لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > روائع من عبق الرومانسية > رومانسيات عربية
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

رومانسيات عربية رومانسيات عربية


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-08-18, 09:13 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل السادس

انتفض من غفوته التي لا يعرف كيف انساق إليها ، ليستفيق قاطبا وهو ينظر حوله محاولا التركيز في الصوت المرتفع الذي أيقظه ...يبدو انه صوت صفق الباب الخارجي ، لم يكد يعتدل على فراشه حتى وجد باب غرفته يفتح بعنف بينما يدلف والده للداخل بوجه متجهم وهو ينظر له بغضب ليسأله بحدة:
"لماذا تركت عملك فجأة.. وخرجت دون إذن ..كيف تتصرف بهذا الاستهتار "
لينزل قدمه التي ما زال يرتدي حذائه بها من فوق الفراش ويعتدل جالسا أمام أبيه وهو ينظر له ببرود بينما يجيبه :
" شعرت بضيق واختناق ..ولم استطع أن أكمل عملي فغادرت "
ليستشيط أبيه غضبا من أسلوبه أللا مبالي وكلماته فترتفع وتيرة صوته أكثر وهو يهتف هادرا :
"أتظن العمل لعُبة؟. .أم تظن نفسك طفلا تلهو؟!! ..أم تظنها تكية بلا صاحب تعبث بها كما تشاء؟!! ..أم تعتقد كونك ابني سيشفع لك إهمالك.. وتقصيرك.. وعبثك ؟!!...ليكن بعلمك ...تم خصم اليوم وتوقيع جزاء عليك وإضافة لفت نظر بملفك الوظيفي ..ولتعلم يا ابن اشرف ..إن لم تكن تعلم ..إن أقصى ما يسمح به لدينا هو إنذارين ..والثالث يتم فصلك تماما ..ولن تكون استثناء !!..بالعكس كونك ابني يجبرني أن أطبق عليك القوانين واللوائح بصورة أقسى ..من الممكن أن أتغاضى عن هفوة أي أحد لكن ليس أنت .!!.لن اسمح أن يقال أن أشرف يحابي ابنه ..ويستغل منصبه ..لن أضيع سمعتي لأجل استهتارك "
كان ينهت بقوة ...مما لفت نظر ياسر ..فقام واقفا أمام أبيه ليطلب منه بقلق حاول مداراته تحت نبرة برود كاذب أن يهدأ ويجلس ..لكن أشرف الذي كان غاضبا بصورة لم يره عليها من سنوات رفض الاستجابة وهو يصرخ به قابضا كفه ومشيرا بسبابته بوجهه:
" أنا لن أسألك عن أسباب فعلتك !!! لكني أحذرك ياسر ..لا تدفعني لفعل لن يرضيك ..أو يرضيني "
ليدير ظهره له متجها للباب ليوقفه سؤال ياسر مكانه متسمرا على باب الحجرة.. قبل أن يستدير إليه بملامح ذاهلة وهو يسأله ماذا قلت ؟؟؟!!!
ليستنشق ياسر أنفاسه بعمق.. قبل أن يكرر سؤاله وهو يحدق بعيني أبيه:
"ماذا بينك وبين سكرتيرة خالد الراوي ؟!! ما طبيعة علاقتك بها ؟؟!! أو لأكن أكثر وضوحا.. إلى أي مدى وصلت علاقتك بها.. فأنا واثق من وجود علاقة بينكما ؟!! وما رأيته اليوم بعيني هو أكبر دليل ؟!!!
ليحدق أشرف ذاهلا بملامح ابنه للحظات لتتحول ملامح الذهول بوجهه لتعجب حائر قبل أن يغلفها بغموض وهو يرفع حاجبه وهو يسأله بهدوء خادع :
"وما الذي رأيته بالضبط بعينيك وجعلك تبني عليه يقينك هذا بوجود علاقة ما بيننا "
لينتفض عرق بفك ياسر بينما يطحن أسنانه ومشهد أبيه يكاد يحتضنها يعود لمخيلته فتتهدج أنفاسه ...وتتجمع الدماء هادرة بأوردته لتزحف حمرة الغضب لملامحه بينما يجيب من بين أسنانه المطبقة :
"أنت تعرف جيدا ما رأيته !!..لقد كانت تداعب وجهك ..بينما أنت تكاد تحتضنها بين يديك ..وليست المرة الأولى التي الحظ هذا التقارب والتباسط بينكما ..ولست أنا فقط ...لقد سمعت الكثير من الكلمات التي تُلقى بالمجموعة عن كونها مقربة منك.. وكونك تدعمها ..وجعلتها تتخطى الجميع.. لتحصل على هذا المنصب "
ظل أشرف ينظر لعيني ياسر للحظات طويلة بصمت لدرجة أشعرته بمزيج من القلق والترقب والاختناق ..خاصة مع ملامح أبيه الغامضة ..التي لا يستطع أن يستشف منها شيئا.. قبل أن يتحرك والده ناحية المقعد المجاور لمكتبه بجانب الحجرة فيجلس عليه بهدوء ناقض تلك الشعلة التي لمحها ياسر تتقد بعينيه.. والتي زادت من شعوره بالقلق والترقب وهو ينتظر رد أبيه ..الذي أطال أمده ..لدرجة جعلته يختنق.. ويكاد يصرخ به أن يجيبه.. فحاول مداراة مشاعره بالتوجه لدورق الماء الموضوع بجوار الفراش ليشرب منه بظمأ دون أن يعبأ حتى بملأ الكوب المجاور له ..ليضعه بعدها بحدة ..قبل أن يجلس على الفراش مواجها أبيه .. مسندا كوعيه على ركبتيه ومشبكا أصابعه معا بينما ينتظر أن يخرج أباه عن صمته ليسمعه أخيرا .. يسأله بهدوء مغلف بنبرة جليديه :
" وماذا كان ردك عليهم؟! "
ليقطب ياسر بعدم فهم وهو يسأله :
"على من؟! "
ليجيبه أبيه بهزأ:
"على من رمى أباك بالتهم والأقاويل، ومن خاض بسمعته على مسمع منك يا ابن السلمي "
ليقطب ياسر وتهتز حدقتيه بتوتر.. وهو يتهرب من عيني أبيه بينما يجيبه:
" لم يخض احد بسمعتك أبى.. ولا يجرؤ احد على فعلها أمامي ..لم تكن كلمات صريحة ..بل.."
ليقاطعه أبيه ببسمة ساخرة :
" بل مجرد كلمات خبيثة.. مقصودة.. تلقى لأذنيك بصورة عابرة ..على هيئة تحذير.. أو نصيحة ..أن تنقذ أباك العجوز الخرف ..من براثن فتاة شابة ..تصغره بأكثر من نصف عمره.. وتصلح لتكون إبنة له ...بل أنها اصغر حتى من عمر ابنه ....وبدلا من أن يثور الابن ... ويعيد تلك الكلمات لحلوق قائليها ...تلقى صدى بعقله الضيق .. المليء بالعقد والهواجس ، لدرجة تجعله يفسر كل ما يراه حسب ظنونه المريضة "
حاول ياسر مقاطعة أبيه لكن أشرف رفع يده بحدة مانعا إياه وهو يكمل بصوت ارتفعت وتيرة نبراته :
" إياك أن تقاطعني ..تُرى هل أخبرك هؤلاء الناصحين عن السبب الذي سيدفع فتاة شابة ..جميلة .. صغيرة .. كتقى للتلاعب بعقل أبيك الخرف ..هل تطمع بأمواله الغير موجودة مثلا؟!! .."
ليزدرد ياسر لعابه ..بينما يغشى عينيه التي يهرب بهما من النظر لأبيه الحيرة والتخبط وهو يجيبه بارتباك :
"لقد شاهدتكما آآ .."
ليقاطعه أشرف هادرا بينما ينتفض واقفا من فوق كرسيه :
"شاهدت ماذا يا أعمى البصر والبصيرة؟!! ..شاهدت فتاة تحاول مساعدتي على وقف نزيف انفي الذي تسببت به بدون قصد.. عندما ارتطمت بي وهى تستقيم من أمام آلة النسخ دون أن تنتبه أني أقف ورآها... لأرى ما مشكلتها مع الآلة ..فتدخل أنت خالقا من موقف عفوي غير مقصود... قصة حمقاء تتناسب مع خيالاتك وهواجسك المريضة ...أي قذارة تلك التي تملأ عقلك ؟!!..بل أي قذارة تلك التي تظنها بأبيك؟!! لكي يغري فتاة اصغر منك!! ..وليست أي فتاة !!..بل فتاة ولدت على يديه ..كنت أول من حملها!! ..كنت أنا من كبر بأذنها لحظة أخرجوها من غرفة الولادة!! فوالدها كان مسافرا وحضر بعد ولادتها بعدة ساعات "
لتتسع عيني ياسر بشدة مع كلمات أبيه الهادرة بينما يفتح فاه ذاهلا وهو يقول بتشوش وحيرة :
" ماذا؟؟!! ماذا تعني بأنك أول من حملها عندما ولدت ..هل! ..هل أنت صديق لأبيها ؟!! ألهذا تساعدها و تبدو مقربا منها ؟!!"...
لينظر له أشرف بتقطيبه.. ووجهه تبدو عليه معالم التفكير بينما يدمدم :
" يا الهي!!! ..أنت حقا لا تعرف من تكون هي ؟!! أحيانا كنت أتساءل ؟؟هل لا تعرفها فعلا؟ ..أم تتجاهلها متعمدا ؟!! ...ليهز رأسه بسخرية بينما يتحرك خارجا من باب الحجرة وهو يحدث ياسر من خلف ظهر قائلا بسخرية حزينة:
" لا تخشى على أبيك يا ياسر ...فلم يفقد عقله وأخلاقه ليغازل فتاة تصغر ابنه عمرا .. و تقربه رحما "
لتزداد تقطيبة الحيرة على وجه ياسر.. وقبل أن يسأل أباه عن ما يعنيه وهو يلحق به وجده توقف أمام باب حجرته ليضيف وهو يدير له رأسه بانحنائه جانبية طفيفة دون أن يلتف إليه :
"آه وعندما يحاول أحدا أن يشكك بأخلاق تقى بعد ذلك ..أعد كلماته لحلقه ..فالطعن بأخلاقها وشرفها يمسك كما يمسها "
ليجفل ياسر على صوت صفق باب حجرة والده بوجهه ..ليتسمر مكانه بمنتصف الصالة بينما يموج عقله بالحيرة والتساؤلات .. دون أن يجد لديه الجرأة على محاولة اللحاق بأبيه وطلب التوضيح منه ..فهو يشعر بالخزي مما قاله له ...ويشعر انه جرحه بشدة ..وملامح الألم التي لمحها تقلص جانب وجهه قبل أن يغلق بابه جعلته يخشى من تبعات أي انفعال زائد عليه .... ليفكر انه يجب أن يعرف إجابة تلك التساؤلات لكن من مصدر مشاكله نفسه....
------------------------
كانت تتقلب بنزق بفراشها الضيق ..تضغط الوسادة فوق رأسها في محاولة فاشلة لكتم الأصوات العالية التي تتعمد زوجة أبيها افتعالها صباحا ...لتزفر بضيق وهى تلقي الوسادة وتستقيم جالسة متربعة فوق الفراش بينما تدمدم بغيظ :
"لا فائدة!!حتى ساعتي النوم التي منيت نفسي بهما بعد اعتذار الدكتور عن المحاضرة الأولى ..أبت نبيلة أن تهنيني بهما .."
لترفع إصبعيها السبابة لفوق بينما تطبق باقي كفيها أمام وجهها وهى تدعو بضيق :
"حسبي الله ونعم الوكيل بك يا نبيلة التي لا يمت النبل لك بصلة ..اللهي يأتيك ويحط عليك يا بعيدة ..اللهي تذهبي لشراء الفول فيسقط عم عبدة قدرته على رأسك وتكون ممتلئة وساخنة ..أو يخبطك عم شحاته وهو يخرج بعربته الكارو بعد أن يعض حماره مؤخرتك السمينة ..أو يأخذك قطار المترو بأحضانه ..أو أو ..أممم سأفكر في ميتات أخرى بعد أن أغتسل"
...لتنفض عنها غطائها المهترئ ..وتنهض لأخذ فرشاة أسنانها التي تحفظها لديها حتى لا يستخدمها إخوتها كالعادة ..وتضع فوقها رشة من البيكربونات من كيس صغير بدرج مكتبها الصغير ..فشراء معجون الأسنان ترف لا تستطيع أن تتحمله حاليا ..لكنها لن تترك فمها دون غسيل لذا تتصرف بالمتاح .... لتحمل بعدها فوطة صغيرة وتخرج بثوب نومها الذي بهت لونه فأصبح يصعب تحديد إن كان وردي باهت أو ابيض غامق ..كانت تحاول أن تمرر أصابعها بتشابكات شعرها الذي تشعر أنه يشبه الأسلاك الشائكة لتتنهد بضيق وهي تخرج مغمضة نصف عينها... ومتذكرة سلاسل الذهب التي تنسدل على كتفي سارة ..لتفيق على ارتطام كتفها بنبيلة التي تجر بيدها شقيقها الأوسط حسن من ياقة قميصه.. كما لو كانت أمين شرطة يجر لصا أمسك به بأتوبيس نقل عام :
لتعاجلها نبيلة بصراخها الذي جعلها تهز رأسها وهى تدعك بإصبعها أذنها بعد أن كاد صراخها يتسبب بصممها :
"هل أنت عمياء ..افتحي عينيك وانظري أين تسيرين ..لقد فرمت قدمي "
لترفع هند حاجبها وهي تمرر نظراتها من نبيلة لنفسها والعكس... ناظرة لفرق الحجم بينهما.. فنبيلة ضخمة وممتلئة وطويلة القامة مما يجعلها جوارها أشبه بعصفور بجوار غوريلا ..لتزفر بعمق وهى تقول :
"اللهم طولك يا روح ..صباح الخير يا نبيلة ..لما الشجار على الريق ..ولماذا تمسكين حسن هكذا "
لتنفجر صارخة بوجهها كما لو كانت هي السبب بكل مصائب الكون :
" أخيك الفاشل لا يرغب بالذهاب للمدرسة ويدعي المرض ..وطبعا أنت لا تهتمين ..فلا تريدين لهم أن ينجحوا ..ترغبين أن يفشلوا لتكوني أنت الفالحة الوحيدة بينهم ..."
أخذت تكمل ثرثرتها الصارخة والمتهمة إياها بكل ما يحدث ..بينما تجاهلتها هند واتجهت للحمام ولسان حالها يقول ..لا فائدة كذبت الكذبة وصدقتها ..لتصفق الباب ورائها حتى تنهي طقوسها الصباحية ..خرجت بعد دقائق لتجد حسين جالسا على أحد كراسي الصالة مطأطأ الرأس.. بينما وصلها صوت دمدمات وخبطات نبيلة من المطبخ ...فاقتربت بهدوء من أخيها وركعت أمام كرسيه ..ورفعت وجهه إليها.. لتجد عيناه ممتلئة بالدموع ..مما ملئ قلبها بالحزن والشفقة لأجله.. لتجد نفسها تجذبه إليها لتضمه لصدرها بحنو... رغم ممانعة بسيطة منه سرعان ما خبت ..لتسأله بصوت هامس بجوار أذنه عن سبب عدم رغبته بالذهاب للمدرسة وتغيبه عنها ..لتنطلق حشرجات بكاء يكتمه بصعوبة وهو يخبرها بصوت متقطع:
"المُدرسة هناك تضربني كل يوم.. وتسخر مني وتجعل زملائي يسخرون مني "
لتقطب هند وتسأله بغضب مكتوم :
"أي مُدرسة هذه ..ولماذا تفعل ذلك "
ليجبها بحزن وسط نشيج متقطع :
" الأستاذة عبلة ..مدرسة الحساب ..التي تقيم على أول شارعنا ..وتعطي دروس بمنزلها ..ومن لا يذهب لديها بالدرس تتقصده بالفصل ..وأمي رفضت أن آخذ درس لديها لأننا لا نملك ما يكفي لدفع ثمنه ..كما إنها تقول أختكم كانت تنجح بلا دروس وانتم يجب أن تكونوا أفضل منها... وضربتني وهي تردد تريد درس وأنت بالصف الخامس الابتدائي.. فماذا أعطيك بالشهادات والثانوي ..كما أنها تقول أن الأستاذة عبلة هذه غبية كأمها "
ليخفض صوته أكثر ويميل على هند قائلا:
"أمي تكره أمها لأنها كانت تعرفها ..وتشاجرا معا مرة بالشارع "
لتلوي هند فمها وهي تحدث نفسها – وهل أبقت أمك أحدا لم تتشاجر معه ..إنها ماركة الشجارات المسجلة لنساء الحي –
لتسمعه يكمل بخفوت :
"أمي تقول عليها لا تفهم شيئا .. وتجمع الأطفال لديها لجمع المال من ذويهم دون داعي.. وأخذت تردد هذا الكلام أمام الجميع بالشارع ...ويبدو أن الأستاذة عبلة سمعت شيئا عن كلام أمي عليها فأصبحت تتقصدني أكثر .. وأنا لأني ضعيف بالحساب كثيرا ما أخطئ بحل الواجبات ..فأصبحت لا تكف عن ضربي ..وتذنيبي.. وإنزال العقوبات بي ..والسخرية مني .. ..وأمس لم استطع حل الواجب ..لذا لا أرغب بالذهاب حتى لا تضربني.. وتجعلهم يسخروا منى ككل مرة .. لقد كرهت المدرسة "
لتضمه هند إليها وهى تقول له بهدوء:
"اسمع يا حسن ..لو أن الإنسان كلما واجهته مشكله هرب لن يستطيع أن ينجح بحياته ..لذا بدلا من الهرب لنجد حلا للموضوع"
لينظر لها بحيرة سائلا:
"كيف ؟!! لا أفهم "
لتقول له بصوت خافت وبسرعة قبل أن تعود نبيلة التي شعرت أنها قاربت على إنهاء ما تفعله وخاصة أنها تعي مدى كره نبيلة لأي تقارب بينها وبين أشقائها:
سأحاول أن افرغ نفسي لك ساعة كل يومين أو ثلاثة في الأوقات التي تذهب بها أمك لزيارة بيت جدتك لأراجع معك الحساب ..كما سأذهب أنا لعبلة وأتفاهم معها حتى تكف عن مضايقتك ..ولن اخبر أمك بشيء "
قالتها وهي تربت على كتفه مهدئة عندما لاحظت ملامح القلق على وجهه .. وخاصة مع التفاته كل دقيقة للخلف للتأكد من عدم وجود أمه ..وقبل أن تتركه متجهة لحجرتها وجدته يشد يدها لتلتفت إليه لتجده يرمي نفسه عليها محتضنا إياها بقوة ..لأول مرة وهو يقول بصوت مختنق :
"أنا احبك كثيرا هند ..لكن لا استطيع أن أخبرك أو أقترب منك حتى لا تضربني أمي "
لتترقرق الدموع بعينيها شفقة على حالها ..وحال إخوتها التي تسببت أمهم بقطع الروابط وإثارة الفرقة بينها وبينهما ..لتربت على شعره بحنو ..وما أن رفعت يدها حتى فاجئهما صوت نبيلة سائلا بتوجس ونظرات متهمة :
"لما ما زلت واقفة هنا مع حسن ؟!! ماذا كنتم تقولون؟!!"
قالتها بحدة جعلت شقيقها يجفل وشعرت بارتباكه وابتعاده عنها خطوة ..وقبل أن تفتح فمها لتخبرها أن من حقها أن تحدث أخاها كما تشاء... فوجئت بحسن يقول بارتباك:
" لا شيء كنت احكي لها عن رؤيتي لجارنا المهندس سامح وأنا اشتري الفول مبكرا مستندا على رجل آخر ..وغير قادر على المشي ..و يبدو كما لو كان قطارا قد مر فوقه ..فوجهه ملئ بكل الألوان وذراعه وساقه ملتفة بالشاش ... وملابسه ممزقة "
لتصاب هي بذهول قلق بينما تسمع نبيلة التي أخذت تحرك فمها يمينا ويسارا باستهزاء ..
"لابد انه كان يتشاجر ..طوال عمره فتى سليط اللسان ولا يكف عن المشاكل "
لتتركها هند تكمل ثرثرتها... و تندفع لحجرتها لترتدي عباءة سوداء وتخرج مسرعة إلى الشقة العلوية لتطمئن على ابن جيرانها...وشقيق من تحب!!
----------------
ما أن وصلت لأعلى حتى فوجئت بالباب مفتوح وهناك العديد من نساء ورجال الحي لديهم ..يبدو أنه جميعا جاءوا للاطمئنان على حالة سامح ..لتجد أكرم وأبيه يطمئنوهم بأنها مجرد حادثة بسيطة وأنه أصيب فقط ببعض الرضوض.. وسيصبح بخير بعد أن يستريح لبعض الوقت... ويعتذرون منهم بأنه نائم بعد أن تناول دوائه ..لتدخل مقتربة من أمه الباكية ..والتي كانت رغم انتفاض جسدها نتيجة البكاء وتربيت النساء عليها تكرر نفس كلمات زوجها ..ليخرج المتواجدين .. بينما يحضر آخرين بعدهم ..فيبدوا أن كل من يعرف بالأمر يحضر للسؤال والمؤازرة..ليلمحها أكرم بعد خروج معظم المتواجدين واقفة بجوار أمه ..فيقترب منها سائلا:
"هند ؟!! لماذا لم تذهبي للكلية حتى الآن "
لتخفض عينها بحرج وهي تجيبه:
المحاضرة الأولى أُجلت ..وسأذهب بعد قليل ..سمعت أن سامح مصاب فجئت لأطمئن "
ليزفر أكرم بإرهاق ..ظهر جليا بنبراته و هو يشكرها مخبرا إياها ما اخبر به الباقين ... وطالبا منها أن تسرع بتغير ملابسها والذهاب للكلية حتى لا تتأخر ..فتحرك رأسها بموافقة خجلة بينما تسلم على والديه عائدة لشقتها بالأسفل ....
--------------------------
كانت تحاول كتم ضحكاتها بصعوبة على مناوشات ابن خالها وزوجته المستمرة ..خاصة أن همس مصرة على العودة للعمل ..وهو مصر على أن تبقى مستريحة لأسبوع آخر ..
لتنمحي ابتسامتها مع صرخة همس الناقمة وهي تهتف:
" خاااالد أنا لا أطيق الجلوس بالمنزل بلا عمل.. ولا هدف ..سيقتلني الملل .. حقا لا أعرف كيف يمكن أن يطيق مخلوق البقاء دون أن يفعل شيئا بيومه ..أنا حتى إذا حاولت دخول المطبخ منعتني ماما سمية بنفس ذريعة عدم إرهاق نفسي ..كما أنها والخدم يقومون بكل شيء ..إنني لا أجد شيئا افعله وأكاد أجن ..فدعني أعد للعمل ولو لبعض الوقت ..واعدك أن لا أجهد نفسي "
كانت كلمات همس تدور بعقلها بينما تستمع بشرود لمهادنة خالد لها ووعده بأخذها غدا لبعض الوقت معه ..لتجد نفسها تهتف فجأة :
"خالد أنا ارغب بالعمل "
ليسود الصمت على المائدة بينما تقول سُمية بهدوء:
"حبيبتي أنت لا زلت متعبة والأفضل أن .."
لتقاطعها هي بهدوء:
"لقد أصبحت بخير خالتي ..حتى الضمادة أزلتها ..كما أن همس معها حق الجلوس بلا هدف ممل وقاتل ..وأنا من فترة أفكر أن أعمل لكني لا اعرف كيف وأين ابحث "
لتهتف همس مشجعة إياها :
"أحسنت ماهي ...فعلا يجب أن تعملي وتثبتي ذاتك "
ليسألها خالد بهدوء :
لقد تخرجت بتقدير جيد من قسم الإعلام بالجامعة الأمريكية منذ عام ونصف تقريبا ؟!! أليس كذلك ؟!!"
لتومئ برأسها موافقة بينما يقطب هو مفكرا قبل أن يلتفتوا لهمس التي صفقت بكفيها فجأة مهللة وجدتها!! ... ليرتفع حاجب خالد ويعوج فمه ببسمه تتراوح بين المرح والسخرية سائلا:
" ما هي يا عبقرينو"
لتقطب حاجبيها مكشرة بوجهه بينما تتابعها هي وزوجة خالها مبتسمتين لشقاوتها وروحها المرحة وهي تجيب بنزق كالأطفال :
" لا تدعوني بذلك !! سأموت لأعرف من فتن لك وأخبرك بهذا الاسم الغبي.. الذي أطلقه على محمود ..لابد انه هو!! ..سأعلقه على باب المكتب وامنعه من زيارة خطيبته عقابا له "
لتلتفت ناحيتهم وهي تضيف :
"على كل حال دعكم منه ..لقد سمعت من فترة بسيطة سمر خطيبة زميلي بالمكتب محمود ..والتي تعمل بقسم العلاقات العامة تشتكي بأن زميلتها بالقسم ستتزوج.. وتهاجر مع زوجها للخارج ..وأنها منذ قدمت إنذارا بترك العمل خلال شهرين كما تنص شروط التعاقد وهي تهمل عملها وتترك اغلب العمل عليها ...رغم أن سمر نفسها ستتزوج قريبا !!!..في الحقيقة لقد قاربت هي ومحمود على التخليل من طول الخطبة "
لتشيح بيدها مستدركة :
"المهم!! انه سيكون هناك عجز بقسم العلاقات العامة وخاصة أن سمر ستأخذ هي أيضا إجازة زواج لأسبوعين بعد شهر تقريبا ..لذا سيحتاجون لأعضاء جدد بفريق عملهم "
لتلتفت لخالد سائلة ما رأيك خالد أن تعمل معهم ماهينار ..حيث يدربوها خلال الفترة القادمة حتى يمكن أن تحل محل تلك التي قدمت إنذار بترك العمل ."
لتنظر ماهي لخالد المطرق بمزيج من الأمل والترقب ..دون أن يخلو الأمر من قلق ..أن يكون رافضا لعملها لديه... وهي بذلك تحرجه ..لتحاول رفع الحرج عنه وهى تقول :
"ليس بالضرورة أن اعمل لديك.. بإمكاني أن أبحث عن عمل بأماكن أخرى فلدي بعض المعارف ال..."
ليقاطعها خالد وهو ينظر إليها ويبلغها بصوت جاد:
" بل ستعملين معنا طالما ترغبين بالعمل.. و هناك مكانا شاغرا يتناسب مع مؤهلك ...لكنك ستكونين تحت الاختبار لمدة شهرين ..الشهر الأول سيتم تدريبك والثاني اختبارك بالعمل ..وان اثبت جدارتك سيتم تثبيتك ..أنا لا أحابي أحدا ..وبإمكان همس أن تؤكد لك ذلك "
لتصفق همس ثانية بسعادة وهى تهتف :
" نعم نعم ..صدقيه ماهي ..إنه ديكتاتور حقيقي بالعمل ..أنا سعيدة لأن ستكونين معنا "
ليقاطع صخبها رنين هاتف خالد ..
...
كان على وشك إنهاء إفطاره الصاخب بصخب حبيبته عندما رن هاتفه مضيئا باسم أكرم ..مما أقلقه ..فليس من عادة أكرم مهاتفته صباحا .. ليقف مبتعدا قليلا وهو يفتح الخط بتحية قلقة ليأتيه صوت أكرم مجهدا ..وهو يبلغه بما أصاب سامح باختصار... طالبا منه إبلاغ همس وطمأنتها ..وإحضارها إليهم لتطمئن بنفسها ..حتى لا تهاتف هي والدتهم كعادتها اليومية ..وتصاب بالهلع
وربما تتهور كعادتها .. ليزفر خالد أنفاسه بقلق وهو يخبر أكرم أنهم سيكونون لديهم خلال ساعة "
وما أن التفت حتى وجد والدته خلفه والتي لاحظت ملامحه المكفهرة فسألته عن ما حدث ..ليخبرها ما اخبره به أكرم عن إصابة سامح ..لتنقبض ملامحها بقلق... وهي تدعو له بالشفاء وتخبره أنها ستذهب هي أيضا لعيادته ..ليطلب منها أن تبقى حتى يطمئن هو... وحتى لا تشك همس في شيء أن ذهبت معهما ..فهي كانت ستذهب إليهم اليوم بكل الأحوال ..لتطمئن على والدها المصاب بنزلة برد ..وسيقنعها بأخذها معه أثناء ذهابه للعمل بحجة أنه يرغب بالسلام على والدها قبل ذهابه ..وبعد أن يفهم تفاصيل ما حدث ومدى إصابة سامح سيهاتفها لتلحق بهمس وإن كان الوضع مقبولا فبإمكانها اصطحاب ماهي معها حتى لا تضايق أن تركت وحدها ...
----------------------
كان جالسا على كرسي بجوار الفراش يشاهد أكرم بينما يقوم بإنهاء التعقيم والتغير على جروح أخيه بينما أخذ سامح يهتف نزقا :
"خف يدك قليلا ..هل هذه يد جراح أم جزار ينتقم من ذبيحة"
ليحدجه أخاه بغضب وهو يهتف من بين أسنانه :
"هلا أغلقت فمك ورحمتني من سماع صوتك قليلا ..لولا أني لا أجد بك مكانا سليما لقمت بضربك بنفسي ضربا مبرحا ..على تهورك.. وحماقتك التي كادت تودي بك للهلاك "
ليهتف سامح بحدة :
"ماذا يا أكرم؟؟!! أكنت تريديني أن أبيع ضميري؟؟!! أم أغمض عيني وادع أنني لم اعرف شيئا ...لست مرتشي ولا جبان لأقبل بأيهما "
ليرد عليه أكرم بحدة :
"لم أطلب منك أن تكون هذا ولا ذاك أيها الأحمق ...بل تستعمل هذا "ليشير لرأسه المضمد بضيق "
ليضيف بغضب:
"لم يكن يجب أن تذهب كشجيع السينما ..فاردا عضلاتك ..ومهددا إياهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ...بل تأخذ أوراقك وإثباتاتك وتذهب للإبلاغ فورا ..دون مواجهات دامية "
ليرد سامح بنزق :
"وهذا ما فعلته بالفعل "
ليقاطعه أكرم ساخرا :
"آه نعم ..بعد ماذا ..بعد أن ذهبت أولا وتشاجرت وكشفت أوراقك أمامهم ..وأخبرتهم أنك ستبلغ عنهم ..ليسارعوا بإرسال ثلاث من رجالهم ليقتلوك في مقر سكنك ..ولولا مجيء سعيد في الوقت المناسب وتجمع بعض الجيران على أصوات الشجار لكانوا تمكنوا منك والقوا بك من الشرفة أو قتلوك :
ليصدر سامح صوتا ساخر من حلقه وهو يجيب بتفاخر:
"من هذا الذي كادوا يقتلوه ؟!! رغم كونهم ثلاث بغال من الحجم الثقيل ..لكن أخيك قد طحنهم طحنا ...أنسيت أنى كنت بطل الجامعة بالملاكمة ...ولولا تلك الزجاجة التي ضربني بها احدهم على رأسي من الخلف فأصابتني ببعض الدوار ..لم يكونوا ليستطيعوا أن يضربوني ..لكنهم أخذوني غدرا"
ليعارضه أكرم بنزق :
"يا أخي افهم!! الكثرة تغلب الشجاعة.. وأمثال هؤلاء تحاربهم بالمكر والحيلة ..لا بالعضلات "
ليعتدل خالد طالبا منه تركه مع سامح قليلا ...والذهاب للاطمئنان على همس التي اجبروها على الاستراحة بعد حالة الهستيريا التي أصابتها عند رؤيتها لشقيقها ..ولم تهدأ حتى أخذ سامح يمازحها وبعد أن أقسم أكرم لها انه بخير.. وأن إصاباته كلها سطحية رغم منظره الممتلئ بالألوان والأربطة ..لقد ذهبت لتنال قسطا من الراحة هي ووالديها بعد صخب أحداث تلك الساعات الماضية وتجمعات الجيران
ما أن أغلق أكرم الباب خلفه بعد أن أبلغ خالد بأنه سيذهب لعمله لبعض الوقت بعد أن يطمئن على همس ووالديه ..ليلتفت خالد لسامح بينما يعتدل في كرسيه مقتربا منه ومشبكا يديه معا وهو يسأله باهتمام :
"سامح أريد أن تخبرني بالتفصيل عن أنواع التلاعب التي كانت تحدث لديك بالمشروع :
لينظر له سامح بحيرة بينما يجيبه:
أنت مهندس وتعي أن بعض المقاولين والمهندسين يقومون أحيانا بالتلاعب في نسب وأنواع الخرسانة والحديد حتى يحصلوا على فرق الأسعار لأنفسهم ..المشكلة عندما يتفق الاثنين معا ..ويقومون بالتلاعب ..فالمقاول لن يفعلها وحده لأن أي مهندس يستطيع بسهولة وبمجرد النظر كشف فرق سمك الخرسانة إن تم التلاعب بها ..وأيضا لون الخرسانة يبين نسبة الإسمنت بها ونوعيته "
ليزداد انفعال سامح وهو يهتف :
"اللصوص الحقراء ..لم يكتفوا بالتلاعب والسرقة في الإسمنت بل أيضا استبدلوا نوع الحديد المطلوب بنوع اردء وارخص ..استطعت كشفه بمجرد ملاحظة فرق سمكه بالإضافة طبعا لختم الشركة عليه "
كان خالد يستمع له بتركيز وهو يكمل:
"كان الأغبياء يظنون أنهم إن قاموا بإنهاء العمل بفترة إجازتي فلن استطيع أن أتحدث بعد أن ينتهوا ..وسأقبل بالسكوت مقابل أن اقتسم معهم .. وإلا اتهموني بأني شريك معهم خاصة أن توقيعي موجود على استلام أسياخ الحديد و شكائر( أجولة ) الإسمنت المطلوبة ..هم استغلوا إجازتي التي منحوها لي بكرم أثار شكي ...واستبدلوا الحديد والإسمنت وباعوا الأصليين في السوق السوداء.. واشتروا أنواع ارخص ليستولوا على فرق المبلغ وهو مبلغ كبير جدا!! ..فالمشروع أحد المشروعات الحكومية التي تشمل عدة منشآت "
ليقطب خالد حاجبه وهو يسأل ..ولماذا لم تبلغ صاحب الشركة بتلاعب المقاول وزميلك المهندس الثاني؟!"
ليرد سامح بحنق :
" المصيبة أني اكتشفت أن صاحب الشركة هو المحرك الأساسي ومتواطئ معهم ..لأنه قدم عرض أسعار منخفض للحكومة بمبلغ لا يمكن أن يمنحه ربحا ..ليضمن أن ترسوا المناقصة عليه ..وطبعا كان معتمدا على تعويضه بطرقه الملتوية ...وحقا لا ادري أي عقول تلك التي تدير فتح المظاريف بمشروعات الدولة... فلا يهتموا إلا بصاحب الرقم الأصغر بالتكلفة ..دون أن يفكروا بعدم منطقية هذا الرقم ..فكيف يقدم عرضا بمبلغ يجعله خاسرا لا رابح ؟؟!! ..هل سيدفع لهم من جيبه مثلا؟؟!! ..أليس لهم عقول يفكرون بها ، خاصة مع ارتفاع أسعار مواد البناء ..إنهم يثيرون حنقي بغبائهم"
ليعود خالد لسؤاله:
"وكيف استطعت أن تثبت تلاعبهم دون أن تتورط "
ليبتسم سامح وهو يحاول أن يريح جسده ليئن قليلا قبل أن يجبه بزهو :
" ها ...الأغبياء لم يعلموا أني كنت اشك بهم من فترة ..وقد جندت احد العمال الذي أثق بنزاهته لينقل لي كل ما يحدث.. دون أن يشعرهم بأنه معي ...كما أعتدت أن أي ورقة تمر أمامي أقوم بتصويرها دون أن يشعروا واحتفظ بنسخ منها ..وقد وثقت كل شيء من أول التصميم الذي سلمه المهندس المعماري لي ..حتى تصاريح البدء والبناء ..والموافقات على النسب ..حتى إيصالات البيع والشراء والتسليم والتسلم ..كل ورقة صورتها.. كما قام سعيد العامل الذي أخبرتك عنه بتصويرهم دون أن يشعروا وهم يستبدلون المواد المدعمة ذات الجودة العالية من المخازن بمواد اردء ...وقد أبلغت شكوكي بالفعل من اللحظة الأولى لضابط صديق لي ..ورغم كونه بمكان مختلف إلا انه اتصل بالضابط المختص وابلغه... وعرفني عليه ..وهكذا كنت قد سلمته بالفعل كل ما تحت يدي... وكان على وشك إنهاء إجراءات البحث والتقصي لإصدار أمر القبض عليهم ووقف البناء ...فقط لم أتوقع أن يسارعوا بصب الخرسانة أثناء إجازتي مما دفعني للغضب والذهاب لمواجهتهم "
لينظر له سامح بحيرة ..وهو يسأله لما كل هذه الأسئلة خالد أشعر أن ورائها أمرا ما "
ليقرب خالد كرسيه أكثر من فراش سامح وهو يقول بجدية ...سامح أريدك أن تسمعني جيدا... أنت أمامك أسبوع واحد فقط لتتعافى وتقف على قدميك !!!.. ولا يهم لو بقيت أثار الضرب على وجهك وجسدك فهذا أفضل ليعطيك منظر المهندس البلطجي الذي لا يهمه إلا كسب المال حتى لو باع أبيه ..خاصة لو استطعنا اختلاق قصة تتناسب مع هذا المظهر وتؤكد تلك الفكرة "
ليقطب سامح حاجبيه بذهول وهو يسأل خالد متعجبا:
"أنا بلطجي؟؟!! وأبيع أبي!!! لماذا أشعر انك تنوي إلقائي بجحيم يفوق جحيم الثلاث بغال الذين طحنوني .- ليستدرك قائلا - أقصد الذين طحنتهم "
ليناظره خالد بينما يجيبه بضيق:
" سامح أنت ستعمل معي ..أنا بحاجة لمهندس مدني أثق به ..ليرفع يده مانعا إياه من مقاطعته بينما يكمل ..إرحمني من الشعارات ..فانا بالفعل احتاج إليك."
ليضيف بتوضيح عندما لاحظ حيرة سامح :
" تعرف أني مهندس معماري ..ودون غرور أنا احد أفضل المهندسين المعماريين بالشرق الأوسط.. رغم قلة ما أقوم به من تصميمات لتركيزي على أعمال الإدارة لشركات المجموعة ..لكني ما زلت قادرا على ابتكار تصميمات مبهرة ..وهذا ما قمت به بآخر واكبر مشروعاتي المقامة حاليا والتي وضعت بها كل ما امتلك من سيولة مالية ..مشروع مجمع سكنى عملاق سيكون الأكبر والأرقى ..وقد صممته بالكامل ..وسلمته لفريق المهندسين المدنيين لدي للتنفيذ ....ليكمل شرح الموضوع له والشكوك التي تراوده ..بينما يستمع سامح له بإنصات وتركيز ..
--------------------
كانت تشعر بالإحراج ..رغم تأكيد زوجة خالها أن الأمر عادي.. وانه نوع من الواجب أن يزورا شقيق همس للاطمئنان عليه ...هي أيضا كانت ترغب بالاطمئنان عليه ..لا تدري لم شعرت بالانقباض والقلق ما أن أخبرتها زوجة خالها بإصابته ..لذا رغم حرجها لم تمانع في القدوم معها ..لتفتح لهم والدة همس الباب مرحبة ...وتدخلهم لصالة البيت الصغيرة المساحة.. وقدمت لها ماهي باقة الورد وعلبة الحلوى التي احضروها معهما فأخذتها شاكرة بلطف..بينما تعتذر منهم لعدم وجود همس باستقبالهم.. فهي أنهكت نفسها معها سواء بالانفعال خوفا على أخيها أو باستقبال الجيران.. لتستسلم للإرهاق والنوم منذ قليل بحضن أبيها الذي نال منه التعب أيضا ليغفو كلاهما معا ... وخاصة بعد ذهاب خالد لعمله ... كانت تستمع للسيدة زينب والدة أكرم بهدوء حرج.. بينما عينيها تدور بالمكان متعجبة من حجمه الضيق ..فصالة المنزل لا تتعدى نصف حجم حجرتها ..لكن الغريب أنها لم تشعرها بالضيق ..لكنها شعرت بنوع من الراحة والألفة..كأن البيت رغم بساطة أثاثه ..وصغر مساحته.. يرحب بالقادمين ..به روح دافئة ..لا تشعر بها ببيتها الضخم .. لتستمع لزوجة خالها تقول بحرج ..
"يبدو أننا جئنا بوقت غير مناسب بعد أن أنهكتم من كثرة الزوار ..أردنا فقط الاطمئنان على سامح ..سنذهب ونعود مرة أخرى" ..لتنتفض والدة أكرم رافضة وهى تقسم عليهما أنهما لن يذهبا إلا بعد تناول الغذاء معهما ..ليفاجئوا بسامح خارجا من باب جانبي .. ..يمشي بصعوبة مستندا على الحائط والأثاث ..لتقف ما أن شاهدته.... لتجده قد تسمر مكانه ما أن رفع رأسه ورآها ..بينما تشابكت نظراتهما ..هي تنظر له بقلق من منظره المليء بالكدمات والأربطة ..بينما ينظر هو لها بذهول ..ليفيق كلاهما على صوت والدته تدعوه للجلوس وصوت السيدة سمية ترحب به وتتحمد له بالسلامة ...
---------
لم يصدق عينيه عند خروجه من الحمام ورؤيته لها أمامه ..بكل هذا الجمال والبهاء ..ترتدي بنطال ابيض ضيق.. يفصل جسدها الممشوق بوضوح و بلوزة سوداء بدون أكمام ..ما أظهر بياض بشرة ذراعيها ..وأشعل مراجل غضبه ..خاصة وهو يتخيلها أثناء سيرها بحيهم.. بجمالها اللافت وهيئتها المختلفة التي لابد لفتت إليها كل الأنظار .. فالسيارة لا يمكن أن تمر بشارعهم الضيق ولابد أن يتركوها بالشارع الرئيسي ويكملان سيرا على الأقدام ...ليفيق من شروده الغاضب على صوت أمه التي تشير ..لعلبة حلوى تبدو من النوع الفاخر ...وباقة من الزهور البيضاء الموضوعة على المنضدة أمامهم وهي تقول ..لقد أحضرت لك سمية وماهي وردا وحلوى ..لتشتعل نيرانه أكثر وهو يتخيلها تحمل تلك الورود بشارعهم ..ليغمض عينيه بينما يطحن أسنانه ويقبض كفيه محدثا نفسا ..لأبد انه كان عرضا سينمائيا غير مسبوق بحارتنا ..أتحدى إن لم يكن نصف شباب وفتيان الحارة قد قاموا بتصويرها بهواتفهم النقالة ..بهذه الملابس التي تفصلها وذراعها العاري الذي يشع كالضوء وسط العتمة ..وفوقهم بنطالها الذي لا يترك شيئا للخيال "
ليفتح عينيه على نداء والدة خالدة :
"سامح بني تبدو متبعا وترغب بالنوم لما لا تدخل غرفتك لتستريح ..ونحن سنغادر الآن ونعود بوقت آخر "
ليهز رأسه نافيا وهو يؤكد :
"لقد تعبت من النوم والاستلقاء طوال اليوم وارغب بالجلوس بعض الوقت "
لتقوم والدته هاتفة ..أخبرتكما أنكما لن تذهبا قبل أن تتناولان الغداء معنا ..فاليوم أنا اصنع ممبار، وكرشة ، وكوارع ..لسامح حتى أرم عظامه بها ..وأقسم إن غادرتما قبل الطعام أن أغضب ولن أذوق لقمة عندك ثانية يا سُمية "
لتقوم سُمية مهدئة إياها وهي تستجيب قائلة:
"حسنا يا زينب لا داعي للغضب ..لكن بشرط سأدخل معك لأساعدك بالطهو ..حاولت زينب معارضتها لكنها أصرت ..لتتنحنح ماهي بحرج ..وهي تقول :
سآتي معكما ..فرغم أني لا أجيد الطهو لكن بإمكاني معاونتك بشيء ما ..
لترفض كلتاهما بشدة ..طالبين منها الجلوس مع سامح ..فالمطبخ صغير لن يسع ثلاثتهم
----
كانت تشعر بنظراته المحدقة بها والتي تحاول أن تتجاهلها بالنظر حولها دون تركيز حتى اضطرت لمواجهة عينيه عندما سألها بسخرية :
" أظن أنك لا تعرفي ما هي الكوارع؟ ولا الممبار ؟ ولا الكرشة ؟ ربما يجب أن أعطيك توضيحا حتى لا تصدمين وتفقدين قدرتك على تناول الطعام "
كانت تنظر إليه دون أن تمنحه رد فعل يرضيه وخاصة وهي تستمع لوصفه الذي شعرت انه يتعمد به إرباكها ..أو ربما اختبارها :
"الكوارع هي أقدام البهائم التي تذبح .. أما الممبار فهو أمعائها ..طبعا تعرفي ودرست بكتب الأحياء مهمة تلك الأمعاء أم تحبي أن اشرح لك بالتفصيل؟!"
لترفع حاجبها ببرود وهي تقاطعه لا داعي لتتعب نفسك بالشرح فأنا اعرف جيدا ماهية الطعام الذي تصنعه والدتك.. ولن تكون المرة الأولى التي أراه بها ..أو.. آكله "
ليصدر صوتا ساخرا من فمه وهو يسألها باستهزاء وعدم تصديق:
"حقا ؟!!! أتلك الأصناف مما يصنعها طباخ بيتكم "
لترد عليه بنفس نبرة صوته الهازئة بينما تميل ناحيته قليلا حتى شعرت ببوادر ارتباكه مما أشعرها بالرضا ...فهو غير محصن تجاهها رغم ما يبديه من وقاحة:
" لا ...بل أظن أن طباخ بيتنا ربما يصاب بجلطة.. إن طلبت منه تلك الأصناف !!ناهيك طبعا عن والدتي رقية هانم ..التي ربما تصاب بصدمة عصبية تعلن بها علينا الأحكام العرفية.. وتطرد نصف العاملين ممن اشتركوا بتلك الجريمة !!" كانت تتابع ملامح ضيقه وانعقاد حاجبيه أثناء حديثها ..لكنها لم تهتم فهي أرادت أن توضح له صورة حياتها ..لا تدري سببا لرغبتها تلك ..لكنها كانت رغبة ملحة أن يعرفها هو تحديدا... مما دفعها لتكمل بينما تعتدل جالسة بغرور:
"لكن من أخبرك أني أخضع لقوانين وأوامر أحد ..لا تحاول أن تصنفني وتضعني بخانة معينة بعقلك ..فصدقني.. أنا ابعد ما يكون عن كل تخيلاتك وقد أصدمك "
كانت ترى عيناه التي تناظرها بحدة لا تخلوا من شعاع اهتمام يحاول مداراته ..لتسمعه يرد عليها بسخرية هازئة :
"وأين تذوقتِ تلك الأصناف ..بكافتيريا نادي النخبة؟!! "
ملامح الذهول التي تجلت على وجهه أسعدتها وأشعرتها بالرضا والحبور عندما أفحمته بردها قائلة :
" بل عند الدهان بالحسين .. وبحة بالسيدة زينب ...وعندما أكون متعجلة اكتفى ببضع شطائر من عند عبده تلوث "
كانت حاجبا سامح قد اختفيا تحت الضمادات التي تلف رأسه بينما يناظرها بذهول وهو يسألها بعدم تصديق :
"كيف تعرفين هذه الأماكن؟!! ..مستحيل!!! أتريدين إقناعي أنك !!أنك !! ب بهيئتك هذه و !!و ط "
لتقاطع كلماته المتعثرة من شدة ذهوله قائلة :
"أخبرتك أن لا تحكم علي.. وتضعني بإطار تصنعه مخيلتك عني ..أنا لا أشبه أحدا "
كانت بداخلها تشكر تلك الشُلة التي صاحبتها لفترة بالجامعة ..والتي تبنت لفترة إحدى التقاليع المتمثلة بمحاولة عيش الأجواء الشعبية ..وارتياد تلك الأماكن وتناول الطعام بها ...صحيح أنها لم تكمل معهم كثيرا... ولم تستطع أن تستسيغ معظم تلك الأماكن.. ولا هذه الأنواع من الأطعمة .. بل إنها لم ترافقهم إلا مرتين فقط ..واحدة للحسين ..وأخرى للسيدة زينب ..ولم تضع وقتها لقمة واحدة بفمها من الطعام الذي طلبوه ..لكنها لن تخبره بذلك .. لتنال سخريته منها وتأكيد نظرته عنها ...وستحاول أن تتناول الطعام الذي تعده أمه أمامه كما لو كانت معتادة عليه ولو قتلها ذلك ....
كم تشكر ذاكرتها القوية التي ظلت محتفظة بسجالات زملائها حول أسماء المطاعم الشعبية الأشهر ...وأنواع الأطعمة الغريبة بالنسبة لهم .... وما يقدم من أطعمة بكل منها ..حيث يحاول كل شاب من زملائها بالمجموعة أن يستعرض مدى مهارته ومعرفته بتلك الأماكن والأطعمة ...كدليل على مدى خبراته بعالم الأحياء الشعبية وعلى كونه شاب ( خُلاصة ) أو كما يطلق عليه بينهم ( شاب كووول )... لترفع رأسها بغرور وهي تكمل :
"أنا ماهي عز الدين ..لست مجرد فتاة نوادي مدللة ...ولا ابنة ذوات لا تعرف شيئا "
لترفع حاجبها بتكبر وهي تميل رأسها على جانب بينما تضيف وعينها تناظر عينيه المندهشتين:
"أنا سأخالف كل توقعاتك يا بشمهندس... فلا تحاول توقعي.. ولا سبر أغواري .. وإلا ستفشل "
لتربكها تلك اللمعة التي اشتعلت بعينيه بينما تسمع نبرة التحدي بصوته وهو يجيبها :
"لا تعطي نفسك اكبر من حجمها... ربما فاجأتني قليلا بموضوع الطعام ..لكن إرباكي وتغيير قناعاتي عن أمثالك .. ليس سهلا بل هو مستحيل ...فانا اعرف نوعك جيدا واقرأه بسهولة "
لتضحك بخفوت وهي تلاحظ عضه على نواجذه لسماع ضحكاتها ..وتجيبه بتحدي مشابه :
" لن أسألك عن ما تقصد بأمثالي ..ونوعي ..لأني أشعر أن الرد لن يعجبني ... لكن لا بأس فالأيام بيننا وسنرى من منا سيثبت للآخر خطأ اعتقاداته "
كانت تشعر بالسعادة والانتعاش ..لا تدري ما هو ذلك الشعور الذي يملأها عند وجودها بمحيطه ..رغم حدته ..عجرفته ..وقاحته ..لكنها أثناء سجالهم تشعر أنها حية ..تشعر أنها سعيدة ..لأول مرة من فترة طويلة يخفت بداخلها هذا الشعور بالوحدة والخواء ..لا تدري لماذا يثير فيها هذا السامح رغم وقاحته تلك المشاعر ..لكنها لا تهتم ...هي تريد أن تشعر بالمزيد منها ..دون أن تهتم بوضع تعريف لها ..
--------------------
لقد أنشغل معظم اليوم بالعمل ..وخاصة مع تراكمه عليه نتيجة غيابه معظم اليوم السابق ..مما لم يتح له فرصة الذهاب إليها وسؤالها ...ليعرف في منتصف النهار ..أن أبيه مجتمع بخالد بمكتبه اجتماعا مطولا ..فيقرر عدم الذهاب لهناك ..حتى لا يتصادم وأبيه ..أو يحتد عليها ليصل الصوت لأبيه أو خالد ...فلديه شعور ينبئه أن ما سيعرفه لن يعجبه ...ليقرر انتظار انتهاء الدوام الرسمي للعمل ..وانتظارها أمام المبنى للحديث معها ومعرفة ما يريده منها ...خارج نطاق العمل
-----------------------
خرج من مكتب خالد بعد أن استمع لخطته التي ينوي بها زرع شقيق زوجته بداخل المشروع ..حتى يستطيع معرفة ما يحدث فيه بالتفصيل ..واتفقا معا أن يقوم اشرف بتعينه ..بعد أن يلقي بضع جمل غاضبة عن اضطراره للقبول بهذا التعيين نتيجة توصية قوية من احد معارفه المقربين ..ولولا حاجتهم العاجلة لمهندسين لسد النقص الحادث في صفوف المهندسين نتيجة استقالة اثنين بصورة مفاجأة وسط ضغط مواعيد التسليم لم يكن ليستجيب لضغوط قريبه هذا ....وأن هذا التعين سيكون لسد حاجتهم العاجلة التي لا تحتمل الإجراءات الطويلة المعتادة من إعلان واختبارات وتصفيات ..وان تعيينه سيكون مؤقتا.. وتحت الاختبار.. لحين عمل الاختبارات المعتادة ...ما سيتيح لسامح أن يدخل بينهم دون أن يكون لديهم تخوف من وجود أي روابط أو علاقة تربطه به أو بخالد ..وسيجعلهم يحاولوا ضمه لصفوفهم... بحجة أن يساعدوه على التثبيت.. بما أن تقارير إجادته للعمل ستكون من خلال المهندس الأول ..والذي يعد المسئول الأول عن المشروع بالآن نفسه ....
ما أن أغلق وراءه باب مكتب خالد بهدوء حتى وجد مكتب تقى خاليا ...وقبل أن يتحرك خارجا سمع صوتها يأتيه من الحجرة الجانبية الصغيرة التي تصنع بها القهوة ... ويبدو أنها تتحدث مع احدهم هاتفيا ...كان يتحرك خارجا عندما لاحظ أنها تعطيه ظهرها وليست منتبهة له ..ليقرر الذهاب دون أن يزعجها لتتسمر قدماه وهو يسمعها تقول:
"حسنا خالتي تقى.. سأنتظرك أمام باب المجموعة في تماما الساعة الرابعة ..لا تتأخري ...آه خالتي ..لا تنسي أن تحضري معك سترتي فقد نسيتها والجو ليلا بدأ يبرد... وربما نتأخر قليلا في محاولة إيجاد ما نريده ..فالملابس المعروضة حاليا معظمها سيئ ..إما أشياء لامعة ..أو مقطعة .. أو مليئة بالخيوط والشراشيب ..أو الرقع ..ويقولون موضة !!!! أصبحت ألفُ ساعات طويلة حتى أجد ملابس تصلح للارتداء "
لتصمت قليلا ..مستمعة لمن يحدثها ..ليتحرك هو خارجا بهدوء يعاكس صخب نبضاته التي استشعرت من تحدثه ..بينما تصله كلماتها بخفوت وهو يتحرك مبتعدا :
"سأكون أمام الباب الخارجي في تمام الرابعة "
.................................
اخرج دراجته من الجراج ..وأوقفها بجوار حائط يبعد عدة امتار عن مدخل الشركة ..ووقف مستندا بكتفه على الحائط المجاور بانتظار خروجها.. أخذ يتابع وجوه الخارجين ..حتى بدا يشعر بالضيق وهو يغمغم ...:
"لماذا تأخرت هذه الفتاة ..لم يعد هناك أحد موجود بالمبنى تقريبا ..أتراها رحلت قبل أن أنزل أنا"
ليلمحها خارجة من باب المبنى ممسكة بهاتفها تتحدث به وتنظر يمينا ويسارا ..لكنها لم تلمحه لأنه كان خلفها ... ليقترب منها ما أن أنهت حديثها الهاتفي ..مناديا اسمها الذي دوما ما حاول تجاهل نطقه ...لكنه أضطر أن يستخدمه للفت نظرها.. فنادها بصوت منخفض رغم حدته :
"تقى"
لتلتفت إليه بدهشة وعيون مضطربة ..وملامح تحمل قلقا وارتباكا آثارا حيرته ..ليسألها :
"ماذا بك؟ أرأيت شبحا؟!"
لترد بحدة وهى تشيح بيدها :
"ماذا تريد؟!!... اسمع أنا مشغولة الآن ..أيا كان ما تريده أجله للغد "
كانت تتحدث وهي تتلفت حولها.. ما أثار ريبته وجعله يقترب منها أكثر سائلا بتوجس :
"يبدو انك متعجلة للتخلص مني !!..عموما هو سؤال واحد أرغب بإجابته ..بعدها بإمكانك أن تذهبي للجحيم لو أردتِ ..فلن أهتم " ..
لتسأله بلهفة حيرته وأربكته أكثر :
"أي سؤال هذا ..اسأل بسرعة واغرب عن وجهي ..فأنا لا وقت عندي للحديث الطويل "
وقبل أن يرد عليها سمع صوتا يأتي من خلفه ..حيث كان ظهره للشارع فلم يلمح توقف السيارة البيضاء.. ولا خروج تلك السيدة التي يحفظ نبرات صوتها رغم مرور الزمن وهى تهتف:
"آسفة تقى ..تأخرت عليك ..بسبب ...
ليحدث الثلاث أمور في وقت واحد ..التفاتته ناحيتها محاولا تكذيب أذنيه ..سماعه صوت تقى وهي تهتف بجزع – خالتي – وسماعها هي ما أن أصبح بمواجهتها وهي تهتف بتوق – ياااااسر ...
---------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 08-08-18, 01:41 AM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل السابع

