا الألم الذي يشق قلبه مهددا بتوقف نبضاته.. وتلك الدموع التي ملئت مآقيه ..تاركا إياها ..وخارجا من غرفتها ..ومن المشفى بأكمله ..دون أن يحاول الالتفات ....
------------
كان يدور حول نفسه بحجرته كالأسد الغاضب المحبوس داخل قفص ..لكنه قفص جدرانه من أفكار وذكريات ..ذكريات تقتحم عقله رغما عنه
..ذكرى ضحكات ..مشاغبات ....يرى نفسه طفلا ينام بحضنها ..وهي تقص له حكايا عن الأمير الوسيم ودوما ما تجعل اسم الأمير ياسر ..يراها تطارده باركان الشقة لتمسك به وتدغدغه حتى تنهمر دمعاته من شدة الضحك ..يراها تحضر له شطائره وتجلس بجواره تؤازره وتساعده في استذكار دروسه ..يراها تموت قلقا في انتظار نتيجة اختباراته ..يراها تصنع له وجباته المفضلة ..حلواه المفضلة ..تستمع لمقالبه مع زملائه ..بل وتخطط معه للمزيد منها ..لتضيع كل تلك الصور ..برؤيا أخيرة ..لخطاب بيد والده ... يحمل بين حروفه دليل خيانة ..ودموع عيناها وصمتها تثبت الجريمة ..ليدور حول نفسه يشد خصلاته بيديه ويصرخ بصوت مقهور:
"آآآآآآآآه ...لماذا عادت؟ ..لماذا عادت ؟!..لا ..لن أسمح لها بأن تعود ..لابد أن تبقى كما كانت طوال السنوات الماضية ..غائبة عن حياتنا ..هي ماتت ودفنت ..والموتى لا يعودون .. ليرتمي جالسا على فراشه رأسه محني ويديه ملتفة حول رقبته ..ودموعه تنهمر رغم عنه ..ليسمع صوت إغلاق الباب الخارجي ...يبدو أن أبيه عاد ..لا يعرف هو أين كان ..ولا يهتم بأن يعرف.....فهو غير راغب أو قادر على مواجهته الآن. .. ليرتمي على الفراش بوضع جانبي ملتف حول نفسه ويعطي ظهره لباب الغرفة ..مدعيا النوم قبل لحظات من شعوره بأبيه يفتح باب حجرته ويقف لثواني أمامه ..ثم يغلقه ثانية بصمت ..فينقلب هو على ظهره فاتحا عينيه ..لافا ذراعه حول رأسه مفكرا.. بأنه لن يقبل بأي صلة تسمح لها بالولوج لحياته ثانية ..وخاصة لو كانت هذه الصلة تتمثل بفتاة وقحة تضع نفس العطر ولها نفس الاسم..و العينان الخائنتان... وتربطه بها قرابة لا يرغب بها ..فلن يسمح بأن يكون هناك أي تواصل بينهما
..............
تسير بسرعة بشارعهم رغم إرهاقها الشديد ..تمني نفسها بحمام سريع وقليل من الراحة قبل موعد ذهابها للعيادة ..فاليوم كان لديها عدة محاضرات بالإضافة ..لتدريب واختبار عملي بالمشفى الجامعي ....وليلة أمس لم تنم إلا اقل من ساعتين تقريبا ..فقد استغلت ذهاب نبيلة مع أخيها الصغير معاذ لبيت أسرتها.. وذهاب حسين لأحد دروس التقوية ...وقضت وقتها تساعد أخيها حسن في فهم المسائل الحسابية وكيفية حلها وشرحت له أيضا النقاط الصعبة بمادة العلوم ..
