كاتب الموضوع :
سيمراء
المنتدى :
رومانسيات عربية
رد: رواية ، خلف أقنعة الذكريات ،الجزء الثاني من سلسلة خلف الأقنعة ،بقلم رغيدا المصرية
الفصل الرابع
ظلت متجهمة الوجه رغم محاولات أحمد لإرضائها كانت منتبهة للنظرات التي يتبادلها ابنها وزوجته الصامتة ...ورغم غضبها إلا أنها تستمتع برؤية محاولات ابنها مراضاتها ..
لكن ما أثار غيظها هو محاولته الدفاع عن تلك الفتاة الوقحة زوجة خالد ...لا تدري كيف لمثلها أن تتزوج من رجل كخالد لتحدث نفسها بحنق " ما بال هؤلاء الفتيات لا يملكن أصلا ولا مستوى ويوقعن في حبائلهن رجالا كابنها وصديقه" ...لتتنهد بحنق ازداد مع صوت تلك الطرقات المنغمة والمستمرة على باب الحجرة ..لابد أنهم احد أقارب زوجة ابنها المصون ..والذين لم يتوقف توافدهم من بداية اليوم فلا أحد من معارفها سيقوم بتلك التصرفات المشينة ..لتناظر الباب الذي فتحه ابنها ويزداد وجهها تجهما وهي ترى هذا الفتى اخو زوجة ابنها من الرضاع وشقيق تلك الفتاة الوقحة همس يدخل حاملا عُلبة حلوى غريبة تبدو من النوع الشعبي ... ولعبة دب ضخمة وممسكا بباقة بالونات حمراء ناولهم لأحمد قبل أن يحتضنه وهو يهتف بمباركة لولادة زوجته ويهلل بصوته الجهوري مهنئا ريهام وهو يقترب منها مقبلا رأسها قبل أن يلتفت إليها لترفع رأسها بكبرياء وهي تناظره ببرود لم يهتم له وهو يقترب منها مادا يده ومسلما عليها بتهذيب قائلا:
"مرحبا سيدتي مبارك ما جاءكم"
لترد بأنفتها المعتادة بكلمة مقتضبة :
"شكرا "
ليبتسم لها بتهذيب ثم يلتفت سائلا ابنها عن الطفلان ليشير له أحمد على المهد المزدوج بجوار السرير فيقترب منه وينظر لهم ويحاول مد يديه لحمل أحد الطفلين لتنتفض واقفة وهي تعترض بحدة :
"أرجو أن لا تحملهما .. حتى لا توقظهما ، فقد اخذوا كفايتهما اليوم من الاحتضان والتقبيل... وهذا لا يجب لأنه يؤدي إلى التلوث ونقل الجراثيم "
لتجده يرفع حاجبيه ويبتسم لها بسماجة وهو يقول :
"صدقيني سيدتي لقد استحممت اليوم صباحا بصابون معطر.. وتخلصت من كافة الجراثيم قبل مجيئي"
وقبل أن ترد عليه بنزق سمعت زوجة ابنها تناديه :
" سامح ..أشكرك على إحضارك لي حلواي المفضلة.. فأنا بالفعل كنت اشعر برغبة فيها"
ليجيبها وهو يجلس بجوارها بينما ينظر للطفلين في مهدهما بمحبة وسعادة ..
"تدللي حبيبتي فيكفي انك أنجبتِ لي هذين القردين الرائعين لألعب بهما وأدللهما" ليقاطعه احمد:
"ماذا تعني تلعب بهما هل تظن أبنائي لعبة لك .."
ليرد ببرود وسماجة:
"أبناء أختي ..وأنا حر بهم افعل معهم ما أشاء... أنا خالهم العب بهم أدللهم أعاقبهم أسبهم !! حقي ..لقد تغاضيت تحديدا عن مطالبتك أن تسمي الولد باسمي حتى استطيع سبه كما أريد و حتى لا اسمح لزوجتك بأن تسبني من خلاله ...
فأنا اعلم أنها لو أسمته باسمي ستفعل معه كما فعلت هي وأمي والدتها .. بزينات ابنة ابن خالها و كانت كلتاهما لا تطيق جدتها لأمها فاستغلوا كونها علي اسمها وكانوا لا يكفون عن شتمها وإهانتها !!"
لتقاطعه ريهام وهى تبتسم :
"يا الهي!!.. ألا زلت تذكر الأمر سامح..!! لقد كنت وقتها طفلة دون العاشرة.. وكانت جدة زينات لا تكف عن مضايقتي وتناديني بذات النصف لسان لأني كنت آكل بعض الحروف نتيجة فقدان أسناني الأمامية ..وكانت لا تكف عن إزعاجي لتكيد لأمي "
ضحك سامح وهو ينظر لها بمكر مضيفا:
"أتذكرين ريهام.. كيف كنتِ ووالدتك طوال النهار تقولان لها!!.. وأخذ يقلد تارة صوت ريهام وتارة صوت والدتها (زينات يا غبية ..زينات يا تافهة ..زينات يا قردة ..زينات يا فردة الحذاء )"
ليحمر وجه ريهام حرجا وتحاول مقاطعته ببعض الإشارات والغمزات التي تظنها غير مرئية ليصمت لكنه تجاهلها وهو يكمل:
" في الحقيقة لقد جعلتم الفتاة تكره نفسها واسمها بسبب جدتها .. التي ندمت على جعلهم أسموا الفتاة على اسمها ... ولم تستطع أن تفعل لكم شيئا رغم ثقتها أنها المقصودة ...لكنكم بكل براءة ادعيتم أنكم تشاكسون الفتاة المسكينة ..لذا لم أكن لأعطيكم ذريعة لتسبوني كلما أردتم أو كلما أغضبت ريهام .. أو والدتها وأخوتها لتخلصوا من الفتى مدعين أنكم لا تقصدوني وتقول والدتك ليعيد تقليد صوت والدتها .. -أنا لا أعنيك يا فتى أنا اشتم حفيدي ولا شأن لأحد عندي-...ليغمزها بعينيه مكملا:
" لا عزيزتي أسموه ما تشاؤون لكن ليس اسمي ... حتى أستطيع أنا أن افعل ما أشاء" ...
انتفضت واقفة وهي تنادي بغضب على ابنها الغارق بالضحك هو وزوجته على هذا المهرج أمامهما لتقول بحدة:
"احمد أريدك قليلا"
ليقترب منها سائلا:
" ماذا هناك أمي تبدين غاضبة ؟!!"
..لترمي بعينيها تجاه زوجته وأخيها فتجدهما يتضاحكان ويتحدثان معا لتقول له بخفوت :
"هل سجلت أسماء الأطفال؟"
..ليرفع حاجبه بتعجب نافيا :
"بالطبع لم افعل أمي.. أنا لم أترككم طوال اليوم... وأنت رأيت كيف لم يتوقف الزائرين عن القدوم فمتى كنت سأفعل .. والوقت الآن تأخر سأذهب لتسجيلهم غدا"
... لترد بحدة مقاطعة إياه :
"لا أريدك أن تسمي الفتاة على اسمي "
لتتسع عيناه بذهول وهو يسألها :
"لماذا أمي؟!!.. لقد كنتِ سعيدة بكونها ستسمى باسمك !!وقد اتفقنا .. وان كان على كلمات همس... فاعذريها فهي لا تعرف معنى الاسم و..."
لتقاطعه والدته :
"أنا لا أهتم بهمس هذه أو غيرها ..لكني لن اسمح أن يتحول اسمي إلى علكة في أفواه أهل زوجتك ..يحوروه و يسخروا منه ..أو يهنونني من خلاله."
ليقاطعها مسترضيا :
"ومن سيجرؤ يا أمي علي إهانتك ؟!!ومن سيمسح لأيا كان بهذا ؟!!"