"يبدو انكِ متعجلة للتخلص مني ..عموما هو سؤال واحد أرغب بإجابته ..بعدها بإمكانك أن تذهبي للجحيم لو أردتِ ..فلن أهتم ..
نظرت إليه تسأله بلهفة حيرته وأربكته أكثر :
"ما هو السؤال؟!! ..اسأله بسرعة واغرب عن وجهي ..فأنا لا وقت عندي للحديث الطويل "
وقبل أن يرد عليها سمع صوتا يأتي من خلفه ..حيث كان ظهره للشارع فلم يلمح توقف السيارة البيضاء.. ولا خروج تلك السيدة التي يحفظ نبرات صوتها رغم مرور الزمن وهى تهتف:
"آسفة تقى ..تأخرت عليك ..بسبب ...
ليحدث الثلاث أمور في وقت واحد ..التفاتته ناحيتها محاولا تكذيب أذنيه ..سماعه صوت تقى وهي تهتف بجزع – خالتي – وسماعها هي ما أن أصبح بمواجهتها وهي تهتف بتوق – ياااااسر ...
أنفاسه تتهدج وهو يناظر وجهها العائد إليه من بين طيات ماضيه ..يقاوم نبض قلبه المنادي باسمها بلوعة الشوق ..يلجم يديه الراغبة بضمها لصدره بالضغط عليهما حتى كادت أظافره القصيرة تحفر عميقا بلحم كفه ..يكاد يختنق بأنفاسه التي تستنشق الهواء المحمل برائحتها المحببة ..يحارب بعضه بعضه بين نيران شوق وكره.. حنين وبغض... اشتياق واختناق ..ليصرخ بها هادرا ما أن اقتربت محاولة لمسه :
" لا تقتربي!! ...إيااااكِ !..إياكِ أن تجرئي وتلمسني يدك المدنسة" ..ليرى ارتعاشه يدها المعلقة بالهواء.. قبل أن يلتفت مبتعدا ... يهرول كما لو كانت تطارده شياطين الجحيم باتجاه دراجته ..يهرب منها قبل أن يفقد تماسكه ويرتمي بين ذراعيها المعلقين بالهواء تعلق قلبه الخائن بها ....يمنع نفسه من التأثر بالدمعات التي لمحها تترقرق بعينيها قبل استدارته ..يغمض عينيه ليهرب من صورتها التي ارتسمت خلف جفنيه رغما عنه وهو يقارن ملامحها الآن بملامحها المحفوظة بداخله قبل سنوات عشر.. رغم محاولته ادعاء النسيان .. يطير بدراجته مسابقا الريح التي تبدو كما لو كانت تشبعت برائحتها ..فتضربه النسمات حاملة عبيرها إليه ..رغم ما يضعه بينهما من مسافات ...
-----------------
أغلقت الهاتف بضيق يبنما تفكر بوضع مهينار ..كم تشعر بالشفقة على هذه الفتاة ..لا تنكر أنها في فترة ما كانت ميالة لتزويجها من خالد ..ليس فقط لمجرد رغبتها بتزويجه من فتاة مناسبة تعرفها جيدا وتعرف أخلاقها ..ولا لأنها واثقة أن ماهي تختلف جذريا بطباعها عن والدتها ...وأنها تحمل الكثير من طباع وأخلاق أبيها عز الدين ..لكنها أكثر منه قوة في مواجهة الصعاب ..رغم أن ماهي نفسها لا تعي مدى قوتها ..لكن جزء كبير من رغبتها كانت راجعة لشفقتها على الفتاة نفسها ...فأخيها لاهي ومبتعد عنها ..وأمها أنانية ..وتعاملها كبيدق في خططها التي ترسمها للوصول لثروة خالد ..هي لم تكن جاهلة بنوايا شقيقة زوجها ..لكنها فقط كانت تتجاهلها ..لأنها واثقة أن ماهي ليست مسؤولة عن نوايا والدتها ....
لكنها لا تنكر سعادتها بوقوع خالد بالحب ..واختياره لهمس التي اكتسبت محبتها.. و التي زادت مع قربها منها ...رغم بعض الاختلافات والمشاحنات التي لا يخلو منها منزل...خاصة مع اختلاف الطباع والنشأة بينها وبين خالد .. إلا أنها أثبتت نعم الكنه ..أخرجها من شرودها صوت همس السائل:
"ما بك ماما سمية ..شاردة ويبدو عليك الضيق ..هل هناك ما يزعجك"
لتتنهد بعمق متجاهلة الإجابة بينما .. تسألها بصوت منخفض بينما تتلفت حولها باحثة عن ماهي:
" أين ماهي ؟! ألم تكن معك؟! "
لتجيبها همس دون أن تحيد بعينيها عنها كما لو كانت تحاول أن تستشف سبب ما يبدو عليها :
"نعم لكنها أرادت الجلوس بالحديقة قليلا ..وشعرت أنها ترغب بالانفراد بنفسها فتركتها ودخلت "
لتتمعن بوجهها وهي تكرر سؤالها :
"ما بكِ ماما ؟!! هناك ما يضايقك ..أخبريني ربما استطيع أن أساعدك؟!! ..أهو أمر يخص خالد ؟!! فانا اشعر به ضائقا منذ فترة ..وكلما سألته تهرب من الإجابة ..وقد بدأت اشعر بالقلق فعليا "
لتلتفت لها سمية وهي تسألها بانتباه :
"ما به خالد ؟!! أنا أيضا اشعر انه يبدو شاردا وهناك ما يشغله من عدة أيام ؟!!
لتتنهد همس وتزفر بضيق:
"أنا من أسألك ماما !! فأنا لا أعرف ما به ..وهو لا يخبرني شيئا ..ظننتك تعرفين ..وهذا سبب شرودك وضيقك ؟!!"
لتجبها سمية نافية :
"كلا عزيزتي...بل ضايقتني مكالمتي لوالدة ماهي رقية ..عمة خالد ...لقد ظننتها ستهرع عائدة فور علمها بما حدث لماهي ..وعندما لم تحضر طوال الفترة السابقة ..هاتفتها لأعرف سبب تأخرها بالقدوم ..لتفاجئني ببرودها.. وإخبارها لي أنها لن تعود حاليا ..بل ستمد إجازتها أكثر ..حيث ستسافر غدا مع صديقاتها لباريس لحضور أسبوع الموضة هناك وقد تمتد إقامتها هناك لفترة أطول ..دون أن تأتي حتى للاطمئنان على ابنتها ..مكتفية بالقول أنها اطمأنت عليها مني ..وان اهتم بها لحين عودتها "
لتعقد همس حاجبيها وهى تقول بغيظ:
"أي أم هذه ؟!!! إجازاتها وسفرها أهم لديها من الاطمئنان على ابنتها... التي تعرضت لحادثة ..أين لهفة وقلق الأم .. لو أنها أمي لتبرأت منها ..ولقمت بقص وتقطيع وإفساد كل ما ستحضره من باريس ..حتى لا تفضل الموضة على الاهتمام بي"
لتنطلق ضحكات سمية وهي تهتف :
"يا الهي يا همس!!! ..أظنك بالفعل كنت ستفعلينها ..لكنك لا تعرفي عمة خالد ..هي من النوع شديد الاهتمام بالمظاهر ولو على حساب أبنائها "
لتزفر بحيرة وهي تكمل:
"المشكلة الآن!!.. كيف ابلغ ماهي بسفر أمها دون أن تأتي للاطمئنان عليها ...بالأساس ..أنا ما زلت حائرة في أسباب انقطاع التواصل بينهما ..فكل منهما لا تتحدث مع الأخرى مباشرة ..يبدو أنهما متشاجرتان لسبب ما ..وكنت آمل أن أحاول الإصلاح بينهما ..رغم جهلي بسبب الخلاف عندما تحضر ..الآن لا اعرف كيف أخبر ماهي بسفر أمها دون حتى أن تحاول محادثتها مباشرة "
ليقاطعها صوت ماهي قادما من باب الصالون وهي تقول بنبرة يظهر بها الألم رغم محاولتها ادعاء البرود واللامبالاة:
" لا داعي لإبلاغي شيئا لقد سمعت جملتك وأنا داخلة الآن "
لترتبك سمية وهمس قلقا من أن تكون ماهي سمعت حوارهم من بدايته لكنهما شعرتا أن ماهي لم تسمع الحوار كاملا ..بل غالبا الجزء الأخير فقط ..لتقف سمية مواجهة لها محاولة تبرير موقف أمها الغير مبرر :
" ماهي صغيرتي ..اعذري والدتك ..لقد كانت راغبة بالقدوم ..لكني طمأنتها انك بخير ..وإصابتك طفيفة ...وأن لا داعي لإلغاء حجز تذاكر سفرها وترتيباتها المعدة مسبقا ...لأنك ستبقين برعايتي حتى تكون مطمئنة عليك "
لتلتوي شفاه ماهي بابتسامة مريرة.. بينما تلتمع عينيها بدمعات أبت أن تترك لهم حرية النزول .. وتميل ناحية زوجة خالها مقبلة وجنتها وهي تقول برقة :
"ما أطيب قلبك خالتي سمية !!...لا تشغلي بالك بمحاولة إيجاد تبريرات لأمي الغالية ..أو محاولة تجميل و مداراة موقفها فلم يفاجئني عدم قدومها بل كنت متوقعة إياه "
لتنظر لها سمية بحيرة وهي تسألها :
" هل تشاجرتما معا قبل سفرها ؟!! لماذا هذه القطيعة مع أمك يا ابنتي؟!! ...مهما حدث بينكما تظل أمك ..ولا يجب أن تجافيها "
لتزفر ماهي أنفاسها بعمق ...بينما ظهر الألم جليا على ملامحها وهي تجيب:
" لا تقلقي خالتي ..لا يوجد شجار ولا قطيعة ..كل ما في الأمر مجرد خلاف بوجهات النظر حول أولويات الحياة ...التي اختلفت رؤانا حولها ..وتعرفين أمي .. لا تتحمل أو تقبل أن يخالفها أحد رأيها فتتخذ موقفا ضده ..لكن الأمر بسيط وسيزول بعد عودتها فلا تقلقي ..وأسمحي لي أن اصعد لترتيب حاجياتي ..للعودة لمنزلي ..فقد تحسنت صحتي وبت أفضل ..وقد أطلت المكوث لديكم.."
لتقاطعها سمية وهمس معا بصوت واحد مستنكر :
" بالطبع لن نقبل - لا يمكن أن تذهبي "
لتقترب منها همس التي كانت تتابع حوارها مع حماتها بصمت ..بينما يلفها شعور بالحزن على تلك الفتاة الرقيقة التي تشعر أنها وحيدة ...رغم ما يحوطها من معالم الترف والمال ..فهي تكاد تلمس ألمها ..لتحمد ربها بداخلها على أسرتها الطيبة المتحابة ..التي دوما ما أحاطتها بكل الحب والرعاية رغم ضيق الحال ..لكنها أبدا لم تشعر بوحدة أو احتياج لأنهم دوما معها وحولها.. ما زاد من مشاعرها بالعطف نحو ماهي .. لتقترب منها و تلف يديها حول جذعها تعاتبها بمحبة:
" كيف تقولين أنك أثقلت علينا؟!! ..أهناك فتاة تثقل على أهلها عندما تبقى معهم ..أليس خالد كشقيقك ..وأنا وأنت صرنا صديقتين مقربتين رغم فارق الطول بيننا "
قالتها بجدية وهى تشير بيدها على الفارق الكبير بينهما بالطول مما جعل الابتسامة تظهر على وجه حماتها وماهي ..لتكمل هي :
"اسمعي يا فتاة ..هذا منزلك قبل أن يكون منزلنا .. ونحن لا يوجد لدينا فتيات يعشن وحدهن ببيت خالي "
لتقاطعها ماهي بحرج :
"البيت به الخدم والحارس "
لتعترض همس بصوت مستنكر :
"أي خدم وحارس؟!! ..إن وجودهم مدعاة للقلق أكثر من عدمه ..اسمعي... هذا الأمر محسوم ..لا خروج من هنا إلا بعد عودة والدتك أو شقيقك من السفر ..لن تبقي وحدك بالمنزل ..ولا أظن خالد سيقبل بذلك "
"بالتأكيد خالد لن يقبل بذلك "
فاجئهم صوت خالد العائد من عمله ..والذي اقترب مقبلا جبهة همس ووالدته ومحييا ماهي ..بينما يكمل سائلا:
" فقط لو أخبرتموه ما هو الأمر الذي لن يقبل به وتؤكده زوجته العزيزة "
لتخبره والدته بسفر عمته ورغبة ماهي بالعودة لمنزلها.. واعتراضها هي وهمس على بقائها وحدها هناك .. ليعقد خالد حاجبيه وهو يؤكد بصوت صارم :
" بالتأكيد لن أقبل ..ولن تعود ماهينار لهناك وحدها ، هذا أمر مفروغ منه "
..ليقاطع محاولتها للاعتراض ..بحزم هادئ ... ولا مجال للاعتراض أو المناقشة
لتخفض ماهي رأسها بقبول فاتر.. بينما تنسحب معتذرة عن العشاء لرغبتها بالنوم .. والتي شعرت همس أنها مجرد حجة للتهرب منهم.. حتى تخفي تلك الدمعات التي تهدد بالنزول أمامهم لتطلق لها العنان بغرفتها وحيدة ..
---------------------
كان جالسا بسيارته التي ركنها خلف سيارة أخرى بشارع جانبي لكنه يتيح له رؤية مدخل المجموعة والشارع المواجه دون أن يراه الخارج من بوابتها ...لقد حاول المقاومة ...يا الله كم حاول المقاومة ..الهرب.. منع نفسه من الانتظار ...لكنه لم يستطع ...عشر سنوات مرت منذ آخر مرة وقعت عيناه عليها مباشرة ...رغم محاولتها التواصل معه عدة مرات ..لكنه أبى الاستجابة لها ...كان يغلق الهاتف بوجهها كلما اتصلت ...يرفض فتح باب الشقة ما أن يسمع دقاتها ويراها من ثقبه.. فينهرها طالبا منها الذهاب منعا للفضائح ...حاولت توسيط بعض المعارف والأقارب .. دون أن تخبرهم سبب الخلاف ليسمح لها بلقائه أو لقاء ياسر ...لكنه رفض .. وقام بتطليقها غيابيا وإرسال الأوراق على عنوان منزل أسرتها.. الذي علم أنها تقطن به ...كما أرسل لها كامل حقوقها لديه من مؤخر ونفقة ومبلغ مالي يوازي قيمة قائمة الأثاث ....مع تحذير بألا تحاول الاقتراب منه ..أو من ياسر ..
هو أيضا لم يخبر أحدا بالسبب الحقيقي للانفصال!! ..وكيف يمكن أن يفعلها؟؟!! ...كيف يهين نفسه أمام الجميع؟؟!! ..كيف يكسر ابنه بتشويه سمعة أمه بعيون الناس ؟!!...لذا.. اكتفى بكلام مرسل لكل من توسط محاولا التوفيق أو السؤال عن السبب ..عن وجود مشاكل وخلافات يستحيل معها العشرة بينهما دون تفاصيل ......
لمح تقى تخرج من باب المجموعة وهي تتحدث بالهاتف وتتلفت حولها تبدو بانتظار احد ما ...ليرى اقتراب ابنه ياسر منها ...ورغم أنه يعطيه ظهره ..لكنه شعر بغضبه وتوتره من وقفته وتشنج جسده الواضح ..ويبدو أنهما كانا يتجادلان.. لحظات مرت قبل أن يلمح توقف تلك السيارة البيضاء الصغيرة...بجوارهما ..لتترجل منها تلك الفاتنة الأنيقة .. التي ترتدي ثوبا بلون السماء مطبع عليه ورود صغيرة بيضاء ..وفوقه جاكت صغير من خامة الجينز.. يعلوه حجاب ابيض زادها بهاء لدرجة خطفت دقات قلبه... يا الله ما زالت رغم السنوات والجرح الذي أدمى روحه ...كرامته ...رجولته ...قادرة على إثارة الفوضى بمشاعره ..ما زال قلبه يهفو إليه وترتفع نبضاته وتزداد دقاته ..تماما كما رآها لأول مرة ..مراهقة صغيرة لم تتعدى السادسة عشرة من عمرها ... ورغم تغيرها كثيرا عن ما مضى حيث اكتسبت هالة من الهدوء ..إلا أنها على ما يبدو ما زالت تحمل نفس الشعلة التي لم تحملها غيرها يوما والتي تضئ دواخله بقدرة تمتلكها وحدها ...
انعقد حاجبيه وتوترت جلسته عندما رأى رد فعل ياسر المصدوم عندما استدار ورآها .. ليدير سيارته ناويا اللحاق به عندما لاحظ انفعاله وتركه لهما مهرولا باتجاه دراجته ..لتحيد عينيه ناحيتها بنظرة أخيرة ..فينتفض قلبه فزعا وتضغط قدماه على الفرامل تلقائيا ..ليوقف السيارة بصورة حادة وينزل منها مهرولا ناحية تلك الصارخة.. التي تسند خالتها الفاقدة للوعي بين ذراعيها..ليصل إليهم في نفس توقيت خروج بعض حراس الأمن الذين سمعوا صرخة تقى وجاءوا مهرولين للمساعدة ..ليصرخ ناهرا احدهم عندما رأى يده تمتد محاولا إسنادها :
"دعها !! أنا من سيحملها "
...ليتراجع الفتى ناظرا له بدهشة دون أن يهتم هو ...يعرف أن الشاب يرغب بالمساعدة لا غير ...لكنه لم يستطع أن يتحمل رؤية يد رجل تلمسها !!..ليسحبها من بين ذراعي تلك الباكية ويحملها رغم الألم الذي يعانيه وأنفاسه التي تخرج بصعوبة ممزقة صدره ..ليقول بصوت متقطع بينما يتحرك باتجاه سيارته :
" الحقي بي سنذهب بها لأقرب مشفى بسرعة "
كان كلاهما يقف بقلق أمام حجرة الكشف ..تقى تبكي وتدمدم بكلمات غاضبة.. ناعته ابنه بمختلف أنواع الشتائم ..وملصقة به كافة نقائص الكون....دون أن يهتم هو بمحاولة الرد عليها أو الدفاع عنه ..كانت كل حواسه مع تلك المستلقية على سرير الفحص ..يفصل بينهما جدار من الحجارة والسنوات والجروح ..ورغم ذلك يعرف أنه لن يتحمل الحياة أن غابت أنفاسها عن دنياه ..رغم البعد ..الرفض ..الهجر ..لكنها ستظل أكسجين الحياة له ..حتى لو استنشقه عبر المسافات ...
خرج الطبيب ليهرع كلاهما إليه لتسأله تقى عن حالتها ..فيجبها أنهم حقنوها بمهدئ ..وتم إضافة علاج لخفض الضغط وتنظيم ضربات القلب بمحلول علق لها ... حيث كانت ضربات قلبها غير منتظمة نتيجة الارتفاع الشديد بالضغط ..لتخبره أنها تعرضت لموقف سيئ وانفعال شديد ..فيؤكد عليها الطبيب ضرورة إبعادها عن أي انفعالات ..والاهتمام بأخذ أدوية الضغط بأوقاتها وإلا ستكون معرضة للإصابة بجلطة بأي وقت ..
ورغم التزامه بالصمت ..ومحاولته الحفاظ على ملامحه خالية من التعبيرات ...لكنه كان يتابع كلمات الطبيب بتركيز وهلع داخلي ..حبيبته مصابة بضغط مرتفع مزمن ..ومعرضة للإصابة بجلطة بأي لحظة!!! ...حبيبته مريضة وتعاني !!!..وهو غير قادر على مساندتها ...على الاقتراب منها !!..يمنعه عنها أغلال من نار الغيرة ...وقيود غزلت من دماء رجولة مهدورة ...وسلاسل من أيام وشهور وسنوات من البعاد والابتعاد !!..
رأى ابتعاد الطبيب بعد أن أوضح أنها نائمة نتيجة المهدئ ..وستستيقظ خلال ساعتين تقريبا ...وبإمكانهما أن يخرجاها بعدها إن أرادا....أو الأفضل إبقائها الليلة تحت الملاحظة ...ليسمع تقى تخبره أنها ستخرجها فهي تكره البقاء بالمستشفيات ...وستهتم بها بالمنزل ...
لتلتفت بعدها إليه شاكرة وجوده قبل أن يسمعها تسأله وهى تفتح باب الحجرة خلفها إن أراد الدخول إليها معها؟!!
....يا الله ..الدخول إليها ...رؤيتها عن قرب ...لمسها ..استنشاق عبيرها !!...كم يتمنى لو يقبل ...لو يتغاضى عن كل شيء ويدخل ...لكن يظل الماضي والجرح حائلا بينهما ..وتظل كرامته وكبريائه أقوى من رغبات القلب ..ليهز رأسه بالنفي وهو يجبها أن لا داع لإزعاجها ..وانه سيطلب لهم سيارة أجرة تنتظرهم أمام المشفى لإعادتهما لمنزلهما عندما تفيق خالتها.....لترفض هي شاكرة أنها ستتصرف... وقبل أن يجادلها اقتربت إحدى العاملات تطلب من أحدهما الذهاب لاستكمال البيانات ودفع الحساب ..ليهم هو بالذهاب معها... ليفاجئ بيد تقى على ذراعه تمنعه وهي تقول له بارتباك وإحراج :
"أعتذر عماه!! ...لا استطيع أن اقبل أن تدفع أنت حساب المشفى"
هم بمجادلتها لترفع يدها بهدوء قائلة :
" .أرجوك لا تجادلني ...لم يعد يربطك بها شيء يتيح ذلك!! ..ولن تقبل هي عندما تستيقظ ..وقد تغضب مني! ...كما أن الأمر بسيط وسنخرج بعد قليل ..فالمبلغ لن يكون شيئا يذكر "
لم تدع له فرصة للجدال واتجهت لأخر الرواق بصحبة العاملة ..ليجد نفسه أمام الباب نصف المفتوح والذي كان يهرب من النظر من خلاله وهي أمامه ..لتعانده عينيه وتلتقط نظرة منها ..ليجد قدماه تأخذه إليها رغما عنه ليدفع الباب قليلا ويدخل مغلقا إياه خلفه ..
كان يقترب من السرير الأبيض الصغير المستلقية فوقه بشحوب ..لتخذله ساقاه ما أن اقترب ولامست ركبتيه حافة الفراش ..ليسقط راكعا على ركبتيه مستندا بأصابعه على حافة الفراش حيث تستكين أناملها ..لتزحف أنامله كما لو كانت ذات إرادة مستقلة ملامسة إياها ..لتندلع بداخله رعشة شملت كامل جسده.. جعلته يطبق أنامله بقوة مبعدا إياها عن أناملها... دون أن يبعد كفه بالكامل ..كما لو كان راغبا ببقائه قريبا منها رغم عدم قدرته على تحمل لمسها...فيكفيه مجرد القرب!! ..كان وجهها النائم مائلا باتجاهه مما سمح لعينيه بالنظر إليها .. والتدقيق بملامحها الشاحبة
...ورغم أن الزمن ترك بصماته عليها فقد نحلت ..وفقد وجهها استدارته المحببة وظهرت الأخاديد حول فمها وعينيها .. وضاع وهج البريق الذي كان يشع منها.. وبدت كما لو كانت شبحا باهتا لأثيرته الغالية في الماضي ..تلك التي طعنت رجولته في مقتل....إلا أنها ما زالت قادرة على رفع حرارة جسده ومعدل نبضاته ...كما لو كان موشوما بها رغم كل ما حدث! ..
لقد ماتت روحه في نفس اللحظة التي طردها فيها من حياته ..لتخرج مصطحبة أنفاسه وضحكاته ورغباته الحسية معها... ليبقى بعدها جسدا هائما باردا ..فاقدا للهوية ..مغتربا داخل وطنه ..وهل يحيى الإنسان بلا هوية أو عنوان؟؟!! ...
هي كانت عنوانه !! ..وكانت تاريخه ..هي كانت بدايته ونهايته ..فكيف يمكن أن يسامح القاتل من قتله .. ربما لو كان هو القتيل وحده لاستطاع الغفران ..لكنها قتلت من هو أغلى عنده من نفسه ...قتلت حبيبته بداخله ..قتلت براءتها.. طهارتها ..إخلاصها ....فلا تستحق إلا أن تشنق على باب قلبه وتلقى جثتها خارج حياته ..وتدفن بأقصى مكان لا تصل إليه عينيه أو ساقيه ..ليقف بسرعة مستندا على حافة الفراش محاذرا لمسها .كي لا يضعف ..ليلتفت مغالبا نفسه ...وهذا الألم الذي يشق قلبه مهددا بتوقف نبضاته.. وتلك الدموع التي ملئت مآقيه ..تاركا إياها ..وخارجا من غرفتها ..ومن المشفى بأكمله ..دون أن يحاول الالتفات ....
------------
كان يدور حول نفسه بحجرته كالأسد الغاضب المحبوس داخل قفص ..لكنه قفص جدرانه من أفكار وذكريات ..ذكريات تقتحم عقله رغما عنه
..ذكرى ضحكات ..مشاغبات ....يرى نفسه طفلا ينام بحضنها ..وهي تقص له حكايا عن الأمير الوسيم ودوما ما تجعل اسم الأمير ياسر ..يراها تطارده باركان الشقة لتمسك به وتدغدغه حتى تنهمر دمعاته من شدة الضحك ..يراها تحضر له شطائره وتجلس بجواره تؤازره وتساعده في استذكار دروسه ..يراها تموت قلقا في انتظار نتيجة اختباراته ..يراها تصنع له وجباته المفضلة ..حلواه المفضلة ..تستمع لمقالبه مع زملائه ..بل وتخطط معه للمزيد منها ..لتضيع كل تلك الصور ..برؤيا أخيرة ..لخطاب بيد والده ... يحمل بين حروفه دليل خيانة ..ودموع عيناها وصمتها تثبت الجريمة ..ليدور حول نفسه يشد خصلاته بيديه ويصرخ بصوت مقهور:
"آآآآآآآآه ...لماذا عادت؟ ..لماذا عادت ؟!..لا ..لن أسمح لها بأن تعود ..لابد أن تبقى كما كانت طوال السنوات الماضية ..غائبة عن حياتنا ..هي ماتت ودفنت ..والموتى لا يعودون .. ليرتمي جالسا على فراشه رأسه محني ويديه ملتفة حول رقبته ..ودموعه تنهمر رغم عنه ..ليسمع صوت إغلاق الباب الخارجي ...يبدو أن أبيه عاد ..لا يعرف هو أين كان ..ولا يهتم بأن يعرف.....فهو غير راغب أو قادر على مواجهته الآن. .. ليرتمي على الفراش بوضع جانبي ملتف حول نفسه ويعطي ظهره لباب الغرفة ..مدعيا النوم قبل لحظات من شعوره بأبيه يفتح باب حجرته ويقف لثواني أمامه ..ثم يغلقه ثانية بصمت ..فينقلب هو على ظهره فاتحا عينيه ..لافا ذراعه حول رأسه مفكرا.. بأنه لن يقبل بأي صلة تسمح لها بالولوج لحياته ثانية ..وخاصة لو كانت هذه الصلة تتمثل بفتاة وقحة تضع نفس العطر ولها نفس الاسم..و العينان الخائنتان... وتربطه بها قرابة لا يرغب بها ..فلن يسمح بأن يكون هناك أي تواصل بينهما
..............
تسير بسرعة بشارعهم رغم إرهاقها الشديد ..تمني نفسها بحمام سريع وقليل من الراحة قبل موعد ذهابها للعيادة ..فاليوم كان لديها عدة محاضرات بالإضافة ..لتدريب واختبار عملي بالمشفى الجامعي ....وليلة أمس لم تنم إلا اقل من ساعتين تقريبا ..فقد استغلت ذهاب نبيلة مع أخيها الصغير معاذ لبيت أسرتها.. وذهاب حسين لأحد دروس التقوية ...وقضت وقتها تساعد أخيها حسن في فهم المسائل الحسابية وكيفية حلها وشرحت له أيضا النقاط الصعبة بمادة العلوم ..
لقد ادعى حسن انه يشعر بألم بمعدته .. ويرغب بالنوم حتى لا يذهب مع أمه ويبقى معها بالمنزل لتذاكر له ..ورغم أنها كانت بحاجة لهذا الوقت لمراجعة اختبار اليوم ..لكنها لم تستطع أن تخذله بعدما اتفقت معه ووعدته ..وحقا لم تندم رغم أنها اضطرت للبقاء دون نوم حتى الفجر لتعويض الوقت الضائع واستذكار دروسها هي ..لكن تلك الفرحة التي رأتها بعينيه ..وهذا الحضن الذي منحها إياه عندما استطاع فهم وحل المسائل الصعبة ..كان يستحق أكثر ..لتشق الابتسامة ثغرها ..لكنها ما لبست أن اختفت عندما لمحت عبلة.. مدرسته.. تقف بعباءتها السوداء ..وحجاب مماثل أمام باب بيتها الخارجي ..وتسمعها وهي تنهر طفلا يبدو من عمر أخيها ..لتقترب أكثر وتقف خلفها لتسمعها تقول للفتى الصغير:
"اخبر أمك أنها إن لم ترسل معك بالحصة القادمة حساب الحصص الفائتة ..بل وأيضا الشهر الجديد مقدما فسأطردك من المجموعة ..ولتقابلني أنت أو هي أن فلحت أو نجحت"
.. لترى الفتى يهز رأسه بإذعان.. بينما يردد أنه سيخبرها ..ليفلت يده منها وينطلق جريا كما لو كانت الشياطين تطارده ...وتلتفت هي لتبدو المفاجأة جلية على وجهها وهي تجدها خلفها ..لتلوي فمها بينما تحييها بضيق وتساؤل:
"مرحبا هند.. لما تقفين هكذا ؟!! أتريدين شيء؟! "
لتنظر لها هند بينما ترد التحية ببرود وتسألها بمكر:
" كنت أرغب أن آخذ رأيك بشيء يا عبلة "
لترفع عبلة حاجبها بتوجس وهي تسألها:
" تريدين أخذ رأيي أنا؟!! ..خيرا.. تفضلي أولا بالداخل "
لترد هي بخبث:
"أكيد أنت!! ..فأنت أكثر من سيفدني ..بما أنك صاحبة خبرة بالموضوع ..والأمر لا يستدعي الدخول ..شكرا لك "
لتميل رأسها بينما تحدق بعيني عبلة القلقتين وهي تكمل:
"في الحقيقة أنا أفكر أن أعطي دروس لأبناء الحي هنا.. خاصة طلاب المرحلة الابتدائية ..فأنت تعرفين أن الظروف أصبحت ضيقة بعد وفاة أبي ..والعمل بالعيادة لدى الدكتور أكرم لا يعطي عائدا جيدا ..لكني أظن أن إعطاء الدروس الخصوصية مربح أكثر ..ما رأيك؟!! "
لتتغير معالم وجه عبلة ..وتظهر علامات الغضب والرفض عليها بينما تجبها بحدة:
" أي دروس هذه ..ومن سيقبل أن يجعل فتاة لم تنهي دراستها بعد تدرس أبنائه ..وأيضا كيف ستفعليها وتتركين دراستك "
لتهز هند كتفيها وهي ترد بخبث:
" ومن قال أني ساترك دراستي ..فقط سأستبدل وقت العمل بالعيادة ..بإعطاء الدروس ..وبالنسبة لمن سيقبل؟!! "
اقتربت أكثر رافعة حاجبها بتعالي وهي تكمل :
" الجميع عزيزتي.. سيتمنى ويسعى أن أدرس أبنائهم ..وسيتوقعون ..أن يخرجوا من تحت يدي متفوقين مثلي ..وخاصة إنني سأجعل قيمة الدروس مخفضة عن باقي المجموعات الأخرى "
لتضع عبلة إحدى يديها بخصرها بينما تشيح بيدها الأخرى بوجه هند وهى تهتف بحدة :
"لا أنا لن أقبل بهذا ؟ أتريدين أن تقطعي عيشي.."
لتضيف بحقد نضح من بين كلماتها:
"ألا يكفي أنك بكلية الطب ..وفقط عامين وتصبحين طبيبة ..وتجمعين الأموال من العيادات والمستشفيات.. وحاليا لديك معاش أبيك ..وأيضا تعملين بعيادة الدكتور أكرم ..وتأتي بكل بجاحة وتخبريني أنك تريدين أن تغلقي باب رزقي أيضا ..والله لن يكون .."
كان صوتها بدء بالارتفاع لتقاطعها هند بحدة وهي تنذرها:
"لا داعي لتهديداتك الفارغة ..فلا رغبة لي بإعطاء دروس أو غلق باب رزق أحد ..حتى لو كان فتاة طماعة مستغلة مثلك "
لترفع يدها مانعة إياها من الرد وهي تضيف:
"لكني لن اسمح لك أن تضايقي أخي حسن ..وتجبريه على أخذ دروس لديك و إلا تضايقيه بالمدرسة حتى جعلته كارها لها ..ابتعدي عن أخي ..وليس هذا فقط ..بل إياك أن تتقصديه أو تضايقيه بأي شكل .. لا شأن لك بأخي ..لأبعد أنا عنك والغي الفكرة من رأسي "
لتقرب رأسها منها وهي تشير بسبابتها بوجهها وتكمل:
" وقسما بربي يا عبلة لو عرفت من حسن أنك ضايقته بأي شكل كان ...أو تلاعبت بدرجاته الشهرية ..أو آذيته بأي صورة ..لأجعلنك تجلسين على باب بيتك تشحذين تلميذا واحدا فلا تجديه.. ولو اضطررت لإعطائهم الدروس مجانا لتأديبك.. ابتعدي عن أخي ..ابتعد عنك"
لتتركها محتقنة الوجه وتكمل سيرها ..بينما تسخر بداخلها من فكرة الناس عن مكاسب الأطباء الصغار.. حيث يظنون أنهم بمجرد التخرج سيجمعون المال الوفير ..لتلوي فمها بينما تردد بداخلها المثل الشعبي ( الصيت ولا الغنى )..
لتلمح شقيقها حسن يقف أمام محل البقالة القريب من المنزل.. ينظر لها بقلق ..ويبدو أنه رآها تتحدث مع عبلة ..لتشير له خفية وهي تبتسم بعلامة النصر ..لتشعر بسعادته ونظرة الامتنان والثقة التي رماها بها ..مما أثلج صدرها وهي تدلف لداخل المنزل
---------------

