(4)
جمجمة وطبيب وطاهي
لابد من إيجاد الجمجمتين ..
نظرت لحميد والشهاب قائلاً :
- سنقسم أنفسنا .. سأذهب أنا مع سبع البحار لتفقد الكوة التي أصابتها القذيفة وأنتما تذهبان لتفقد مؤخرة السفينة ومن يجدها يتخلص منها فوراً في الماء ..تذكرا ..قد تكون مع أحدهم ..وقد تكون مسيطرة عليه، وبشدة ..كونا حذرين ولابد أن يبقى الأمر سراً حتى لا يأخذ أحداً حذره ..
نظر لي حميد في غيظ قائلاً :
ـ تذهب أنت في حماية سبع البحار وتتركني لأحمي الشهاب !
قلت له في عجلة :
- لا تبتئس يا حميد ..إنها مجرد جمجمة ..
- إذن ما حاجتك لسبع البحار ؟..
- لأن لي سابقة مع تلك الجمجمة ..وأريد شخصاً قوياً يسيطر علي في حالة ما إذا وقعت تحت تأثيرها مرة أخرى ..
***
أنا وسبع البحار ..
العملاق الأبنوسي الذي يحمل قلب طفل وعضلات فيل، والخواطر السوداء التي تتصارع في عقلي.. رباه ماذا لو سيطرت تلك الجمجمة على عقل سبع البحار؟
لا أريد الاسترسال في هذا..
لندعو الله أن نعثر عليها سريعاً قبل أن تعثر هي على أحدهم.
هاهي الكوة المهشمة وأثار القذيفة التي لم تنمحي بعد ..
هناك ثقب ضخم في الكوة التي توصل لقاع المركب أحدثته قذيفة القراصنة ..
ثقب يسمح بعبور جمجمة ذهبية لقاع الخاتون ..
أخذنا نجوب القاع ونفرغ الصناديق الخشبية المليئة بالغلال والخضروات.. نبحث بينها عن شيء كريه ابتليت به الخاتون..
ومرت ساعة كاملة دون نتائج تذكر ..
نظرت لسبع البحار وقلت وأنا ألهث :
- لا فائدة .. لاشك أنها وقعت في يد أحد البحارة وتعمد إخفائها في مكان ما لا يعلمه أحد .
ثم أنني ضربت جبهتي بكفي مستطرداً في غيظ :
- لكن هذه سفينتي .. وأنا أحفظ كل شبر فيها .
كان سبع البحار كعادته قليل الكلام والتعليقات وقد أشعرني هذا بالحنق أكثر ..
أريد شخصا يفكر معي لقد اخترت القوة المفرطة وتنازلت عن العقل حينما تركت حميد مع الشهاب ..
هنا وثبت فكرة إلى رأسي ...
***
حميد والشهاب يتفقدان مؤخرة السفينة ..
الشهاب يداعب لحيته وهو يقول في إرهاق :
- هذا سخف ..هل تتوقع أن تبقى جمجمة ذهبية ملقاة في إهمال على ظهر مركب ..مؤكد وقعت في يد أحدهم ..
قال حميد وهو يفحص أثار قذيفة الأنفاط :
- من الممكن أن تكون قد ارتدت خارج السفينة وغاصت مع أختيها في قلب المحيط .
- هذا افتراض مريح للدماغ ..لكن علينا توقع الافتراض الأسوأ.. أنها مع أحدهم .
- هل سنفتش كل البحارة.. مؤكد من حصل عليها لن يحتفظ بها في سرواله ..سيخفيها عن الأعين ..
داعب الشهاب لحيته الثلجية عدة مرات كناية عن التفكير العميق قبل أن يقول :
ـ إذن ننتظر حتى تظهر على بعض البحارة علامات الاستحواذ .
لم يكن حميد يدر حقاً هل هذا هو التصرف السليم ؟
ماذا يقدر أن يفعل أحاد البحارة لو سيطرت عليه تلك الجمجمة؟
في حالة السندباد كان الخطر محققاً لأنه الربان أما في حالة
سيطرتها على بعض البحارة فلن يعدو الأمر سوى محاولات تخريب محدودة وسيقبض على المخرب وينكشف أمره ..