لتقاطعه بنزق:
"لن تستطيع فعل شيء.. لأنهم وقتها سيدعون أنهم يقصدون طفلتك التي تقرب لهم... فأنت من جعلت دمائنا النبيلة تخلط بدماء العامة والغوغاء وأنا لن اقبل أن يكون اسمي سُبة ..الموضوع منتهي لن تسمي ابنتك باسمي فاختر اسما أخر ..لن اسمح لتلك السيدة العشوائية والدة زوجتك التي لا تمت للرقي بصلة أن تهين اسمي يوما بدعوى أنها تؤدب حفيدتها "
لتلتمع عيني ابنها بنظرة غريبة لم تفهمها و ويدير وجهه منها إلى سامح المندمج بحديث هامس ضاحك مع زوجته ليعيد نظره لأمه قائلا وهو يبتسم بسمة لم تفهمها :
"إن كانت هذه رغبتك أمي.. سأنفذها بشرط أن تكوني راضية وسعيدة"
لتنظر له باستهزاء قائلة :
"سعادتي أمر صعب ..بعد تلك الزيجة لكن لم يعد بالإمكان شيء بعد ولادة أحفادي فقد ربطنا بهؤلاء العشوائيين للأبد "
ليقاطعها احمد بضيق :
"أمي !!!"
لترد بنزق :
"ماذا ؟!!!.. أتنكر انهم مجموعة من الغوغائيين الذين لا يعرفون ادنى قواعد الذوق والسلوك ... الم ترى حماتك المبجلة وهي تدخل الغرفة صباحا محملة بحقائب ممتلئة بأواني أخذت تخرج منها أصنافا من الأطعمة المليئة بالدهون من دجاج ومحشو!!! ... تخيل أواني محشو بمشفى راقي كهذا ؟!!..وقطع الدجاج الذي أخذت تقطعه بيدها وتدسهم في فم زوجتك بصورة مقززه وهي تقول لها يجب أن تملئي مكان الأطفال بالطعام حتى لا تشعري بالضعف !!!..قمة الجهل والتخلف لقد حمدت الله إنني لم اخبر أحدا من معارفنا بولادتها بعد ...لأنهم لو كانوا حضروا وشاهدوا ما تفعله حماتك لكانت فضيحة مدوية لنا"
وقبل أن يجبها احمد رأت سامح يقف مقتربا منهما وهو يضرب ظهر احمد بكفه وينظر لها ببسمة لا تدري لم شعرتها ماكرة بينما يسأل :
"لم تخبرني يا أحمد ما أسماء أبناء أختي الأعزاء .. حتى استطيع مناداتهم بها فلن أظل أناديهم بالأطفال.. ارغب بمعرفة أسمائهم لأختار لهم بناء عليها أسماء تدليل تعجبني وتكون خاصة بي "
ليظل أحمد صامتا لفترة.. بينما تلتمع عينيه وهو يتبادل النظرات مع سامح.. قبل أن يجيب بخفوت من بين أسنانه المطبقة لم نحدد أسمائهم بعد سنتفق عليها أنا وريهام الليلة ونخبركم ،..
لتتسع بسمة سامح بحبور وهو يقول :
"سأنتظر هاتفا منك لتخبرني بأسمائهم "
بينما ظلت هي تنظر له بضيق فلا تدري أيهما يثير ضيقها وغيظها أكثر هذا الفتى السمج أم شقيقته الوقحة زوجة خالد.. أم والدة زوجة ابنها العشوائية ..أم باقي أشقاء ريهام الأجلاف ..لتزفر بضيق وعمق وهي تحدث نفسها بسخط ..أي نسب وضيع هذا الذي بليتنا به يا أحمد ..ولم يعد لنا منه مفر ...
----------------------------
انتهت من تنظيف العيادة الصغيرة المكونة من حجرة كشف متوسطة وصالة صغيرة يتوسطها مكتب لها ...وبعد أن تأكدت من تعقيم كل الأدوات وتجهيز قائمة الحجز ... غسلت وجهها ويديها ورتبت نفسها بالحمام الصغير الملحق بصالة العيادة وجلست لتستذكر ما فاتها من دروس ..
لقد كانت الفترة الماضية عصيبة عليها ولم تستذكر شيئا يذكر من أكثر من أسبوع ..والجو بمنزلها مع مضايقات زوجة أبيها وضجيج إخوتها لا يساعد ..لذا يجب أن تستغل أي وقت متاح لها للمذاكرة وتعويض ما فاتها ..لم يعد لديها إلا مستقبلها لتطمح به وتحافظ عليه ..
أما أكرم فسيظل بالنسبة لها حبها الأوحد والمستحيل ..والقابع في طيات عقلها وقلبها ..تعرف انه لن يخرج من قلبها، ولن تستطيع كرهه أو نسيانه ..لكنها ستخفيه بأبعد نقطة بداخلها فلا يراه أو يشعر به أحد ..كما ستظل مدينة له دوما ...ليس فقط لما فعله معها بالماضي عندما أنقذها من تجبر زوجة أبيها وهي طفلة ..وليس لمساعدتها بالكتب والمراجع والنقاط التي كانت تعجز عن فهمها عندما دخلت كلية الطب ...
بل أيضا لأنه وفر لها هذا العمل معه بعيادته التي افتتحها هنا بحيهم ..رغم انه لا يفتحها إلا ثلاث أيام أسبوعيا ولمدة ثلاث إلى خمس ساعات فقط من بعد المغرب وحتى قرب منتصف الليل لأن وقته ما بين المشفى الجامعي والتخصصي لا يسمح له بأكثر من ذلك..
هي تعلم أنها لا تدر ربحا يذكر... رغم امتلائها بالمرضى خلال تلك الساعات ..لكن ضعف قيمة الكشف الذي قدره هو ..مع نفقات العيادة من إيجار وفواتير ومستهلكات وراتبها رغم انه ليس كبيرا ..يكاد لا يبقى له شيئا بالنهاية ..
وعندما تحدثت معه بالأمر ليرفع قليلا من قيمة الكشف اخبرها أن هدفه ليس الربح ..لكن خدمة أبناء منطقتهم وكم كبر بنظرها وزاد حبها له أكثر حينها...
كما أن منحه لها صلاحية المجيء للعيادة بأي وقت لتستذكر دروسها بها بعيدا عن زوجة أبيها ساعدها كثيرا...بل انه اذا وجد أي وقت فراغ فانه يساعدها بشرح النقاط التي تصعب عليها في دراستها...
لترفع راسها لأعلى وتمتلئ عينيها بالدموع بينما قلبها يهتف ...يا الله أغثني برحمتك.... اللهم ادعوك إما أن تنزع حبه من قلبي ..أو ترزقني إياه بالحلال... تنهدت بعمق وهي تمسح عيناها و تحاول إخلاء عقلها جبرا من التفكير به ومحاولة التركيز على كتبها ....
مر عليها ما يزيد على الساعتين غارقة بكتبها دون أن تشعر عندما سمعت صوت جرس الباب يليه ...فتح الباب بالمفتاح بهدوء لتعلم أن أكرم حضر ليظهر لها بعد لحظات بهيئته التي تذيب قلبها وترفع وتيرة نبضاته بأناقته البسيطة دون تكلف وبسمته الهادئة وعينيه الحانيتين .. لتنظر لكيانه كاملا الذي يشعرها بحنو الأب وحماية الأخ و دفئ الوطن ..لتظل عيناها معلقة به دون أن تستطيع قدماها أن تستجيب لها لتقف ..ليقترب هو بعد أن ترك الباب مفتوحا كعادته إن تواجدا معا بالعيادة بمفردهما ..بينما تلمح نظرة استغراب بعينيه ..لتتنهد داخليا و تنهر نفسها وهى تسمعه يسألها :
"ما بك هند ..متسمرة هكذا كما لو كنت رأيت شبحا ؟!!..اعرف أن هذا ليس موعد حضوري للعيادة لكنى لمحت شرفتها مفتوحة ومضيئة وأنا أمر بجوارها فعلمت انك بالأعلى تستذكرين دروسك... ففكرت أن أمر لأرى إن كنت بحاجة لمعاونة في شيء... وخاصة أن لدى ساعتين فراغ الآن قلما أتحصل عليهما مؤخرا ..واعرف أني قصرت معك في المراجعة بالفترة الماضية "
لتخفض عينيها وهي تحاول إجلاء صوتها بينما ترد بخفوت وصوت متحشرج تحاول بصعوبة إخفاء ارتجافته:
"عفوا دكتور أكرم.. لقد كنت مندمجة قليلا مع كتاب التشريح"
ليرد عليها بعتب:
"منذ متى وأنت تناديني دكتور عندما نكون وحدنا هند ؟!!"