مضجعه على سريرها تحاول النوم حتى تهرب من ألمها من إحساسها باليتم رغم وجود والديها على قيد الحياة ..من شعورها بالوحدة ....لتجد نفسها تشرد به وبالساعات التي قضتها لديهم ..كم كانت ساعات دافئة ..شعرت في تلك الفترة بدفيء وسعادة لم تشعر بها منذ سنوات طويلة ..لتجد نفسها تبتسم وهى تتذكر سجالتهم الكلامية طوال جلستهم ..
لم تكن تعلم أنه في نفس اللحظة كان هناك من يشاركها نفس الذكرى... بنفس اللحظة بينما هو مضجع على فراشه... لتتحد الذكرى بينهما معا.. فيتذكرا كيف كان يراقبها ما أن وضعت والدته أطباق الطعام أمامهم ..كان يجلس أمامها ...يكاد لا يرفع عينيه عنها ..يرفع حاجب واحد باستهزاء وترقب ..كما لو كان يقول لها اثبتي قدراتك ..لتشمخ بأنفها وهي تتحداه بنظراتها... وتمد يدها بالشوكة لطبق الكرشة ..لتشعر بارتباك فعلي فالقطع تشبه الجلد السميك ..وتأبى أن تقطع بسهولة ..وعندما حاولت قطعها بقوة فوجئت بها تخرج رذاذ أفسد بلوزتها التي حمدت الله على لونها الأسود الذي أخفى البقعة لحد ما .....
أخذ يضحك بخفوت وهو يتذكر محاربتها لقطعة الكرشة ..والتي لحظها اختارتها (أم الشلاتيت) تلك القطع التي تتميز بطبقات متعددة فوق بعضها ..لكنها تحدته لتبتسم ويبتسم معا في آن واحد ...والذكرى تمر بينهما ...عندما قررت عدم قطعها ورفعها كلها ووضعها بفمها ..لتلمع عينيه بالإعجاب ..وتنتشي هي بإحساس النصر... لقد أعجبها طعمها ..لكنها لم تغامر بأخذ أخرى ...وقررت الانتقال إلى طبق الممبار .. وعندما حاولت قطع جزء بسكينها وشوكتها فوجئت بتناثر حبات الأرز من داخله .. لتجده يضحك ساخرا بينما يرفع قطعة بيديه ويأكلها ..كان يقضمها بقضمات متتالية أجهزت عليها بثواني ,,لتضع شوكتها وسكينها جانبا وتأخذ قطعة مثله بيدها تأكلها بنفس طريقته ..وهي ترفع حاجبها وتنظر له كما لو كانت تقول له أنا استطيع مجاراتك ولن تهزمني ....
لم يستطع أن يكتم ضحكاته وخيالها وهى تأكل الممبار بيدها ..تمسك القطعة بين إصبعيها السبابة والإبهام برقة.. وتقتطع بفمها قضمات صغيرة ..وتنظر له كما لو كانت طفلة قامت بإنجاز وتنتظر الإطراء ..كم كانت رقيقة في أكلها لوجبة لا تصلح معها الرقة ..
لينقلب كلاهما على جانبه كما لو كان باتفاق مسبق وتستمر نفس الذكريات تسري بينهما ليتذكرا مشكلتها الكبرى ( الكوارع) لقد حاولت.. حقا حاولت أكلت بالبداية جزءا من الفتة الموجودة بالطبق ...لكنها ما أن حاولت أكل الكوارع حتى وجدت معدتها تنقبض رفضا.. ... لكنها تلك النظرات التي طاردتها هي ما جعلتها تحاول ..حاولت بالبداية مسكها بيدها مثله ... ففوجئت بها لزجة لدرجة أصابتها بالقشعريرة ..لتتركها وتحاول بالشوكة قطع قطعة صغيرة.. لكنها لم تستسغ طعمها.. لتلتفت حولها بحيرة فتجد العيون بأكملها مسلطة عليها ..يبدو أن التحدي بينهما لم يكن خفيا كما كانا يظنا ..بل لاحظه الجميع ويتابعونه بشغف كما لو كانوا يشاهدون مباراة قمة في نهائيات بطولة ..لتشعر باحمرار وجهها ..وتنظر له كما لو كانت ترجوه أن يخرجها من هذا الموقف المحرج ...
كم أنعشته نظرة الاستغاثة بعينها ..كما لو كانت تحتمي به من خجلها من نظرات أسرته... التي يبدو أن ما يحدث لم يكن خافيا عليهم ..كم أمتعه احمرار وجهها الشهي ..لكن أكثر ما أثاره هي تلك اللحظة التي قامت بها والدته بتقطيع جزء من الكوارع بيدها ووضعها بفمها وهى تقول :
"حبيبتي يبدو أنك غير قادرة على قطعها ..سأطعمك أنا "
وقتها انتظر ردة فعلها بتحفز ..كان كل ما فيه ينتظر كيف ستتصرف مع أمه ..وخاصة انه شعر بنفورها من الكوارع ..لكنها كالعادة فاجأته ....
ابتسمت بينما تتذكر تلك القذيفة التي كادت تسد بلعومها دون توقع من والدته وهى تحشر قطعة كبيرة من الكوارع بداخل فمها ..لقد قاومت شعورها بالتقيؤ ...ورسمت بسمة على وجهها وهي تشكرها وتحاول مضغ القطعة وابتلاعها ..فما كانت لتحرج تلك السيدة الحنون ولو قتلها الطعام ..ورغم كرهها لطعم الكوارع ..لكن شعورها بهذا الدفيء والاهتمام كان كافيا ليسعدها وينسيها طعمه ..كانت تضيف المزيد لطبقها ..وتربت على ظهرها ..وتحسها على أكل المزيد ..منذ كانت طفلة يغمرها حنان أبيها ..لم يكن هناك من يهتم بطعامها ..لتنظر إلي تلك السيدة بشكر .. وتوق .. وتمني ..كم تمنت أن تكون والدتها كمثل تلك السيدة ..بحنانها الغامر ..لتعود عيناها فترتطم بعينيه ..فتجد فيهما نظرة لم تفهمها شعرتها مزيج من فخر وإعجاب وحيرة وشيء آخر لم تعرف ما هو ....
أكثر ما أثار إعجابه وتعجبه ...تلك اللحظة عندما ابتلعت ما بفمها بصعوبة واستدارت لتشكر أمه ..عندها قرأ بعينيها مشاعر أربكته ..شعرها طفلة تهفو للحنان والاهتمام ..نظرتها لأمه كانت نظرة إعجاب وانبهار ممزوج بألم .. لم يجد فيها أي تعالي أو تكبر ..بل كانت طفلة رقيقة بعيون غائمة بالمشاعر... سرقت نبضة من قلبه رغما عنه ....لا يدري لما شعر لحظتها برغبة غامرة بأن يقوم ليضمها ويربت على رأسها كما لو كانت طفلته ويخبرها أن لا تخاف ..ليشعر وقتها بخبطة جعلته يكتم صيحة ألم وسباب .. وهو ينظر لهمس المجاورة له ..والتي لم تراعي إصابة قدمه ..بينما تميل عليه لتهمس بخبث عابث :
"كف عن النظر إليها وركز بطعامك ..لقد كدت تسبب لها عسر هضم بمراقبتها ..يكفي حرب التحدي والنظرات ..لقد انتهت المباراة وهي من فازت"
..كاد يرد عليها ردا يشفي غليله .. لكنه ما أن رفع رأسه حتى التقط تلك النظرة المتأملة له بعيني أبيه ..نظرة شعرها تعري روحه ..خاصة مع تلك البسمة بوجهة ..ليشعر أن الجميع يعلم بتخبطات أفكاره تجاه تلك الجالسة تتحداه بقلب بيته ووسط أسرته ....كانت الوحيدة الغافلة عن ما يحدث هي زوجة خالها .. التي كان كل تركيزها على كيف توائم بين أكل الطعام بالشوكة والسكين حينا .. وبيدها حينا آخر... وتبدو كما لو كانت في حالة تركيز قصوى على مهمة مصيرية .....
لم تعرف ما الذي قالته له همس ... لكنها لاحظت أنه كف بعدها عن النظر إليها مركزا بطعامه ..لتحمد الله بسرها ... فما كانت قادرة على إدخال المزيد لمعدتها التي بدئت تئن ..لكن لو خيروها بين تلك التقلصات التي عانت منها بمعدتها ساعات طوال... حتى بعد أن تناولت دواء مهضما ...وقرصا مسكنا للألم ...وبين أن تشاركهم تلك الوجبة والجلسة الرائعة التي تبعتها... حول أكواب الشاي ..وسط مشاحنات همس وسامح ...ومداعبات أبيهم واهتمام وحنان أمهم ..لاختارت أن تنقل للمشفى بتسمم لو كان المقابل تكرار هذه الجلسة ..ليتنهد كلاهما بعمق ويطفئا الضوء ليذهبا لعالم من الأحلام لم يخلو من وجود الآخر به