لقد ادعى حسن انه يشعر بألم بمعدته .. ويرغب بالنوم حتى لا يذهب مع أمه ويبقى معها بالمنزل لتذاكر له ..ورغم أنها كانت بحاجة لهذا الوقت لمراجعة اختبار اليوم ..لكنها لم تستطع أن تخذله بعدما اتفقت معه ووعدته ..وحقا لم تندم رغم أنها اضطرت للبقاء دون نوم حتى الفجر لتعويض الوقت الضائع واستذكار دروسها هي ..لكن تلك الفرحة التي رأتها بعينيه ..وهذا الحضن الذي منحها إياه عندما استطاع فهم وحل المسائل الصعبة ..كان يستحق أكثر ..لتشق الابتسامة ثغرها ..لكنها ما لبست أن اختفت عندما لمحت عبلة.. مدرسته.. تقف بعباءتها السوداء ..وحجاب مماثل أمام باب بيتها الخارجي ..وتسمعها وهي تنهر طفلا يبدو من عمر أخيها ..لتقترب أكثر وتقف خلفها لتسمعها تقول للفتى الصغير:
"اخبر أمك أنها إن لم ترسل معك بالحصة القادمة حساب الحصص الفائتة ..بل وأيضا الشهر الجديد مقدما فسأطردك من المجموعة ..ولتقابلني أنت أو هي أن فلحت أو نجحت"
.. لترى الفتى يهز رأسه بإذعان.. بينما يردد أنه سيخبرها ..ليفلت يده منها وينطلق جريا كما لو كانت الشياطين تطارده ...وتلتفت هي لتبدو المفاجأة جلية على وجهها وهي تجدها خلفها ..لتلوي فمها بينما تحييها بضيق وتساؤل:
"مرحبا هند.. لما تقفين هكذا ؟!! أتريدين شيء؟! "
لتنظر لها هند بينما ترد التحية ببرود وتسألها بمكر:
" كنت أرغب أن آخذ رأيك بشيء يا عبلة "
لترفع عبلة حاجبها بتوجس وهي تسألها:
" تريدين أخذ رأيي أنا؟!! ..خيرا.. تفضلي أولا بالداخل "
لترد هي بخبث:
"أكيد أنت!! ..فأنت أكثر من سيفدني ..بما أنك صاحبة خبرة بالموضوع ..والأمر لا يستدعي الدخول ..شكرا لك "
لتميل رأسها بينما تحدق بعيني عبلة القلقتين وهي تكمل:
"في الحقيقة أنا أفكر أن أعطي دروس لأبناء الحي هنا.. خاصة طلاب المرحلة الابتدائية ..فأنت تعرفين أن الظروف أصبحت ضيقة بعد وفاة أبي ..والعمل بالعيادة لدى الدكتور أكرم لا يعطي عائدا جيدا ..لكني أظن أن إعطاء الدروس الخصوصية مربح أكثر ..ما رأيك؟!! "
لتتغير معالم وجه عبلة ..وتظهر علامات الغضب والرفض عليها بينما تجبها بحدة:
" أي دروس هذه ..ومن سيقبل أن يجعل فتاة لم تنهي دراستها بعد تدرس أبنائه ..وأيضا كيف ستفعليها وتتركين دراستك "
لتهز هند كتفيها وهي ترد بخبث:
" ومن قال أني ساترك دراستي ..فقط سأستبدل وقت العمل بالعيادة ..بإعطاء الدروس ..وبالنسبة لمن سيقبل؟!! "
اقتربت أكثر رافعة حاجبها بتعالي وهي تكمل :
" الجميع عزيزتي.. سيتمنى ويسعى أن أدرس أبنائهم ..وسيتوقعون ..أن يخرجوا من تحت يدي متفوقين مثلي ..وخاصة إنني سأجعل قيمة الدروس مخفضة عن باقي المجموعات الأخرى "
لتضع عبلة إحدى يديها بخصرها بينما تشيح بيدها الأخرى بوجه هند وهى تهتف بحدة :
"لا أنا لن أقبل بهذا ؟ أتريدين أن تقطعي عيشي.."
لتضيف بحقد نضح من بين كلماتها:
"ألا يكفي أنك بكلية الطب ..وفقط عامين وتصبحين طبيبة ..وتجمعين الأموال من العيادات والمستشفيات.. وحاليا لديك معاش أبيك ..وأيضا تعملين بعيادة الدكتور أكرم ..وتأتي بكل بجاحة وتخبريني أنك تريدين أن تغلقي باب رزقي أيضا ..والله لن يكون .."