..لترفع وجهها لتواجه عيناه للحظات قبل أن تشيح بهما عندما شعرت أنها لا تستطيع مواجهته أكثر لتنظر للكتاب بين يديها مدعية الاهتمام به بينا تجيبه بخفوت :
"لم يعد الوضع كما كان بالماضي"
ليضيق عينيه ويسألها بنبرة متعجبة:
"لماذا ؟!! ما الذي اختلف ؟!! ما زلت أكرم جارك وما زلت هند جارتي الصغيرة التي اعتدت ملاعبتها وحملها عندما كانت طفلة ..ومناغشتها وهى صبية ..دوما كنت وستكونين بمثابة أختي الصغرى أنت عندي كهمس يا هند"
..لتغمض عينيها التي امتلأتا بالدموع وتدعو الله أن يمنحها القوة والصبر لكي لا تفضحها مشاعرها ..فليس أصعب من حب مستحيل إلا شفقة حبيب لم يكن يوما حبيبا ..
لتأخذ نفسا عميقا وتحاول ابتلاع دموعها قبل أن تغافلها وتسقط وهي تجيبه بينما ما زالت عيناها هاربتان للأسفل نحو كتابها :
"الوضع تغير.. أنا الآن اعمل عندك بالعيادة ..ولا يصح أن أناديك باسمك مجردا أمام المرضى .. فقررت أن أعود نفسي ولساني حتى لا يزل باسمك المجرد"
ليقاطعها أكرم بينما يخبط بلطف بيده على المكتب أمامها ليجبرها على رفع رأسها ..وهو يقول:
"هند أنا أكرم جارك وصديقك وأخيك... كنت وسأظل كذلك ولم يتغير شيء ، وأنتِ تساعديني وتعملين معي لا عندي"
..ليردف بمزاح :
"أنتِ زميلة مستقبلية يا فتاة "
..ويكمل بعدها بجدية حازمة :
"إن أردت مناداتي أمام المرضى بلقبي فلا بأس ..وسأناديك أيضا بلقبك أمامهم ، ولو حدث ونسينا أنا أو أنت فلا مشكلة الأمر غير هام ..ومعظم مرضانا من حينا وجيراننا ويعرفون علاقتنا ... بل إن كبار السن منهم ينادوني باسمي دون ألقاب ..فلا أريد منك أن تضعي تلك الحواجز ..
والآن أرني ما يضايقك ويشغلك بهذا الشكل ..يبدوا انك تعانين صعوبة بما تستذكرينه لدرجة جعلتك تشبهين المحنطين بمتاحف الشمع ..صدقيني اعرف هذه الحالة التي تصيب الطلبة مع بعض المواد فقد مررت بها سابقا"
..لتنطلق ضحكة خافته منها ..وهو يضيف اعترفي ما يقف أمامك؟!! هيا استغلى وقت فراغي النادر يا فتاة ..
لتبتسم وهي تشعر أن لا فائدة.. ستظل تدور بفلكه ..و سيظل محتلا قلبها مهما فعلت ..ومهما ظلت في عينيه مجرد جارة ، وأخت يعطف عليها فسيظل لها الدنيا بما فيها ومن فيها وتفديه بروحها راضية لو احتاج ..لتبتسم بينما ترفع له كتابها وهى تقول :
"لا اعرف أيهما أسوء ؟!! الطب الشرعي، أم طب المجتمع؟ فكلا المادتين تصيباني بالإحباط ..لا أجد صعوبة مع مادتي الرمد ولا الأنف والأذن.. لكن هاتان المادتان !!! كلما حاولت فهمهما اشعر أن عقلي أشبه بسيارة صغيرة جدا حشرت بين عربتي نقل من الحجم الكبير تكادا تقضيان عليها تماما"
ليضحك اكرم على تشبيهها ويمد يده ساحبا كتاب طب المجتمع من أمامها ليقول لها بعزم وهو ينظر للعنوان الذي كانت تطالعه بتمعن :
"انتقلي للمقعد بجواري يا فتاة فقد آن أوان تدخل ضابط المرور وفتح الطريق للعربة الصغيرة لتتجاوز سيارتي النقل سنحاول اليوم إزاحة السيارة الأولى ..ويوم الخميس المقبل من الممكن أن تتأخري ساعة بعد موعد انتهاء العيادة لنحاول زحزحة السيارة الثانية ..
لتهز رأسها بإمائه موافقة بينما تقوم من مكانها وتحرك الكرسي من أمامه لجواره مع ترك مسافة لائقة وهى تنظر إليه بحب عميق لم ينتبه له بينما بدأ شرح النقاط التي كانت قد خططت تحتها بقلمها بوقت سابق ...
-------------------------
كانت عيناها ممتلئتين بدموع تسيل على وجنتها بصمت بينما تقلب بصور تحفظها بالبوم كبير مليء بصور له منذ لحظة ولادته حتى عمر السادسة عشرة ..كم كانت تعشق تصويره ..وكم اعتادت أن تثير جنونه بكثرة تصويره لكنه كان يخضع لها باسما فلم يكن ليغضبها أبدا ..كان يحبها بقوة وكانت تعشقه بجنون ..كان صديقها أكثر من كونه ابنها يشاغبان بعضهما كطفلين يخرجان معا.. يلعبان معا .. يتشاركان كل شيء معا ..
لتبدأ دموعها تتحول لشلال و يعلو نشيجها بينما تمرر أصابعها على ملامح ابنها من فوق الغلاف البلاستيكي للألبوم .. تتلمس ابتسامة شفتيه ..وجنتيه ...عيونه الضاحكة المليئة بالحب ..حب تحول لكره واحتقار عندما اكتشف حقيقتها ..لتخرج آخر صورة التقطتها له من غلافها وتقربها لعينيها ..كانت صورة له بيومهما الأخير معا ...كم كان يوما رائعا حافلا بالسعادة لكلاهما في بدايته ... قضياه معا بين المحلات يتسوقا لكلاهما ويناغشان بعضهما مع كل اختيار لملابس احدهما ..
كانت تختار له ملابس يرفضها بحجة أنها طفولية وهو صار رجلا ..ويختار لها ملابس ترفضها بحجة أنها تظهرها عجوزا ويظلا ساعات ما بين اخذ ورد ومشاكسات.. حتى يختارا ملابس تقنع كلاهما بعد عناء مرح...
كان يغار عليها بقوة ويرفض أن ترتدي ملابس تبرز جمالها ..كانت تشعر انه متملك وغيور عليها بقوة أكثر حتى من أبيه وكانت سعيدة بذلك .. يومها دخلا السينما بعدما انهيا التسوق ...بعد خلاف معتاد حول الفيلم فهي تريد مشاهدة فيلم رومانسي وهو أصر على فيلم حركة لبطله المفضل ..ليكسب هو كالعادة ..ليختما يومهما بوجبة بيتزا سريعة بمطعمه المفضل ..
لتلتقط له هذه الصورة بهاتفها وهو يلتهم قطعة بيتزا كبيرة ..ليعودا بعدها للمنزل لتواجه ما لم تعمل حسابه يوما ... تواجه ماضي ظنته دفن تحت طيات الزمن ..وتفتح جراح ظنتها التأمت ..وتخسر بلحظة حياة لم تعلم كم كانت محظوظة بها إلا بعد فقدها ..ولم يتبقى لها منها إلا الذكريات وتلك الصور التي كانت تملئ هاتفها... لتطبعها خوفا من الفقد وتظل تنظر لها يوما بعد يوم تبحث فيها عن رائحة ودفئ من غابوا.. فلا يقابلها إلا برودة الورق ..