--------------------------------

يمسك بملف لأحد المرضى يراجع تطور الحالة به ..بينما يتجه لمكتب الدكتور خليل المنعزل عن غرف المشفى بآخر الرواق.. بالدور الذي يضم غالبية مكاتب الإدارة والحسابات ..والتي خلى اغلبها من العاملين بهذا الوقت.. حيث أنها ساعة الراحة ..كان يرغب أن يناقشه حول الوقت الأنسب لإجراء الجراحة لمريض لديهم بحالة حرجة ..
وقبل أن يصل لباب مكتبه بعدة خطوات فوجئ بالباب يفتح بعنف ..ليصله صوت حماه منفعلا وهو يقول بحدة:
"اخرجا حالا من هنا.. وإياكما أن تعودا ثانية وإلا طلبت لكما الأمن ليلقيكم خارجا.... ولا تظنوا أن صلة القرابة المزعومة بيننا ستمنعني ..أنا لا أقارب لي.. دفنتهم جميعا في نفس اليوم الذي دفنت به أمي ..وقبلها أختي اللتان قتلتماهما بأفعالكم الحقيرة واستغلالكم لهما ..لا تظنوا أني نسيت يوما أو سأنسى ما فعلتموه بهما وبي .."
ليقترب خطوة من باب الحجرة دون أن يكون ظاهرا لهم ليلمح من الباب المفتوح رجلين احدهما يبدو شابا في عمر مقارب له.. يرتدى قميصا وبنطالا متوسطي الجودة بلون اسود ..والأخر يرتدى جلبابا ريفيا بسيطا وغطاء رأس ( طاقية)..ويبدو رجلا كبيرا .. ربما بالسبعين أو أكثر وجهه مليء بالتجاعيد ..و ملامحه حادة صلبة لا تشي بالراحة ..ويستند على عصى خشبية بيد وعلى الشاب المجاور له بالأخرى ..
ويسمع العجوز يرد على الدكتور خليل بصوت خشن حاد تقطعه بعض حشرجات تبدو ناتجة عن كثرة التدخين :
"أتظن لأنك أصبحت غنيا !!..وتملك مشفى !!و مالا وفيرا ..بإمكانك التعالي علينا ..وإنكار فضلنا عليك يا ولد؟!! "
كان على وشك التدخل وطردهم خاصة بعدما رأى احتقان وجه أستاذة لتوقفه جملة العجوز:
"أنا عمك الكبير .. شئت أم أبيت ..لولا سماحي لك ولأمك بتركك تتعلم ما وصلت لما أنت فيه ..أنت مدين لنا!! ..ويجب عليك رد الدين "
لم يكن أيا من الواقفين قد انتبه له حتى اللحظة ..ومنعته جملة "أنا عمك الكبير " من التدخل رغم قلقه على الدكتور الخليل الذي لم يره يوما بمثل هذا الغضب وتلك الثورة ..خاصة عندما سمعه يصيح بصوت مرتفع :
"أو تجرؤ يا هذا على ادعاء حق أو فضل لكم عندي ؟!!! أي حق هذا.. ها ؟!! ..حق تزويجكم لأختي طفلة بأمر منك!! لأبنك العاطل الحقير الذي كان يضربها ليل نهار ..ويجعلها تعمل بالحقول حتى وهي حامل وضعيفة "
ليقاطعه العجوز بصوت حانق:
"كل الفتيات وقتها كانت تتزوج صغيرة ..والفتاة تزوج لابن عمها ..هذه تقاليدنا التي تريد أنت الخروج عليها "
ليضحك الدكتور خليل ضحكة مبتورة تحمل من الألم الكثير وهو يجيبه هازئا:
"وهل التقاليد تقول أيضا أن تنفق هي عليه ..وأن يضربها ليأخذ ما تكسبه من عملها بالحقول ..حتى ماتت نتيجة ضربه لها عندما أنفقت بضع قروش قليلة من أجرتها .. لتشتري لنفسها قطعة حلوى اشتهتها "
ليتحشرج صوته بينما تمتلئ عيناه بالدمع وهو يكمل :
"..ابنك قتل أختي لأجل قطعة حلوى حقيرة ثمنها قرشين ..وانتم وقفتم تشاهدوه وهو يضربها دون أن يحرك أحد منكم ساكنا ...استغللتم ضعفي وصغر سني لمنعي من حمايتها.. أنت يا من تدَعي انك عمنا الأكبر.. أمسكتني لاويا ذراعي مانعا إياي من الاقتراب منها لإبعاد ابنك ..وأنت تصرخ بوجهي..- دعه يا فتى يربيها إنها زوجته ، يحق له أن يفعل بها ما يشاء - ..بينما تضحك زوجتك اللعينة وهي تهتف به أن يكسر لها أضلاعها ..حتى نزفت أمام أعينكم !!..وماذا فعلتم ؟!!..بدلا من محاولة إنقاذها.. ونقلها للمشفى أو إحضار طبيب لها ..خفت على ولدك من أن يتعرض للمسائلة ..فأحضرت تلك الداية الحقيرة ..لتموت بين يديها من الألم والنزف....وادعيتم انتم كذبا لدى عودة أمي من عملها بالحقل ... أنها سقطت من السلم وهي صاعدة لإطعام الدجاج...."
لتتهدج أنفاس الدكتور خليل أمام عينيه الذاهلتين لبشاعة ما يسمعه وهو لا يصدق ..أن هناك أُناس بهذه القسوة وهذا الجبروت والجحود ..بينما يسمع صوت أستاذه الذي ملئه الألم يضيف:
"ما زال الحبل الذي ضربتني به لتجبرني على الصمت وعدم التفوه بكلمة.. تاركا أثارا لم ولن تمحى من عندي .. ولو محت السنين العلامات من فوق الجسد فالعلامات المحفورة في عقلي وروحي لن تمحى "
ليصدر عمه صوتا كالشخير وهو يجبه بلا مبالاة :
"انك تضخم الأمر ..هو عمرها... وأجلها كان قد حان ....هل كنا نقصد أن تموت ؟!! عمرها ..وقد انتهى !! فما ذنبنا نحن...أتحملنا أمر قضاء الله يا ولد...كل النساء يضربهن أزواجهن ليربوهن إن أخطأن ...ولا يحدث لهن شيء ..هي من كانت نحيلة ومريضة ولا تصلح لشيء كأمكما"
..ليهتاج الدكتور خليل ويهجم عليه محاولا ضربه.. ليقف لحظتها الشاب الصامت منذ بداية الحوار الذي سمعه هو حائلا بينهما ..ويقترب هو أيضا من مجال رؤيتهم ليقول بصوت حاول التحكم به رغم شعوره بالغضب فخرج باردا:
" يبدو أن اللقاء انتهى يا سادة وارجوا أن تتفضلوا بمغادرة المشفى بهدوء ..حتى لا اتخذ ضدكم إجراء لن يكون بصالحكم "
ليلتفت له الجميع .. وتلمح عينيه احتقان وجه الدكتور خليل ..واستناده على الإطار الداخلي للباب بإنهاك واضح... بينما يلتفت له العجوز والشاب الذي رد عليه بوقاحة وصوت خشن:
"وما شانك أنت يا هذا؟!! ..لا تتدخل بما لا يعنيك!! ..إنها مشاكل عائلية بيننا وبين صاحب المشفى الذي تعمل به ..فلا تدخل نفسك بها.. وحافظ على أكل عيشك"
ليقاطعه صوت الدكتور خليل وهو يقول بإنهاك واضح :
" بل هو شانه ..فهو زوج ابنتي ونائبي بالمشفى "
ليلتفت له العجوز بملامح امتلأت غيظا وهو يهتف باستنكار:
" ماذا؟؟!! زوجت ابنتك دون أن تخبرنا ؟!! أو حتى تدعونا ؟!! وزوجتها لرجل غريب وأبناء عمومتها كُثر ؟؟..وهم أولى ؟ "
ليضحك خليل ضحكة متعبة خاوية وهو يربع يديه ويستند بكامل جسده على إطار الباب:
" أبناء عمومتها ..ها ..حقا ..أبناء أبنائك الفاشلين!! ..العاطلين !!.. تريدني أن أزوج ابنتي أنا! ..سارة ..الزهرة الرقيقة النصف إنجليزية ..ذات التعليم الأجنبي ..لأحدهم "
ليقاطعه الشاب بثورة واعتراض:
" لسنا جميعا فاشلين ..أنا خريج كلية تجارة و "
ليقاطعه خليل بسخرية:
" كاذب يا صلاح؟!! أنت خريج معهد فني تجاري لعامين ..ورغم ذلك أنت الأعلى تعليما بينهم ..وتعمل بأحد محال السوبر ماركت ..والذي يعد الثالث بعد أن طردت من اثنين قبله واحدا لسوء سلوكك ..عندما تحرشت بواحدة من الزبائن ..والثاني لشكهم بذمتك بعد تبين وجود عجز بالمؤن المخزنة والتي كنت مسئولا عنها.. .وكادوا يبلغون عنك.. لولا طيبة مدير المكان الذي اكتفى بطردك "
ليحتقن وجه الشاب المدعو صلاح وهو يهتف نافيا:
" كذب ..هذا افتراء ..لقد تم تلفيق التهم لي لأني كنت الأفضل بالمكان فأثرت غيرة البقية و.."
ليقاطعهم هو بعد أن شعر بتغير ملامح الدكتور خليل التي تشي بقرب انهياره ..وبدئت ملامحه المنهكة تشحب بشكل أقلقه :
"أظن يا سادة هذا الحوار انتهى ...ولم يعد له داع تفضلا بالذهاب!! ..ليلحظ مرور أحد رجال الأمن قادما من أول الممر ليناديه :
"أسعد"
ليلتفت له رجل الأمن بتساؤل وهو يقترب:
"نعم دكتور أكرم؟!! "
ليلتفت أكرم مشيرا برأسه ناحيتهما وهو يقول بصوت حاد رغم انخفاض نبراته :
"أوصل السيدان لباب المشفى ..وغير مسموح لهما بالدخول لهنا مرة ثانية ..ونبه على زملائك بالأمر "
لتحتد ملامح صلاح وهو يهتف كيف تج.."
ليقاطعه جده بصوت يحمل تحذيرا ونبرة لم ترح أكرم:
" لا باس يا صلاح ..سنمضي الآن ..لكن لا تظنا أن الأمر انتهى أو أننا لن نعود ثانية ..فنحن لا نترك ما نراه حقا لنا لآخرين "
ليمضي ببطيء.. مستندا على حفيده .. يجاورهم أسعد باتجاه باب الخروج ..بينما يتبعهم هو بعينيه حتى اختفيا بآخر الرواق ليلتفت ناحية أستاذة في نفس اللحظة التي رأى جسده ينهار بها ساقطا أمامه ......
------------------ -

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 08-08-18, 01:43 AM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل الثامن

"أرجوك خالتي تناولي بعض الطعام .. الطبيب أكد على الغذاء والراحة والبعد عن الانفعالات ..وأنت لا تكادي تأكلي شيئا ..وأيضا لا تكفين عن البكاء "
رفعت عينيها اللتين احمرتا من كثرة الدموع ..وأجابتها بصوت خافت أنهكه البكاء:
"وما الفائدة تقى... لماذا اهتم ؟!!إن تحسنت ..أو حتى فاضت روحي لبارئها ..على الأقل وقتها أكون استرحت من ألمي"
لتنتفض تقى واقفة من جلستها بجوارها فوق الفراش ..لتضع طبق الحساء الذي كانت تحاول إطعامها البعض منه على المنضدة بجوار الفراش بينما تقول لها بصوت قلق :
"لا خالتي !!..لا تقولي ذلك ...تعيشين لأجل نفسك ...ولأجلي ..ولأجل"
لتضغط على نواجذها وتضيف بغيظ حاولت كبته وان خرج رغما عنها من بين حروفها:
"ولأجل ياسر ابنك ..يوما ما سيعرف خطأه بحقك ويعود لصوابه ...ويأتي إليك مقبلا يداك لتغفري له ..غبائه ...وحماقته ..وسلاطة لسانه "
لتخفض خالتها عينيها بألم وهى تقول بصوت مختنق:
"إذا أنت لا تعرفين ياسر يا تقى ...لن يغفر أبدا ...لن يأتي ...لن يسمح لي بالاقتراب "
ليتهدج صوتها بالبكاء بينما تضيف:
"ارغب فقط بأن أضمه لصدري... للحظات ...حتى لو مت بعدها لا اهتم ..فقط أضمه ..أشم رائحته ...أرى نظرة حب في عينيه واسمع منه كلمة أمي "
لتفتح عينان اغرورقا بالدمع وهي تكمل:
"لا أريد سوى هذا... وبعدها لن اهتم لو عشت أو مت ...لا شيء سيهم وقتها"
ليختنق صوتها بالبكاء الحاد لتندفع تقى للجلوس بجوارها وضمها بقوة وهي تتوعد بسرها هذا الأحمق ..وتسبه بكل ما تعرف من مفردات ...وهي تربت على ظهر خالتها المنتحبة على كتفها ..وعندما هدأت خالتها قليلا ابتعدت وهي تقول:
"شكرا تقى أتعبتك معي صغيرتي "
لتقاطعها تقى قائلة:
"ما هذا الذي تقوليه خالتي ؟!! أي تعب هذا ..أنت بمثابة أمي " لتنظر لها بقلق قبل أن تسألها بتردد :
"خالتي !!! ما هو الأمر الذي جعل عمي اشرف يطلقك رغم أني اذكر كم كان يحبك ....فرغم كوني كنت صغيرة ولم أراكما إلا أيام معدودة بالإجازات ...لكني ما زلت اذكر نظراته العاشقة واهتمامه وحنانه ..كما ما زلت اذكر كلام أمي عن مدى حبه لك ..ومدى قرب ابنك ياسر منك ...فماذا حدث ؟!!"
رجعت خالتها بجسدها للخلف لتستند على الوسائد بوضع نصف مستلقي ..بينما غامت عيناها بمزيج من الألم والحزن لتصمت لدقائق طويلة دون أن تحاول هي الضغط عليها حتى أيقنت أنها لن تجيب كالعادة فهمت بالقيام لتوقفها تلك الكلمة الصادمة:
"خنته "
لتتسمر تقى للحظات!!! كما لو كانت تمثال فاقدا للحياة ..قبل أن ترمش بشكل متواصل لعدة مرات ...وهي تهز رأسها كما لو كانت تتأكد مما إذا كانت مستيقظة!!! وسمعت بالفعل تلك الكلمة من خالتها التي لم ترى من هي بأخلاقها والتزامها ..لتبدأ بهز رأسها يمينا ويسارا بنفي وهي تردد:
"مستحيل!!! لا اصدق!!!..أنت لا تفعليها خالتي ..لا يمكن أن أصدق ..مستحيل !!!"
ليلتوي فم خالتها بابتسامة مريرة وهي تنظر لها بمزيج من الامتنان والقنوط:
"قد لا أكون خنت أشرف بالصورة التي تصورها هو.. والتي للأسف لم استطع أن أبرء نفسي منها لأنه لم يمنحني الفرصة لأفعل ..لكني خنته بصور أخرى !!!....فالخيانة يا صغيرتي ليست فقط خيانة جسد ...فهناك أنواع للخيانة. ...فعندما نقابل الحب بالكره ...والاهتمام باللامبالاة ..والرعاية بالتجاهل.. والحنان بالجحود ..وسنوات الرعاية بمثلها جفاء ...فكل هذا خيانة تجعل الشريك وقتها يفقد الثقة .. ويصدق أي دلائل تدين من أعطاه بلا حساب ولم يلقى مقابلا ...لذا أنا اعذر أشرف ...فقد منحته كل الأسباب التي تجعله يصدق خيانتي له "
لتنظر لتقى بعينين شعرت أنهما لا تريانها كما لو كانتا تنظران من خلالها إلى الماضي وهي تريح رأسها على الوسائد وتكمل :
"عندما تمنح الحياة المرأة زوجا حنونا ...عطوفا ..محبا...وسيما ..ناجحا ..يهتم بها ...بينما هي لا ترى فيه أيا من ذلك ...لا ترى فيه إلا مسخا أجُبرت على الزواج منه...رغم أنه يصطبر على عنادها ...دلالها ...تمنعها عليه ...يحاول دوما تحقيق أحلامها ...يناصرها حتى على رغبات أهله ..ويقدمها على نفسه ..لكنها تظل على غيها وعميان قلبها "
كانت تحكي وهي سارحة بعينيها كما لو كانت تحكي عن شخص آخر ..بينما هي تستمع لها بذهول وهي تكمل :
"وحتى عندما تسببت تلك المرأة لنفسها بعقم دائم نتيجة استخدامات خاطئة وطويلة لوسائل منع الحمل جعلتها تكاد تفقد حياتها وهي تنجب ابنها الذي كانت ترفض أصلا حملها به ...ليشاء الله أن تحمل به رغم فعالها ..وتقضي حملا كاد يقضي عليها ..لولا رحمة الله ورعاية وحب زوجها واهتمامه ..وتلده مبكرا وتظل تنزف بعدها حتى يضطروا لاستئصال رحمها ...ورغم ذلك زوجها لم يهتم سوى بها ..يكتفي بطفل واحد رغم انه كان قبلا يحلم بعائلة كبيرة ...لكنه يخبرها أنه لا يريد سواها ..حتى أنه كاد يخسر والديه الذين رغبا بزواجه من أخرى ليحصل على المزيد من الأبناء... لكنه رفض وأخبرهم أنها وابنه كل ما يريد ..وأبدا لن يتزوج عليها أو يجرحها ..ولكنها ..وبدلا من أن تمتن ..وتسعد.. وترى مدى روعته ..وتقبل ثرى قدميه ..وتحبه كما يستحق ..ظلت تتكبر عليه ..تتمنع عليه ...لا تمنحنه حقوقه إلا بعد أن يكاد يتوسلها ...تستكثر نفسها عليه ..لذا عندما يظهر دليل يدنها بالخيانة ...يصبح التصديق سهلا ..فهي لم تمنح ما يجعله ينكر ما رأته عيناه ولمسته يداه ...لم تمنحه طوال سنوات حياتهم ذخيرة تكفي ليسأل... ويفهم ...ويغفر...لم تقدم شيئا لتنتظر مقابله شيئا ..لقد حصدت ما جنته يداها على مدى سنوات "
لتنظر لها ببسمة ساخرة حزينة وهي تقول:
"أتعرفين ما السخرية بالأمر أني اكتشفت بعد أن خسرته أنني أحبه ...أن حبه تسلل لقلبي عبر السنوات ..كنبته ظل يسقيها قطرة بقطرة حتى أينعت بداخلي دون أن أشعر ..لكني كنت بلهاء ..عمياء ...تجاهلتها واستمرئت الدلال... ظنا أن فيضان حبه لن يجف يوما ..ولن اخسره أبدا ..حتى عاقبتني الحياة بضربة أفاقتني ...لكن بعد فوات الأوان"
لتغيم عيناها بدموع وتعيد نظراتها لابنة أختها التي ما زالت حائرة وهي تضيف:
"لا استطيع أن ألوم أشرف على كراهيته لي ..فأنا حصدت معه ما زرعته ..وكراهيته وعدم ثقته استحققتها بفعالي معه ..لكن ياسر ؟!! آآآآه لماذا ؟؟!! لقد أحببته بجنون ..وضعت كل حبي ومشاعري فيه ..كنت أمه وأخته وصديقته ..فكيف صدق أني خائنة ...ولما لم يسألني؟!! ...لما لم يمنحني فرصة للشرح؟!! "
لتجدها تنزلق بداخل الفراش وتلتف على جانبها رافعة الغطاء وهي تقول:
"ارغب بالنوم ..أرجوك دعيني الآن "
ازدردت ريقها بصعوبة ..ولم تستطع أن تنطق بحرف بعد ما سمعته رغم أن الغموض ما زال يكتنفه بعض تفاصيله ..لكنها شعرت أن خالتها استنزفت تماما ..ولم تشأ بالضغط عليها أكثر ...فقامت وحملت طبق الحساء لإعادته للمطبخ وأطفأت الإضاءة ليوقفها صوت خالتها الواهن قبل أن تغلق الباب وهى تقول :
"أرجوك عودي منذ غد لعملك ...لقد أصبحت أفضل ..يكفي ما قضيته بجواري الأيام الفائتة ..ولن اقبل جدالا ..على الأقل ..لتريه وتطمئنيني عليه "
لتصمت بعدها خالتها وتغلق هي عليها باب الحجرة... بينما تتجه لوضع الطبق بالمطبخ وهي تفكر أنه رغم محاولتها إخفاء إخبار هذا ألياسر عن خالتها بالسابق ...فهي لم تخبرها بكونه يعمل معها قبل لقائها به...فقط كانت تعلم بعمل العم أشرف ولم تسأل عنه أبدا.. رغم أنها كانت أحيانا تتعمد ذكره أمامها ..لتجدها تستمع بإنصات دون أن تعلق لكنها كانت تلمح بعينها نظرة ألم وحنين ..فقررت بعد فترة الكف عن ذكره ..لأنها شعرت أن الأمر يؤلم خالتها .. ونفس الفكرة طبقتها على خبر عمل ياسر معهم بالمجموعة ..ورؤيتها له وتعاملها معه .. كانت تظن أنها تجنبها الألم بإخفاء أخبار هذا الوقح العديم المشاعر الذي لم يحن قلبه لأمه ..مهما كان سوء الفهم والظن الذي يعتقده ..كان يجب أن يعطها الفرصة لتشرح ...لتغيم عيناها بينما يسخر منها عقلها وهو يسألها ..وهل أعطيت أنت أباك فرصة التبرير أو.. الغفران ..لتهز رأسها وتقسو ملامحها مخبرة نفسها أن الوضع مختلف ...فرغم أنها لا تعرف التفاصيل الخاصة بسبب سوء ظن ياسر هذا بخالتها والتي أدت للشقاق بينهما ...لكنها لا يمكن أن تشبه وضعها... فهي رأيت بعينيها وسمعت بأذنيها......
----------------------------------