كان صوتها بدء بالارتفاع لتقاطعها هند بحدة وهي تنذرها:
"لا داعي لتهديداتك الفارغة ..فلا رغبة لي بإعطاء دروس أو غلق باب رزق أحد ..حتى لو كان فتاة طماعة مستغلة مثلك "
لترفع يدها مانعة إياها من الرد وهي تضيف:
"لكني لن اسمح لك أن تضايقي أخي حسن ..وتجبريه على أخذ دروس لديك و إلا تضايقيه بالمدرسة حتى جعلته كارها لها ..ابتعدي عن أخي ..وليس هذا فقط ..بل إياك أن تتقصديه أو تضايقيه بأي شكل .. لا شأن لك بأخي ..لأبعد أنا عنك والغي الفكرة من رأسي "
لتقرب رأسها منها وهي تشير بسبابتها بوجهها وتكمل:
" وقسما بربي يا عبلة لو عرفت من حسن أنك ضايقته بأي شكل كان ...أو تلاعبت بدرجاته الشهرية ..أو آذيته بأي صورة ..لأجعلنك تجلسين على باب بيتك تشحذين تلميذا واحدا فلا تجديه.. ولو اضطررت لإعطائهم الدروس مجانا لتأديبك.. ابتعدي عن أخي ..ابتعد عنك"
لتتركها محتقنة الوجه وتكمل سيرها ..بينما تسخر بداخلها من فكرة الناس عن مكاسب الأطباء الصغار.. حيث يظنون أنهم بمجرد التخرج سيجمعون المال الوفير ..لتلوي فمها بينما تردد بداخلها المثل الشعبي ( الصيت ولا الغنى )..
لتلمح شقيقها حسن يقف أمام محل البقالة القريب من المنزل.. ينظر لها بقلق ..ويبدو أنه رآها تتحدث مع عبلة ..لتشير له خفية وهي تبتسم بعلامة النصر ..لتشعر بسعادته ونظرة الامتنان والثقة التي رماها بها ..مما أثلج صدرها وهي تدلف لداخل المنزل
---------------
مضجعه على سريرها تحاول النوم حتى تهرب من ألمها من إحساسها باليتم رغم وجود والديها على قيد الحياة ..من شعورها بالوحدة ....لتجد نفسها تشرد به وبالساعات التي قضتها لديهم ..كم كانت ساعات دافئة ..شعرت في تلك الفترة بدفيء وسعادة لم تشعر بها منذ سنوات طويلة ..لتجد نفسها تبتسم وهى تتذكر سجالتهم الكلامية طوال جلستهم ..
لم تكن تعلم أنه في نفس اللحظة كان هناك من يشاركها نفس الذكرى... بنفس اللحظة بينما هو مضجع على فراشه... لتتحد الذكرى بينهما معا.. فيتذكرا كيف كان يراقبها ما أن وضعت والدته أطباق الطعام أمامهم ..كان يجلس أمامها ...يكاد لا يرفع عينيه عنها ..يرفع حاجب واحد باستهزاء وترقب ..كما لو كان يقول لها اثبتي قدراتك ..لتشمخ بأنفها وهي تتحداه بنظراتها... وتمد يدها بالشوكة لطبق الكرشة ..لتشعر بارتباك فعلي فالقطع تشبه الجلد السميك ..وتأبى أن تقطع بسهولة ..وعندما حاولت قطعها بقوة فوجئت بها تخرج رذاذ أفسد بلوزتها التي حمدت الله على لونها الأسود الذي أخفى البقعة لحد ما .....
أخذ يضحك بخفوت وهو يتذكر محاربتها لقطعة الكرشة ..والتي لحظها اختارتها (أم الشلاتيت) تلك القطع التي تتميز بطبقات متعددة فوق بعضها ..لكنها تحدته لتبتسم ويبتسم معا في آن واحد ...والذكرى تمر بينهما ...عندما قررت عدم قطعها ورفعها كلها ووضعها بفمها ..لتلمع عينيه بالإعجاب ..وتنتشي هي بإحساس النصر... لقد أعجبها طعمها ..لكنها لم تغامر بأخذ أخرى ...وقررت الانتقال إلى طبق الممبار .. وعندما حاولت قطع جزء بسكينها وشوكتها فوجئت بتناثر حبات الأرز من داخله .. لتجده يضحك ساخرا بينما يرفع قطعة بيديه ويأكلها ..كان يقضمها بقضمات متتالية أجهزت عليها بثواني ,,لتضع شوكتها وسكينها جانبا وتأخذ قطعة مثله بيدها تأكلها بنفس طريقته ..وهي ترفع حاجبها وتنظر له كما لو كانت تقول له أنا استطيع مجاراتك ولن تهزمني ....