انتفضت على لمسة يد لكتفها ..لترفع عينيها فتجد تقى ابنة أختها تناظرها بعطف وتربت على كتفها ..لتجاورها على الفراش بينما تقول بصوت يحمل شفقة واضحة :
"لماذا لم تحاولي خالتي أن تذهبي لرؤيته ..لماذا لم تحاولي رأب الصدع ما دمت غير قادرة على النسيان أو احتمال الفراق"
لتجيبها بصوت أنهكه البكاء :
"بعض الأخطاء يصعب غفرانها أو حتى تبريرها ..حتى لو كانت أخطاء غير مقصودة لكنها تجرح بعمق جرحا نافذا يصعب أن يُشفى"
لتجبها بينما تجذب كفها التي تضم الصورة بقوة لصدرها لدرجة سببت انبعاجها.. لتسحبها من يدها وتعدها لغلافها مع نظرة امتعاض حاولت مداراتها فهي لا تستطيع تخيل كيف يمكن لشاب أن يقاطع و يقسو على أمه وخاصة إن كانت برقة وحنو خالتها :
"أيا كان ما حدث أو الخطأ الذي يظنه أو الجريمة التي يتهمك بها فأنا واثقة انك لم تفعليها ...فحاولي أن تقابليه ، اشرحي ..برري ..وإن عاند اضربيه على رأسه ..صدقيني الرجال عقولهم خربة وليست موضوعة بشكل مستقيم يحتاجون لضربة قوية حتى تعتدل برؤوسهم ..وان كنت اشك أن تعتدل ولو ضربتهم بمعول .. أو حتى قلبناهم رأسا على عقب"
لتمسح خالتها عينيها بظاهر يدها فبدت كطفلة ..بينما تخفض وجهها لتأخذ نفسا عميقا ..وترفع رأسها بعدها ببسمة لم تصل لعينيها وهى تسألها محاولة تغيير الموضوع :
"متى عدت لم اشعر بك ..تعالي معي للمطبخ لقد جهزت الغداء لتأكلي بينما تحكي لي تفاصيل يومك"
..لتقوم معها بينما تجبها :
"موافقة بشرط !! أن تشاركينِ الطعام وإلا لن آكل أو احكي لك شيئا"
لتحاول خالتها الاعتراض لكنها لا تدع لها مجالا ..فتبتسم قائلة :
"أنتِ ديكتاتوره صغيرة كان الله بعون من ستتزوجينه "
لتنطلق ضحكة هازئة من فمها وهى تجيب خالتها :
"لا تقلقي من تلك الناحية خالتي ..فهذا لن يحدث أبدا ..هل أنا مجنونة لأسلم حريتي لرجل أحمق يظن نفسه سي السيد زمانه يأمر فأطيع وهو مجرد غبي بعقل فأر وجسد فيل!!! ..لا.. أنا لست حمقاء لتلك الدرجة"
كانتا قد وصلتا للمطبخ.. وبدئت كلتاهما بتسخين ووضع الطعام الذي سبق لخالتها صنعه قبل حضورها ..
لتنظر لها خالتها بجانب عينيها بينما تقول لها :
"أتمنى أن يأتي اليوم الذي أرى فيه شابا ما يعيد هو لك برمجة عقلك فهي من تحتاج تعديلا.. أو معولا.. أو شقلبة .. وكم سأسعد حينها.. وصدقيني إن كان شابا جيدا وطلب مساعدتي سأحضر له المعول والحبل لربطك وتقيدك راسك لأسفل وقدمك لأعلى حتى تعتدل خلايا عقلك "
لترفع حاجبها وهي تقول بنفي قاطع :
"أبدا لن يحدث"
...لتنظر لها خالتها بتأمل قبل أن تقول ببسمة هادئة:
"لا ادري ما السبب .. لكني اشعر انه سيحدث وقريبا جدا"
..لتصمت كلتاهما غارقة في أفكارها ما بين الماضي البعيد والقريب الذي يكبل حياتيهما ويوجع قلبيهما ..
--------
هتف سامح بنزق ما أن سمح صوت همس على الهاتف ترد عليه بخفوت:
"أين اختفيت أنت وزوجك؟!!.. أحاول الاتصال بكلاكما منذ ساعات ..الم تريدا معرفة ما حدث مع تلك الشهبور حماة ريهام ,,أم أن زوجك خائف من الخسارة ويعلم أنني سأطالبه ب "
.. لتقاطعه همس بصوت يشابه اسمها أثار قلقه وهى تقول :
"عفوا سامح لن استطيع الكلام معك حاليا فلدينا حالة عائلية طارئة"
ليرد سامح بقلق:
"ماذا هناك همس لقد أقلقتني ..هل أنت وزوجك وحماتك بخير"
..ليشعر بأنها تتحرك من مكانها وهو يسمح صوت دقات حذائها ليأتيه صوتها بعدها أعلى قليلا رغم أنها ما زالت تحافظ عليه منخفضا وهي تطمئنه قائلة:
"لا تقلق أخي كلنا بخير ..إنها ماهي قريبة خالد تعرفها؟ "
..لتنقبض يديه لا إراديا بضغط قوي على هاتفه وهو يسألها بصوت مضطرب لم تنتبه له لحسن حظه :
"بالطبع اعرفها ماذا حدث لها ؟!!"
..لتصله زفرة عميقة أثارت قلقه أكثر وهي تجيبه:
"الحمد لله لا شيء خطير.. لقد سقطت من درج فيلتهم وأصيب رأسها ليلة أمس.. ولم يشعر بها احد.. حتى حضرت الخادمة صباح اليوم التالي فأبلغت حماتي هاتفيا و التي ذهبت بها للمشفى لكن الحمد لله الإصابة بسيطة وهي بخير"
ليسألها بضيق وغضب ظهر بصوته رغما عنه:
"كيف لم يشعر بها أحد ؟!! أين أهلها"
لتجيبه همس بصوت متعجب:
"ما بك سامح لماذا تصرخ هكذا؟!!"
ليجلي صوته وهو يرد بضيق يحاول إخفائه :
"آسف همس.. فقط تعجبت من كلامك "
لترد شقيقته بحيرة واضحة بصوتها :
"أنا أيضا مثلك متعجبة من هذه الأسرة!! لكن ما فهمته أن والدتها مسافرة ويبدو أن شقيقها أيضا كان غائبا ..والخدم كانوا بإجازتهم الأسبوعية "
..ليقاطعها سامح هاتفا بحدة:
"أتعنين أنهم يتركون فتاة مثلها تبقى وحدها بالمنزل؟!! دون خوف أن يصبها شيئا أو يتهجم عليها لص مثلا؟! أي حمقى هؤلاء"
..لتقاطعه همس ناهرة:
"سامح.. إياك أن تقول شيئا مما قلته لك أمام خالد فهو سيتضايق ..يبدو أني أخطأت بإخبارك أمورا تخص أسرة زوجي وأنا اعرف طبعك ولسانك.. فإياك ثم إياك أن تفتح هذا الأمر مع خالد.. أو معها هي إن صادفتها ..فهي ستقيم لدينا لفترة حتى تتحسن حالتها "
ليصمت قليلا قبل أن يرد عليها بصوت حازم وقد نسي سبب اتصاله الأساسي :
"سأمر عليكم غدا عصرا.. لأسلم عليك أنت وزوجك قبل سفري للموقع ..فإجازتي انتهت ..ولن أراك قبل ثلاث أسابيع أخرى.."
لينهي المكالمة دون حتى أن ينتظر سماع ردها عليها
-------------------------------------------
جالسة بجوار زوجة خالها .. بينما يجلس خالد مواجها لها تحاول التهرب من نظرة عينيه التي تشعر أنها تغوص بأعماقها لتكشف كذب ادعاءاتها التي أخبرتهم بها عن سبب وقوعها مكررة نفس القصة التي سبق وأخبرت بها والدته ..بينما قامت همس منذ لحظات من جوارها لترد على هاتفها ..فيبدو أن شقيقها سامح هو من يطلبها فقد سمعت اسمه وهي ترد عليه قبل أن تومئ لهم برأسها معتذرة لتبتعد مكملة محادثتها معه ..