كان صوت الضحكات المنطلقة من غرفة همس بمنزل والدها يصل إليهم بصالة المنزل...لقد أصر خالد أن تستلقي لبعض الوقت حتى يحين موعد العشاء... الذي دعتهما إليه والدتها قبل أن يعودا إلى منزلهما ...وما أن حضرا حتى فوجئا بريهام وأحمد يحضران للاطمئنان على سامح ...فريهام لم تكن تعلم ما أصابه ...وقد أخفى الجميع عنها الأمر... خوفا عليها حتى لا تصر على الحضور وهي ما زالت ضعيفة من أثر الولادة ...حتى ذل لسان شقيقها الأصغر أمامها اليوم وهو بزيارتها لتصر على الحضور تاركة التوأم برعاية المربية ... ولحسن الحظ أن سامح قد تحسنت حالته كثيرا وزال الكثير من أثر الضرب عن ملامحه ..خاصة بعد مرور أسبوع على الحادث ..وقد بدء بالفعل النزول للعمل بالمشروع السكني التابع لخالد والذي أعاد خالد العمل به من ثلاثة أيام ..رغم أن خالد طلب منه الانتظار أكثر حتى يشفى ....لكنه أصر على انه بخير ويستطيع الذهاب للعمل...
كان أحمد وخالد يستمعان لتطورات القضية الخاصة بسامح والتي يتابع تفاصيلها من خلال صديقه الضابط ..والتي تم تحويلها إلى النيابة العامة حيث أمرت بحبس المتهمين جميعا بما فيهم صاحب المشروع خمسة عشر يوما على ذمة القضية ...
ليزفر سامح بضيق وهو يكمل حديثه معهم:
" المشكلة التي تقتلني غيظا أنني علمت منه أن صاحب الشركة غالبا سيستطيع الخروج من الأمر وسيتم تبرئته ...لقد أجاد ترتيب أوراقه ...بحيث يبدو أن التلاعب تم من خلال المقاول والمهندس المسئول وكلاهما من سيتحمل التبعات ..بينما هو سيقتصر الأمر لديه ربما على غرامة مالية ووقف المشروع فقط ...مما يشعرني بالرغبة بالذهاب إليه وإشباعه ضربا ..فهو رأس الأفعى الحقيقي وهم مجرد أذناب"
ليربت أحمد على ساقه مهدئا وهو يقول
"سامح اهدأ ولا تغضب ...قد تكون عدالة الأرض قاصرة ..والقانون مليء بالثغرات التي يستطيع أمثاله وبمساعدة جيش محامينه من المتلاعبين وقليلي الضمائر ...جعله قادرا على النفاذ منها ..والهرب من يد القانون ..لكنه لن يهرب من عدالة السماء فعين الله لا تغفل ولا تنام ...ابتعد عن الأمر واتركه للمختصين ...لقد أديت دورك وكشفتهم ...لست مسئولا عن النتائج "
ليقف بعدها مستأذنا... ليقف معه كلا من سامح و خالد طالبين منه البقاء للعشاء معهم ...لكنه اعتذر بضرورة العودة للمنزل حيث تقيم والدته مأدبة عشاء لبعض أقاربهم ..ولابد من حضوره ..خاصة مع اضطراره للاعتذار عن حضور ريهام ..ولكنه سيعود بعدها للعودة بريهام التي أصرت على البقاء لبعض الوقت لديهم ..حيث اشتاقت للجميع وستذهب بعد قليل لمنزل أسرتها ..ليخبره خالد أن لا داعي لعودته لأجل ريهام فهو وهمس سيعيدونها معهم أثناء عودتهم ..فمنزله بطريقهم بجميع الأحوال ...ليوافق أحمد شاكرا ويغادرهم ليعود كلا من خالد وسامح للجلوس ..بينما يسأل خالد :
"أين والدك وأكرم"
ليرد سامح بينما يريح قدمه على وساده أمامه فقد أرهقها بنزول العمل قبل أن تبرأ:
"أبى بالمسجد فهو معتاد أن يصلي المغرب ويبقى هناك يقرأ القرآن حتى يصلي العشاء جماعة وسيأتي بعدها ..أما أكرم فهو منذ مرض حماه يكاد لا يترك المشفى إلا لماما ...فهو لا يتركه إلا بفترات عمله الرسمي بالمشفى الجامعي ...حتى أنه أخذ جزءا من ملابسه وأبقاه بحجرة استراحة الأطباء هناك... حتى لا يضطر للعودة وتركه "
ليطرق خالد برأسه قائلا :
"شفاه الله ...لقد ذهبنا لزيارته منذ عدة أيام ...لكننا لم نره حيث أن الزيارة ما زالت ممنوعة لكننا رأينا سارة..وقد حاولت همس إقناعها بالبقاء لدينا لحين شفاء والدها وخروجه من المشفى لكنها رفضت ...ومما فهمته أنها أيضا لا تكاد تفارق المشفى "
ليومئ سامح برأسه مؤكدا:
"نعم لقد حاولت أمي أيضا إقناعها بالمجيء والإقامة لدينا ...على أن اترك أنا وأكرم المنزل لكنها رفضت ...حتى أن أمي عرضت عليها أن تبقى هي معها بمنزلهم .. لكنها شكرتها ورفضت أيضا لأنها لن تغادر المشفى إلا بعد شفاء والدها ...شفاه الله وعافاه هي وحيدة ولا تملك غيره "
استمر الصمت بينهما للحظات حتى قاطعه خالد بصوت خافت:
" بما أننا وحدنا الآن ووالدتك منشغلة بالمطبخ فهلا أخبرتني ما استطعت الوصول إليه خلال اليومين السابقين "
ليهز سامح رأسه مستنكرا وهو يجيبه:
" أتظنني سأستطيع كشف تلاعبهم خلال يومين ؟!!! انك لم تستطع فعلها طوال الفترة السابقة؟!!! ..ما استطيع تأكيده أن هناك تلاعبا بالفعل ...لكني لم أضع يدي عليه بعد"
لتلتمع عيني خالد بالاهتمام وهو يميل عليه سائلا:
" وكيف عرفت طالما لم تكشف شيئا بعد؟!!"
ليضجع سامح بظهره على الأريكة وهو يجيب :
" حرصهم الشديد ومراقبتهم لي ..وتكليفهم لي بالمهام الصغيرة والبعيدة كليا عن أعمال متابعة البناء ...بل وتعمدهم إبعادي عن مناطق العمل ..بحجة أنني مصاب ومريض ويرغبون براحتي حتى استرد عافيتي"
ليضحك بسخرية ويكمل هازئا:
" أسمعت قبلا عن مهندس يلقى في أول أيام عمله كل هذه الرعاية وهذا الاهتمام براحته وصحته ..كما لو كان صديقا عزيزا ..حتى يكادوا يمنحونه إجازة مدفوعة الأجر ..مع إعطائه تقريرا بأنه يداوم بعمله بإخلاص "
ليضرب بكفيه على ساقيه وهو يعتدل مائلا للأمام مكملا حديثه :
" عزيزي خالد ..هناك تلاعب ومن الحجم الكبير بمشروعك ..والجميع هناك مشترك به ..بدء من المهندسين مرورا بالعمال والمراقبين ...وكل من لا يتبعهم يتم إما التخلص منه أو إبعاده بشكل غير مباشر "
ليتنهد خالد بضيق بينما يقول :
"لقد كنت واثقا ..كنت أكاد أشم رائحة تلاعبهم بهواء المشروع ...فقط لا أدري من أين تفوح "
ليضرب سامح بيده على فخذ خالد مداعبا وهو يقول:
"لا تخشى شيئا يا نسيب ...فقد ذهب إليهم من يقدر على تتبع أي رائحة حتى منابعها ..ولن يمر وقت حتى ..أعرف كافة ألاعيبهم ...خاصة مع الانطباع الذي أخذوه عني بأني شاب ارعن لا يهمه إلا المال "
لتنطلق ضحكاته مجلجلة بينما يضيف :
" إنهم يظنون أني مقامر ...وقد عززت أنا هذا الانطباع لديهم"
ليعقد خالد حاجبيه بينما يسال متعجبا:
"مقامر؟!! لماذا ظنوا ذلك بك؟!!! "
ليبتسم سامح بينما يلعب لخالد حاجبه وهو يقول بخبث :
"لقد استخدمت قدراتي بالتمثيل على الوجه الأكمل عندما أرسلوا لي أحد المهندسين أثناء استراحة الغذاء بحجة التعارف ..فأظهرت أمامه صورة شاب مستهتر وضيع تشاجر مع أصدقائه الذين كان يلعب معهم الورق لقاء المال عندما رفضوا أن يدفعوا قيمة ما كسبه منهم ...وطبعا مع هيئتي بتلك الجروح بوجهي وجسدي فقد أعطيت الانطباع الملائم ..وخاصة مع استخدام لغة سوقية وحركات لا مبالاة وعدم اهتمام سواء بالعمل... أو السؤال أو المتابعة.. كما لو كان كل ما يعنيني هو الأجر دون عمل "
ليعقد خالد أصابعه أمامه بينما يرتكن بكوعيه على ساقيه وهو يحذر سامح:
"لا تستهن بهم ..ولا تعتمد على أنهم صدقوا روايتك ...ربما كانوا فقط يختبرونك ...ويوهموك بكونهم صدقوك "
ليعيد سامح إسناد ظهره وهو يجيبه غامزا بشقاوة:
" لا تقلق لست غرا لأظن أنهم سيصدقونني من أول وهلة ...وإن كانت تصديقهم لي أصبح شبه مؤكد... بعد أن جردت معظمهم مما في جيوبهم في لعبة الورق أثناء استراحة الغذاء باليوم التالي "
لينتفض خالد سائلا بذهول:
"ماذا ألعبت الورق فعلا بالمشروع ..أجننت يا سامح ...لابد أنهم أرادوا التأكد من كونك مقامرا ..أتريد كشف نفسك لهم "
ليضحك سامح ويجيب بخبث وهو يغمزه بعينه:
"عزيزي خالد ...ربما لا أكون مقامرا ...لكن هذا لا يعنى أني لا استطيع لعب الورق ببراعة تضاهي أكبر المقامرين ..لكنى حاليا لا أدرى ما أفعله بهذا المال الذي ربحته منهم ...فلو علم به حماك أبو أكرم ...لعلقني على باب المنزل ...وقد يعلقك معي لأنك السبب في انحراف ابنه "
ليرتفع حاجب خالد ذاهلا وهو يشير لنفسه قائلا:
"أنا؟!! أنا السبب بانحرافك ؟!! وهل يقدر عليك إلا الشديد القوي ...إياك أن تفتح فمك أمام عمي... وإلا علقتك أنا على باب الشقة ...والمال احتفظ به مؤقتا وما ستكسبه منهم لاحقا لاعبهم به ...وفي النهاية ربما نودعه لهم بخزينة السجن لينفعهم عند خروجهم أو نتبرع به لحسابهم لعله يخفف من ذنوبهم "
لتنطلق ضحكاتهما معا بينما يرتفع صوت والدة سامح مناديه همس وريهام لمعاونتها بوضع الطعام ..متزامنا مع صوت مفتاح الباب معلنا عودة الوالد من الصلاة ..ليقف سامح قائلا سأنادي الفتيات ...
..........
قبل ذلك بنصف ساعة
كانت همس تمسك معدتها من شدة الضحك وهى مستلقية على فراشها.. بينما تقص عليها ريهام كيف أفشت خطتهم الخاصة باللوحات وهي تحت تأثير البنج ...وكيف يعاقبها أحمد بجعلها تنظف اللوحة المتبقية يوميا أمام عينيه ...بعد أن نقلها لحجرة نومهم مقابل الفراش تماما كعقاب لها ..لتضيف بغيظ:
"كفي عن الضحك همس ...كله من أفكارك اللعينة ...على الأقل كان بإمكاني تجاهلها هي والأخرى التي أفسدناها وهي بصالة المنزل ..الآن أفتح عيني على لوحة كئيبة تشبه فيلة مجنحة بأقدام صراصير ...لكني أحمد الله أننا أتلفنا لوحة الحُلم أولا ..تخيلي لو كانت هي من بقيت !! كنت سأفتح عيني على رقاب مشنوقة بالأبيض والأسود – لتتنهد بعمق وهى تضيف -..قضاء أخف من قضاء ... )
لتتنهد بضيق وتخرج هاتفها من حقيبتها وتتصل بالمربية لتطمئن على توأميها زياد وانجي.. التي اسماها أحمد على اسم بطلة الفيلم الذي يحبه والتي تشبهها ريهام...
كانت همس تنظر بعمق لملامح ريهام المجهدة والشاحبة ...تشعر أن هناك ما يضايقها وأن مرحها مفتعل ..لتلاحظ تغير ملامحها واحتقان وجهها بينما تستمع لما تقوله المربية لتجدها تغلق الهاتف وتنكس رأسها ...بينما تلمح لمعة الدموع بعينيها لتتركها للحظات قبل أن تضع يدها على ذراعها مناديه :
"ريهام؟!! أين شردت عزيزتي ...هل الأطفال بخير؟ ...هل قالت لك المربية شيئا ضايقك؟"
لترفع ريهام عينيها وهي تهز رأسها نافية دون أن تستطيع مدارة الحزن من ملامحها بينما تقول:
"كلا لقد أخبرتني أن جدتهم قد أخذتهم لديها بمجرد خروجنا أنا واحمد ...وأنها أبلغتها أنهم سيبتون لديها الليلة "
لتقطب همس حاجبيها وهي تعتدل جالسة بالفراش بينما تسأل بتعجب:
"كيف يبيتون لديها ..وماذا عن الرضاعة ..أعلم أنك تعطيهم لبنا صناعيا لعدم كفاية لبن صدرك لإطعام كليهما ...لكنك أخبرتني أنه فقط شيء مساعد ..وأنك مصرة على إرضاعهم بنفسك رضاعة طبيعية "
لتزفر ريهام بعمق وهي تجيب همس :
"نعم هذا ما انتويته وما أحاول أن أقوم به فعلا ...لكن الأمر لا يعجب حماتي العزيزة ...يبدو أنها تظن أن لبني ملوث وغير لائق بحفيديها ..حتى لا تنتقل جيناتي الوضيعة إليهما!! "
لتضحك ساخرة بألم وهي تضيف:
"هي تتجاهل أني والدتهم...وأنهم يحملون جيناتي بكل الأحوال ...لكنها ترغب بفصلي عنهم... وتتفنن بذلك ..بداية من تصميمها على وجود مربية لهما رغم رفضي ..خاصة واني قررت ترك العمل والتفرغ لهما ..لكنها أصرت ..وليس هذا فحسب بل اختارتها بنفسها ..مربية أجنبية ..تخيلي!!! أحضرت لي فتاة أسيوية فاتنة الجمال ..ولا تتحدث سوى الإنجليزية لتكون مربية أبنائي ..وليس هذا فقط بل أنها تريدها أن تكون مسئولة مسؤولية كاملة عنهما لدرجة لا أراهما أنا إلا في أوقات تحددها هي !!!"
لتنتفض همس هاتفة بحنق :
"ماذا ؟؟!! هل جنت تلك المرأة وكيف توافقي وتسكتي لها "
لتنظر لها ريهام بحزن قائلة:
" ومن قال أني وافقت أو.. سكت !! لقد رفضت وتشاجرت ولأول مرة أتخاصم مع أحمد.. الذي يحاول مراضاة أمه بكل الطرق ..خاصة بعد موضوع الأسماء الذي رغم قسمي له ...ما زال يظن أني قد اتفقت مع سامح عليه ... ويتعامل كما لو كنا أخطأنا بحق أمه... ولابد من رد اعتبارها بكل الطرق .. حتى ولو على حسابي وحساب أبنائي"
لتدمع عيناها بينما تنظر لهمس مضيفة بألم:
"لقد تحملت منها بالسابق الكثير همس ..وأنت تعلمين ..لأجل أحمد تحملت... وعلى استعداد لتحمل المزيد ..طوال الوقت أتجاهل نظراتها المحقرة لي ..كلماتها المهينة ..حتى يوم العقيقة ..رأيت بنفسك كيف كانت تستهين بي وبأسرتي... حتى كادت أمي تغادر من كلماتها ..وكنت أنا وأنت نحاول المدارة قدر استطاعتنا ..حتى أحمد كان يحاول الاحتفاء بإخوتي ..وأعمامي ..وأخوالي ليعوض التجاهل من أفراد أسرته ..ولولا اقتراحك أنت وخالد بتقسيم الجلسة بين القصر وفيلتنا الصغيرة حيث تجمع أفراد عائلتي ببيتي وبقي أقاربهم بالقصر لتحولت العقيقة لحرب أهينت بها أسرتي تماما ...تعرفين أنهم حساسون للفروق بينهم وبين عائلة أحمد ..إخوتي لديهم دوما شعور بالنقص الممزوج بالانبهار لا يستطيعون إخفائه ..وأمي متحفزة على الدوام وترغب بالشجار مع حماتي ..وأبي دائم الشك بأحمد ويشعر أنني أقل من أن استمر زوجة لرجل مثله.. ويتوقع أن يطلقني بأي يوم ...كل هذا يضغط على أعصابي بقوة "
لتقطب همس وتقول بصوت حانق:
"وأين أحمد من كل ذلك:
لتتنهد ريهام بضيق وهي تقول بشرود:
"أحمد!!! أحمد كان سبب احتمالي بالماضي لكنه الآن!!"
لتصمت وهي تطرق برأسها
فتستحثها همس على المتابعة سائلة:
"لكنه الآن ماذا ريهام؟!! ماذا يحدث صديقتي"
لترفع ريهام عينين غائمتان بالحيرة والدموع وهي تجيب:
" لا ادري همس ..لم يعد يناصرني بقوة كالأول ..أصبح يهتم بمراضاة والدته ولو على حسابي ..لم أعد افهم ما يحدث!!"
لترد عليها همس بحدة:
"إذا لا تنتظري مناصرته ..خذي أنت موقف حازم من الجميع ...لقد كدت اضرب حماتك وأنت قبلها يوم العقيقة ..على تعاملها المهين لعائلتك واستهانتها بهم وسلبيتك أنت ..ولولا موقف أحمد الداعم والذي حاول تحسين الوضع ..وكذلك والده رغم أنه لم يكن شديد الترحيب بهم لكنه على الأقل لم يكن سيئا....على الأقل سلم عليهم وحاول الترحيب بهم قليلا.. قبل أن ينسحب للجلوس مع أقاربه .. دون أن يدعو أباك وأعمامك وأخوالك للانضمام إليهم ... مما جعل أحمد هو من يجلس معهم بقاعة الاستقبال الصغرى ..لينضم له خالد مفضلا البقاء معهم على البقاء مع أقارب أحمد من رجال المال والأعمال والسياسة حتى لا يشعرون بالنبذ "
لتومئ ريهام وهي تضيف:
"نعم لقد زادت معزتي لخالد حينها ..رغم علمي انك من نبهته وجعلته يذهب إليهم ..لكنه استطاع إدارة الحديث وشغل الجميع بمواضيع مختلفة ..لكن أنت رأيت كيف ظلت والدته تحاول كل دقيقتين إخراج أحمد وخالد من الجلسة ... وجرهم للجلسة الثانية بحجج مختلفة!!"
لتقاطعها همس:
"لكن لا تنكري أنهما لم يستجيبا ...وكانا يعتذران لها بأنهما سيلحقان بها بعد قليل دون أن يفعلاها ..حتى أحمد عندما فعلها كان يذهب للترحيب بأقاربه ويعود سريعا ..ولقد رأينا ذلك معا قبل أن نأخذ والدتك ونساء عائلتك ونذهب لمنزلك حتى نبتعد عن لسان ونظرات وتصرفات حماتك.. التي اقسم أنها كانت متعمدة أن تعطي التعليمات للخدم بتجاهل من لهم صلة بك ..فكل الضيافة التي سبقت الوليمة كانت تقدم لضيوفها مع تجاهل الباقين "
لتبتسم ريهام رغم الدموع وهي تقول:
"لكنك قمت بالواجب يا همس ..لقد أرعبت مدبرة منزلها وأنت تقفين أمامها هي والخادمات الحاملات لصواني الحلوى ..وعلب السبوع وهن متجهات للجانب الذي تجلس به حماتي مع قريباتها.. وأنت تنهريها ..عن احتياجها لنظارة نظر تجعلها لا ترى أن هناك أناس يجلسون في البداية لابد أن توزع عليهم أولا ..لتسحبي منها الصينية الكبرى وتصرخي بالخادمات أن يوزعن الضيافة بترتيب الجلوس – لتضيف ساخرة- أتعرفين لقد أشفقت على مدبرة المنزل وهي تنقل نظراتها بين حماتي وبينك برعب.. كما لو كانت ساقطة بين فكي وحشين لا تدري من سيلتهمها أولا ...وهي فاقدة للحيلة والقدرة على التصرف .. لتنظري أنت بعدها لحماتي قائلة بتهذيب يحمل تهديدا اسمحي لنا سيدة شاهي.. بعد أن نأخذ علب السبوع والضيافة أن نأخذ التوأم و نذهب لبيت ريهام الملاصق للقصر لنمارس طقوس السبوع الشعبي التي لا أظن أنك قد تحبينها " لتسخر همس وهي تضيف متذكرة انتفاضة واقتراب والدة أحمد منها لتقول بهمس حاد لم تسمعه سواهما:
"بالتأكيد لن أقبل أن يخرج أحفادي من القصر وضيوفي جميعا أتوا لرؤيتهم وتهنئتهم ..ولن أقبل بممارسة شعوذتكم الشعبية على أحفادي "
لتنظر ريهام لهمس وتقول :
"لم اصدق نفسي عندما هددتها حرفيا وأنت تقولين لها... إذا لن نخرج من القصر... وسنقوم بطقوسنا هنا أمام ضيوفك ..فجدتهم لأمهم لابد أن تقوم برقياهما ودق الهون لهما ...ووضعهما بالغربال وتجميع الأطفال للغناء لهما... كما لابد أن تشعل المبخرة لريهام لتمر فوقها سبع مرات ..تلك عاداتنا وهم أحفادها مثلك ...وستقوم بالطقوس لهم سواء هنا أو هناك ..ولا تقلقي معنا كل ما نحتاجه ..وقبل أن تحاول نهرك كنت تلتفين لأمي قائلة خالتي ..لتنتفض حماتي رعبا وتمسك ...بذراعك مانعة إياك من تنفيذ تهديدك... لتقول بغيظ من بين أسنانها .. نصف ساعة فقط تأخذوهم معكم وبعدها سآتي لإحضارهم ..وإياكم أن يصيبهم مكروه ..لتنظري لها ساخرة وأنت تقولين.. أتخافين على أحفادك من أمهم وجدتهم ..لتربتي على ذراعها وهي تجذبه منك بغيظ ...بينما تقولي لا تقلقي عليهم هم اقرب الناس لهم ...واجعليها ساعة لننهي كل طقوسنا بعدها أرسلي لنا الخادمات بطعام العقيقة... حتى لا نضطر للعودة لهنا وإحراجك وسط أقاربك"
لتتنهد ريهام بعمق وهي تقول ..لا أدري ماذا كان بإمكاني أن أفعل دونك همس .."
لترد همس بحدة :
"كفى حماقة ريهام ..وكفى سلبية ..حاربي معاركك.. ولا تكوني ضعيفة ..لتنتظريني .. أو تنتظري أحمد .. أو أي مخلوق لأخذ حقك ..خذيه بيدك من عين الجميع ..أنت والدة الأطفال ..إن لم تريدي مربية ..فأنت حرة ..وإن أردت ارضعاهما طبيعي أو صناعي فلا شان لأحد بالأمر إلا أنت وزوجك ..لا تسمحي لها بالتمادي وإلا ستندمين ...كوني قوية بمجابهتها دون أن تتخطي حدود الأدب ..أشعريها بقوتك حتى تتراجع ..لأنها طالما شعرت أنك ضعيفة ستتمادى"
لترد ريهام بخفوت وألم:
"صدقيني همس ليست مسألة ضعف ..فقط كنت أحاول كسبها ومراعاة خاطر أحمد ..أنت لا تعرفين ما أتحمله... لأنك كنت محظوظة بحماة طيبة تحبك وتساندك ..لكني أعاني من كرهها الدائم مهما حاولت كسبها أو تنازلت ...لذا فقد قررت المواجهة ..عندما وجدت أن لا فائدة بكل الأحوال.. وهذا ما تسبب بمشكلة بيني وبين أحمد فقد أصررت على طرد المربية الآسيوية .. ورفض وجود مربية من الأساس بينما أصرت هي عليها.... لأثور بجنون عندما وجدت أحمد يأخذ صف والدته ويصر على تنفيذ رغبتها ولو على حساب رأيي ورغبتي ..ولولا انهياري وقتها وإصابتي بفقدان الوعي الذي استدعى إحضاره للطبيب الذي أمرهم بإبعادي عن الانفعالات... خاصة أنني ما زلت أعاني من تبعات الولادة ..لم يكن ليعيرني اهتمام ..لكنه أيضا لم يشأ إغضاب أمه لنصل لحل وسط ...أن تكون هناك مربية لكنها مصرية اختارها بنفسي ...وهو ما حدث ...لكن حماتي ما زالت مصرة على تصرفاتها معي... فقد استبقت المربية الآسيوية لديها ..ولا تكف عن أخذ الطفلين لعدة ساعات يوميا ...وتقوم بإرضاعهم اللبن الصناعي حتى اعتادوه... ولم يعودا يطلبان صدري ...وأيضا اليوم أخبرت مربيتي أنها ستأخذهما ليبيتان لديها "
لتنتفض ريهام واقفة وهي تقول بحنق بينما تدعك يديها معا :
"وطبعا لو أخبرت زوجي العزيز برفضي أن يبيت طفلي الذين لما يكملا شهرا حتى الآن بعيدا عني سيأخذ صف والدته وكونهم أحفادها الأعزاء... وأول فرحتها وهي متعلقة بهم ...ويجب أن أتحمل... ويكفي أننا نقيم وحدنا بعيدا عنها.. وكأننا في بلد أخرى وليس فقط بضع أمتار هي ما تفصل بيننا... بل إن الحديقة مشتركة ولا أكاد اشعر بشيء من الخصوصية أبدا بمنزلي.. الذي تقوم هي بدورات تفتيش دورية عليه "
لتضيف بوجع:
"أنا متعبة همس... لقد أصررت على القدوم لسامح والبقاء لأخر الليل ..رغم أني اطمأننت أنه أصبح بخير ...وحدثته هاتفيا لأهرب من مقابلة أقاربهم على العشاء... حيث تتعمد حماتي إهانتي أمامهم والتقليل من شأني ..وأحمد لم يعد يساندني كالسابق ..كما لو كان قرر إراحة رأسه ...يبدو أن لا فائدة !! من يقبل بالزواج من وسط يعلو مستواه سيظل مجبرا أن يعاني من رؤية وسماع النظرات المنتقصة ...والكلمات المهينة... والتقليل من شأنه طوال حياته "
وقبل أن ترد همس فوجئت كلتاهما بسامح يقف بالباب يطلب منهما الذهاب لمعاونة أمه بوضع الطعام... بينما تعلو عيناه نظرة غاضبة أشعرتهما أنه سمع جملة ريهام الأخيرة.. خاصة عندما جر ريهام إليه وهي تمر بجواره ليقبل رأسها قائلا:
" ما عاش من يهينك ورأسي يشم الهواء ..إن فعلها مخلوق اخبريني... وأنا قادر على جلب حقك من عينيه كائنا من كان "
لتربت على صدره وتضم جذعه إليها بمحبة قبل أن تتركه وتلحق بهمس بالمطبخ دون أن ترى تلك النظرة الغامضة والملامح المتقلصة التي ملئت وجهه المطرق للأرض قبل أن يزفر بعمق و يعود لمجالسة خالد وأبيه...
----------------------------------------

يدور أمام باب مكتبها بلا هدف ..لا هو بقادر على الولوج إليها ..ولا هو بقادر على الاستمرار بتجاهلها ...منذ عرف بمرض أمه باليوم التالي لرؤيته لها أمام باب المجموعة ...ومعرفته بكون تقى ابنة خالته وهو يشعر بالتشتت...لقد تذكر أن والدته دوما ما كانت تتحدث عن ابنة شقيقتها التي سميت على اسمها ...تلك التي لا يذكرها جيدا حيث سافرت مع أسرتها للخارج وهو ابن خمس أعوام تقريبا ..وهي كانت ابنة عامين أو ثلاث وقتها ... لقد ظل طوال هذا اليوم أشبه بالتائه خاصة بعد معرفته مصادفة بما حدث أمام باب المجموعة بعد تركه لهما باليوم السابق ...حينما سمع وهو يركن دراجته اثنين من حراس الأمن يتحدثان بتعجب عن قيام أبيه بحمل قريبة سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة ...التي فقدت وعيها أمام الباب... حيث خرجوا على صوت الفتاة تصرخ ليفاجئوا بالسيد أشرف يمنع الجميع من الاقتراب من السيدة الفاقدة للوعي... ويحملها بنفسه لسيارته...ترافقه تقى السكرتيرة ...وغالبا نقلوها للمشفى ...لقد شعر بالجنون ما بين قلق ..ورفض ..واضطراب ...زاده معرفته بتغيب تقى أسبوع كامل عن العمل ...حيث تم إرسال بديلة عنها لحين عودتها... كاد يجن طوال اليوم ...ما بين رغبته بمعرفة ما حل بها ...ورفضه لترك نفسه يتأثر بها ثانية أو يترك عواطفه ناحيتها تضعفه ليسأل عنها ...ليظل يدور بدوائر ...خاصة مع الحالة العجيبة التي اكتنفت والده طوال المساء التالي لرؤيتها ..وفي الأيام التالية ...كان ساهما ...صامتا ..متباعدا ..كان يجهز الطعام لهما بصمت ..ليجلس معه على الطاولة يتلاعب بملعقته دون أن يتناول شيئا ..وأحيانا يترك له الطعام مغطى على الطاولة ويعتزل بحجرته طوال المساء ...حتى فقد قدرته على الصبر مساء أمس ليسأله عن حقيقة ما سمعه من حراس الأمن ..وهل فعلا نقل قريبة تقي السكرتيرة للمشفى ...لينظر له والده بغرابة ..وهو يقول بتهكم :
"قريبة تقى ؟؟!! تقصد والدتك !!"
لينتفض غاضبا ويهتف برفض:
"ليست والدتي لا تدعوها بذلك ..هي لا شيء لي ..وأنا متعجب من قيامك بحملها للمشفى بنفسك "
ليظل والده محدقا به للحظات شعرها دهرا بنظرة غامضة قبل أن يقول بهدوء:
"ستظل والدتك شئت أم أبيت ..ولها عليك حق برها ...أيا كان ما حدث في الماضي بيني وبينها .. أنا كان يجب أن لا اسمح بإبعادك عنها وفصم الروابط بينكما ..لكني أخطأت وتركت مشاعر الغضب تحكمني"
ليقاطعه ياسر بحدة دون أن يرفع صوته:
"كان قراري أنا ..أنا لا أريد خائنة حقيرة مثلها ل"
ليضرب أشرف المنضدة أمامهما بعنف جعل الأطباق تهتز بقوة وهو ينهره :
"إياك!!! إياك أن تجرؤ على التحدث عن والدتك بهذه الصورة ...لقد ساءت طباعك... وتصرفاتك تثبت لي كل يوم أني بالفعل قد أخطأت وظلمتك عندما تركت غضبي وجرح كرامتي يؤثر على علاقتك بها ...لتدفع أنت الثمن وتتحول لمسخ عديم المشاعر ..يهين أمه ..ولا يسأل حتى عنها بعد أن علم بمرضها "
لتزداد وتيرة تهدج أنفاس أبيه لدرجة أقلقته ..ليحاول مهادنته قائلا :
"حسنا أبي لنؤجل الحديث لوقت آخر ..تبدو متبعا ..لما لا تأخذ دوائك وتستريح قليلا "
لينظر له أشرف بغضب وهو يسأله :
"كيف علمت بما حدث لأمك"
ضاغطا على حروف كلمة أمك كما لو كان يؤكدها له
ليدير رأسه بعيدا عن عين أبيه وهو يخبره بالحديث الذي سمعه من حارسي الأمن ..ليومئ أبيه برأسه مؤكدا :
"لقد أوصلتهما للمشفى ..وانتظرت مع تقى حتى خرج الطبيب الذي أخبرنا أنها تعاني من اختلال ضربات القلب نتيجة ارتفاع كبير في ضغط الدم ناتج غالبا عن شدة انفعال ...وحذر من احتمالية إصابتها بالجلطة ما لم تلتزم الراحة والعلاج والبعد عن الانفعالات ..لكني تركت المشفى قبل أن تفيق بعد أن اخبرنا الطبيب أنها أصبحت أفضل "
نظر له بحيرة وهو يسأله :
"لماذا ؟"
رغم أنه لم يزد عن تلك الكلمة لكن والده فهم سؤاله ليجبه بهدوء :
"لأنها أمك ..أم ابني الوحيد ..ولأنهما سيدتان احتاجتا إلى معاونة ...وما كنت لأتركهما حتى لو لم أكن اعرفهما ..فما بالك بفتاة اعتبرها بمثابة ابنتي وامرأة هي أم ابني الوحيد .."
ليسأله ياسر بتعجب :
" كيف عرفت من تكون تقى ..هل هي من جاءتك وعرفتك بنفسها؟؟؟ هل توسط لها بالعمل ؟!!ولما تعتبرها ابنتك وأنت لم ترها منذ كانت بالثانية أو الثالثة "
ليتنهد أشرف وهو يحكي له :
"عندما جاء خالتك المخاض كان زوجها يعمل ببلدة مجاورة ويعود متأخرا ..فطلبتنا هاتفيا .. حيث كانت شقتهم قريبة منا أكثر من منزل عائلة زوجها أو عائلة والدتك ..فذهبنا إليها بسرعة ..كنت أنت تقريبا بالثالثة من عمرك أو أقل ..وقد أخذناك معنا ونقلناها للمشفى حيث ولدت تقى ..كنت أنا من تسلمها من الممرضة حيث كانت والدتك ذهبت لاستخدام هاتف المشفى لإخبار عائلة زوجها وعائلتها ..حيث لم تكن الهواتف المحمولة قد ظهرت وقتها ..أنا من حملها وكبر بأذنها ..وقتها جذبتني.. أنت طالبا رؤيتها وأخذت تقلدني وتغمغم بأذنها... وتقبل رأسها وأنت تقول (نونا لي) ...لقد كانت شبه مقيمة لدينا حيث أن خالتك كانت تعمل مدرسة بمدرسة مسائية وقتها ...وكانت تتركها معنا حتى تعود ..فاعتدت أن أعود من عملي لألعب معها ...وكم تمنيت طفلة مثلها ...لكن لم يأذن لنا الله بغيرك نتيجة مشاكل لدى أمك ..منعتها من الحمل بعدك فاعتبرتها ابنتي ..كنت أدللها وأحبها جدا لدرجة تثير غيرتك ..فكثيرا ما أنقذناها منك وأنت مرة تكاد تخرج عينيها ..ومرة تضربها أو تعضها ..أو تكتم أنفاسها "..
ليبتسم وهو ينظر له ..
"حقا كنت شريرا صغيرا معها "
لينظر له ياسر بحيرة وهو يسأله:
"لكنهم سافروا وهي بالثالثة تقريبا ..فكيف ظللت متذكرا لها:
ليجيبه أباه وهو يشرد قليلا:
"لأنهم جاءوا مرتين أو ثلاث خلال تلك الأعوام ..منهم مرة وهي بالثالثة عشرة تقريبا ..قبل – ليتردد قليلا ثم يردف- قبل طلاقنا أنا وأمك بأشهر قليلة "
لتزداد حيرة ياسر وهو يسأل :
"أي أنني كنت بالسادسة عشرة تقريبا فكيف لم أرها أو اذكرها"
ليزفر أشرف بعمق وهو يجيبه ..لقد أخذت أفكر عندما اكتشفت كونك لا تعرف من تكون ...لأتذكر أن المرة الأولى التي حضروا بها بعد عامين من سفرهم وكنت أنت بالسابعة تقريبا ..كان جداك "رحمهما الله" بالبلدة قد طلبوا أن تذهب لتقضي لديهم جزءا من الإجازة الصيفية ..ما زلت اذكر تلك الإجازة جيدا لأن والدتك استغلت إرسال خطاب من شقيقتها تبلغها بقدومهم بالصيف لترفض السفر وأرادت إبقائك معها لكني رفضت...تعرف كيف كانت علاقة والدتك بجديك سيئة ..فهما منذ علما بعدم قدرتها على إنجاب المزيد من الأطفال أرادوا أن أتزوج عليها لكني رفضت ..فبدءا يسيئان معاملتها معتبرين أنها من تمنعني حقي .."
ليهز رأسه زافرا بعمق بينما يكمل:
"وقتها أرسلتك أنت إليهم لتقضى هناك أسبوعين وهي نفس فترة إجازة خالتك وأعدتك بعدها .. فأمك كادت تجن ولم تقبل أن تقضي المزيد من الوقت بعيدا عنها ..أما المرة الثانية فكنت أنت بمعسكر صيفي لأسبوع ..هذا الذي ظللت تحايل والدتك حتى وافقت أن تذهب إليه على مضض وبعد مشاحنات ...قضوا هم معنا هذا الأسبوع وقضوا باقي إجازاتهم بإحدى المدن الساحلية "
ليسأله ياسر :
"وطوال هذه السنوات لم يحضرا إلا هاتين المرتين فقط :
ليتنهد أشرف بعمق وهو يخبره:
"منزل عائلة مسعد زوج خالتك كان منزلا عائليا مكونا من عدة طوابق يسكنه كافة أفراد عائلته ..أباه وأمه.. وإخوته.. وأعمامه وأبنائهم ..وللأسف قاموا بإضافة طوابق أخرى فوقه لتزويج أبنائهم بها بصورة مخالفة... فلم يتحمل وسقط عليهم وهم نائمون قرابة الفجر ولم ينجوا منهم أحد .. كان مسعد وقتها قد أمضى ثلاث أعوام بالخارج ...ليعود وحده بعد أن أبلغته بالحادث... جاء ليقوم بدفن عائلته بأكملها .. "
لينظر له بتأثر وهو يضيف:
"أتعرف لقد قلقت عليه جدا وقتها ..كان غريبا . جامدا متخشبا كما لو كان إنسانا آليا ..لقد كنت متوقعا أن ينهار من شدة تأثره ..فمسعد كان شديد التعلق بعائلته ...وخاصة أبويه وإخوته.. وكثيرا من مشاكله مع خالتك كانت بسبب تقديم طلباتهم ورغباتهم عليها ..لذا أقلقتني حالته الجامدة ..وقتها سألته وأنا أوصله للمطار ...متى سيعود ؟!! فنظر لي نظرة لم أنساها ؟؟نظرة جوفاء مليئة بالخواء والجمود ...كما لو كانت نظرة جثة فقدت الروح ..وأجابني بأنه لن يعود ...فلم يعد لديه هنا ما يستدعي العودة ...و بالفعل لم يعد إلا بعد قرابة السبع سنوات في تلك الإجازة القصيرة التي أخبرتك عنها ...وأظنها كانت بإلحاح من خالتك ..لكني وقتها شعرت انه لم يعد مسعد الذي اعرفه ..شيئا به تغير ..لا ادري ما هو بالضبط لكنه لم يكن صهري الذي اعرفه ....لكن من كانت كما هي..بمرحها وشقاوتها وابتسامتها التي أحبها هي تقى ...
لكن حتى هي تغيرت فيما بعد .....عندما رأيتها بفترة التدريب وجدتها تغيرت ..فقدت مرحها وابتسامتها "
ليتنهد والده مضيفا بسخرية:
"يبدو أننا جميعا تغيرنا بصورة أو بأخرى حتى الصغار"
ليكمل ياسر أسئلته:
"إذا لم يكن لك علاقة بعملها بالمجموعة :
لينظر له والده ببسمة جانبية ساخرة وهو يسأله :
"أما زلت تظنها صديقتي التي أحابيها "
لينكس رأسه بضيق وهو يقول بحرج :
"أبي!!! "
ليزفر أبيه بألم ويجيبه :
" لا ياسر لم يكن لي علاقة بعملها بالمجموعة ...لقد كانت منحة قدمها خالد لجامعتها بتقديم عدة فرص عمل للمتفوقين من عدة أقسام وتخصصات ...على أن يخضعوا لفترة تدريبية لدينا ... وبعدها اختبار قبول ومن يجتازه يتم تثبيته ...وكانت من ضمن الأسماء التي رشحتها الجامعة وتخطت التدريب والاختبارات بمجهودها الشخصي ..لقد علمت من تكون فقط عندما رأيتها بمكتب مديرها السابق أثناء تدربها ..وتأكدت من الأمر عندما رأيت اسمها بالكشوف المرسلة من الجامعة والتي طلبت الاطلاع عليها عندما شككت بهويتها ..ومن وقتها وضعتها تحت عيني ..وأنا بالفعل من ساعدتها على الحصول على منصبها بمكتب خالد عندما خلى المنصب ...لكني كنت سأنقلها بجميع الأحوال ..فلم أكن لأثق ببقائها مع مديرها السابق "
ليقطب ياسر بحيرة وهو يسأله:
"لماذا؟؟!!"
ليرد بغموض وهو يقف متجها لحجرته:
"لأني لم أكن لأمن عليها معه "
ليتركه حائرا ...ويعتزل بغرفته حتى صباح اليوم التالي..
أفاق من شروده بذكريات اليوم السابق... على نظرات التعجب التي يرمقه بها أحد الموظفين الذي مر بجواره وهو يقف متسمرا قرب باب حجرة سكرتيرة الرئيس قبل أن يحسم أمره ويقرر الدخول...فهو لم يعد يحتمل عدم معرفته بما حل بها....
-------------------
كانت تبحث بغيظ وضيق عن الملف الذي طلبه رئيسها وهي تسب تلك السكرتيرة التي حلت مكانها لعدة أيام فأفسدت ترتيب ونظام الملفات ..وعاثت بمكتبها فسادا ...عندما فوجئت بعاصفة بشرية تقتحم مكتبها بدون استئذان بأنفاس تتهدج كأنما كان بسباق مارثون وعيون تطلق نارا ...لتناظره بمزيج من غيظ وبرود وهي ترفع رأسها بأنفة سائلة :
"نعم أستاذ ياسر ..أهناك شيء ترغب بتركه لخالد بك ..أم ترغب بالدخول إليه ؟!!
لاحظت حركاته المتوترة ضغطه على شفتيه وانقباض كفيه.. وعيونه التي رغم النظرات النارية التي تطلقها ..إلا أنها لمحت بداخلهم طيف حيرة وقلق يحاول إخفائها ..ولا تدري لما شعرت أنه لا يعرف كيف يجيب عليها ..أو بالأدق شعرت أنه لا يعرف ما يريد ....تكاد تجزم انه يرغب بمعرفة أخبار أمه ..لكنها ستكون ملعونة إن سهلت الأمر عليه ...فليحترق بنيران الجحيم التي يعذب خالتها بها ...وليصرح بما يريد بسؤال مباشر إن أراد معرفة شيء عنها ..ورغم هياج أفكارها ..إلا أن وجها لم يعكس أيا من ذلك بل ظل محتفظا بجموده ...وعندما طال الصمت سألت بسخرية :
"هل اشتقت لي فأتيت لتتأمل بجمال وجهي وتبقى صامتا ناظرا لي؟!! "
علمت لحظة خروج الكلمات من فمها بخطئها ...فقد شعرت أنها أيقظت دبا نائما بنغزه بشوكة ...فأشعلت أتون غضبه ...فقد احمر وجهه ....وضاقت عينيه ...واتسعت فتحة انفه بينما يهدر أنفاسه منها ليقول بصوت كالفحيح من بين شفاه شبه مطبقة وأسنان تضغط على نواجذه:
"اسمعيني جيدا أيتها الفتاة !!إياك ثم إياك أن تتجاوزي بالحديث معي... أو تظني أن هناك أي صلة بيننا قد تسمح لك بالتجاوز معي "
لتشتعل نيران غيظها وهي تسمعه يحدثها بتلك الطريقة المهينة لتقاطعه هاتفة :
"ها... أنت يا هذا.. ألزم حدودك ...أي صلة تلك التي سأستغلها ؟!! ولم مثلا سأحاول ؟!! أأنت مديري مثلا وأحاول نيل منفعة منك ؟!!...ثم من أنت؟!! ..من تظن نفسك؟!! ..من تكون يا هذا؟!! ..أنت لست سوى طفل مدلل سخيف ..لا يجيد سوى الهروب ..ولا يقدر على مواجهة حتى اقرب الناس إليه ..وأفضل ما يحسن صنعه هو الجرح والإساءة لمن حوله ومن يقربونه ...فلما بحق الله سأحاول أن أهتم بأي صلة تدعيها أنت ...لا أنا بيننا !! إنك مجرد آآآآآآآه "
لم تعرف ما حدث فعليا ...لقد شعرت بيدها تلتوي خلف ظهرها بينما يجذبها إليه بنفس الوقت حتى كادت أن تكون شبه ملتصقة به ليقول لها بفحيح :
"كلمة أخرى تضيفيها ...وستكونين الجانية على نفسك ...يبدو أنك تحتاجين لإعادة تربية يا ابنة خالتي!!! ..وأنا كفيل بهذا ..بل وبقص لسانك السليط هذا "
كانت طوال حديثه تتلوى... وتحاول التخلص منه دون أن ترفع صوتها خوفا من خروج خالد بك من مكتبه ..وتحول الأمر لمشكلة ..أو فضيحة لو رآهم احد بهذا القرب ..فسيساء التفسير حتما !!! خاصة والأحمق يكاد جبينه يلامس جبينها ..ورغم انه يكاد يكسر ذراعها لكن من يراهما ربما يظنهما متعانقين ..حاولت ركلة بساقها ..وسحق قدمه بكعب حذائها ...وهي تتمنى لو كانت ترتدي احد تلك الأحذية ذات الكعوب العالية المدببة بدلا من حذائها ذو الكعب العريض المنخفض الذي يلائم بزتها الكلاسيكية العملية السوداء ..بقميصها الأبيض وحجابها المشابه للقميص ..أخذت تسبه وتنعته بكل الصفات الذميمة التي تعرفها ...وهي تطالبه بترك ذراعها حتى تركها أخيرا... بعد لحظات كانت فيها تشعر أنه على وشك أن يكسر ذراعها ..لتبتعد عنه خطوة للخلف بينما تناظره هاتفة بحنق :
"أيها الحقير ..ضارب النساء ...لما لا أعجب من همجيتك بعد فعلتك مع أمك ...فمن لم يرعى حرمة أمه ...لن يرعى حرمة أخرى ...فلا تناديني بابنة خالتي فهي صلة لا تشرفني أبدا أن تربط بيننا .. فمن كاد أن يتسبب بموت أمه حزنا وانفعالا وكمدا ..لدرجة أن تبقى بالمشفى دون أن يهتم أو يسأل ..لمجرد هواجس حمقاء وخزعبلات برأسه ..لا يشرفني أن اعرفه "
تكاد تقسم أنها رأت بعينيه قلقا واضطرابا وهي تقول له أنه كاد يقتل أمه ...بل تشعر انه يعض لسانه حتى لا يسأل عنها ..لكنها شكت بظنها مع كلماته الفجة التي قالها قبل أن يتجه للخارج :
"أنت لا تعرفي شيئا ..فلا تتحدثي عن ما لا تعرفيه أو يخصك ..أو!!! ربما كنت مثلها بنفس الدماء الفاسدة.. التي ترى الخيانة فعلا عاديا لا يستوجب نبذا وعقابا ...أيا كان مدى ما تعرفيه.. أو لا تعرفيه فلا يهمني ..فقط ابقي أنت وهي بعيدتين عنا أنا وأبي ...لا أريد أن تقع عيني على أيا منكما ..وان كانت الظروف ستجبرني على رؤيتك أنت ...فأنا لن اسمح لها بأن يكون لها وجود ولو بذكر اسمها ...فحذار أن تحاول التسلل لحياتنا أنا وأبي من خلالك ...وقد أعذر من أنذر!! "
كادت تلقى بكل ما تطاله يداها خلف ذاك الغبي الذي ألقى كلماته المسمومة وخرج عاصفا كما دخل ...ليتركها تعض على نواجذها غضبا وغيظا بينما تتوعده بسرها أنها ستجعله يبتلع كلماته الحقيرة بجوفه يوما....