لم يستطع أن يكتم ضحكاته وخيالها وهى تأكل الممبار بيدها ..تمسك القطعة بين إصبعيها السبابة والإبهام برقة.. وتقتطع بفمها قضمات صغيرة ..وتنظر له كما لو كانت طفلة قامت بإنجاز وتنتظر الإطراء ..كم كانت رقيقة في أكلها لوجبة لا تصلح معها الرقة ..
لينقلب كلاهما على جانبه كما لو كان باتفاق مسبق وتستمر نفس الذكريات تسري بينهما ليتذكرا مشكلتها الكبرى ( الكوارع) لقد حاولت.. حقا حاولت أكلت بالبداية جزءا من الفتة الموجودة بالطبق ...لكنها ما أن حاولت أكل الكوارع حتى وجدت معدتها تنقبض رفضا.. ... لكنها تلك النظرات التي طاردتها هي ما جعلتها تحاول ..حاولت بالبداية مسكها بيدها مثله ... ففوجئت بها لزجة لدرجة أصابتها بالقشعريرة ..لتتركها وتحاول بالشوكة قطع قطعة صغيرة.. لكنها لم تستسغ طعمها.. لتلتفت حولها بحيرة فتجد العيون بأكملها مسلطة عليها ..يبدو أن التحدي بينهما لم يكن خفيا كما كانا يظنا ..بل لاحظه الجميع ويتابعونه بشغف كما لو كانوا يشاهدون مباراة قمة في نهائيات بطولة ..لتشعر باحمرار وجهها ..وتنظر له كما لو كانت ترجوه أن يخرجها من هذا الموقف المحرج ...
كم أنعشته نظرة الاستغاثة بعينها ..كما لو كانت تحتمي به من خجلها من نظرات أسرته... التي يبدو أن ما يحدث لم يكن خافيا عليهم ..كم أمتعه احمرار وجهها الشهي ..لكن أكثر ما أثاره هي تلك اللحظة التي قامت بها والدته بتقطيع جزء من الكوارع بيدها ووضعها بفمها وهى تقول :
"حبيبتي يبدو أنك غير قادرة على قطعها ..سأطعمك أنا "
وقتها انتظر ردة فعلها بتحفز ..كان كل ما فيه ينتظر كيف ستتصرف مع أمه ..وخاصة انه شعر بنفورها من الكوارع ..لكنها كالعادة فاجأته ....
ابتسمت بينما تتذكر تلك القذيفة التي كادت تسد بلعومها دون توقع من والدته وهى تحشر قطعة كبيرة من الكوارع بداخل فمها ..لقد قاومت شعورها بالتقيؤ ...ورسمت بسمة على وجهها وهي تشكرها وتحاول مضغ القطعة وابتلاعها ..فما كانت لتحرج تلك السيدة الحنون ولو قتلها الطعام ..ورغم كرهها لطعم الكوارع ..لكن شعورها بهذا الدفيء والاهتمام كان كافيا ليسعدها وينسيها طعمه ..كانت تضيف المزيد لطبقها ..وتربت على ظهرها ..وتحسها على أكل المزيد ..منذ كانت طفلة يغمرها حنان أبيها ..لم يكن هناك من يهتم بطعامها ..لتنظر إلي تلك السيدة بشكر .. وتوق .. وتمني ..كم تمنت أن تكون والدتها كمثل تلك السيدة ..بحنانها الغامر ..لتعود عيناها فترتطم بعينيه ..فتجد فيهما نظرة لم تفهمها شعرتها مزيج من فخر وإعجاب وحيرة وشيء آخر لم تعرف ما هو ....