- لكن ماذا لو أوعزت إليه إغراق الخاتون بمن فيها ؟..
تساءل حميد بوجه ممتقع فعقد الشهاب حاجبية الكثين وصمت برهة ثم عادت لحيته ترتعش بالكلمات التالية :
- لا أظن أن الجمجمة تسعى لذلك.. إنها تسعى للسيطرة على الخاتون لصالح القراصنة والقراصنة لن يستفيدوا شيئاً من سفينة غارقة .
نعم .. كان الشهاب محقاً في هذا لأبعد الحدود وإن كان بعيداً كل البعد عن الحكمة في القرار الذي اتخذه مع حميد ..
ولم يكن أحدهم يتصور ما سيترتب عليه ذلك الانتظار لعلامات الاستحواذ أن تظهر على أحد البحارة..
إن أياماً عصيبة تنتظر الخاتون ..
***
صحت في انفعال :
- الطبيب رشيد ..ذلك الوغد كان أقرب الرجال من القذيفة لأنها أطلقت عليه عند القاع ..
هز سبع البحار رأسه مؤيداً ولم يعلق ولم ننتظر ..
سرعان ما انطلقنا ناحية مخدع الطبيب رشيد ..
أخ! من كان يتوقع ؟..
أنت يا رشيد! أنت !..
وقفنا نتأمل مخدعه الذي امتلأ بالأشياء الغريبة ..
أواني زجاجية مليئة بسوائل غريبة حمراء وخضراء هياكل أسماك غريبة الشكل معلقة على بعض الجدران ..
أنا الذي مكنته من كل ذلك، واليوم.. تدفع الخاتون الثمن ..
ثمن تساهلي ورقة قلبي مع رفاق البحر !
كان رشيد عاكفاً على فحص شيء ما في إناء زجاجي على منضدة ولما دخلنا عليه التفت إلينا في حدة فرأيناه يضع على عينيه منظارين غريبى الشكل قام بتثبيتهما بعصابة جلدية حول رأسه ..
- سندباد لقد أفزعتني ..
قلت له وأنا أقترب منه في حذر متأملاً هيئته الغريبة :
- الحقيقة أنك أنت الذي أفزعتنا بتلك المناظير الغريبة التي تضعها على وجهك ..
أشار رشيد بكفه قائلاً كأنما يخاطب أجهل أهل الأرض :
- سندباد أنا لا أتدخل في سياستك لسفينتك فأرجوك لا تتدخل في مهنتي التي لا تفقه عنها شيئاً ..
هذا هو رشيد الذي أعرفه، مثال الأنفة والكبرياء والذي يعتبرني مجرد ربان همجي لا يقدر مجهوداته لصالح العلم
وفي سبيل إسعاد البشرية، لكنني كنت استمتع بمضايقته جداً
فبرغم جفاءه لي فهو كغالب من تحملهم الخاتون طيب القلب حقا.. وبالتالي هو سهل المنال جداً لو سقط أسيراً لتلكم الجمجمة ..
قلت له وأنا أعبث ببعض الهياكل المعلقة غير عابئ باعتراضاته:
- هلا أخبرتنا ماذا تصنع بتلك المناظير الغريبة ؟.. من باب العلم الذي نجهله .
خلع منظاريه بيمناه في تأفف.. ثم قال وهو يضع كفه اليسرى في خاصرته :
- هذه مناظير تكبر الأشياء عشرات المرات لهذا أراكم الأن كابوس حي في حجم الخاتون ذاتها ..
قلت وأنا أحاول أن أشرآب بعنقي لأرى ما يفحصه :
ـ وما الذي تفحصه هنالك ؟..
ـ أحضر بعض المساحيق المستخلصة من أعشاب البحر تساعد على النوم ..
هل أصارحه الأن ؟
لاشك أنه سينكر ..