--------------
" حبيبتي كفي عن البكاء ..أنا بخير .."
لكنها لم تكن تستمع بل تزيد من احتضان أبيها متحاشية أن تصدم بيده المعلق بها إبرة الحقن ..ليزداد انهمار دموعها وهى تقول بتأثر:
"الحمد لله يا أبي أن أعادك لي ...لقد كدت أموت قلقا عليك فليس لي سواك يا حبيبي"
ليضحك الدكتور خليل بخفوت وإرهاق ...يحاول مداراته لأجل صغيرته المتشبثة به فهي منذ تخطى مرحلة الخطر وأفاق وتم نقله لغرفة عادية من عدة ساعات وهي ملتصقة به رافضة تركه ...ليضمها إليه أكثر وهو يقول ناظرا لأكرم الوقف بجواره من الناحية الأخرى ينظر لهما بسعادة وتأثر :
" كفى حبيبتي وإلا هرب منك خطيبك ظنا انك مجنونة ..أو طفلة لم تنضج ويهرب من الزواج "
ليضحك أكرم بحرج ..وهو يتحمد لأستاذة بالسلامة ويوصيه بأن ينتبه لصحته ولا يدع شيئا يهزه ..أو يدفعه للانفعال ...لتتلاقى عيناهما بحديث صامت متفهم ..علم منه خليل أن أكرم سمع حواره كاملا مع هؤلاء الأوغاد الطامعين به وبابنته ..ليغمض عيناه قليلا بينما يستمع لثرثرة سارة حول كونها ستهتم به ولن تسمح له بإهمال صحته وطعامه ..وكذلك التخفيف من ضغط عمله ..ولن تبتعد عنه ...ليقاطعها بحنو وهو يربت على كفها قائلا:
"صغيرتي لما لا تذهبين لتتناولي شيئا من الطعام بمطعم المشفى فأنت ذابلة واشك أنك كنت تتناولين شيئا طوال أسبوع مرضي"
ليؤكد أكرم على كلامه هاتفا :
"بالفعل دكتور ..لقد كانت تصبني بالجنون وأنا أُحيالها كطفلة لتتناول بضع لقيمات أو كوب عصير "
لتنظر هي له بعتب بينما تقول:
" لا تصدقه أبي!! ..لقد كان يطعمني الثلاث وجبات يوميا تحت إشرافه ولا يدعني حتى انهي طعامي.. رغم عدم قابليتي له ..كما لو كنت طفلة معاقبة ..ولولا خوفي من غضب والدته ماما زينب ...التي ترسل لي الطعام يوميا كما لو كنت بالصحراء ..مرة معه ..ومرة مع همس ..ومرة مع سامح ..ومرة تحضره هي وعمي محمد ..لما تناولت شيئا ..وهو كان يقف فوق رأسي لأنهي الطعام مهددا إياي انه سيخبر والدته إن لم انهيه ..بأن طعامها لا يعجبني.. رغم أنه يعلم أن الأمر ليس كذلك "
كانت تمط شفتيها بطفوليه ...بينما تتعالى ضحكات أبيها وأكرم بهدوء ..ليربت أبيها على كتفها طالبا منها الذهاب لتناول الطعام والعودة له ..بينما بداخله يشعر بالراحة والسعادة بتلك الأسرة التي ستكون خير معين وسند لأبنته لو أصابه مكروه ..ليبتسم على فطنتها وهي تدمدم ..بأنها تشعر أنه يرغب بالحديث مع أكرم وحدهما لذا يقوم بتسريبها كما لو كانت قطة ..لتتركهم وهى تشير لهم بإصبعها بمشاغبة ..لن أتأخر فقل ما تشاء بسرعة " لتخرج وتغلق الباب خلفها
لتتعالى تنهيدة أبيها بينما ينكس رأسه بهدوء وهو يقول لأكرم :
" أعتقد أنك سمعت الحوار الذي دار بيني وبين من يطلقون على أنفسهم أقاربي ..فهل لي أن أسألك كم سمعت "
ليزفر أكرم وهو يجاور أستاذة ويربت على كفه بمحبة ويقول دون مواربة:
"كل ما قيل منذ لحظة فتح الباب ..فقد كنت بطريقي إليك لحظتها "
ليحرك خليل رأسه بإيماءة وهو يقول :
"إذا فقد سمعت كل شيء تقريبا لذا لا داعي للشرح ..هؤلاء للأسف هم عائلتي التي تخلت عني قديما ...لتعود الآن لمطاردتي طمعا بما أصبحت أمتلكه ...فما أن عرفوا عن وضعي ..بعد أن شاهدوني بأحد البرامج الحوارية بالتلفزيون والتي للأسف قبلت بالظهور بها ظنا بأن برنامجا طبيا لن ينتبهوا له.. ليروه وينتبهوا ويبحثوا ويعرفوا عن وضعي المالي وابنتي الوحيدة ..ربما عن طريق احد العمال أو الممرضين ..فقد شعرت أن لهم عينا هنا بالمشفى ... ليبدؤا بالظهور والحوم حولي كالجوارح المفترسة"
ليزفر بعمق ويرفع رأسه قائلا:
"أنا خائف على سارة يا أكرم ...لو حدث لي شيء سيفترسونها كالضباع الجائعة"
ليقطب أكرم وهو يربت على يده مطمئنا ويقول:
"لا داعي للتشاؤم أستاذي ..أنت بخير ..كانت مجرد أزمة بسيطة ..وقد مرت بسلام ..فقط الالتزام بالتعليمات ..وستحيا سنوات طويلة بإذن الله ..حتى تزوج أبنائها "
لينظر له خليل بمحبة وهو يقول:
"أكرم أنا أعرف تفاصيل حالتي ..وأعرف أنى وإن تخطيت مرحلة الخطر بفضل الله ..لكن احتمالات أزمة جديدة قد تكون قاتلة وارد ..وأنا لا أقول هذا اعتراض على قضاء الله....حاشا لله ... لكني أرغب بالاطمئنان على سارة ..لذا لي طلب لديك "
ليهتف أكرم بحمية:
"أنت تأمر أستاذي ..لا تطلب"
ليبتسم له خليل ويشكر الله بداخله على هذا الابن الذي رزقه به الله ولو لم يحمل دمائه ليقول له:
"أعرف أننا اتفقنا أن يكون عقد قرانكم قبل الزفاف مباشرة ...أي بعد أربع أشهر تقريبا ...لكني ارغب أن تعقد عليها فورا اليوم أو غدا على أبعد تقدير ...وهنا بالمشفى ليعلم الجميع أنها صارت زوجتك ...أريد أن أطمئن من ناحيتها ..وأنها بحمى رجل وعصمته ..ولن يستطيع احد الاقتراب منها لو أصابني مكروه ..خاصة وقد أبلغتهم بالفعل أنك زوج ابنتي ..ولابد أنهم سيعرفون كذب ادعائي من خلال عينهم ...إن لم يكونوا عرفوا بالفعل ..لذا ارغب بالتعجيل قبل ظهورهم وخاصة لو علموا بمرضي...سيكون عقدا فقط ..ويكون الزفاف بموعده كما اتفقنا ..حتى تتمكن سارة من تجهيز حفل زفاف يليق بها "
ليقف أكرم وهو يومئ مستجيبا لأستاذة قائلا:
"رغم أن قلقك مبالغ به ..فأنت بحول الله وقوته بخير تماما ..وهؤلاء لن يستطيعوا الاقتراب من سارة... سواء عقدت عليها أم لا ..فيكفي أنها ابنتك ولو لم تكن خطيبتي ..لأحميها بروحي ..لكني موافق ...وغدا ستكون الأوراق منجزة وتصاريح الزواج جاهزة ..ومساء سيكون موعد العقد بإذن الله ..المهم أن توافق سارة"
ليغمض خليل عينيه ويريح ظهره بالفراش وهو يتنهد براحة مجيبا:
"لا تقلق ...سارة أنا كفيل بإقناعها"
-----------------------------------------------------------------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 10-08-18, 10:10 PM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل التاسع
(بارك الله لكما وبارك عليكما ..وجمع بينكما في خير ) أنهى الشيخ تلك الكلمات ليخطف سامح المنديل الذي غطى كفي شقيقه وصهره الدكتور خليل ضاحكا وهو يهنئهما ...بينما وقف كلا من والد أكرم وخالد بجوار مقعد أكرم المقابل لمقعد الشيخ ..بجوار فراش الدكتور خليل الذي وقف جواره من الناحية الأخرى صديقه الدكتور طه الذي كان شاهد العقد عن سارة بينما شهد سامح عن أخيه ...وتواجد أيضا اثنين من الأصدقاء المقربين من الدكتور خليل والعاملين معه بالمشفى ...وبمجرد إتمام العقد انطلقت أصوات زغاريد من بعض الممرضات اللاتي كن يتابعن مشهد العقد من أمام باب غرفة الدكتور خليل ..بينما احتضنت همس سارة مهنئة لها وأخرجت هاتفها لتبلغ والدتها المتلهفة والمنتظرة بالمنزل... ناولت بعدها الهاتف لسارة حيث هنأتها وأطلقت أصوات الزغاريد بالهاتف وأكدت عليها المجيء مع أكرم لتناول العشاء لديهم فقد جهزت وليمة بمناسبة العقد ...بمجرد إنهاء أكرم التواقيع اللازمة وتلقى تهاني المتواجدين الذين انسحب معظمهم بعد تقديم التهاني ..ولم يبقى سوى والده وأخيه وخالد بالإضافة لشقيقته ...قبل رأس حماه قبل أن يتجه لمكان جلوس سارة التي كانت تجاور همس على أريكة جانبية لتنهض همس مقبلة أخيها قبل أن تنسحب لتقف بجوار زوجها
اقترب أكرم من سارة المنكسة رأسها بخجل ما أن رأت اقترابه وانحنى مادا كفه لها لتمد كفها وتضعها بها فيغلق أصابعه عليها ويسحبها برفق لتقف مقابلة له لينحني مقبلا جبينها وهو يقول:
"مبارك سارة ..أتمنى أن يقدرني الله لأكون نعم الزوج لك"
لتنكس رأسها خجلا بينما يتلون وجهها بحمرة الخجل حتى أصبح مقاربا للون ثوبها الوردي الرقيق المطبع بأزهار بيضاء صغيرة.. بقصته المشابهة لأثواب الستينات .. بكم قصير ونصف علوي محكم على جذعها حتى الخصر ليتسع حتى نهايته التي تخطت الركبة بالكاد ...لترد عليه بهدوء ورقة :
"بارك الله فيك ..وأتمنى أن أكون أيضا زوجة جيدة لك"
ليغمزها قائلا بهمس :
"كلمة جيدة لا تليق بفاتنة مثلك يكفي أن أنظر لتلك الحمرة الفاتنة حتى نتخطى الجودة لمرحلة أخرى"
فتبتسم بخجل وتنسحب من بين يديه نحو والدها الذي ينظر لها بعيون ممتلئة بالسعادة والدموع لتنحني محتضنة إياه بينما تهمس له بمحبة :
"أتمنى أن تكون راضيا عني يا أبي"
ليربت على كتفها بينما يشدد من ضمها إليه وهو يقول :
"دوما يا حبيبتي ..أنا راضي عنك دوما ..مبارك يا قرة عيني ..أكرم رجل بحق ...وأنا واثق انه سيحافظ عليك ويسعدك"
ليقترب منها سامح وخالد مهنئين وكذلك والد أكرم الذي ضمها مقبلا جبينها بحنو.. قبل أن ينسحبوا جميعا مغادرين ..بينما استأذن أكرم حماه بأخذ سارة للسهر خارجا ..
وما أن خرجا من باب المشفى باتجاه سيارته حتى رن هاتفه ليضيء اسم هند شاشته فيضرب بكفه على رأسه بينما يتوقف هاتفا وهو يقول :
"يا الهي لقد انشغلت تماما ونسيت أن أهاتف هند لأخبرها أني لن اذهب اليوم للعيادة لتعتذر للمرضى "
قالها وهو يجيب الهاتف ليخبر هند أن تعتذر للمرضى مبلغا إياها بأسبابه .. بينما يفتح باب السيارة لسارة
...............
ظل الهاتف معلقا بأذنها رغم انتهاء المحادثة بينما ارتسمت ملامح الذهول الممزوج بالصدمة والألم على ملامحها للحظات طويلة ... حتى أخرجها من حالتها سؤال أحد المرضى عن موعد قدوم الطبيب ...لتعتذر لهم بصوت مختنق بكلمات لم تعيها هي نفسها عن ظروف قاهرة اضطرت الطبيب للتغيب اليوم ...
كانت بحالة من التيه لدرجة لم تشعر معها بغضب بعض المرضى وتذمرهم ...بل لم تكد تعي إجاباتها على تساؤلاتهم حتى أنها لم تنتبه لنظراتهم المتعجبة لها ...لتتحرك بآلية بعد دقائق عندما شعرت بخلو المكان لتغلق باب العيادة عليها وتنزلق جالسة على الأرض مستندة بجسدها على الباب رافعة ركبتيها أمام وجهها مسندة جبينها عليهم بينما بدء نشيجها يعلو مع بكائها... وهي تحتضن نفسها بذراعيها وتبدأ بتحريك جسدها للأمام والخلف بتواتر وجسدها ينتفض بينما تحاول كتم نشيجها لتخرج منها آهات الألم مختنقة رغما عنها ...
لم تعرف كم من الوقت ظلت على حالتها لكنها بعد فترة قامت لتتحرك بآلية للحمام وتضع وجهها تحت الصنبور دقائق عدة وتحاول ترتيب شكلها قبل المغادرة...كانت تتحرك وتتصرف بجمود بينما تمنع عقلها من التفكير قصرا رغم أنفاسها المتهدجة لتقوم بترتيب المكان بآلية وتأخذ حقيبتها وكتبها وتخرج مغلقة الباب خلفها.......كانت تسير بالشارع دون أن ترى الطريق أو تشعر بشيء فقط تحتضن كتبها لصدرها كما لو كانت تتشبث بهم ...بينما عيناها المحمرتان شاردتان في اللاشيء مما جعلها لا تنتبه لهذا لمعت عيناه لرؤيتها و تعمد الوقوف بطريقها حتى ارتطمت به ......
------------------------------------
أغلقت الهاتف الداخلي الموصل لمكتب رئيسها بعد أن أبلغته بعدم حضور السيد أشرف أو ياسر اليوم ...كانت تشعر بالقلق رغما عنها لتغيب الاثنين معا ...صحيح أن السيد أشرف لا يأتي للمؤسسة يوميا ...إلا انه لا يتغيب عن المقابلات الهامة واليوم لديه مقابلة هامة هو والسيد خالد مع مندوبين لأحد الشركات الأجنبية الهامة ..لتجد بعد دقائق رئيسها يندفع خارجا من حجرة مكتبه ليخبرها أن تلغي كافة مواعيده لهذا اليوم ..فتسأله وهي تقف عن ماذا ستفعل مع الوفد القادم بعد ساعة.. ليتسمر أمام باب المكتب أثناء خروجه فيرفع يده لرأسه وهو يعقد حاجبيه بينما تنظر له بقلق وترقب شاعرة أن هناك شيء سيئا قد حدث ..لتدخل في تلك اللحظة السيدة همس وهي تحمل بعض الأوراق بيدها لتسمعها تسأله بتعجب:
"خالد؟!!! هل أنت ذاهب لمكان ما؟!! " لتسمعه يجبها بضيق وتوتر :
"همس أريدك أن تقابلي الوفد الإيطالي القادم بعد ساعة نيابة عني وعن السيد أشرف وتعتذري منهم عنا ...إن أرادوا مناقشة بنود العقد معك باعتبارك نائب الرئيس فاطلبي حضور المحامي معك ...لكن لا توقعي شيئا وحاولي المماطلة بحجة مراجعة البنود ..وإن رفضوا حددي معهم موعدا آخرا غدا ...وكلفي إدارة العلاقات العامة بتولي مهام الاهتمام بهم وتوفير برنامج ترفيهي لهم ...من الممكن أن تكلفي ماهينار بالأمر فهي تجيد الإيطالية "
كان يتحدث بسرعة وضيق ...لتقاطعه زوجته وهي تقول بقلق :
"لا مشكلة خالد فقد درست المشروع جيدا مع السيد أشرف واعرف تفاصيله ..لكن إلى أين تذهب الآن ولما لن تحضر ؟ وأين السيد أشرف؟!! ..حتى ابنه ياسر لم يحضر أيضا ولم يتصل؟!!!"
كانت تترقب إجابة خالد على زوجته بقلق ...وداخلها ينبئها بأن الإجابة لن تعجبها لتراه
يزفر أنفاسه بقلق وهو يجيب :
"السيد أشرف نقل للمشفى"
لحسن الحظ أن سؤال السيدة همس القلق عن حالته غطى على شهقتها لترى رئيسها يمرر يده بشعره بعصبية وهو يكمل بصوت حزين:
" لا اعرف التفاصيل كل ما فهمته من ياسر أنه وجد أباه ساقطا بجوار الفراش في الصباح فاقدا الوعي فاتصل بالإسعاف وبطبيبه وتم نقله (لمشفى****) وهو حاليا يخضع للفحص بانتظار حضور طبيبه ...لابد أن الحق ياسر للمشفى تعرفين أن السيد أشرف بمثابة والد ثاني لي "
كانت تشعر بصدمة وقلق لما سمعته لدرجة لم تنتبه لباقي محادثة همس المطالبة لزوجها أن يطمئنها وخروج كلاهما من المكتب معا ..بينما تفكر بالسيد أشرف الرجل الذي تحمل له محبة عميقة لم يمنعها حتى كرهها للرجال من أن تشعرها ناحيته ...لتفكر بخالتها وهل يجب أن تخبرها أم تخفي الأمر عنها ..لتقرر أنها يجب أن تعرف لأنها لن تغفر لها إخفائها أمر كهذا عنها ..وتترك لها حرية التصرف ....لكنها ستؤجل إخبارها لبعد عودتها للمنزل حتى تكون بجوارها وهي تنقل لها الخبر....
-----
كان جالسا على مقعد بالممر أمام باب حجرة الفحص حيث يخضع والده للمعاينة من قبل طبيبه وأطباء آخرين ...لا يظن أنه سينسى طوال حياته تلك اللحظة التي دخل فيها حجرة والده بعد أن استغرب تأخره وعدم إيقاظه له كعادته ليجده ساقطا بجوار الفراش بوجه شاحب ...لقد ظن للحظة أنه فقده ...لتتسمر قدماه وتسري البرودة بأوصاله ويدب الرعب بقلبه قبل أن يستطيع التحرك ليجثو بجواره ويحاول جس نبضه بأصابع مرتعدة ..وما أن شعر بنبضه بصعوبة وبأنفاسه الضعيفة ما زالت تتردد حتى انتفض كمعتوه يدور حول نفسه برعب باحثا عن هاتفه طالبا الإسعاف ..ليستطيع بعد لحظات أن يستعيد بعضا من عقله وهو يحاول إيقاظ أبيه ويعي ضرورة الاتصال بطبيبه الخاص الذي طلب منه إحضاره لهذه المشفى...
منذ حضر معه بالإسعاف وهو لا يعرف عنه شيء ...فقد تم نقله لإجراء الفحوص والتصوير الإشعاعي له... ولم يخرج أحد لطمأنته حتى الآن مما آثار رعبه ...ارجع رأسه للخلف واخذ يطرق بها الجدار خلفه وهو يؤنب نفسه على إهماله والده بالفترة الأخيرة ...كيف انشغل عنه لهذه الدرجة ... ولم يعد يتابع تناوله لأدويته ومتابعات فحوصاته ..هو السبب ...لن يسامح نفسه إن أصاب والده مكروه نتيجة أنانيته.. وانشغاله بنفسه وبحروبه الداخلية حتى كاد أن يفقد الشخص الوحيد المتبقي له بالحياة ....ليخرج من حالة التيه وتأنيب الضمير على صوت خالد القادم بسرعة باتجاهه ليقف مقابلا له ويسمعه يسأله عن حال والده ..وقبل أن يجيبه فُتح باب الحجرة خلفه ليخرج الطبيب المعالج لوالده بصحبة طبيب آخر ليتقدم إليه بلهفة وقلق نضح من عينيه وهو يسأله عن حال أبيه ..ليطمئنهم الطبيب بأن حالته مستقرة حاليا ويطلب منهم الذهاب لمكتبه ليتحرك كلاهما معه بقلق ..حتى استقرا أمام مكتبه ليبلغهم هو بضرورة التعجيل بإجراء الجراحة للسيد أشرف بأسرع وقت ليسأله ياسر متعجبا :
"الم تخبرنا من عدة أشهر بصعوبة إجراء الجراحة وخطورتها عليه"
ليجيبه الطبيب بهدوء:
" أنتما تعرفا أن السيد أشرف كان يعاني من مشاكل بعضلة القلب فقوة انقباض عضلة القلب كانت ضعيفة ولم تكن تستجيب للعلاج مما جعل الجراحة لشرايين قلبه مخاطرة كبرى ..لكن لحسن الحظ إن العلاج الأخير كان جيدا... وبدئت العضلة تتحسن وتستجيب للعلاج ..وقد أبلغته بالفعل قبل عدة أسابيع بأن حالته تحسنت وسنستطيع إجراء الجراحة له بسهولة لكن يبدو أنه خلال الفترة السابقة أهمل أدويته ...وضغط على نفسه بمجهود زائد مما جعله يصاب بتلك الأزمة ..لكنها لحسن الحظ لم تكن أزمة قوية وقد تم تدارك الأمر بسرعة "
ليقاطعه خالد سائلا:
"ألا ترى الأفضل أن ننقله للخارج لإجراء الجراحة بإمكاني أن أجهز الأمر بسرعة "
ليجيبه الطبيب بنفي قائلا:
"لا داعي فلحسن الحظ أن أحد أشهر الأطباء الألمان بجراحات القلب سيكون متواجدا بالمشفى بدء من غد ولمدة أسبوع ..وسندرج حالة السيد أشرف ضمن جدول عملياته المقررة ...لكن لن استطيع تحديد اليوم الآن قبل أن تستقر حالته تماما وأيضا مؤشراته الحيوية وضغطه ..ولذا سيبقى معنا الفترة القادمة ..لكنه سينقل لحجرة عادية فلا داعي لبقائه بالعناية فحالته مستقرة "
ليزفر كلا من خالد وياسر براحة ممزوجة ببعض الذنب وكلاهما يحمل نفسه اللوم ... فالأول يشعر أنه أثقله بمسؤوليات العمل خلال الفترة السابقة رغم علمه بحالته الصحية ...والثاني يشعر أنه أهمله وانشغل عن متابعة صحته وأدويته ..وكان يضغط عليه نفسيا منذ ظهور الماضي بحياتهما مرة أخرى"
------------------------
أوقف سامح دراجته البخارية بجانب الطريق حتى يستطيع التحدث بسهولة بهاتفه عندما سمع تنهيدة مرتفعة من جانبه ليلتفت فيجد مراهقة تمر من جانبه وهي تنظر له بوله ..فابتسم غامزا لها بعينيه مما جعلها تحمر خجلا وتكاد تتعثر ساقطة وهي تهرول بسرعة بينما تلتفت كل عدة خطوات ناظرة إليه مما دفعه للابتسام ساخرا بينما يرد على زوج أخته قائلا :
-لا لا أريد أن اذهب إليك بالمجموعة حتى لا يتعرف علي احد هناك وما عندي لا يتحمل التأخير ..!! لنتقابل إما لديك بالمنزل أو لدينا بالمنزل أو خارجا ..
رد خالد وهو يوقف سيارته بإحدى إشارات المرور التي لا يبدو أنها ستفتح قريبا :
" حسنا تعرف النادي المشترك به كان من المفترض أن أقابل همس هناك الآن لتناول غداء متأخر.. فأنا لم أتواجد بالمجموعة منذ الصباح ...وطلبت منها أن تخرج من العمل على النادي لكني ما زلت بعيدا ويبدو أن الطريق لن يفتح قريبا .. ولا أدري لما هاتفها مغلقا لابد أنها نسيت شحنه كعادتها ..لماذا لا تسبقني لهناك بما انك قريب منه ؟ من ناحية تكون معها حتى أصل فترحمني من وصلة شجار لتأخري عنها ومن ناحية أخرى أضمن أن لا تكون تشاجرت مع نصف الأعضاء قبل وصولي ...ومن ثم نتحدث في موضوعنا عندما أصل"
ليجيب سامح ضاحكا :..
" ألا تخشى بدلا من أن أمنعها من الشجار أن أعاونها فيه فأنت تعرفني ..لتنطلق ضحكات خالد مجيبا :
" انك تطمئني فعلا يا رجل!! اعلم انك قد تفعلها !!..على كل حال أظنك ستنشغل بمغازلة الفاتنات بالنادي ...وهي ستنشغل بالشجار معك"
..فيرد سامح بمكر
- امممم الفاتنات هناك؟!!! جيد... وهل تعرف همس أنك ترى أن الفتيات هناك فاتنات"
..لينتبه خالد للجملة فيقول محذرا:
"سامح إياك أن تعيد تلك الجملة على مسامع أختك من قبيل مقالبك لقد تعبت حتى أقنعتها بان تذهب لهناك... ولا أريد مشاحنات معها في حالتها الراهنة... إنها تزداد عصبية وجنونا وغيرة مع تقدم حملها.. بالأمس أيقظتني فجرا مصممة أن تسمعني قصيدة من تأليفها لطفلنا المنتظر؟!!.. رغم أنها لا تستطيع أصلا كتابة الشعر أو النثر حتى!!! لتتحفني بقصيدة لا اذكر منها إلا جملا عجيبة مثل (ابني حيكون انتكة يعمل في الدنيا فرتكة ، وابني حيكون شهبور والناس تمشي وراه طابور !!!!! ) لا اعرف معني شهبور ولا أريد أن أعرف ...وأيضا لا أدرى لما سيمشي الناس وراء ابننا طابور وأصرت ...أن أردد ورائها الكلمات العجيبة وهي تسألني رأيي في قصيدتها العصماء التي ستلقيها على مسامع ابننا يوم ولادته !!!... لقد جُنت أختك بسبب الحمل وقاربت أن تصيبني بالجنون معها ..فلا تدفعني لضربك ..ستجدها في الكافتيريا القريبة من ملاعب التنس...
كان سامح يحاول كتم ضحكاته أثناء حديث خالد لكنه لم يستطع ليقهقه ضاحكا وهو يجيبه :
- حسنا حسنا يا رجل... ما بك أصبحت ذا قلب ضعيف هكذا لقد جننتك أختي...لكني سأسجلها عليك لأبتزك بها لاحقا ..عموما أنا قريب من النادي.. لكن.. هل سيدخلونني بسهولة أم سيتم عمل كشف هيئة لي فأنا أعرف أن هذا النادي من نوادي النخبة"
...ليرد خالد:
"لا تقلق سأهاتف المسئول هناك ليبلغ اسمك لأمن البوابات ادخل من الباب الرئيسي ....إلى اللقاء في خلال ساعة هذا إن فتحت الطرق !!!.."
....... ........
كان يسير بين طرقات النادي يشاهد بإعجاب التنسيق والملاعب والفاتنات المرتديات أزياء مختلفة.. ما بين رياضية قصيرة وملابس نهارية... معظمها أيضا قصيرة !! بينما يبتسم بداخله وهو يحدث نفسه أن أصدقائه بمركز الشباب لو شاهدوا هذا سينقلبون على مكانهم الحبيب ... ويقومون بثورة مطالبين إما بملاعب مشابهه أو إرسال بعض هؤلاء الفاتنات للتشجيع... حتى ينسوا سوء حالة المكان وغالبا سيفضلون الأمر الثاني !!...
كان يمر بجوار ملعب التنس بعد أن سأل حارس الأمن عنه بحثا عن مكان شقيقته.. التي لم يستطع الوصول لها عبر الهاتف.. ليتوقف مكانه فجأة بينما تشتعل النيران بعينيه وهو يرى الواقفة تبعد عنه عدة أمتار... ترتدي زيا للتنس ...مكونا من تنورة بيضاء قصيرة تبرز بياض ساقيها الممتدة ...وقميص بيضاء بلا أكمام ملتصقة بمنحنياتها وتدخل أطرافها بالتنورة وترتدي قبعة بيضاء تخرج منها شعرها الذي ربطته على شكل ذيل فرس يتمايل مع حركة رأسها ...وتتحدث بأريحية باسمة مع شاب يماثله عمرا تقريبا ينظر لها بإعجاب واضح... ويكاد يلتهمها بعينيه...و يرتدي ملابس رياضية بيضاء ..!! كانت تمسك مضارب تنس بيديها ويمسك الآخر مضارب تنس مماثلة لها.. سيقوم بتكسيرها على رأس كلاهما حالا.. أقترب منهما بغضب هاتفا بحدة :
" مهينار !!"
انتفضت مهينار بمفاجأة وهي تسمع صوته لتلتفت خلفها وتتسع عينيها وهي ترى شاغل أفكارها واقفا بجوارها بوجه غاضب لا تدري له سببا... وينظر " لمودى" بطريقة أشعرتها بالقلق لتحييه بتوجس من تلك النظرة بعينيه :
"مرحبا سامح .. هل أتيت للقاء همس؟!!! إنها تجلس هناك !"
..قالتها وهي تشير بيدها في اتجاه مقاعد منتشرة تحت تعريشة بجوار الملاعب ..وعندما وجدته لا يرد وما زال ينظر لمودي تنحنحت بحرج وقالت معرفة :
"اسمح لي بتعريفك كابتن مودي مدرب التنس بالنادي"
لتلتفت للآخر مكملة التعريف
"مهندس سامح آآ"
لتتردد قليلا كما لو كانت لا تدري الصفة التي ينبغي أن تقدمه بها ليكمل هو وهو يمد يده لمودي :
- قريبها يا كابتن موووودى قالها وهو يطحن يده حتى تأوه الشاب وهو يسحب يده ناظرا له بتعجب مجيبا :
"تشرفنا يا بشمهندس ليلتفت مكملا حديثه مع مهينار متجاهلا وجوده
شعرت مهينار بالتعجب وهي تنظر لسامح فملامحه ونظرة عينيه لا تريحها ... كما شعرت بقلق لا تدري سببه.. لدرجة جعلتها لم تنتبه لما يقوله مودي حتى طرقت كلماته الأخيرة وعيها وهو يقول :
"حسنا يا ماهي سأنتظرك غدا في نفس الموعد بعد أن تنهي عملك... فلابد من المداومة على الانتظام بالتدريب عزيزتي... فقد هبط مستواك كثيرا نتيجة ابتعادك... لقد فقدتي سرعتك ؟!!!.. لكن لا تقلقي سأعيدك للياقتك بسرعة... ولا تنسي الاهتمام بجلسات المساج لعودة جسدك لليونته "
كان حاجب سامح يرتفع ووجهه يحتد أكثر وأكثر مع كل كلمة ليشعر بحمم لاهبة تشتعل بعقله.. وخيالاته تصور له جلسات المساج التي يتحدث عنها هذا المدرب الذي يشعر انه سيمنحه قريبا لقب سابق مسبوقا بلقب المغفور له
ليقاطعه سامح قائلا بسخرية وابتسامة تخفي حمما من الغضب:
"وهل أنت أيضا من تهتم بجلسات المساج لها!!! حتى تعيدها لليونتها بسرعة ؟"
..قال الجملة الأخيرة مقلدا إياه... لينظر له مودي بتعجب ويرد موضحا أن المساج له مدربين مختصين به... وعندما استشعرت ماهي تصلب سامح وأنه سيقول ردا وقحا من ردوده التي تعرفها... قامت بالإمساك بيده وهي تسحبه باتجاه التعريشة التي تجلس همس بها ملتفته للكابتن وهي تقول بسرعة :
"حسنا مودي... نكمل حديثنا غدا... هيا سامح فلابد أن همس تسأل عنك "
ما أن شعر بيدها البضة الناعمة التي أمسكت بكفه الخشن حتى شعر بارتباك جعله يتركها تجره عدة خطوات ...قبل أن يفيق لنفسه وهو يسمعها تخبر هذا السمج بأنها ستحادثه غدا !!.. ليقلب بعدها الوضع ويمسك هو بيدها بقوة مؤلمة ..ويأخذها في اتجاه معاكس ليوقفها بجوار شجرة قريبة من مكان جلوس أخته التي لمح منضدتها القريبة دون أن تراه هي... ثم ينفض يدها عندما تأوهت مطالبة إياه بترك يدها ...أخذ ينظر لها بغضب لم يستطع السيطرة عليه ...لدرجة شعر معها أن نظرته أخافتها ليسمعها لتسأله برقتها التي تثير غيظه أكثر:
"ماذا هناك سامح؟!! لماذا أنت غاضب هكذا ؟!"
"كان يتنفس بقوة وهو يعض على نواجذه ويضغط شفتيه فهو يشعر انه إن نطق فسيقول مالا يحمد عقباه... ظل يتنفس بقوة عدة لحظات وهي تنظر له بقلق وتدلك يدها مكان إمساكه بها... حتى انتبهت عيناه للعلامة الحمراء التي تركها عليها لتسرح عيناه على باقي ذراعها المكشوف فيغمض عينيه ويتنهد بعمق وهو يقول بغيظ لم يستطع كبحه ليخرج صوته حادا:
"ألا ترين أن الجو بارد قليلا على هذه الملابس... الم تجدي تنورة أكثر طولا بقليل لترتديها بدل تلك القصيرة ؟!! وطبعا هذه ترتفع أكثر أثناء اللعب ...وتتطاير حتى لا يبقى شيء لا يراه الجميع!! وخاصة كابتن موووودي؟!! ..ثم ما هذا الاسم أهناك رجل يقبل أن يدعوه الناس موووووودي.. وما موضوع المساج هذا... هل جننتي؟!! ...ألا تملكين قليلا من الحياء وأنت تستعرضي نفسك هكذا ؟."
.كانت عينيها تتسع ذهولا وهو يتحدث لتصل لفورة الغضب الذي يبرع دوما بإثارته بها لتنظر له غاضبة وهى تهتف بحدة :
"ماذا تعني باستعراض نفسي؟!! إنها ملابس التنس المعتادة!! التي يرتديها الجميع.. ثم بأي حق تسمح لنفسك بالتحدث إلي هكذا ؟!! وما شأنك أنت باسم مدربي وجلسات مساجي "
وقبل أن يصرخ بها فوجئ بصوت خالد يأتي من الخلف متسائلا بتعجب:
"سامح ماهي؟.. فيما وقوفكما هنا ؟ ولما صوتكما مرتفع هكذا ؟!! ألا تكفان عن الشجار كلما رأي أحدكما الآخر؟!! وأين همس؟ إياك أن لا تكون أخبرتها عن سبب تأخري يا سامح "
ليلتفت إليه كلاهما وهما يقطبان حاجبيهما وتحمل ملامحهما علامات الغضب ليتنهد خالد بضيق قائلا :
"يا إلهي ..لا فائدة ..أنتما أشبه بطفلين مشاكسين ...وأنا لست متفرغا لحل خلافاتكما ... هيا لنذهب لهمس... ولا أريد إطلاقا أن اسمع شجارا منكما مفهوم !!"
وقبل أن يتحدث أيا منهما سمعوا ضجة مرتفعة جعلتهم يلتفتون ليصل إليهم صوت همس صارخاً :
"تستحق أيها الوقح ...لتعرف من التي تتحدث إليها ثانية... وتزن كلماتك الحقيرة"
..كانوا قد وصلوا لمكانها ليجدوا عمر الدريني ( خطيبها السابق) واقعا أسفل المنضدة التي كانت همس تقف بجوارها بينما يسيل على وجهه وملابسه سائل برتقالي يبدو واضحا أن همس قد قذفته به ...ليقترب خالد سائلا بهدوء عما حدث.. رغم نيران الغضب التي سرت بأوردته ما أن رأى عمر بقرب همس ..لتجيب همس بحدة مشيرة لعمر الواقع أرضا:
"هذا الغير محترم اقترب بحجة السلام .. الذي لم افهم هدفه فلسنا أصدقاء.. ليسمح لنفسه بالجلوس دون دعوة.. ويتجرأ على أن يطلب مني أن نتقابل وحدنا لرغبته بالحديث معي بموضوع مهم يخصك حسب زعمه ؟!! ليس هذا فقط!!! بل الحقير يقول لي إن كنت خائفة أن يراني احد فبإمكاننا أن نتقابل بشقته" ..
كان عمر قد استقام واقفا واخذ يحاول بارتباك أن يمسح وجهه وملابسه بينما ينظر بتوجس للتصلب بوجه خالد والنيران التي تزداد اشتعالا بعينيه مما حال دون أن ينتبه لمن يقف خلفه ليتحدث بارتباك مقاطعا همس :
"خالد الأمر ليس هكذا... لقد أساءت همس فهمي ...كنت ارغب بدعوتكما كلاكما معا لأجل تصفية أية خلافات سابقة والبدء بصفحة جديدة و"
.... لم يعرف ما حدث بالضبط فهو لم يرى تلك اليد التي اصطدمت بوجهه كما لو كانت طلقات مدفع مُدمية فمه ومطيحة باثنين من أسنانه الأمامية ..لحقتها أخرى يكاد يجزم إنها كسرت انفه ...ليسقط على الأرض بينما يكاد الدوار والألم يفقده الوعي ليجد أكثر الوجوه التي يكرهها مطلة عليه ويسمع صوت يذكره جيدا.. صوت سامح شقيق همس قائلا :
"مرحبا أيها الحقير ...هل تذكرني ؟!! أظن أنني من سألبي دعوتك فأنا مشتااااااق للقائك من فترة طووويلة "
ليتساءل عمر بداخله إن كان حقا يراه أم أنه أصيب بالهلاوس من الألم فأصبحت كوابيسه تتجسد أمامه... فطالما أخافه وأقلقه هذا السامح فترة خطبته بهمس ..وخاصة نظراته الكارهة ... وكلماته المهددة له لو آذى شقيقته ؟!!..ليحالفه الحظ الحسن للمرة الأولى هذا اليوم عندما غاب عن الوعي قبل أن يصر سامح على منحه بقية الترحيب الملائم لدعوته...
--------------------------------------------------
خرج من حجرة والده إلى صالة الجناح بعد أن وارب بابها قليلا ليسمعه في حال استيقاظه ....كان خالد قد قام بحجز هذا الجناح الفاخر المشابه لأجنحة الفنادق والمكون من حجرة مجهزة طبيا لوالده وصالة لاستقبال الزوار.. ورغم رفض ياسر وكذلك أشرف لهذا الأمر المكلف ...إلا أن خالد أصر .. بل وقام بدفع كافة التكاليف مقدما بما فيها تكلفة العملية مخبرا إياه أن هذا أقل حقوق والده لديه.. فلولاه ووقوفه بجواره فترات الأزمة التي حلت به بعد وفاة والده لما استطاع النجاح ..كما أنه علمه الكثير .....ولن ينسى له أنه عمل معه بجهد متواصل لأشهر عدة بدون راتب ..حتى استطاعوا تجاوز المحنة ...ولم يقبل خالد مطلقا بأي محاولة لا منه ولا من والده لإقناعه بعدم تحمل التكاليف ..لقد ازداد إعجاب ياسر بخالد أضعافا بعد موقفه معه اليوم ..فلم يتركه حتى بعد إفاقة والده وتحسنه ...ورغم طلب والده منه الذهاب لعمله عدة مرات ..خاصة انه كان لديه لقاءات عمل هامة اليوم كما فهم من حواره مع والده ... إلا انه رفض وبقى معهما لقرابة العصر حتى ابلغهم الطبيب باستقرار حالة والده تماما ...
لم يكد يستريح قليلا على الأريكة حتى سمع صوت دقات خافتة على باب الجناح لينتفض واقفا بحدة عندما دخلت آخر من تصور أن يراها هنا؟!!!
-----------------
كانت جالسة بقلق أمام المشفى ...بسيارة خالتها البيضاء الصغيرة ...لقد أصرت على الذهاب معها ...وكانت ترغب بالصعود معها ...لكن خالتها رفضت بشدة وأصرت على الصعود وحدها ...هي أصلا كانت رافضة لقدومها معها ...لكنها أصرت بعد رؤيتها لحالتها السيئة وشحوبها ما أن أخبرتها بمرض زوجها السابق ونقله للمشفى ... لكنها خائفة من رد فعل ياسر إن رآها ...تخشى أن يؤذيها بلسانه السليط ..أو على أقل تقدير يرفض أن تزور أباه ..ولا تعتقد أن حالة خالتها ستتحمل المزيد من النبذ والإساءة خاصة من ابنها ...لتزفر بضيق بينما تتوعده بسرها إن تسبب لها بأي أذى ستقتلع عينيه بيديها ...
-------------
"لماذا حضرتي لهنا ؟!! من أخبرك ؟!! كيف تجرؤين على القدوم لهنا اخرجي فورا...أنت لا مكان لكي هنا ..لا أريد لأبي أن يستيقظ ويراك لتنتكس حالته فأخرجي ولا تعودي ثانية "
كانت تنظر له بمزيج من الألم والشوق ...تمنع نفسها قصرا من ضمه لصدرها وتشمم رائحته التي اشتاقتها ...رغم نظراته الحاقدة وكلماته السامة ...لم تشعر إلا بالحب ناحيته ..لكنها قررت أنها لن تضعف وتتراجع ثانية ...فيكفي ما عانته سابقا ...يكفي سنوات الهجر والألم السابقة ...لم يعد بالعمر بقية تتحمل مزيدا من الجفاء والهجر.. لترد عليه بحدة ناهرة رغم الدموع التي تغرق عيناها :
" كفى ياسر ...كفى .. كفى ظلما لي .. لقد كنت ابني ..وصديقي... واقرب الناس لقلبي... كنت اقرب لي حتى من نفسي... كيف يمكن أن تشك بأمك وتظن أنها خائنة؟!! أنا لم أخن أباك يوما "
ليقاطعها صارخا :
"لا تكذبي لقد رأيت وسمعت كل شيء ..رأيت خطابك لعش"
...ليقطع كلمته التي لم يستطع إكمالها بينما يدير ظهره لها وأنفاسه تضيق وتتسارع كما لو كان يكابد لإخراجها.. ويغمض عينيه بينما كلمات خطابها تعود لعقله كحروف من نار ... بينما يستمع لشهقاتها تتعالى فيتمزق قلبه ما بين غصب وحنين ..ليغمض عينيه يغالب تلك الدمعات التي تصر أن تهرب منهما ويأبى هو أن يتركهم بينما يستمع لصوتها المتقطع بالبكاء :
"اقسم بربي... اقسم بربي ...اقسم بربي أني لم أخن أباك يوما ولا حتى بنظرة عين ...وأن الخطاب الذي رآه كنت كتبته قبل زواجي منه ...ولم أرسله قط ومن كتبته إليه لم يكن بيني وبينه أي علاقة ...سوى مشاعر حمقاء من ناحيتي فقط ... مشاعر لم يعلم هو بها يوما... كنت مجرد مراهقة تعلقت بشاب وسيم لتنسج حوله الأحلام في عقلها دون أن يشعر بها هو أو غيره ...وعندما أجبرني أبي على أن اخطب لابن أخيه ... والذي كان شخصا جافا ..جلفا .. غليظا في أقواله وتصرفاته ..وحتى شكله ...هربت من واقعي وقتها لعالم الخيال والأحلام... انسج الحكايا حول أمير خيالي السري الذي أضفيت عليه الواقعية بإلباسه صورة شخص هو ابعد لي من نجوم السماء... كنت اكتب عنه في أوراقي... اكتب له خطابات أبثه شكواي ومشاعري ...خطابات كنت أمزقها بعد كتابتها ولم أرسلها قط"
كان عبوسه يزداد وهو يستمع لها حائرا بين رغبته بسماعها ربما تقول شيئا يريح قلبه ... وبين نفوره منها كلما تذكر الكلمات الشائنة التي قرأها بخطابها ليستمر بالصمت يغلبه فضوله ورغبة قلبه بينما تكمل هي...
"وعندما تشاجر أبي مع أخيه بسبب الميراث... وفسخ خطبتي لابنه ... كنت أكاد أطير من السعادة... كسجين أطلق سراحه .... لأفاجئ بأبي يخبرني في نفس الأسبوع بأنه وافق على زواجي بابيك الذي كان يعمل معه وقتها بشركة الراوي... لم يسألني ...ولم يأخذ رأيي... لم يعطني الفرصة لمعرفة أبيك والتقرب منه أراد مكايدة أخيه... ولم يكن يؤمن بحقي في الرأي والاختيار... فعدت ثانية للهرب إلى أحلامي "
ليتهدج صوتها أكثر وهي تكمل
" اعترف أن أبيك كان نقيضا لابن عمي... كان حنونا.. طيبا ..مراعيا ..محبا لكن ما حدث لي شكل حاجزا بيني وبينه ...وخاصة مع إسراعه وأبي بعقد القران والزفاف خلال اقل من شهر من تقدمه لي... لم يتيحا لي فرصة لأعرفه لأشعر به ... لأتقبله كزوج ..أشرف كان خائفا أن يعود عمي ويصالح أبي ويرغب باقتناص الفرصة للزواج مني حتى لا أضيع منه كما اخبرني وقتها .....وأبي يريد رد الصفعة لأخيه بتزويجي بسرعة ..... وأنا ضائعة بين الجميع لا أحد ينظر لما أعانيه... فأمي لم تكن لتسمع لي ..أو تهتم إلا لما يقوله أبي... فكلماته أوامر وقانون لابد أن تنفذ في عرفها دون نقاش"
شعر بصوتها يخفت قليلا ويتلون بالألم لدرجة رغب معها بالالتفات إليها لكنه منع نفسه قصرا بينما يسمعها تضيف:
"جلست صبيحة زفافي أكتب هذا الخطاب... أناجي طيف حبيب كنت أحيا معه قصة بخيالي ...ارجوه أن يحضر لينقذني مما ظننته وقتها سجنا أبديا لي...! كان الخطاب الوحيد الذي لم أمزقه... لأني أثناء كتابتي له - فلم أكن حتى أكملته وقتها - سمعت صوت أبي خارج حجرتي ..فارتعبت .. ومن شدة خوفي أخفيته بسرعة بكتاب أمامي ... كان كتابا لشاعري المفضل ... ووضعت الكتاب بسرعة وسط عدة كتب على مكتبي .. وانشغلت بعدها بحضور الضيوف وطقوس الزفاف... ويبدو أن أمي قامت بوضعه بعد زواجي بمكتبة أبي..... وبعدها التهيت ونسيت الموضوع بأكمله ... وعندما توفي أبي بعد عدة سنوات لتلحقه أمي بعدها بعدة أشهر ذهبنا أنا وخالتك لفرز محتويات الشقة ... وأخذت عدة أشياء منها هذا الكتاب الذي لم افتحه ولم أتذكر ما بداخله بل ظل لدي لسنوات عدة وسط كتبي "
كان يستمع لها بتركيز صامت وهو ما زال يوليها ظهره المتشنج وعقله يحلل كلماتها بينما يسمعها تكمل :
"وقبل أن يراه أبيك بيوم واحد ...كنت اشعر بالملل ..وقررت قراءة شيء يسليني فأحضرته من المكتبة ووضعته بجواري على الجارور بجانب السرير... وذهبت لأصنع شيئا لأشربه... لا اذكر ما حدث يبدو أني انشغلت بشيء ما ولم افتحه ...وفي اليوم التالي كنت معك طوال اليوم وعندما عدنا بعد جولة الشراء ودخلت الحجرة وجدته بيد أبيك وحدث ما حدث ...!! لتضيف بصوت زادت فيه بوضوح حشرجة البكاء.. مما جعل قلبه يتألم لكنه ما زال علي وضعه وهي تكمل :
"المشكلة أنى حين كتبته قبلها بسنوات طويلة لم اكتب به تاريخا ...فظن أبيك انه خطاب حديث ...وحتى بعد ما أخبرته بالأمر عبر باب الشقة المغلق بوجهي في المرات العديدة التي ذهبت بها إليه أملا بأن يسمعني ...ظل على شكه لأني رفضت إخباره بمن يكون هذا الذي كنت أحبه وأرسل له الخطابات حسب ظنه ؟!! "
..كان طوال الوقت يفكر بكلماتها ويجد بداخله شعورا قويا لتصديقها ...لكنه رغم ذلك لم يستدر إليها بينما تكمل وصوتها يتقطع ويتحشرج أكثر وأكثر بالبكاء ...ليتصلب ظهره عندما شعر بكفها عليه مقاوما رغبته بالاستدارة إليها وضمها بين ذراعيه دافنا رأسه في حضنها الذي اشتاقه ...متشمما رائحتها التي افتقدها ...لكن عقله ما زال يقاوم هوى قلبه... ليظل على حيرته وهو يسمعها تقول بتهدج وصوت كاد يختفي من كثرة البكاء:
" علام تعاقبوني؟!! ..علي مشاعر مراهقة لم تكمل وقتها سبعة عشر عاما !!.. وحتى لو كان لوالدك الحق بعقابي فعلي ما تعاقبني أنت ؟!!.. وان كان لكليكما الحق الم يكفكما عشرة أعوام من الظلم والهجر ..هذا ظلم ! ظلم ! ظلم ! لقد تعبت ...تعبت... تعبت واكتفيت "
كان يشعر بيدها ترتعد على ظهره وصوتها يخفت مع كل كلمة تعبت تخرج منها .. بينما يزداد تمزقه وتشتته لينتفض قلبه مع اختفاء يدها من عليه مصاحبا لصوت ارتطامها بالأرض... ليلتفت بسرعة ورعب وهو يجثو بجوارها يرفعها لصدره وهو يناديها بهمس خافت... كما لو كانت أحباله الصوتية تعانده وتأبى أن تخرج حرفا .... قلبه تتعالى دقاته وهو يراها لا تستجيب... ووجهها يشحب بقوة وتبدو بين يديه كخرقة بيضاء فاقدة للحياة لينطلق صوته فجأة صارخا بقوة :
" أمــــــــــــــــي "
----------------------------------------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
قديم 10-08-18, 11:02 PM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 121032
المشاركات: 242
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداعسيمراء عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 331