أكثر ما أثار إعجابه وتعجبه ...تلك اللحظة عندما ابتلعت ما بفمها بصعوبة واستدارت لتشكر أمه ..عندها قرأ بعينيها مشاعر أربكته ..شعرها طفلة تهفو للحنان والاهتمام ..نظرتها لأمه كانت نظرة إعجاب وانبهار ممزوج بألم .. لم يجد فيها أي تعالي أو تكبر ..بل كانت طفلة رقيقة بعيون غائمة بالمشاعر... سرقت نبضة من قلبه رغما عنه ....لا يدري لما شعر لحظتها برغبة غامرة بأن يقوم ليضمها ويربت على رأسها كما لو كانت طفلته ويخبرها أن لا تخاف ..ليشعر وقتها بخبطة جعلته يكتم صيحة ألم وسباب .. وهو ينظر لهمس المجاورة له ..والتي لم تراعي إصابة قدمه ..بينما تميل عليه لتهمس بخبث عابث :
"كف عن النظر إليها وركز بطعامك ..لقد كدت تسبب لها عسر هضم بمراقبتها ..يكفي حرب التحدي والنظرات ..لقد انتهت المباراة وهي من فازت"
..كاد يرد عليها ردا يشفي غليله .. لكنه ما أن رفع رأسه حتى التقط تلك النظرة المتأملة له بعيني أبيه ..نظرة شعرها تعري روحه ..خاصة مع تلك البسمة بوجهة ..ليشعر أن الجميع يعلم بتخبطات أفكاره تجاه تلك الجالسة تتحداه بقلب بيته ووسط أسرته ....كانت الوحيدة الغافلة عن ما يحدث هي زوجة خالها .. التي كان كل تركيزها على كيف توائم بين أكل الطعام بالشوكة والسكين حينا .. وبيدها حينا آخر... وتبدو كما لو كانت في حالة تركيز قصوى على مهمة مصيرية .....
لم تعرف ما الذي قالته له همس ... لكنها لاحظت أنه كف بعدها عن النظر إليها مركزا بطعامه ..لتحمد الله بسرها ... فما كانت قادرة على إدخال المزيد لمعدتها التي بدئت تئن ..لكن لو خيروها بين تلك التقلصات التي عانت منها بمعدتها ساعات طوال... حتى بعد أن تناولت دواء مهضما ...وقرصا مسكنا للألم ...وبين أن تشاركهم تلك الوجبة والجلسة الرائعة التي تبعتها... حول أكواب الشاي ..وسط مشاحنات همس وسامح ...ومداعبات أبيهم واهتمام وحنان أمهم ..لاختارت أن تنقل للمشفى بتسمم لو كان المقابل تكرار هذه الجلسة ..ليتنهد كلاهما بعمق ويطفئا الضوء ليذهبا لعالم من الأحلام لم يخلو من وجود الآخر به
--------------------------------
يمسك بملف لأحد المرضى يراجع تطور الحالة به ..بينما يتجه لمكتب الدكتور خليل المنعزل عن غرف المشفى بآخر الرواق.. بالدور الذي يضم غالبية مكاتب الإدارة والحسابات ..والتي خلى اغلبها من العاملين بهذا الوقت.. حيث أنها ساعة الراحة ..كان يرغب أن يناقشه حول الوقت الأنسب لإجراء الجراحة لمريض لديهم بحالة حرجة ..
وقبل أن يصل لباب مكتبه بعدة خطوات فوجئ بالباب يفتح بعنف ..ليصله صوت حماه منفعلا وهو يقول بحدة:
"اخرجا حالا من هنا.. وإياكما أن تعودا ثانية وإلا طلبت لكما الأمن ليلقيكم خارجا.... ولا تظنوا أن صلة القرابة المزعومة بيننا ستمنعني ..أنا لا أقارب لي.. دفنتهم جميعا في نفس اليوم الذي دفنت به أمي ..وقبلها أختي اللتان قتلتماهما بأفعالكم الحقيرة واستغلالكم لهما ..لا تظنوا أني نسيت يوما أو سأنسى ما فعلتموه بهما وبي .."
ليقترب خطوة من باب الحجرة دون أن يكون ظاهرا لهم ليلمح من الباب المفتوح رجلين احدهما يبدو شابا في عمر مقارب له.. يرتدى قميصا وبنطالا متوسطي الجودة بلون اسود ..والأخر يرتدى جلبابا ريفيا بسيطا وغطاء رأس ( طاقية)..ويبدو رجلا كبيرا .. ربما بالسبعين أو أكثر وجهه مليء بالتجاعيد ..و ملامحه حادة صلبة لا تشي بالراحة ..ويستند على عصى خشبية بيد وعلى الشاب المجاور له بالأخرى ..