لتشرد رغما عنها في هذا -السامح - الذي لا تدري لما يتعمد مضايقتها كلما تقابلا معا وهو الأمر الذي تكرر عدة مرات منذ حفل الزفاف ..تذكر عندما كاد يطيح بها من على الدرج الأمامي لهذا البيت عندما كانت قادمة لتسلم على همس وخالد بعد عودتهم من شهر العسل
وما أن همت بدق الجرس حتى فوجئت بمن يفتح الباب بسرعة وهو ملتفت للخلف وهو يصرخ:
" لن تستطيعي الإمساك بي"
ويبدو انه كان ينوى القفز جاريا على الدرجات ليصدمها بقوة كادت تتسبب لها بكارثة تفوق ما حدث لها مؤخرا لولا سرعة تداركه للأمر... حيث مد يده بسرعة ممسكا بذراعها ما أن ارتطم بها وسمع صرختها ليدركها قبل سقوطها الوشيك ...دون أن يخلو الأمر من تمزق كم بلوزتها الوردية الأنيقة والقصيرة التي تصل لحافة بنطال اسود ضيق ..لتجده ينظر لها بتمعن ما أن اعتدلت وتأكد من ثباتها ... وبينما كانت ما زالت تحت تأثير الصدمة فوجئت به يهتف ناهرا لها كما لو كانت هي المخطئة وليس هو الذي هاجمها كقاطرة بشرية :
"ألا تنتبهين"
..لترفع حاجبها بتعجب بينما تلمح همس قادمة من الداخل تلهث وهي تحمل بيدها وسادة لتنقل نظرها بين كلاهما وهى ترد بذهول :
"أنا من انتبه ؟!! هل أنا من فتحت الباب وخرجت جريا دون أن انظر كما لو كنت طفل مشاغب هارب من عقاب مدرسته ... وبدلا من الاعتذار تتهمني بعدم الانتباه ..هل أنت تطبق هذا المثل الذي يقول تحدث بصوت عالي قبل أن يغلبوك!!"
لتنطلق ضحكات همس التي اقتربت وسمعت حوارهما.. لتزيح شقيقها قليلا وتحتضنها بترحاب ..بينما ما زالت الوسادة بإحدى يديها وهي تقول:
"عفوا ماهي أنا المخطئة.. لقد كنت أتشاجر معه وأقسمت أن اضربه لوقاحته معي ومع خالد فكان يهرب من أمامي "
..لتنظر ماهي للوسادة بتساؤل فتجبها ضاحكة :
"لم أجد ما اضربه به سوى الوسادة "
..لتشد يدها وهى تسحبها للداخل هاتفة:
"تعالي... تعالي .. فخالد وماما سُمية بالداخل"
..لتدخل معها بحرج ممزوج بسعادة لاستقبالها الذي يشعرها بالترحاب بينما يتبعهم سامح الذي شعرت به يميل ناحيتها ليهمس بأذنها :
"اسمها خوذهم بالصوت قبل أن يغلبوكم ..أيتها الأميرة لا تكرري أمثال العامة فلا تليق بسموك "
لتلتفت له بغيظ ليقاطعها قبل أن تتحدث صوت خالد مقبلا ومحييا إياها لينظر بتعجب لكم بلوزتها وهو يسألها عن ما حدث ومزقها ..
لتحكي له همس الموقف بينما التزمت هي وسامح الصمت مكتفين بتبادل نظرات ضيق من ناحيتها واستهزاء من جهته ..
لتسمع خالد يطلب من همس اصطحابها لغرفتهم ومحاولة إصلاح ملابسها التي تهدلت وأصبحت تظهر كامل كتفها ... لتسمعه يقول ساخرا بخفوت وهي تمر بجواره:
"وكأن إخفاء الكتف سيجعلها أكثر حشمة"
..لتناظره بتكبر وغيظ وهي تمر عليه من الأعلى للأسفل باستهانة قابلها هو بانحناءة فم ونظرة هازئة أثارت غيظها قبل أن تجرها همس من يدها وهي تثرثر عن أنها فرصة لتتعارفا أكثر بعيدا عنهم ... وتخبرها أن زوجة خالها تصلي ولابد ستلحق بهم بالغرفة ..
أما لقائهم الثاني والأخير فكان منذ ما يقارب الشهر ..حيث اتصلت بها زوجة خالها وأصرت على دعوتها على حفل غذاء عائلي ...حيث أخبرتها أنها دعت عائلة همس وترغب أن تعرفها بهم ...
ورغم أنها حاولت التنصل والاعتذار إلا أن إصرار زوجة خالها بالإضافة لشعورها بالضيق والوحدة جعلاها ترضخ وتذهب .. لتقضي يوما قد يكون الأسوأ والأفضل في حياتها منذ فترة طويلة ...حيث تعرفت بعائلة همس البسيطة الملابس والدافئة الطباع ..لتشعر للمرة الأولى بالحسد ناحيتها وهي ترى مدي ترابط عائلتها والمحبة التي تشع من بينهم تجاه بعضهم البعض ..كيف يتفاهمون بالنظرات ويكملون كلمات بعضهم وتمتلئ ملامحهم بالابتسامة والرضا ......
والدتها بعباءتها السوداء البسيطة وبسمتها الطيبة ووجهها البشوش ...والدها ببذته التي لا تتبع أي نوع من الموضة أو أشكال البذات المتعارف عليها في أوساطهم ..لكن عينيه تحمل حنانا وذكاء كأنه يستطيع أن يقرأ ما بداخل الإنسان ..حتى شقيقها الطبيب كان لبقا مهذبا راقيا أنيقا دون تكلف ...
كانت جلسة ممتعة دافئة حاولوا فيها التحدث معها بألفة رغم شعورها بالخجل فكانت والدتهم تسألها عن سبب نحافتها وتؤكد عليها ضرورة الاهتمام بطعامها وتسألها عن أطعمتها المفضلة لتصنعها لها وتدعوها عندهم لتتناولها يوما ... لتبتسم هي بحرج ومجاملة وهي تجيبها أن كل ما ستصنعه سيكون جميلا فتجبها السيدة أنها ستصنع لها طعاما يكسو عظامها لحما وستحبه جدا.....
بينما سألها والدهم عن إن كانت طالبة أو تعمل وعندما عرف أنها لم تعمل منذ تخرجها تحدث معها عن أهمية أن تستثمر دراستها بالعمل حتى لا تنسى ما درسته ..
حتى أكرم تناول معها حديثا عن الفرق بين الدراسة بالجامعة الأمريكية حيث تخرجت من قسم الإعلام ..وبين الكليات الأخرى ..الوحيد الذي جلس متباعدا دون تبادل أي حديث كان سامح ...
كان هادئا بشكل غريب أثار أكثر من تساؤل من شقيقته وخالد ليخبرهم انه مرهق لأنه لم ينل قسطا من الراحة منذ عاد من عمله ...
لكنها لاحظت نظره غريبة بعينيه كلما تلاقت عينياهما ..نظرة لم تستطع تفسيرها شعرتها تحمل مزيجا من غضب وغيظ ..ورفض وثورة ..نظرة أشعرتها انه قيد شعرة من الانفجار ...ولا تدري لما شعرت أنها السبب في غضبه رغم إنها لا تعرف السبب ..
--------------------
دخل غرفته بعد أن سلم على والديه ورفض تناول العشاء معهما مدعيا أنه تناول طعامه خارجا مع أصدقائه ولا يشعر بالجوع ..واستمع بذهن غائب لوالدته التي تنهره كالعادة بسبب تناوله أطعمة الشارع .. لكنه كان شارد الذهن فلم يشاكسها كعادته بكونه يعيش ببلدة أخرى معظم الشهر ولا يستطيع أن يحضر لتناول وجباتها الشهية لذا فطعام الشارع كما تسميه حله الوحيد ولن يضيره وجبة زائدة وهو هنا ..