لكنها لو كانت معه حقاً فلن تغادر حجرته الأثيرة.. نظرت لسبع البحار كي يستعد لأى مفاجأة من رشيد الذي تسيطر عليه جمجمة الشيطان ثم التفت إلى الأخير وقلت له بلهجة حازمة :
ـ والأن لا داعي للف والدوران يا رشيد ..أين الجمجمة الذهبية ؟..
***
- تباً ..ألم يلقها الشهاب أمام عينيك في المحيط ..؟..
كان رشيد أحمر الوجه كالطماطم ..
هو لا يحتمل التشكيك في ذمته ولم يكن مستعداً لتلقي مثل تلك الإهانة، ولم يتوقعها ..
قلت له وأنا أنظر له بثبات :
- هناك واحدة أخرى ..ألقاها القراصنة على الكوة الموصلة للقاع ..
وملت عليه مستطرداً :
- حيث كنت تختبئ ..
بدأت عليه علامات التذكر ..
لابد أنها تسيطر عليه وبشدة..
سأخلصك منها سريعاً فقط كن متعاوناً يا رشيد ...
- لقد مكثت في القاع مع تنتن وتنتون حتى انتهت غارة القراصنة ولما انقشع الغبار خرجنا فرحين بهزيمة القراصنة ونجاة الخاتون ..لم يكن هناك أي أثر لجمجمة ذهبية أخرى .
قلت له في غيظ :
- نحن فتشنا القاع جيداً ..لم نجد شيئاً ..
قال رشيد في تأفف :
- هذا ما لدي يا سندباد وإن لم تكن تصدق فهاك حجرتي أمامك فتشها كما يحلو لك فقط إياكم أن تمسوا أشيائي بسوء ..
تباً ..
لو كانت مع رشيد فلن تكون خارج حجرته ولن يعرض علي تفتيشها بكل بساطة ..
الجمجمة سقطت في القاع وهناك من حصل عليها بعد ...
من الذي يتردد دائماً على القاع ؟..
هل يمكن أن تكون قد وقعت في يد تنتن وتنتون ؟..
سألت رشيد عن هذا فأكد لي أن تنتن وتنتون لم يفارقاه حتى غادروا القاع ..
ساعدني يا إلهي هذه الجمجمة جعلتنا نشك حتى في أصابع أقدامنا..
- والأن يا سندباد هل يمكنك أن تبحث عن جمجمتك وتتركني أكمل عملي ..
هممت أن انصرف لولا أن حانت مني التفاتة ناحية ذلك المسحوق في الإناء الزجاجي الموضوع على المنضدة ..
- رشيد هل تعاني من الأرق هذه الأيام ؟..
- لا ..لكن هذا المسحوق طلبه مني طاهي السفينة إنه مسكين يعاني من النوم المتقطع والذي يفقده التركيز بالنهار ..
نظرت للكمية الضخمة متشككاً ..
قلت :
- لكن هذه الكمية الضخمة يمكنها أن تنوم عشيرة من الحيتان و...
وقطعت عبارتي فجأة وأنا امسك بتلابيب رشيد صائحاً :
- رباه الطاهي ..هو أكثر المترددين على القاع ..لهذا طلب منك ذلك المسحوق المنوم ..
قال وهو ينظر لقبضتي التي تمسك بتلابيبه نظرة من يتعرض لإهانة لا تغتفر :
- وما علاقة المسحوق المنوم والطاهي المسكين بجمجمتك الذهبية ؟..
- الطاهي وجد الجمجمة يا أحمق.. وهي التي تحركه ..لابد أنها طلبت منه تخدير البحارة عن طريق وضع المنوم في الطعام .. حتى يتسنى للقراصنة السيطرة عليها..
هنا قرر سبع البحار أن يتكلم أخيراً ..
قال في انبهار :
- أنت عبقري يا سيدي ..
صاح رشيد معترضاً وهو يلوح بكفه في وجه سبع البحار :
- مهلاً يا خرتيت البحر.. هذه مجرد تكهنات.. بناها السندباد على خرافة الجمجمة التي تسيطر على العقول ..
والتفت إلي مستطرداً :
- وهو الأن يجوب الخاتون ويلقي بالتهم يميناً وشمالاً على الأبرياء..