ويسمع العجوز يرد على الدكتور خليل بصوت خشن حاد تقطعه بعض حشرجات تبدو ناتجة عن كثرة التدخين :
"أتظن لأنك أصبحت غنيا !!..وتملك مشفى !!و مالا وفيرا ..بإمكانك التعالي علينا ..وإنكار فضلنا عليك يا ولد؟!! "
كان على وشك التدخل وطردهم خاصة بعدما رأى احتقان وجه أستاذة لتوقفه جملة العجوز:
"أنا عمك الكبير .. شئت أم أبيت ..لولا سماحي لك ولأمك بتركك تتعلم ما وصلت لما أنت فيه ..أنت مدين لنا!! ..ويجب عليك رد الدين "
لم يكن أيا من الواقفين قد انتبه له حتى اللحظة ..ومنعته جملة "أنا عمك الكبير " من التدخل رغم قلقه على الدكتور الخليل الذي لم يره يوما بمثل هذا الغضب وتلك الثورة ..خاصة عندما سمعه يصيح بصوت مرتفع :
"أو تجرؤ يا هذا على ادعاء حق أو فضل لكم عندي ؟!!! أي حق هذا.. ها ؟!! ..حق تزويجكم لأختي طفلة بأمر منك!! لأبنك العاطل الحقير الذي كان يضربها ليل نهار ..ويجعلها تعمل بالحقول حتى وهي حامل وضعيفة "
ليقاطعه العجوز بصوت حانق:
"كل الفتيات وقتها كانت تتزوج صغيرة ..والفتاة تزوج لابن عمها ..هذه تقاليدنا التي تريد أنت الخروج عليها "
ليضحك الدكتور خليل ضحكة مبتورة تحمل من الألم الكثير وهو يجيبه هازئا:
"وهل التقاليد تقول أيضا أن تنفق هي عليه ..وأن يضربها ليأخذ ما تكسبه من عملها بالحقول ..حتى ماتت نتيجة ضربه لها عندما أنفقت بضع قروش قليلة من أجرتها .. لتشتري لنفسها قطعة حلوى اشتهتها "
ليتحشرج صوته بينما تمتلئ عيناه بالدمع وهو يكمل :
"..ابنك قتل أختي لأجل قطعة حلوى حقيرة ثمنها قرشين ..وانتم وقفتم تشاهدوه وهو يضربها دون أن يحرك أحد منكم ساكنا ...استغللتم ضعفي وصغر سني لمنعي من حمايتها.. أنت يا من تدَعي انك عمنا الأكبر.. أمسكتني لاويا ذراعي مانعا إياي من الاقتراب منها لإبعاد ابنك ..وأنت تصرخ بوجهي..- دعه يا فتى يربيها إنها زوجته ، يحق له أن يفعل بها ما يشاء - ..بينما تضحك زوجتك اللعينة وهي تهتف به أن يكسر لها أضلاعها ..حتى نزفت أمام أعينكم !!..وماذا فعلتم ؟!!..بدلا من محاولة إنقاذها.. ونقلها للمشفى أو إحضار طبيب لها ..خفت على ولدك من أن يتعرض للمسائلة ..فأحضرت تلك الداية الحقيرة ..لتموت بين يديها من الألم والنزف....وادعيتم انتم كذبا لدى عودة أمي من عملها بالحقل ... أنها سقطت من السلم وهي صاعدة لإطعام الدجاج...."
لتتهدج أنفاس الدكتور خليل أمام عينيه الذاهلتين لبشاعة ما يسمعه وهو لا يصدق ..أن هناك أُناس بهذه القسوة وهذا الجبروت والجحود ..بينما يسمع صوت أستاذه الذي ملئه الألم يضيف:
"ما زال الحبل الذي ضربتني به لتجبرني على الصمت وعدم التفوه بكلمة.. تاركا أثارا لم ولن تمحى من عندي .. ولو محت السنين العلامات من فوق الجسد فالعلامات المحفورة في عقلي وروحي لن تمحى "
ليصدر عمه صوتا كالشخير وهو يجبه بلا مبالاة :
"انك تضخم الأمر ..هو عمرها... وأجلها كان قد حان ....هل كنا نقصد أن تموت ؟!! عمرها ..وقد انتهى !! فما ذنبنا نحن...أتحملنا أمر قضاء الله يا ولد...كل النساء يضربهن أزواجهن ليربوهن إن أخطأن ...ولا يحدث لهن شيء ..هي من كانت نحيلة ومريضة ولا تصلح لشيء كأمكما"