ترك والديه بعد أن اعتذر برغبته بالنوم مبكرا و تهرب من عيني والده الذي يشعر أنها قادرة على اختراق عقله ..وكشف ما يحاول إخفائه حتى عن نفسه ..خلع ملابس بآلية ليرتمي مستلقيا على فراشه بملابسه الداخلية ..ليغمض عينيه واضعا إحدى ذراعيه تحت رأسه والثانية ملتفة حول عينيه ورأسه ..
منذ محادثته مع همس وهو يسير هائما بالشوارع دون هدف محاولا التهرب من التفكير فيها بلا فائدة ..فهي تخترق نطاق عقله منذ المرة الأولى التي رآها فيها مهما حاول الابتعاد والتهرب ..إلا أن طيفها يطارده ..لا يدري لماذا لا يستطيع إخراجها من رأسه إنها آخر من يمكن أن يفكر بها بارتباط جدي ..
ليبتسم ساخرا من نفسه وهو يفكر بأنها من المستحيل أصلا أن تفكر به ..وبالتأكيد هي ليست فتاة يتسلى معها ..فقرابتها لخالد تجعله لا يمكن أن يحاول التقرب منها بهذا الهدف... فهو أبدا لم يعبث مع فتاة تمت له بصلة من أي نوع.. قرابة ، جيرة، أو حتى معرفة بأحد يمت له بصلة ..
ليس كأنه يتمادى بالعبث مع أي فتاة ...فجل ما يفعله لا يتعدى بعض التسلية البريئة التي لا تتعدى كلمات مازحة ...أو نزهة ...أو تشارك مشروب بمقهى مفتوح ..وأبدا لم يخدع فتاة بوعود حب أو زواج ، ولم يتقرب يوما من فتاة بريئة موهما إياها بعواطف من أي نوع ..
لكنه لا يرفض تقربات بعض الفتيات الراغبات باللهو دون أن يتخطى الخطوط الحمراء مع إحداهن
لقد كان لقائه الأخير بماهي هو نقطة النهاية بالنسبة له ...حيث قرر أن يخرجها من رأسه نهائيا خاصة بعد أن لاحظ نظراتها الذاهلة لأسرته وخاصة لأمه .. لقد لاحظ كيف كانت تنظر لها بتعجب وهي تُقطع لهم الطعام بيديها على المائدة وتملئ أطباقهم وتحثهم على أن يأكلوا جيدا ..ليشعر وقتها بضيق واختناق وهو يتخيل أنها لابد تهزأ بها ..وتنتقص منها بداخلها وهي تقارنها بسيدات مجتمعها اللاتي يأكلن بالشوكة والسكين ويفتحن أفواههن بمقدار مليمترات ويمنعن الكلام على المائدة وإن تحدثن يتحدثن بتكبر وانفه ..
كانت نيرانه تشتعل أكثر حتى أنه كان يرغب بنهرها ومنعها من النظر لأمه ولأبيه ..كان راغبا بالصراخ فيها إنهم أفضل ألف مرة من كل من قابلت في عالمها المترف حتى لو كانوا لا يجيدون طرق البروتوكولات الغبية التي تربت عليها في الكلام والطعام واللبس والحركة ..
لكنه لم يجد غير الهرب والاعتذار منهم بمجرد انتهاء الطعام بحجة الإرهاق والانسحاب من تلك الجلسة التي كانت تضغط على أعصابه بقوة ..
فلماذا بعد أن ظن انه أخرجها من عقله أو على الأقل دفنها عميقا بأبعد مكان مختفي داخله ... لماذا عادت تطفو بقوة على حافة العقل لتقبض على تلابيبه التي ثارت غضبا وقلقا.. ونبضاته التي غافلته وانتفضت ما أن ذُكر اسمها مقرونا بكلمة حادث ..ليتوقف كل ما فيه لحظتها كما لو كان الوقت تجمد لثواني قبل أن يعود للدوران بعنف كاد يفقده وعيه وصوابه
-------------------
يقف بسيارته الحديثة السوداء ذات المقعدين والسقف المنخفض القابل للطي والطراز الشبابي صغيرة الحجم ومرتفعة الثمن منذ ما يزيد على الساعة بجوار الباب الخارجي لفيلا ابن خاله خالد ..يكاد يتمزق بين القلق والحيرة والارتباك ..
فمنذ استيقظ بعد الظهر لينادي على زينات الخادمة لتحضر له قهوة ومسكنا لألم رأسه لتفاجئه بثرثرتها حول ما حدث لشقيقته وعقله في حالة شتات ..
تحمل له ذاكرته مشاهد لوقوفها على درجات السلم وحوارا لا يذكر منه الكثير سوى غضبه وبعض كلمات متفرقة ..
بل هو ليس متأكد من صدق ذاكرته حول تلك المقتطفات والصور والكلمات التي تراود عقله ... لا يدري إن كانت حقيقة أم بعض من أحلامه ..
لكنه يشعر أنها حقيقية بداخله هاجس يقتله أن ما حدث لأخته كان هو المتسبب فيه بصورة أو أخرى...
لكن عقله لا يساعده على تكوين صورة مكتملة ..لقد ارتدى ملابسه بسرعة وخرج مسرعا ما أن انتهت زينات من روايتها عما حدث وكيف أن زوجة خاله أخذتها لتقيم عندهم بعد خروجها من المشفى ..
ألقى برأسه فوق عجلة القيادة بعد أن أنهكه الألم ..يشعر بعدم القدرة على مواجهتها خوفا أن تؤكد له انه بالفعل من آذاها ..ويقتله القلق والرغبة في الاطمئنان عليها ..
كان يظن أنها لا تمثل له شيء... لكن معرفته بتعرضها للإيذاء وانه قد يكون المتسبب أثر به بشدة... شعوره لحظة معرفته بما حدث لها جعله يوقن أنها ليست فتاة تحمل اسما كاسمه في هويتها دون رابط بينهما ....بل هي جزء منه موصول بنبضه ودمائه شاء أم أبى مهما أنكر وابتعد ..
امتلأت عيناه بدموع لم يقدر أن يمنعها بينما يتذكر بعض صور ماضيهم وهم أطفال عندما كانت تتبعه شاكية من طفل يضايقها بالروضة ..أو تطالبه أن يشاركها اللعب بألعابه خاصة المسدسات والسيارات التي كانت تملأ حجرته ..
وكم كان يسعد بأن يقوم معها بدور الأخ الأكبر ليلاعبها ويعلمها كيف تستخدم مسدساته أو تحرك سياراته ....أو يطمئنها انه سيأتي لضرب من يضايقها
لتخترق الصورة صوت ناهر لوالدته تباعد بينهما بدعوى أنها فتاة لها ألعاب مختلفة ولا يجوز أن تلعب بالعربات والمسدسات ..
أو تسحبه معها للذهاب لبيت أسرتها ليكون دوما أمام عيني جده لأمه أملا أن يتعلق به ويخصه بشيء من الممتلكات ... لينحني فمه بسخرية على آمال أمه التي ضاعت بوفاة جده المفاجأة....
وبعدها زادت خلافاتها مع أبيه التي انتهت بفراقهما ....
لكنهما كانا قد فرقا الشقيقين قبلها... باستئثار كلا منهما بواحد .. كما لو كانا ميراثا يتقاسمانه أو جائزة يستحوذون عليها ..لكنه على الأقل بقى مع أمه رغم استغلالها له لاحقا ..
لكن ماهي فقدت أبيها الذي كانت الأقرب له ..ولم تتذكرها أمه إلا عندما لائمت خططها ..
فلماذا لم يحاول يوما التقرب منها وقتها وقد كانت طفلة وحيدة تحتاج إليه .. لماذا ظل كلا منهما محجوزا بدائرة مغلقة تشبه فقاعة تحجبه عن الآخر رغم شفافيتها ..