عقدت ساعدي أمام صدري قائلاً ببرود :
- الأمر أسهل من ذلك .. لنترك الطاهي يحصل على المسحوق المنوم ولننظر ماذا يصنع ..
صمت رشيد وقد ألجمته فكرتي.. ثم إنه عاد ليقول مغمغماً:
- كما يحلو لك أيها الربان ..كما يحلو لك ...
وابتسمت في ثقة ..
طبعاً كما يحلو لي أيها الطبيب.. وسرحت بخواطري بعيداً.. إلى القاع حيث يطبخ لنا طاهي قد سيطرت عليه جمجمة ذهبية.
***
طاهي السفينة لابد أن يكون بديناً مترهلاً يسبقه كرشه دائماً
بيومين ...
لم أتردد لحظة حينما وقعت عيني عليه أول مرة وقلت وأنا أدون أسمه في سجل الخاتون :
- ستعمل طاهياً ..
قال معترضاً وهو يلهث من أثر الشحم واللحم :
- لكنني لا أفقه شيئاً في الطهي يا ريس سندباد ..
نظرت إليه متشككاً وقلت :
- لا تفهم في الطهي !! كيف اكتسبت كل هذا القدر من الشحم إذن ..
ابتسم في بلاهة قائلاً :
- إنها أمي يا ريس سندباد ..طاهية ممتازة ..
فكرت قليلاً ثم قلت :
- حسناً أذهب أنت وارسل لنا أمك..
- لكنها امرأة يا سيدي ..ماذا ستصنع وسط الرجال ..
هنا ارتفع حاجبي في دهشة :
- أأمك امرأة ؟!..
***
طاهي الخاتون المترهل طفولي الوجه الذي يمكنه أن يصدق أي شيء تقوله له ..
طباخ الخاتون الساذج ألعوبة الخاتون في أوقات الفراغ القاتلة.. ترى ماذا صنعت منه الجمجمة الشيطانية ؟
أتخيله بعين الخيال يهبط للقاع ويكافح لحشر جسده الضخم بين صناديق الطعام هنا تتعثر قدمه في شيء ..
يكافح كي ينحني لينظر و...
وتجد الجمجمة الذهبية ضالتها ..
جمجمة ماكرة تحسن استغلال من يقع تحت سيطرتها ..
سيحتفظ بها في
مطبخ الخاتون وحينما يجن الليل تبدأ الإيحاءات الشيطانية ..
ها هو ذا يتحرك حاملاً المسحوق المنوم بعد أن أخذه من رشيد..
ها هو ذا يدخل المطبخ ويغلق بابه خلفه ويستدير ناحية القدر الضخم الذي يحوي العشاء للبحارة ..
يكشف الغطاء الضخم..
ويرفع الكيس المليء بالمسحوق ليفرغه في القدر ..
هنا يتحطم الباب ويثب حميد والشهاب عليه ويكبلان حركته فيسقط الكيس على الأرض ويتناثر المسحوق..
تأملت الباب المحطم في حسرة ثم عبرته قائلاً :
- سأخصم ثمن هذا الباب من رواتبكم ..
ووقفت أتأمل الطاهي الذي يحاول التملص من كلابات الشهاب وحميد وقد اكتسى وجهه بتعبير شرس لا يتناسب قط مع طبيعته الطفولية التي نعرفها ..
رباه ..
هل كانت سحنتي شيطانية هكذا حينما كانت الجمجمة مستحوذة علي.. ازدرت لعابي ثم قلت :
- والأن.. ستخبرنا أين الجمجمة أو أجعلك تجرع قدر الحساء كله حتى تنفلق أمعائك ...
هنا جاء رده سريعاً وغير متوقعاً ...
دار بجسده الضخم حول نفسه فوجدت الشهاب وحميد يطيران في الهواء ويرتطما ببعض القدور الفارغة فوق رف خشبي وتتهاوى القدور فوق جسديهما ..
ثم إنه تناول سكيناً مرعباً من أحد الأرفف ولوح به في وجهي
صارخاً :
- لن يمسها أحد بسوء ..
وبدون تردد قذف السكين ناحيتي ..
***