..ليهتاج الدكتور خليل ويهجم عليه محاولا ضربه.. ليقف لحظتها الشاب الصامت منذ بداية الحوار الذي سمعه هو حائلا بينهما ..ويقترب هو أيضا من مجال رؤيتهم ليقول بصوت حاول التحكم به رغم شعوره بالغضب فخرج باردا:
" يبدو أن اللقاء انتهى يا سادة وارجوا أن تتفضلوا بمغادرة المشفى بهدوء ..حتى لا اتخذ ضدكم إجراء لن يكون بصالحكم "
ليلتفت له الجميع .. وتلمح عينيه احتقان وجه الدكتور خليل ..واستناده على الإطار الداخلي للباب بإنهاك واضح... بينما يلتفت له العجوز والشاب الذي رد عليه بوقاحة وصوت خشن:
"وما شانك أنت يا هذا؟!! ..لا تتدخل بما لا يعنيك!! ..إنها مشاكل عائلية بيننا وبين صاحب المشفى الذي تعمل به ..فلا تدخل نفسك بها.. وحافظ على أكل عيشك"
ليقاطعه صوت الدكتور خليل وهو يقول بإنهاك واضح :
" بل هو شانه ..فهو زوج ابنتي ونائبي بالمشفى "
ليلتفت له العجوز بملامح امتلأت غيظا وهو يهتف باستنكار:
" ماذا؟؟!! زوجت ابنتك دون أن تخبرنا ؟!! أو حتى تدعونا ؟!! وزوجتها لرجل غريب وأبناء عمومتها كُثر ؟؟..وهم أولى ؟ "
ليضحك خليل ضحكة متعبة خاوية وهو يربع يديه ويستند بكامل جسده على إطار الباب:
" أبناء عمومتها ..ها ..حقا ..أبناء أبنائك الفاشلين!! ..العاطلين !!.. تريدني أن أزوج ابنتي أنا! ..سارة ..الزهرة الرقيقة النصف إنجليزية ..ذات التعليم الأجنبي ..لأحدهم "
ليقاطعه الشاب بثورة واعتراض:
" لسنا جميعا فاشلين ..أنا خريج كلية تجارة و "
ليقاطعه خليل بسخرية:
" كاذب يا صلاح؟!! أنت خريج معهد فني تجاري لعامين ..ورغم ذلك أنت الأعلى تعليما بينهم ..وتعمل بأحد محال السوبر ماركت ..والذي يعد الثالث بعد أن طردت من اثنين قبله واحدا لسوء سلوكك ..عندما تحرشت بواحدة من الزبائن ..والثاني لشكهم بذمتك بعد تبين وجود عجز بالمؤن المخزنة والتي كنت مسئولا عنها.. .وكادوا يبلغون عنك.. لولا طيبة مدير المكان الذي اكتفى بطردك "
ليحتقن وجه الشاب المدعو صلاح وهو يهتف نافيا:
" كذب ..هذا افتراء ..لقد تم تلفيق التهم لي لأني كنت الأفضل بالمكان فأثرت غيرة البقية و.."
ليقاطعهم هو بعد أن شعر بتغير ملامح الدكتور خليل التي تشي بقرب انهياره ..وبدئت ملامحه المنهكة تشحب بشكل أقلقه :
"أظن يا سادة هذا الحوار انتهى ...ولم يعد له داع تفضلا بالذهاب!! ..ليلحظ مرور أحد رجال الأمن قادما من أول الممر ليناديه :
"أسعد"
ليلتفت له رجل الأمن بتساؤل وهو يقترب:
"نعم دكتور أكرم؟!! "
ليلتفت أكرم مشيرا برأسه ناحيتهما وهو يقول بصوت حاد رغم انخفاض نبراته :
"أوصل السيدان لباب المشفى ..وغير مسموح لهما بالدخول لهنا مرة ثانية ..ونبه على زملائك بالأمر "
لتحتد ملامح صلاح وهو يهتف كيف تج.."
ليقاطعه جده بصوت يحمل تحذيرا ونبرة لم ترح أكرم:
" لا باس يا صلاح ..سنمضي الآن ..لكن لا تظنا أن الأمر انتهى أو أننا لن نعود ثانية ..فنحن لا نترك ما نراه حقا لنا لآخرين "
ليمضي ببطيء.. مستندا على حفيده .. يجاورهم أسعد باتجاه باب الخروج ..بينما يتبعهم هو بعينيه حتى اختفيا بآخر الرواق ليلتفت ناحية أستاذة في نفس اللحظة التي رأى جسده ينهار بها ساقطا أمامه ......
------------------ -
|