لماذا لم يحاول أن يتقرب منها ويخرق تلك العزلة اللعينة التي باعدت بينهما ..هو كان الأكبر حتى لو كان الفرق بينهما اقل من عامين يظل الأكبر والأولى بكسر الحدود ..
رفع رأسه بعناد وتصميم وأدار محرك سيارته وهو يعطي تنبيها للحارس حتى يفتح له البوابة ..فقد آن أوان المواجهة ..مواجهته مع خالد ومواجهته مع شقيقته وقبلهما مواجهته مع نفسه ...
-----------------
لقد كانت المرة التي لا يذكر عددها التي يحاول بها الاتصال بمدحت دون فائدة فهاتفه خارج النطاق ..لقد تركهم بالخارج وجاء لحجرة مكتبه ليحاول الاتصال به دون فائدة ليسمع صوت تنبيه سيارة دلفت لمدخل الفيلا ليلتفت بكرسيه ناحية النافذة فيلمح سيارة ابن عمته تدلف حتى توقفت أمام المدخل الخارجي ليقف مدمدما بينما يعقد حاجبيه :
"جيد أنك حضرت بنفسك وفرت على مشقة طلب حضورك"
...ليتحرك بسرعة ليخرج إليه مستبقا جرس الباب... فهو يريده وحده دون أن تشعر به أمه أو ماهي ..
فتح الباب بينما كانت النساء مجتمعات بالصالون الداخلي فلم ينتبهوا إليه ليجد مدحت يرفع يده لدق الجرس ليفاجأ بفتح الباب .. وتتسمر يده على بعد إنشات منه .. وتتلاقى عيني كلاهما ...مدحت بدهشة ما لبثت أن تحولت لمزيج من تيه وخزي ..والثاني بحزم وغضب ما لبث أن تحول لنوع من العطف والشفقة عندما لاحظ ملامح ابن عمته المتعبة والشاحبة ذقنه المهملة السواد تحت عينيه وملابسه المجعدة بلا ترتيب... وأكثر ما اثر به تلك النظرة المؤلمة بعينيه نظرة تجمع بين مزيج من العناد والكبرياء والألم نظره شعر أنها نداء استغاثة جعله ينسى أفعاله السابقة ولا يرى إلا فتى شاب طالما اعتبره شقيقا اصغر أعتاد رعايته وحمايته حتى من نفسه ..
ليجد يديه تمتد تلقائيا تجذبه إليه دون كلمات باحتضان شعر انه يحتاجه ليُعلمه من خلاله انه سامحه ..ليشدد من احتضانه ويربت على ظهره .. خاصة مع تلك الآه التي حاول مدحت أن يكتمها قبل أن تكتمل بينما يشدد هو أيضا من ضم خالد إليه... ليسحبه خالد دون كلمات خلفه حتى حجرة مكتبه ويغلق الباب خلفهما ..ويلتفت إليه فيجده يحاول مداراة الدمع بعينيه مديرا وجهه بعيدا.. ليتلفت خالد ليجلس خلف مكتبه وهو يقول :
"اجلس مدحت.. لقد حاولت كثيرا الاتصال بك دون فائدة فهاتفك مغلق .."
لينعقد حاجبا مدحت الهارب بعينيه من مواجهة عيون خالد ويخرج هاتفه ليقول بصوت مرتبك دون أن يرفع رأسه :
"يبدو انه قد فرغ من الشحن ولم انتبه للأمر خاصة بعدما أخبرتني زينات بما حدث لماهي بمجرد استيقاظي فجئت مسرعا لهنا "
ليعيد خالد رأسه للخلف مستندا على ظهر مقعده بينما يسال مدحت:
"ألا ترى الأمر غريبا!! أن لا تشعر بما حدث لشقيقتك رغم اننى علمت انك كنت موجودا بالمنزل!! ..لو افترضنا أن نومك ثقيل فلم تشعر بسقوطها وإصابتها ..فكيف فلم تسمع صرخات الخادمة عندما وجدتها صباحا ..أو صوت وصول أمي والأصوات المصاحبة لنقلها للمشفى ..أم أنك كنت مخمورا لدرجة لم تجعلك واعيا لما يحدث بين جدران بيتك ؟!!!"
ليعقد مدحت حاجبيه بينما يدير وجهه باتجاه النافذة متجنبا عيني خالد الذي أكمل :
"أترى لو كانت إصابتها أكبر من ذلك ..أو لو تهجم لص أو مغتصب عليها كنت ستشعر بها؟.. أو تستطيع بحالتك نجدتها؟!! أم كنت ستبقى في تيهك لتستيقظ فتجد أن أختك قضت نحبها أو انتهكت على بعد خطوات منك وهي تستنجد بك دون أن تسمع أو تشعر ...ترى كيف كنت ستتعايش مع نفسك حينها ...هذا بفرض أنها بالفعل سقطت عن الدرج دون أن تشعر أنت وهو الأمر الذي لا أجد أني مقتنع به حتى اللحظة "
لينتفض مدحت واقفا وأنفاسه تزداد تهدجا مع كلمات خالد الذي يبدو أنها رسمت صورا مخيفة لعقله جعلته يقول بتهرب :
"ماذا تعني ؟!!"
..ليقف خالد ويتحرك ليقف مقابلا له وظل يناظر عيناه الهاربتان حتى اجبره على النظر له بينما يرى تلك النظرة التي تحمل مزيجا من حيرة مخلوطة بالذنب تطل من حدقتيه ..دوما ما كنت عيون مدحت معبرتان ودوما ما استطاع قراءته بسهولة ...ليوقن بداخله أن ابن عمته فعل شيء ما يشعره بالذنب لكنه ليس أكيدا منه ..ليسأله خالد بشكل مباشر :
"مدحت هل لك يد بما حدث لماهي بأي شكل؟!!"
نظر مدحت لعيني خالد للحظات لا يعرف بما يجيبه ..لتنقذه دقات الباب التي تبعها دخول شقيقته تحييه بهدوء قائلة :
"لقد لمحت سيارتك أمام الباب وأنا خارجة للجلوس بالحديقة فعلمت أنك أتيت للاطمئنان علي "
لينظر لها خالد بقوة وهي تركز على ملامح شقيقها فلم يجد خالد بُد من تركهم بمفردهم فقد شعر بحاجتهم للانفراد سويا ليتحرك ناحية الباب وهو يقول
"سأترككما معا"
..ليدير رأسه لمدحت قبل خروجه قائلا بتحذير:
"لا تخرج قبل أن نتحدث.. وليكن بعلمك انك ستتناول الغداء معنا اليوم فلم نجتمع معا منذ فترة طويلة ..وأريد تعريفك بزوجتي بصورة لائقة "
...ليكمل خروجه مغلقا الباب خلفه بينما تتبعه عيني الشقيقان
.............
ما أن أغلق خالد الباب خلفه حتى التفت يناظر شقيقته ويلاحظ هذا الرباط الملتف حول جبينها ومقدمة رأسها بقلق ليقترب منها ملامسا رأسها سائلا بتوجس :
"كيف حالك ؟!! هل تتألمين ؟!! كيف تشعرين ؟!! "
ليبتعد بعيناه عنها قليلا بينما يبتلع لعابة بصوبة وهو يكمل بتردد :
"هل ..هل كان لي دخل بما حدث لك ؟!! ذاكرتي مشوشة عما حدث أمس ولا اذكر جيدا تفاصيل الليلة !! هل كنت بانتظاري أمس هل تشاجرنا ؟!!"
لتمد كفها ملامسة وجنته بلحيتها النامية بينما تدير وجهه إليها وهى تقول :
"لقد كنت بالفعل بانتظارك أمس ..لم نتشاجر بالمعنى المفهوم بل تحدثت معك حول خوفي عليك من سهرك ومشاجراتك الدائمة مع الحثالة وغرقك بالخمر كنت أخبرك باحتياجي إليك "
لينظر لعينيها المقاربتان لعيناه حيت تقترب بطولها الفارع خاصة مع كعب حذائها المرتفع من طوله وهو يسألها بقلق وتردد :
"هل أنا من آذاك ؟!"