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : سيمراء المنتدى : رومانسيات عربية
افتراضي رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية

 

الفصل العاشر

قلبه تتعالى دقاته وهو يراها لا تستجيب... ووجهها يشحب بقوة ... تبدو بين يديه كخرقة بيضاء فاقدة للحياة لينطلق صوته فجأة صارخا بقوة :
" أمـــــــــــــــي ..... ردي علي ...أجيبيني إياك أن تتركيني الآن.... لن أسامحك لو فعلتها ...لا تردي لي عقابي بتلك الطريقة !!!... إلا تلك الطريقة لو عدتي سأصدقك وأسامحك .. ولو تركتني لن أسامحك أبدا .."
كان يتحدث بينما دموعه تسيل بلا رادع وهو يهزها بقوة ..لا يدري ما يفعل كأنما عقله توقف عن العمل ..ليشعر فجأة بيد توضع على كتفه ليرفع عينيه لعيني أبيه ويسمعه يهتف به:
"احضر طبيبا بسرعة"
ليجثو هو بجوارها ويأخذها لحضنه بينما يتركها ياسر ويخرج بسرعة صارخا بنداء أريد طبيبا ....
كان قد استيقظ من فترة على أصواتهم واستمع لحوارهم كاملا دون أن يشعرهم بذلك ...ليقوم من سريره ببطء ووجل عندما سمع صوت الارتطام ونداء ياسر لها... ليقف بذهول أمام باب حجرته وهو يراها مسجاة بين يدي ابنه ....ليتسمر للحظات لا تطاوعه فيها قدماه على التقدم ..قبل أن يفيق ويتقدم ليأخذها من ابنه ... كان ينظر لها بين يديه وهو يضمها لصدره لينبض قلبه بقوة آلمته...آآآآه من قربها المهلك لقلبه الذي اشتاقها ..سالت دمعة من عينه لم يستطع منعها ..على حبيبته الصغيرة ... تلك التي لم يحب سواها منذ رآها في بيت والدها لدى زيارته له مرة وهي ابنة ستة عشر عاما ...ليقع بحبها من النظرة الأولى ...ويتفتت قلبه عند علمه بارتباطها بابن عمها ... ليعود للحياة بعد عدة أشهر لدى علمه بفسخ الخطبة ليسارع باقتناص فرصة الفوز بها .... ورغم مجافاتها ومعاملتها الباردة له لم ينقص حبها بقلبه ذرة ...حتى بعد جرحها له لم يستطع كرهها... ورغم بعده عنها سنوات لم يقل حبها بداخله يوما ...
أبعدته كرامته ...كبريائه ..غضبه كرجل ... وهذا الشك الذي عذبه سنوات... لكن قلبه ظل أسيرا لها ......بداخله كان يعرف أنها لم تخنه جسديا ...لكنها خانته بكل طريقة أخرى... خانت مشاعره وحبه بجفائها وبرودها معه... خانت قلبه العاشق بتباعدها واحتفاظها بقلبها لغيره... تناجيه عبر رسائل حتى لو كانت تكتبها لنفسها ...ربما كانت بالفعل رسائل قديمة.. لكنه يعلم أنها لم تسلمه قلبها يوما ...وان سلمته جسدها لم تشعر به يوما رغم حبه ...لكن الآن وهو يراها بين يديه فاقدة للوعي.... والحياة تكاد تتسلل من جسدها الواهي يشعر بأنه على استعدادا لغفران كل شيء !!.. فقط لتكن بخير... لتكن بخير حتى لو ظلا بعيدان فيكفي أنها تتنفس هواء الحياة معه فبدونها لا معنى للحياة كلها ...لم يكد يشعر بعودة ياسر الذي دخل مندفعا بصحبة طبيب وعدة ممرضات ومعهم سرير متحرك إلا وهم يسحبونها من بين يديه لوضعها على السرير النقال وياسر يرفعه من الأرض .. بينما يفحص الطبيب نبضها كان لا يزال يتشبث بيدها عندما هتف الطبيب بهم بسرعة نقلها لغرفة الرعاية المركزة فورا.. ليسمع ياسر يقول بقلق:
"أبي لابد أن تعود لسريرك... وأنا سأصحب أمي لأطمئن عليها "
ليقاطعه بضعف لم يخل من حزم وحدة :
"سآتي معك" ليهز ياسر رأسه برفض و يقول بينما يدفعه برفق باتجاه حجرته:
"أرجوك أبي ..لن أستطيع التشتت ..بينكما عد لسريرك ...فأنت ممنوع من الحركة. ..وأعدك سأطمئنك فور أن أطمئن عليها "
ليتركه خارجا بسرعة خلف أمه ...تاركا إياه بقلب ممزق قلقا على تلك الممددة على فراش المرض بين يدي الأطباء .. بلا حول ولا قوة ... يكاد يجن قلقا وهو لا يعرف حالتها.. ليسقط جالسا على الأرض بعدما خانته ساقاه ولم تعد قادرة على حمله... فلا هو قادر على الجري ورائها ...ولا على البقاء دون أن يطمئن عليها ..ليقاطع أفكاره رنين هاتف لا يدري من أين هو ..ليتحامل على نفسه واقفا.. ويتبع صوت الرنين فيجد حقيبة نسائية ..لابد أنها لتقى..
-------------------------

أغلقت الهاتف وخرجت من السيارة مندفعة باتجاه الاستقبال تسأل عن حجرة الرعاية لتصعد إليها بسرعة بينما تتوعد بغضب في داخلها ياسر لو أصاب خالتها مكروه ....إنها واثقة أنه فعل شيء تسبب بسقوطها ...رغم أن السيد اشرف لم يخبرها بشيء سوى أنها سقطت فاقدة للوعي والطبيب أمر بنقلها للرعاية وياسر بصحبتها ...لتصل لاهثة لتجد هذا الأحمق أمامها منكسا رأسه ومستندا بكتفه للحائط بينما يضع يديه معقودين خلف رقبته فلم تشعر بنفسها إلا وهي تهجم عليه لتدفعه بعنف وهي تهتف صارخة :
ماذا فعلت بخالتي أيها الحقير "
كان ساهما يفتك القلق به على أمه ..نعم أمه ..تلك التي هجرها سنوات قتلت روحه ..لتعود إليه فيكاد يفقدها في نفس اللحظة ..يقسم أنه نادم ..يجزم أنها صادقة ..قلبه أخبره بصدقها ...كاد يلتفت إليها ويضمها بين ذراعيه مخبرا إياها أنه صدقها ...لكن عناده وبقايا غضب بداخله على سنوات مهدورة جعله يتأخر ويتردد ..لتسقط بين يديه ...خائف هو أن لا يمهله القدر لتصحيح أخطائه ... يدعو بقلبه وروحه أن تكون بخير ..ليخبرها أنه صدقها ويعيد معها رابطا ما انقطع بينهما يوما رغم نكرانه ...كان غارقا بألمه وأفكاره فلم يرى تلك الثائرة التي انطلقت هاجمة عليه لتدفعه بكل قوتها على حين غفلة منه ليفقد توازنه ويقع جالسا على الأرض من شدة الدفعة ..بينما تقف فوقه تلك المجنونة ترغي وتزبد وتسبه بكل النعوت التي تعرفها ..استند بكفيه على الأرض للحظات قبل أن يدفع نفسه للوقوف أمامها واستغل صمتها لثواني لتأخذ أنفاسها التي انقطعت ليقول لها بهمس غاضب :
"أقسم بالله لولا المكان والظرف الذي نحن به لأعدت تربيتك ثانية ..واعدت كل لفظ حقير أخرجه لسانك لحلقك ثانية ..وهذه الدفعة التي أسقطتني أرضا سأعرف كيف أؤدبك عليها لاحقا "
لتشتعل النيران بعينها أكثر وترفع سبابتها بوجهه قائلة بعنف وصياح:
"لا تهددني يا هذا ..وإياك أن تظن نفسك قادرا على إخافتي .. والآن اخبرني ..أين خالتي وماذا حدث لها ؟...ماذا فعلت لها وبها؟!!"
ليفقد هدوئه ويمسك إصبعها الممتد أمام وجهه ويلويه حتى أنتَ ألما وهو يصيح بها :
"اخفضي صوتك واحترمي نفسك ..نحن بمشفى وابعدي إصبعك وإياك أن ترفعيه بوجهي ثانية وإلا كسرته ..."
ليقطع شجارهم خروج طبيب خمسيني متجهم ناظرهم بضيق وهو يقول بتأنيب:
" صوتكم مرتفع ..وهذه مشفى.. لا مكان للشجار إن لم تستطيعا احترام المكان فغادرا"
لتنكس تقى رأسها بخجل.. بينما يندفع ياسر هاتفا باعتذار سريع للطبيب قبل أن يسأله بقلق عن حالة أمه فيرد الطبيب بمهنية جافة:
" لقد ارتفع ضغطها جدا مما أدى لإصابتها بجلطة ..لحسن الحظ أنها كانت هنا ونقلت بسرعة للرعاية مما جعلنا استطعنا السيطرة على الجلطة بسرعة وأعطيناها العلاجات المذيبة لها فورا ...قد تعاني بعض التأثيرات الخفيفة لعدة أيام حيث سيكون لسانها ثقيلا بعض الشيء .. وذراعها اليمنى ضعيف وغير قادرة على تحريكه ...لكنها أعراض زائلة مع العلاج والرعاية والبعد عن الانفعالات ستختفي في غضون أيام "
كان كلاهما يستمع للطبيب بقلق واهتمام ليشكره ياسر ويسأله إن كان بإمكانه الدخول لرؤيتها لتقاطعه تقى غاضبة بأنها هي من ستدخل لرؤيتها متهمة إياه بكونه السبب فيما جرى لخالتها ليعاود الاثنان التشاجر ثانية وكل منهما يصر أنه الأحق بالدخول حتى قاطعهما صوت الطبيب مناديا بنزق:
"سعااااد" لتخرج بعد لحظات ممرضة من الداخل تسأل بتهذيب:
"نعم دكتور"
أخذ الطبيب ينقل نظره بين الاثنين وهو يشير بأصبعه لهما موجها حديثه للممرضة بأمر:
"هذان الاثنان ممنوعان من زيارة المريضة لثمان وأربعين ساعة...والزيارة بأكملها ممنوعة بتاتا لأربع وعشرين ساعة ...وإن وجدتهما أو سمعت صوتهما أمام باب الرعاية فاطلبي الأمن ليلقي بكلاهما خارجا ...المريضة بحاجة للراحة التامة والبعد عن الانفعالات ولن يكون فض مشاجرات إثنين يشبهان الأطفال نافعا لها "
قالها بحدة وتركهما يناظران ذهابه بذهول قبل أن يسمعا صوت الممرضة تطلب منهما الانصراف قبل أن تعود للداخل وتتركهما مشدوهان وكلا منهما ينظر للآخر بغضب وتوعد"
--------------------------------
رفعت عيون باهتة تناظر هذا الذي يسد طريقها لتجد آخر من أرادت رؤيته بحالتها الحالية ..لتهتف بداخلها - هذا ما كان ينقصني - وهي تسمعه يسألها بسماجة:
"كيف حالك يا هند ؟ من أين والى أين؟"
لترد عليه بضيق :
"لا شأن لك يا سعيد ..وابتعد عن طريقي لأمر"
كانت كلما حاولت التحرك يمينا أو يسارا لتجاوزه يتحرك أمامها قاطعا عليها الطريق لتزفر بغيظ وترفع عينها إليه قائلة بحدة رغم عدم رفعها لصوتها:
"احترم نفسك.. وابتعد عن طريقي أفضل لك بدلا من أن اصرخ وأجمع عليك أهل الحي بأكملهم ليعلموك الأدب:
ليضحك بسماجة وهو يقول:
"ولما كل هذا يا دكتورة ...أنا قريبك ..وأرغب بالاطمئنان عليك"
لترد عليه بحدة وعضب:
"لست قريبي !!...أنت لست قريبي يا سعيد ..كونك شقيق زوجة أبي لا يجعلك قريبا لي ...وكف عن تعرضك لي ومضايقتي ..وإلا أقسم أن أبلغ عنك وأتهمك بالتحرش ..ولا أظنك ستحب دخول قسم الشرطة ...خاصة لو قاموا بتفتيشك ..فانا واثقة أنهم سيجدون معك بعض الممنوعات التي ستجعلهم يستضيفوك طويلا ...فابتعد عن طريقي واتقي شري"
لكنه بدلا من الابتعاد أقترب برأسه منها مما جعلها تتراجع للخلف خطوتين وهي تنظر له بحدة بينما تسمعه يقول من بين أسنانه:
"وهل ستبلغي الشرطة عن خال إخوتك ...عيب عليك يا ابنة عبد السلام"
لتقاطعه ناهرة :
"لا تأتي بسيرة عبد السلام على لسانك القذر ...فلو كان حيا ما جرئت على مضايقتي كل يوم وآخر ومقاطعة طريقي ...وإن كنت نسيت ما فعله بك سابقا ...فأنا على استعداد لتذكيرك"
كان صوتها قد بدأ بالارتفاع ليقاطع رد سعيد عليها صوت سامح القادم من خلفها وهو يقول بحدة :
"ماذا هناك يا هند ؟ "
ليقف أمامها يكاد يخفيها خلفه وهو ينظر لسعيد بتهديد" ليتراجع سعيد للخلف خطوة وهو يبتسم بزيف ويقول:
"مرحبا سامح...لا شيء هناك ...فقط كنت أسلم على هند وأسألها عن أحوال أختي وأبنائها "
ليرفع سامح حاجبيه بسخرية وهو يرد عليه بهزأ:
"تطمئن على أختك ؟!! وأبنائها!! المقيمين على بعد عدة خطوات بهذا البيت؟...- مشيرا لمنزلهم القريب من مكان وقوفهم- ...فتوقف هند بالشارع لسؤالها دون مراعاة للأصول ..إن كان هاتفك معطلا ..أو - ليصمت لحظة وهو ينظر له من أعلى لأسفل بانتقاص- ..إن كنت مثلا بعته لشراء احتياجات مزاجك ...فبإمكانك أن تمشي عدة خطوات لتصل لأسفل الشرفة وتنادي على حسين أو حسن ..هذا إن كانت ساقك غير قادرة على صعود السلم .."
ليقترب منه بتهديد جلي بصوته وهو يكمل :
"لكن إن أوقفت هند بالطريق ثانية ..فسأقوم أنا بالتأكد أن لا تستطيع صعوده أبدا ...هل كلامي واضح ؟!!!"
ليلتفت لهند قائلا بأمر :
"هيا هند لنذهب "
ليتركاه واقفا مكانه يغلي غيظا يكاد ينطق من ملامح وجهه بينما ناظرته هند بشماتة وهي تتخطاه وتذهب مع سامح باتجاه بيتهم ..دون أن ترى تلك النظرة الخبيثة المتوعدة لذلك الواقف بالخلف يناظرهما بتوعد..
------------------------------