ليشعر بترددها للحظات وتهرب عيناها منه بينما تجيبه:
"لا لست أنت ..لقد زلت قدمي وسقطت.. لتصطدم راسي بالدرج بعد ذهابك لحجرتك.. ولم أستطع مناداتك لأني غبت عن الوعي فلم يكن بإمكانك أن تعرف أو تشعر بما حدث لي "
التوى فمه بسخرية وهو ينظر لها قائلا بمرارة تمكنت من روحه:
"كنتِ دوما كاذبة فاشلة يا شقيقتي.. فارتجاف شفتيك وعيناك الهاربتان دوما ما كانت تفضح كذبك "
..ليجدها تحاول مقاطعته فيرفع يده ملامسا شفتيها وهو يضيف :
"لا تحاولي الإنكار ولا داعي لتخبريني شيئا فلا أظن أنى راغب بالمعرفة.. فقط سامحيني يا شقيقتي وحاولي الابتعاد عني قدر استطاعتك .. حاولي البقاء قريبة من أسرة خالك فزوجة خالي وخالد قادرين على الاهتمام بك أكثر وسأكون مطمئنا عليك معهما "
لتعقد حاجبيها بقلق وهى تجيبه:
"أنا سأبقى هنا فقط لفترة قصيرة وبعدها سأعود لبيتنا ..ولولا ضغط وإلحاح زوجة خالي ما بقيت وأتمنى أن أجدك بجواري لدى عودتي !! أنت أخي.. وأنا احتاجك... احتاج أن تكون معي وبجواري تمنحني القوة التي احتاج إليها "
لينظر لها بحزن وهو يضمها لصدره قائلا :
" صغيرتي لا تطلبي السند من حائط مائل غير قادر على إسناد نفسه ..ولا القوة من ضعيف ليضيعك معه.. كوني قوية بنفسك وإن أردت دعما فألجئ لخالد ..وسامحيني يا ماهي...ليصمت هنيهة قبل أن يكمل:
"ولا تبحثي عني "
..شعر بإجفالها بين ذراعيه ولتبتعد خطوة عنه وهي تسأله بلهفة وخوف ظهرا جليين بصوتها :
"ماذا تعني ؟!! لماذا اشعر انك تودعني بشكل ما!! "
"نظر بعينيها طويلا دون إجابة ثم مال مقبلا جبينها ..وهو يربت على كتفها بينما يقول :
"سأسافر لبعض الوقت ..احتاج للابتعاد للبحث عن نفسي التي ضاعت مني طويلا... قد أجدها فأعود... أو لا أجدها فأظل بعيدا لأضيع وحدي دون أن أضيعك معي.. بقصد.. أو بدون قصد "
كانت تهز رأسها يمينا ويسارا برفض لما يقول بينما تنثال العبرات من عينيها ..ليمسحها بحنو يظهره لها للمرة الأولى وهو يكمل :
"صدقيني أنا بحاجة لهذا الابتعاد.. بقائي هنا ورؤية ماضي وأخطائي... نظرات اللوم بعيون خالد حتى لو حاول مداراتها ..بالإضافة لشعور الخيبة والنفور والرفض المتبادل ما بيني وأمي سيقتلني ويعدني للضياع مهما حاولت ...فدعيني ابتعد ربما وجدت طريقا للخلاص .. وأعدك إن وجدته أن أعود لك شقيقا كما تتمنينه ..فانتبهي لنفسك وحافظي عليها ..كوني قوية ذات أنفة وكبرياء تبعد الطامعين كما عهدتك"
..ليأخذ نفسا عميقا وهو يحذرها بصوت ظهر فيه الحزن والألم :
" لا تخضعي لطلبات وخطط أمي ..وأي أمر لا تستطيعين مواجهته ارجعي فيه لزوجة خالي وخالد ..ليضف متسائلا :
" كيف هي علاقتك بزوجة خالد ؟!!"
أجابته من بين نشيجها :
- همس رائعة .. لقد أصبحت صديقتي المقربة ..لو تعرفت عليها لأحببتها "
ليومئ برأسه وهو يقول :
"رأيتها مرة مع خالد.. لم أتحدث معها ..لكني شعرت بأنها شخصية لطيفة تقربي منها ..ليتني وأمي لم نجرح خالد لدرجة تجعلنا غير قادرين على إعادة الروابط بيننا كما كانت دون أن يشوبها الألم "
لتسأله ماهي باستفسار:
"ماذا حدث بينكم مدحت؟!! لو على موضوع رغبتكما بزواجي من خالد ومحاولتكما إفشال زواجه وإبعاد همس فأظن خالد قد تخطى الأمر ..فلماذا اشعر أن هناك ما هو أكثر قد حدث بينكم ؟!!"
ليدير مدحت وجهه هاربا من عينيها وهو يجبها :
"لا تهتمي بما فات ماهي.. فما فات قد مات ..فدعيه ليطويه الزمن بين دوائر النسيان فقد يأتي يوم نستطيع جميعا تجاوزه "
التف كلاهما على صوت دقة على الباب سبقت دخول خالد ووالدته التي اقتربت منه تحييه بابتسامه حانية وتسلم عليه معاتبة ابتعاده وعدم زيارته طوال الفترة السابقة ...ليخفض عينيه بخجل من حنانها ولقائها الراقي رغم يقينه بأنها تعلم بما فعل ..لكنها أبدا لم تغير معاملتها له ..
ليخفض رأسه وهو يغمغم معتذرا لها بانشغاله ..حجة يعرف كلاهما كذبها لكنها لم تعلق بل أكملت ببشاشة.. أن الطعام جاهر ليرفض متحججا بأنه لابد أن يذهب لارتباطه بموعد ...لينعقد حاجبي خالد ويظهر الضيق عليه وهو يعاتبه بقوله :
"الم نتفق على أن تبقى للغداء ولنتحدث معا ؟!!"
لينظر له للحظات بصمت قبل أن يقترب منه مسلما بينما يقول بهمس لم يسمعه سواه :
"أجلها قليلا خالد ..احتاج للابتعاد.. لهدنة مع نفسي وسأعود بعدها إن استطعت .. واعدك وقتها أن احضر لك لنتحدث بكل ما تريد "
ليقطب خالد ويسأله بصوت متوجس وبنفس الهمس:
"ماذا تقصد بإن استطعت ؟!..أين ستذهب والى متى ؟!!"
ليربت مدحت على كتفه مجيبا :
" لا اعرف حتى الآن !! لكني بحاجة للابتعاد قليلا لا اعرف إلى متى.. فأرجو أن ترعى ماهي وتهتم بها "
ليلتفت لشقيقته وزوجة خاله مبتسما بسمة لم تصل لعينيه بينما يسلم عليهما مودعا.. ولم يستجب لأي من محاولات خالد والسيدة سُمية لاستبقائه ..لتلحقه ماهي حتى باب سيارته وهي تنادي اسمه بصوت متوسل ..كأنما ترجوه ألا يبتعد وهي تقول بصوت مرتعد:
"أرجوك مدحت لا تبتعد اشعر بقلبي منقبض ويؤلمني ..أرجوك أخي لا تذهب بعيدا عني ..أو إذا كنت مصرا خذني معك "
ليفتح باب السيارة ويستدير ضاما إياها لصدره ومقبلا جبينها وهو يقول:
"إلى اللقاء ماهي اهتمي بنفسك "
لفت ذراعيها حول جذعه ضامة إياه ومتشبثة به بقوة مانعة إياه من الدلوف لسيارته ..ولم تبتعد إلا على هذا الصوت المرتفع الذي اقتحم هدوء الحديقة لينظر كلاهما لهذا الشاب الذي توقفت دراجته البخارية خلف سيارة مدحت بينما يرفع خوذته وهو ينظر لهما بحدة ..............
----------------------------------------------------
|