أخذ يقترب منها ببطء بينما تنظر هي بتوجس لتلك العصا الرفيعة التي يمسكها بيده سائلة:
" ما هذه يا سامح ؟!! ماذا تنوي أن تفعل ..كان قد اقترب منها حتى أصبح أمامها تماما... لا يكاد يفصلها عنه سوى سنتيمترات قليلة ..ليقترب هامسا في أذنها بينما يده الحرة تمر على ذراعها العاري ببطء حتى شعر بالقشعريرة التي تمر بجسدها و شعر بارتعاشها وهو يقول:
- هذه تسمى "خرزانة " كان المدرسين بمدرستنا الحكومية يضربونا بها علي يدينا عند الخطأ فلا نكرره وأحيانا عندما يكون الخطأ كبيرا يتم عبطنا ومدنا بها ..لينظر لها باسما طبعا لا تعرفي أيتها الأميرة معنى "عبطنا ومدنا " ...لتهز رأسها نافية فيوضح قائلا :
"أي أن يتم الإمساك بنا ..وتقيدينا وقلبنا رأسا على عقب... وتحرير قدمينا من الحذاء ...وضربنا بهذه العصا حتى نصرخ من شدة الألم... وبعدها لا نكرر خطأنا أبداً !!....كان مستمتعا بنظرات الرعب من عينيها وهو يضيف بينما يتراجع للخلف قليلا:
"سأعلمك معنى أن تنفذي ما أقول.. سأجعلك لا تجرئي ثانية على الخروج بتلك الذراع الحريرية مكشوفة حتى يتمتع الرائح والغادي بمشاهدة بياضها الغض ..وسأمدك على قدميك واترك علامات بتلك الساقين المرمريتين فلا تتمكني من كشفهما والمشي بهما بدلال متمايل فتتمايل معه القلوب"
..وبدأ يلوح بالعصا في الهواء بينما يسمح صوت صراخها المرتعب ممزوجا بصوت العصا وهي تشق الهواء بصوت كالصفير ليشعر أن صوت صفيرها أصبح يعلوا علي صوت صرخاتها ..ليقترب وهو يحركها في الهواء بسرعة صعودا وهبوطا ليشعر بذراعه ترتطم بقوة بشيء صلب فيصرخ ألما ويفتح عينيه ليجد نفسه نائما بحجرته ويبدو أنه ضرب يده بقوة في الكومودينو بجوار سريره !!!... لينتبه أن صوت الصفير الذي كان بحلمه الذي تم إيقاظه منه عنوة قبل أن يحقق أمله بضرب تلك المتكبرة قليلة الحياء التي تشغل عقله... هو صوت هاتفه ..ليسب ببطء متوعدا المتصل الذي أضاع عليه فرصة النيل منها حتى بالحلم ..لكنه ما أن رفع الهاتف لينظر بعيون شوشها النوم لاسم المتصل حتى أعتدل بسرعة فاتحا الخط وعينيه ترنو للوقت داخل الهاتف فيجدها الثالثة قبل الفجر ..ليجيب فزعا
"خالد ؟ماذا حدث ؟!..هل همس بخير هل حدث شيء لأحد منكم ..ليأتيه صوت خالد متبرما :
"انزل الآن فورا احضر...... ليسمع صوته يخفت كأنما ابعد الهاتف ويصله دمدمته بسؤال لأحد بجواره .... ما اسمه مجددا ؟ ورغم انه لم يسمع الإجابة لكن دمدمات صوت همس طمأنته بينما يعود خالد إليه قائلا :
"حرنكش و دوم"
..لتتسع عينا سامح ذهولا و يرتفع حاجباه حتى منابت شعره بينما يرد صارخا بصوت غاضب:
"ماذا ؟ !!! أتتصل بي في الثالثة فجرا لأحضر لك حرنكش و دوم ؟؟!!هل جننت يا خالد؟!!"
ليقاطعه خالد قائلا ببرود:

"لست أنا المجنون ...بل شقيقتك التي توقظني كل يوم في هذا التوقيت طالبة أشياء عجيبة ..وغير مسموح لي بالاعتراض بحجة الخوف على المولود أن يأتي مرسوما على وجهه ما تطلبه إن لم احضره فورا ..وبما أنها قد حصلت على معظم طباعها المجنونة منك .. فلابد أن تتحمل نصيبك من الأذى"
..ليعقد سامح حاجبيه بغيظ بينما يجيب ..
"ماذا ؟!!وما شأني أنا؟!! أنت من أصر على الزواج بها رغم تحذيراتي لك لا تنكر!! ...ثم أنت والد الطفل وعليك أن تتحمل نتيجة أفعالك"
..ليقاطعه خالد قائلا :
"وأنت خاله الذي يشنف أذني كل يوم بكونه سيكون هو المسئول عنه وعن تنشئته ...وجعله رجلا لا بسكويتا ...وتعليمه الرجولة عن حق..و التي أظنك تعني بها انك ستجعله يشرب الحلبسة بالشطة ويأكل الممبار بدلا من شرب الحليب وأكل السيريلاك ليخرج لي طفلا متوحشا كخالة !!!!...إذا وبما أن تربيته مسؤوليتك كما تقول... فتحمل مسؤوليتك من الآن!!.. أمامك ساعة قبل أن تهدم أختك البيت على رأسي وعندها سأريك أنا اختبارات رجولة تمنعك من القدرة على الجلوس لأسبوع"
.. ليغلق الهاتف بوجهه ويتركه يرغي ويزبد صارخا بينما يعود للاستلقاء زافرا أنفاسه بغيظ وهو يدمدم :
"زوجناها لنستريح من جنونها لنقع في جنونها وفوقها زوجها وأبنائها وهم في علم الغيب أيضا " ليزفر بضيق وحيرة وهو يقول:
"أين سأجد دوم وحرنكش في هذا الوقت؟!! هل جُنا ؟! ليغطي عينيه بذراعه هامسا بقهر لابد أنها دعوة تلك الحمقاء التي لم أتمكن من ضربها حتى في الحُلم... لم أتخيل أن تتحقق دعوتها علي بهذه السرعة هل هي شيخة مكشوف عنها الحجاب.. ليتذكر غضبها منه بالنادي وشجارهما طوال الجلسة بعد أن ضرب هذا السمج عمر .. لتهتف بحنق قبل أن تتركهم مغادرة سيوقعك لسانك هذا بمصيبة يوما ما ...وتقع بشر أعمالك وأتمنى أن أراك وقتها وأنت تعاني ..
..ليضحك ساخرا من أفكاره وهو يدمدم ..من ناحية مكشوف عنها فهناك أشياء كثيرة مكشوفة لديها.. وتحتاج أن تتغطى بكل تأكيد ،.. ليقذف الغطاء عن ساقيه بينما ينهض متكاسلا وهو يزفر بضيق ويفكر بحل لتلك المصيبة التي سقطت على رأسه بسبب شقيقته المجنونة وصهره الذي يبدو انه قد نالته العدوى منها...
-----------------------------

خرجت من باب الفيلا حاملة حقيبتها بهدوء ...لم ترغب بإيقاظ أيا منهم فالوقت مبكر جدا ... فالساعة ما زالت لم تتجاوز السادسة صباحا ...ولم تشأ إقلاقهم....ستتصل بهم بعد ساعتين لتبلغهم أنها غادرت لمنزلها...
هي حتى الآن متعجبة من مكالمة أمها التي اتصلت بها من ساعة لتوقظها من نومها بعد تلك الفترة من الانقطاع ...وتحدثها بنبرة استغربتها بشدة وهي تبلغها أنها حاليا بالمطار و ستمر عليها ببيت خالها لتعودا معا لبيتهما فقد اشتاقت إليها ...لم تصدق أذنها وهي تسمع طريقة أمها الحنون التي طلبت منها تجهيز حاجياتها لأنها ستعود للمنزل معها ...وعندما أخبرتها أنهم لن يكونوا استيقظوا ولا يصح أن تجمع حاجياتها وتغادر دون معرفتهم وشكرهم على الأقل ..غضبت واتهمتها بأنها لم تشتاق لها وأن بإمكانها الاتصال بهم بعد استيقاظهم وإبلاغهم .. مما جعلها ترضخ وتخبرها أنها ستكون جاهزة بانتظارها مع حقيبتها بعد ساعة أمام الباب ...وعندما سألتها عن كيفية حضورها من المطار وإن كانت راغبة بأن تذهب لتقلها أو ترسل لها سائقهم أجابتها بغموض ..أن هناك من سيقلها حتى عندها لأخذها... وبإمكانها ترك سيارتها وسيحضرها السائق بوقت آخر ...
كانت تقف مع حقيبتها أمام الباب الداخلي للفيلا بعد أن فتحها لها البواب الذي طلبت منه العودة لحجرته وإكمال نومه فقد شعرت بالشفقة عليه نتيجة السعال الشديد الذي ينتابه نتيجة لإصابته بنزلة برد فأخبرته أنها ستهتم بإغلاق البوابة خلفها وان يعود هو للراحة ..لم يكد يدخل حجرته حتى فوجئت بدراجة سامح تدخل من الباب المفتوح لتتوقف أمامها وينزل منها بينما ينقل نظره متعجبا بينها وبين حقيبة ملابسها ليسألها بدهشة:
"ماهينار؟!! ماذا تفعلين أمام الباب بهذا الوقت ؟!! وما هذه الحقيبة؟!!"
لتعض على شفتيها بإحراج وهي تخبره باختصار عن عودة والدتها من السفر وانتظارها لها ..ليقاطعهم صوت نفير سيارة بي ام دبليو سوداء حديثة ..توقفت أمام الباب من الخارج لينخفض زجاجها من جهتهم كاشفا عن وجه السيدة رقية وهي تقول :
"ماهي جيد أنك جاهزة ..- لتشير لسامح بتكبر - دعي البواب يضع حقيبتك بحقيبة السيارة "
ليحمر وجه ماهي بإحراج وهي تنظر لسامح باعتذار وتلاحظ حاجبه المرفوع بشر بينما ينظر لوالدتها صامتا لتقول بسرعة:
"أمي اسمحي لي أن أعرفك بالبشمهندس سامح شقيق همس زوجة خالد"
لتشعر بضيق أكبر ممزوج بإحراج وقلق وهي ترى نظرات والدتها المحتقرة والمهينة تناظر سامح من أعلى لأسفل لتشيح بيدها ببرود وهي تقول :
"مرحبا.. هيا ماهي لا وقت لدينا ..السائق سيضع حقيبتك بالسيارة"
لم تهتم بالسائق الذي خرج ليضع الحقيبة فكل تركيزها كان على وجه سامح المتجمد وهو ينظر لوالدتها ...كانت عيناه تنطق غضبا وغيظا ..لتحاول مداراة الموقف وقبل أن تقول شيئا فتح باب الفيلا الداخلي لتخرج منه همس بسرعة وهي تصرخ مناديه:
"ساااامح لماذا تأخرت أنا انتظرك من ساعات وكل عدة دقائق أقف بالنافذة مترقبة حضورك "
لتهجم عليه خاطفة كيسا بيده لم تنتبه له ماهي بالبداية وتخرج منه شيئا يشبه حبات العنب لكن لونه برتقالي ومغطى بأوراق بيج ...
ويبدو أن انشغال همس بما يحمله سامح لم يجعلها تنتبه للمتواجدين حولها لكن خالد الذي كان يتبعها بملابسه الرياضية أنتبه لينقل نظره بين ماهي المرتبكة وعمته التي لم تنزل من السيارة وتنظر للجميع بتعالي وضيق ... وقبل أن يسأل عن ما يحدث فتح باب السيارة من الناحية المقابلة لعمته ليخرج منها رجل لم ينتبه أحد منهم قبلا لجلوسه بجوار السيدة رقية ..لتنظر له ماهي بتعجب من وجوده مع أمها بينما تسمع خالد المذهول يهتف باسمه (عاصم مهران)
-------------------------------

دخل بسرعة إلى منزلهم القروي الذي بدئت أجزاء منه بالتساقط من شدة قدمه وحالته السيئة المهملة ..وهو يهتف مناديا أبيه وعمه ليخرج إليه الجميع ويتبعوه لحجرة جانبية موضوع بها بعض الأرائك الخشبية القديمة المغطاة بفرشات قطنية مهترئة تكسوها أقمشة مشجرة بدرجات الأحمر بهت لونها وتكاد تتمزق ... ليجلس الجميع منتظرين ما يحمله من أخبار بينما علا وجهه الضيق والغضب وهو يقف وسطهم قائلا :
الحقير زوجها بالفعل .. لكن ليس من البداية كما أوهمنا بل من يومين فقط ...يبدو أنه سقط مريضا وكان بحالة خطرة بعد أن كنا لديه ..وللأسف لم يمت لنستريح ونأخذ ما نريد ..لكن ليفيق بعدها ويزوجها من هذا الطبيب الذي أدعى أنه زوجها ...عقد عليها بالمشفى ...ومما عرفته أيضا من العاملة التي هناك ...أن هذا الطبيب هو من يدير المشفى ويملك بيديه كل شيء"
..ليضيف بحدة وغضب ..." يمنح غريبا ماله يتمتع به ويمنعه عنا نحن أهله الأولى به ...ومن يدري ..ربما يجعله يكتب كل شيء باسم ابنته ليستولي هو عليه فيما بعد... فمما عرفته عنه أنه من عائلة بسيطة ...ولابد أنه طامع بهما واستطاع الاستيلاء على عقله هو وابنته ...لكن اقسم بالله لن أدعه يهنئ بمال عمنا ونحن هنا لا نملك شيئا ...هذا المال من حقنا نحن أولى به من الأغراب "
كان يتكلم بصراخ وحدة وهو ينقل نظرة من وجه أبيه لجده الذين ظهر عليهما الغضب والضيق لكن جده قاطعه ناهرا :
"صلاح ...كف عن حماقتك ...لا نريد أفعالا هوجاء تضيع كل شيء وتدفع خليل لأن يكتب أمواله لابنته أو هذا الطبيب إن لم يكن قد قام بها فعلا ...دعنا نفكر بهدوء لنصل لطريقة تمكنا من الحصول على ما نريد ...خليل لم يعد ذاك الطفل الضعيف الخائف الذي خرج من هنا لا يملك شيئا ...بل أصبح طبيبا شهيرا غنيا وله علاقات ومعارف "
ليتحدث ابنه الأكبر منصور والد صلاح بحدة:
"إذا ماذا نفعل يا أبي ...نبتعد تاركين كل شيء لهذا الدخيل ...بعد أن قلنا أن أمورنا ستعتدل بعدما علمنا بعودة خليل من الخارج وبمدى غناه وكونه لم ينجب إلا تلك الفتاة...هذا المال لنا حق فيه ولن نتركه ليوزعه على الأغراب :
لينظر له أبيه بضيق وهو يجبه ساخرا:
"أنت بالذات لا أريد سماع صوتك ...لو لم تكن أحمقا عنيفا وتسببت بموت زوجتك الأولى شقيقة خليل لكنا استطعنا عن طريقها نيل ما نريد "
...لينظر لباقي أبنائه وأحفاده الملتفين حوله بعيون ممتلئة خبثا وطمعا ..وهو يضيف "ولو أن أحد من أبنائك أو أبناء أخيك كان فالحا واستطاع إكمال تعليمه ونيل منصب ما لكان لنا حق بطلب زواج الفتاة منه"
..ليقاطعه صلاح هاتفا:
"أنا متعلم بما يكفي حتى لو كان معهدا كما أني الأولى بها من الغريب ...لو أنك وافقت يا جدي أن تتركني أتعرف عليها لاستطعت مشاغلتها وإيقاعها بحبي وجعلها خاتما بأصبعي "
لينظر له جده ساخر ويخرج هسيسا مستهزئا وهو يقول:
"طرقك الحقيرة يا صلاح تنفع مع أمثال تلك العاملة التي تشاغلها لتنقل لنا الأخبار ...أما فتاة كابنة خليل ولدت بالخارج وتعلمت وتربت وسط أوساط الأثرياء فلن تنظر لك حتى كخادم "
ليستشيط غضبا وهو يهتف :
"ليس بمزاجها إن لم تأتي راغبة أتيت بها مجبرة وتزوجتها رغما عنها و"
ليقف جده ضاربا بعصاه في الأرض ناهرا إياه:
"كف عن الحماقة والجنون الذي يمكن أن يضيعنا ..أخبرتك أنها ليست فتاة عادية وليس أبيها مجرد ابن عم لكم ...بل يملكون بجانب المال النفوذ "
ليهتف صلاح بحدة :
"هل معنى ذلك أن الأمر انتهى ولن ننال شيئا؟!! "
ليعود جده للجلوس وهو يدير عصاه ناظرا إليها بينما يقول بخبث:
"ومن قال ذلك ..نصف مال خليل لنا بحكم الشرع ...لن ننتظر موته لنحصل عليه لنفاجئ أنه كتبه لابنته وزوجها ...بل لابد أن نضمن حقنا فيه من الآن ...لكن بالعقل والحيلة ..وليس جنونك الذي قد يضيع كل شيء ويضيعنا معه ...ليقف متكئا على عصاه وهو يقول ابقى هنا ليومين ولا تعود ..فهناك ما أفكر به لكني أحتاج لمزيد من الوقت لأمعن التفكير أكثر ..بعدها سنسافر أنا وأنت للعاصمة..

----------------------------------

كانت واقفة بشرود تنفث دخان سيجارتها أمام النافذة المطلة على شارع أكسفورد أحد أرقى شوارع لندن ...من يراها لن يخمن أبدا عمرها الحقيقي وأنها قد قاربت الخمسون... بل سيظنها ببداية الثلاثينات بشعرها الأشقر الناعم الذي ترفعه عاليا... وعيونها الزرقاء اللامعة ...وبشرتها الصافية الخالية من التجاعيد والتي تقضي ساعات طويلة بمراكز التجميل لتصل بها لهذا الصفاء ...وملامحها المنمنمة التي تعطيها لمحة طفولة لا تكبر ...ولولا بضع خطوط صغيرة لا تكاد ترى تحت عينها تجيد هي إخفائها بمنتجات التجميل الباهظة لما استطاع أحد تصديق عمرها الحقيقي ...كانت سيدة فاتنة وكانت تعي ذلك تماما....كانت عيناها ساهمة في البعيد فلم تشعر بدخول ذلك الرجل الضخم بعضلاته البارزة تحت بذته الأنيقة ووسامته الشرسة رغم تخطيه منتصف الخمسينات والتي لم تقلل منها تلك الخصلات البيضاء المختلطة بشعره الأسود ولا هذا القطع بحاجبه الأيمن وشفته السفلى... دلالة على حياة حافلة عاشها هذا الرجل الإنجليزي ذي الأصول الجاميكية ...حتى شعرت بيديه تلتف حول خصرها من الخلف بينما يقبل عنقها وهو يسألها:
"فيما شرودك إيفا ...لقد دخلت عليك من دقائق ولم تشعري بي "
لم تلتفت إليه بل ظلت تركز نظرها على دخان تبغها وهي تسأله ببرود:
"هل ستسافر الآن"
ليبتعد عنها باتجاه مكتبه ويأخذ بعض الأوراق من فوقه وهو يقول:
"نعم لقد عدت فقط لأخذ بعض الأوراق الهامة"
لتلتفت ناظرة إليه وهي تقول بصوت يحمل مزيجا من البرود والسخرية:
"يبدو أنك متعجل وأن الأعمال الجديدة جميلة"
لتتسمر يديه على الأوراق للحظة قبل أن يلتفت إليها سائلا بتوجس:
"جميلة؟!! ماذا تقصدين بكون الأعمال جميلة... وهل نطلق على الأعمال جميلة؟؟ وخاصة أعمالنا نحن؟!!"
لتقترب منه بخطوات هادئة متمايلة لتربت على وجنته وهي تقول بخبث:
"لا تحنق عزيزي ديمتري...فقط قصدت أن المشروع الجديد جيد وسيدر ربحا كبيرا ..أليس هذا جميلا؟؟!!"
ظل يناظرها للحظات لكن ملامحها ظلت مغلقة ولم تشح بعينها عن عينيه حتى زفر وعاد للبحث عن بقية أوراقه لكنه عاد يلتفت لها متفاجئا عندما سمعها تقول:
"ديمتري ...بما أنك ستغيب في إيطاليا لما يقارب الشهر ...ورفضت أخذي معك ..لأنك ستكون مشغولا كثيرا هذه المرة!!! فأنا سأستغل غيابك وأسافر أيضا ...أرغب بالترويح عن نفسي قليلا ..لكن لا تقلق سأعود قبل عودتك"
كان ينظر إليها بتدقيق كما لو كان راغبا باختراق عقلها ..لكنها سخرت بداخلها ...فهو أبدا رغم سنواتهم معا لم يستطع فهمها أو قراءة دواخلها...دوما كانت كتابا مغلقا صعب الفهم ...ربما لهذا لم يستطع أبدا الاستغناء عنها ...لأنه لم يستطع يوما ترويضها أو السيطرة عليها رغم قوته ...دوما ما كانت غامضة وتحتفظ بجزء من ذاتها لنفسها...وكانت تجيد ملاعبته ...مرة بالغنج والدلال ومرة بالتمنع ..ومرة بذكائها الحاد الذي ساعده كثيرا بعمله...كانت لا غنى عنها له ..وهي تعلم ذلك ...رغم علمها أيضا بخياناته المتكررة لها ..ومصاحبته لأخريات خاصة في سفراته المتكررة بالأعوام الأخيرة... فتيات جميلات صغيرات بالسن ...لكنهن مجرد غبيات يتمتع بهن ثم يملهن بعد فترة قصيرة ... فهن لسن أكثر من متعة وقتية له ... لكنه لا يعلم أنها تعلم ..وهي تريد إبقاء الأمر كذلك ... ففي النهاية هي زوجته .. ولن تترك مكانها بحياته أبدا ...ليس بعد كل ما ضحت به من أجله..
قاطع نظراتهما المتفحصة لبعضهما دخول مساعده كارل الذي نبهه لتأخره ليقترب منها مقبلا قبل أن يلتفت للمغادرة وهو يبلغ كارل أن ينفذ أوامرها ويرتب لها أمور السفر للمكان الذي تريده ...كانت قد عادت لمكانها أمام النافذة متطلعة للأفق بينما تسمع كارل يسألها:
"متى وأين تريدين السفر سيدة إيفا لأرتب الأمر "
ظلت صامتة للحظات تنظر لتلك السماء الرمادية المحملة بالسحب قبل أن تجيب ببرود يخفي بطياته توقا لماضي طال ابتعادها عنه:
"مصر خلال يومين من الآن"
------------------------




أخذت رشفات من كوب قهوتها السريعة دون أن تشعر بطعم فعلي لها ..فعقلها غارق في التفكير في زوجها وحبيبها أحمد ...يكاد القلق والخوف يفتك بها ...فهي تستشعر تغيره ...رغم أنه يبدو كما هو من الخارج ...لكنها الأدرى به ...نزقه ..سرعة غضبه ...ثورته لأتفه الأسباب ...تباعده عنها حتى وهو بجوارها ...لم تعد تشعر بتلك اللهفة منه ...ولا برغبته الدائمة بلمسها والتقرب منها حسيا ...لقد كان سابقا حتى في الأيام المحظورة لا يكف عن مشاغباته ..فيقبلها ويدللها ...
الآن لا يكاد يمسها ..شروده شبه دائم ...ينام بجوارها على الفراش ..لا يكاد يفرق بينهم سنتيمترات ومع ذلك تشعرها مئات الأميال ...أخرجها من شرودها صوت دخول عاصف لحماتها المبجلة التي كالعادة لم تتعب نفسها بطرق الباب واستخدمت باب الحديقة المفتوح لاقتحام بيتها لتهتف بها بغضب :
"كيف تجرئين على منع الطفلان من الحضور عندي"
نظرت لحماتها ببرود لا تدري لماذا تلبسها ..لأول مرة تشعر أنها ليست خائفة منها أو مهتمة بها أو حتى راغبة بمحاولة إرضائها كما بالماضي ...وضعت كوبها على المنضدة بجوارها ووقفت بهدوء لمواجهتها وهي تقول:
"أنا لم أمنعهما ..فقط الوقت لم يكن مناسبا ...كنت ارضعهما وبعدها أخذا حمامهما وناما ..وأخبرت مربيتك أنهما عندما يستيقظان سأرسلهما ليبقيا معكم لساعة أو ساعتين "
لتخرج السيدة شاهي صوتا مستهزئا من فمها بينما تنظر لها من أعلى لأسفل بانتقاص وهي تقول:
"أتجرؤين يا فتاة على أن تحددي لي وقتا لبقاء أحفادي لدي ..أنسيت نفسك ؟!!!...أنا أخذهم وقتما أريد وأعيدهم وقتما أريد حتى لو أردت أن أبقيهم دوما لدي فلا رأي لك وسآخذهم الآن"
كانت تهم بالتحرك لتقف ريهام أمامها وهي تقول بنبرة مليئة بالتحدي:
"لا"
لتنظر لها شاهي بتعجب من مواجهتها لها بقوة لم تحدث سابقا وهي تسألها بعدم تصديق:
"ماذا قلتِ؟ أجننت؟ أتظنين بإمكانك منعي ؟!!..أنت أيتها النكرة تقولين لي أنا لا؟!!"
كانت تشعر بأنفاسها تضيق وتلك القشرة من البرود بدأت تتصدع تاركة ورائها مزيجا من الألم والمرارة فاض من حروفها وهي تجيب:
"بما أن تلك النكرة هي أمهم .. فهي وهي فقط من تتحكم بهم وتحدد الأفضل لهم ..ولذا أخبرك ثانية بكل أدب وللمرة الأخيرة أن طفلاي نائمين حاليا ولن يذهبا لأي مكان "
لتنطلق ضحكة ساخرة من فم شاهي وهى تنظر لها باحتقار:
"أدب؟!! وهل أمثالك من الرعاع يعرفون الأدب ....لولا حفيدي لكنت تخلصت منك منذ زمن "
لتنتفض ريهام ثائرة كما لم تفعل قط منذ زواجها لتهتف بحدة بوجه حماتها:
"أنا لا أسمح لك بإهانتي ..أنا أعرف الأدب جيدا وأهلي ربوني أفضل تربية ..قد لا نكون أغنياء لكننا شرفاء وأبناء الأصول ليسوا بالغنى والفقر بل بأخلاقهم ونحن نملك منها الكثير "
لتقاطعها شاهي بغضب ساخر:
"أي أصل هذا وأي أدب؟!!... أنت مجرد نكرة متلاعبة بلا أصل أحضرها ابني من الشارع ...بعد أن لعبت عليه طمعا به "
لتصرخ ريهام بغضب وألم فاض بها:
"إياك أن تجرئي على إهانتي ..لم يحضرني ابنك من الشارع ...بل رآني بمدرج إحدى اكبر الكليات كطالبة كان هو محاضرها ...ولم أتلاعب به أو اجري ورائه ...بل هو من جرى ورائي وطلب يدي ..وتزوجني بعلمكم وعلم أهلي بعد أن طلب يدي منهم ...أخذني معززة مكرمة من بيت أهلي ...لم أتزوجه سرا أو أتلاعب به ..أنا أرقى من ذلك وأرقى من وسطكم كله... وللمرة الأخيرة لن أسمح لك بإهانتي "
لتصرخ بها شاهي بالمقابل:
"بل أنت لا شيء ويوما ما سأركلك خارجا من هنا لتعودي لحيكم الحقير واهلك الرعاع "
لم تتحمل إهانة أهلها ...حقا لم تتحمل ...تحملت الكثير لكن سب أهلها وإهانتهم كان فوق قدرتها على الاحتمال ..فوجدت نفسها تصرخ بجنون وغضب:
"إياك أن تهيني أهلي ..هم أفضل منك ومن اهلك جميعا رغم مالكم الذي تتكبرون به... أخرجي من بيتي و ..."
ليقاطع ثورة جنونها صوتا ناهرا مستنكر يهتف بغضب عاصف:
"ريهــــــــــــــــــــــام"
لتلتفت كلاهما على وقوف احمد بباب البيت النصف مفتوح بينما يمسك مفاتيحه بيده ..ويبدو جليا انه وصل توا ليسمع فقط جملة ريهام الأخيرة..
أقترب من كلتاهما بوجه محتقن غاضب وعيون مركزة على زوجته التي تتسارع أنفاسها بينما يبدو وجهها على وشك الانفجار من شدة احتقانه ليقول بهسيس من بين أسنانه:
"هل جننت ؟!! كيف تسمحين لنفسك بإهانة أمي وطردها من بيتي"
لتشعل أمه النار أكثر وهي تقول باستكانة وضعف:
"أرأيت يا احمد ..زوجتك التي تدافع عنها كيف تعامل أمك ..وليس هذا فقط ..بل وتمنعني عن أحفادي ..وترفض أن أراهم"
ليقاطع كلماتها صوت تصفيق ريهام الذي جعل كلاهما ينظر لها.. شاهي بانتصار تخفيه تحت ادعاء الضعف والإهانة وأحمد بغضب دفعه ليقول بحدة:
"ريهااام هل جننتي؟!!"
لتنظر له قائلة بمزيج من السخرية والألم
"لقد أعجبني الأداء الرائع لوالدتك فأردت أن أحييها عليه ..لقد أصبحت أنا الآن الظالمة ..السيئة التي تهين حماتها وتطردها وتمنعها من أحفادها "
ليقاطعها أحمد صارخا:
"أتنكرين؟!!! لقد سمعتك بنفسي وأنت تطرديها لدى دخولي !!"
"لتصرخ مقابلة له:
"ولم تتعب نفسك بالسؤال عن السبب "
ليهتف بحدة ناهرة:
"لا يوجد سبب يسمح لك بهذا ..أيا كان السبب لا ولن أقبل أن تهان أمى"
لتعيد ريهام التصفيق ثانية وهي تقول بقهر:
"أحسنت أيها الابن البار الذي لا يقبل أن تهان أمه ..لكن زوجته تهان ..وتسب ..وتهمش ..لا مشكلة .. خاصة وهي الحمقاء التي قبلت ذلك من البداية وصمتت عليه ..لكن حتى هنا وكفى... لقد صمت وقبلت الإهانة على نفسي.. لكن ..أن تهان أسرتي فلا!! ..أن أنحى من حياة أبنائي فلا!! ..ومن لا يعجبه فلديه البحر ليشرب منه"
لينظر لها أحمد بذهول وهو يقول بعدم تصديق:
"ماذا تقولين؟!! أجننت يا ريهام!!"
ليقاطعه صوت أمه مدعية البكاء ...ليلتفت ليجدها تجلس على الأريكة تدفن وجهها بين يديها لتقول بنشيج باك:
"أرأيت يا أحمد ..الفتاة التي قلت عنها قطة بريئة رقيقة ..كيف بعد أن تمكنت ظهرت على حقيقتها ..كيف تهين أمك وتهينك ولا تعمل لأحد حساب .. أنا لا أريد سوى أن أرى حفيدي وأقضي الوقت معهما لكنها تمنعني عنهما "
ليركع أحمد أمامها ..ويستند بيديه على ذراعي المقعد وهو يقول لها بحنان:
"لا أحد يقدر أن يهينك يا أمي... أو يمنعك عن حفيديك.. وسوف ترينهما وقت ما تشائين ويبقيان معك قدر ما تريدين ..وسأدخل لأحضرهما لك بنفسي"
ليعتدل احمد واقفا لتقف ريهام أمامه قائلة بتصميم:
"الطفلان نائمان بعد أن أخذا حمامهما وإيقاظهما سيجعلهما يبكيان وخروجهما حاليا سيتسبب بإصابتهما بالبرد ....لذا لن يذهبا لمكان الآن"
لينظر أحمد بعينها وهو يقول بنبرة باتة:
"سأجعل المربية تلفهما جيدا ...وبكائهما ستتعامل معه أمي والمربية فلا تشغلي بالك ..وليكن بعلمك أنهما سيقضيان مع أمي الوقت الذي تريده ..وإياك أن تمنعيهما عنها ثانية ..آه وقبل أن أنسى أنت مدينة لأمي باعتذار عن وقاحتك معها.. وإهانتها.. وطردها وهو ما سأحاسبك عليه فيما بعد ..والآن اعتذري لأمي "
ظلت ريهام تنظر له للحظات طويلة لم تخفض بها عينها وفى تلك اللحظات شعرت أنها أكتفت ..حقا أكتفت ..ولن تقبل أو تتحمل المزيد.. لذا قالت بصوت ميت وما زالت عينها بعيني أحمد :
"أنا أعتذر سيدة شاهي عن طردك من بيت ابنك الذي اقتحمته لتهينيني ..وتسبيني.. وتسبين أهلي.. وتتهميني أنى عديمة التربية والأصل والأخلاق ولكوني مجرد نكرة لعوب أحضرها ابنك من الشارع"
كانت تكمل دون أن تهتم بارتباك نظرات أحمد..أو محاولات حماتها مقاطعتها:
"أعتذر عن قبولي أن أهان على مدى عام كامل ..وأتحمل هذا في سبيل ما ظننته حبا يستحق التضحية ...أعتذر أني تزوجت أبنك رغم علمي بكرهك ..ورفضك ..الذي حول حياتي لجحيم من الإهانات.. ووصل الحال لمحاولة الاستيلاء على أطفالي وتهميش دوري في حياتهم حتى كاد صدري يجف لبنه من كثرة إبعادهم عني...والأهم أني آسفة لنفسي لأني قبلت كل ذلك.. لكن حتى هنا والأمر قد انتهى ..فقد اكتفيت "
ازدرد احمد لعابه بصعوبة دون أن يحيد بعينيه عن عينيها ليقول بقلق وارتياب:
"ماذا تعنين"
لتقول بهدوء لا يعكس ألم روحها:
"أعني يا زوجي العزيز ..أن بإمكان والدتك أن تسعد وترتاح أخيرا من ابنة الرعاع كما تصفها ..وتجد لك زوجة تناسب معايرها ..وتبقى ببيتك كما تشاء وقت أن تشاء ...لكن عفوا لن أستطيع أن أترك لها أطفالي ..فهما خارج المناقشة ..عليها الاكتفاء بك ..أما أنا فسأكتفي بأبنائي ...وبما انه لا مشكلة في إيقاظ الطفلين وخروجهم الآن فسوف أجهزهم ...لكن ليس ليذهبا مع والدتك ...بل معي أنا لبيت أهلي .... طلقني يا أحمد ..."

-----------------------------

 
 

 

عرض البوم صور سيمراء   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أقنعة, المصرية, الأقنعة, الذكريات, الثاني, الجسم, بقلم, رغيدا, رواية, سلسلة
facebook




جديد مواضيع قسم رومانسيات عربية
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 03:27 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية