كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: مشكلتي مع كلمة / بقلمي
8
مر أسبوعان منذ زواجها بليث.. أسبوعان كانا من أكثر أوقاتها إثارة للاهتمام، كافيان لقلب موازين العالم الذي كانت تعيش فيه سابقا.
لم تعتد هذا الدلال. لطالما اعتادت زينة الكفاح، تناسي احتياجاتها والتركيز بالأهم. لم تعتد هذه الراحة، هذا الكرم من زوج.
لكن ليث كان كريما بماله، باهتمامه، وبكلامه المنمق الرائع، الذي دائما ما نجح في إخجالها حد الصمت. أظهر بكلماته ونظراته ومعاملته لها الأنثى فيها، الأنثى التي لم تدرك أنها كانت مدفونة منذ الأزل، تحت أكوام وأكوام من الجحود.
بدأت تخشى على نفسها، كيف أنها بدأت تتعلق بليث في أيام قليلة، تنبئ لها بامتداد كاسح بعد أيام وشهور وسنين أطول..
وإذا حدث وأتى خذلان.. فإن الضربة ستكون أشد وأكثر فتكا..
دار ما أجابت به جود عن سؤال نوف هذا اليوم في بالها، عن سبب طلاق والدها المتكرر..
(أمي ميريام كانت زميلة أبوي في دراسته برا، وماتت هي وأنا عمري سنتين. كان يمدحها كثير، ويقول إني ورثت كثير عنها.
لما رجع أبوي للبلد معاي، ألحت عليه عمتي منيرة يتزوج، ولما وافق، كانت اللي تبغاها له سماهر، بنت صديقتها. من ناحية حب، سماهر حبته، لكن من اللي سمعته من جدتي، فمشكلتها إنها كانت مهملتني بشكل فظيع. أبوي طلقها بعد ما تكررت لي حوادث بسبة إهمالها.
مرت كم سنة وأبوي متجنب طاري الزواج ومشغل نفسه فيني.. إلى أن ترجته عمتي منيرة يجرب مرة ثانية. إقناعه ذيك المرة ما كان سهل، بس في النهاية وافق. كانت اللي اختارتها ليان، أخت صديقة ثانية لها. ليان كانت أهون من سماهر من ناحية الاهتمام فيني، لكن مشكلتها إنها كانت غيورة بزيادة. حتى وأنا صغيرة لاحظت إنها كانت تخنق أبوي بأسئلتها، وأبوي ما ساعد بطبيعته المفتوحة مع الكل. كانت شهرة أبوي مزدادة ذيك الأيام، وبالنسبة لليان كان ذاك الواقع كابوس. في النهاية ما استحملت ذيك العيشة وطلبت من أبوي يطلقها.
بعدين جت هيفاء. ذي المرة عمتي العنود هي اللي طرحت فكرة الزواج مرة ثانية لأبوي، وترجته لشهور لين رضخ. يمكن كان عنده أمل إن بيكون فيه تغيير إيجابي لأنها ذي المرة جت من مصدر ثاني. هيفاء كانت في نفس الحلقة الاجتماعية مع عمتي. ويا سبحان الله، جمعت الإهمال مع الغيرة مع الدلع الزايد. حتى لما بغى أبوي يطلقها سوت سالفة وطولتها بكذب وتهديدات.
من بعد ما طلقها، أبوي عاف طاري الزواج كله..)
تساءلت زينة إذا كانت هناك لحظة كان ليث مثلها، يحاول المضي وإصلاح زيجة فاشلة منذ بداياتها. تساءلت أكثر عن وجهة نظره، عن جانبه من القصة.
:
أسبوعان مع زينة، وشعر ليث أن الدلال أفسده.
لم يعتد اهتمام أنثى كما تفعل زينة معه. لم يعتد هذه المداراة. لم يعتد زوجة توقظه للصلاة، تجهز له ما يلبس، تهتم بما يأكل، تسأل عن أخباره وتبدو حقا مهتمة لها. لم يعتد أنثى تتعامل معه دون أن يكون الغنج المصطنع مكتسيا لكل أفعالها، دون أن تشتبه كل حركاته.
كيف كان يعيش من دونها؟ لا يدري، لكن زينة صارت إدمانا له لا يتخيل تركه للحظة.
أصبح يتصيد جعل الحمرة تغمرها، أصبح يهدف لحفظ ابتسامتها في قلبه، أصبح يشتاق لقربها وهي على بعد خطوات..
ما الذي كان يحدث له؟
/
/
لم يكن أمر التأقلم مع وضعه الجديد بالصعوبة التي توقعها.
زملاءه في العمل لم يقصروا في إعلامه بكل مشاريعهم القائمة والسابقة. أصدقاءه الجدد الذين اكتسبهم في السنين الأخيرة عرفوا له عن أنفسهم فردا فردا مرة أخرى. وكذلك فعل جيرانه ورفقاء المسجد.
حتى ابنه ساري ساعده بطريقته الخاصة، وسرعان ما وجد ياسر نفسه يشعر بمشاعر الأبوة التي لم يؤثر عليها فقدانه لذاكرته.
قد يكون متيبسا في كبرياءه أحيانا، لكن الآن لم يكن بوسعه رفض المساعدة، ولن يفعل. يريد استعادة ذاكرته اليوم قبل الغد، وسماع أخباره من آخرين كان بديلا أراحه.
النقطة الأكثر غموضا في حياته كانت، وياللعجب، زوجته. فحتى مع دعمها اللامتناهي له، أحس بشيء تخفيه عنه، نقطة معينة تمشي حولها دون الكلام عنها.
لا يريد معرفة شيء بقدر ما يريد معرفة بيان، كشف الغموض المحيط بها.
تذكر عندما رآها للمرة الأولى، بعد استيقاظه على تلمسها الرقيق لملامح وجهه. أبهرته، أبهرته من بحر عيونها ذو اللون الشبيه بالقهوة، إلى غمازتها التي أبرزتها ابتسامتها، أبهرته حتى نسي أنه لم يكن يعرفها، أنه يجب أن يغض بصره. يذكر كيف سأل وقلبه يقرع طبولا عن هويتها، كيف ارتاح ولم يصدق حظه بمعرفة أنها كانت زوجته.
كانت بيان ما خفف عنه حمل واقعه الثقيل، هذا العالم الذي كان فيه شبه ضائع. من اللحظة الأولى ساندته، وفكر كم أحسن الخيار فيها.
تحرق شوقا إلى زياراتها، إلى رؤيتها وسماع ضحكاتها، بطريقة مفضوحة جعلته موضوع الممرضات المفضل.
لكن، على الرغم من عفوية تعاملها معه واهتمامها الواضح به، فإن بيان كانت تبقي حاجزا خفيا بينهما.
لذا، قرر أن يدرس تصرفاتها معه في البيت، مبقيا أسئلته قليلة، ويرسم مخططا يدله لاستنتاجه.
يذكر مرة سألها عن تعامله معها كزوج، لتتجنب السؤال ببراعة مغيظة، كأنها معتادة على تجنب إجابة أسئلة كهذه.
"في شي غريب في حياتي معاها.."
وهو كان لديه الشك أن السبب كان هو.
/
/
رجع طلال من محل التموينات، مقطبا حاجبيه لرؤية مقعد ميساء خاليا: لسى ما رجعت ميساء؟
أجابته عبير باستغراب: لأ، لسى.. ما راحت عندك؟
هز رأسه بالنفي، ليجرب الذهاب عند ابنه. سأله: ميساء عندك؟
رأى التوجس في عيون جواد من سؤاله، مجيبا له بالنفي وهو يتجه إلى محل التموينات ليبحث فيه: لأ، مهيب عندي.
لكن مهما بحثا في محل التموينات، مهما سألوا في المصلات، لم يعثروا عليها. عرضيا سمعا ذعر امرأة تهتف أنها اتصلت بالشرطة لرؤيتها حادثة اختطاف حصلت عند دورة مياه النساء.
لم يكد ينطق طلال بكلمة إلا وجواد يقول: خذ لمى عندك ووصلها البيت..
كان تعبيره قاتما مظلما، ناويا كل الشرور.
يذكر طلال هذا التعبير المرتسم على وجه ابنه، يعرف هذا الجموح الذي لا يظهر إلا عندما كان الأمر متعلقا بميساء.
امتثل لما قال وذهب يكلم ابنة أخيه لتركب معه بدلا من جواد.
:
أفاقت ميساء على تلمس مقرف لوجهها، لترى عيون خاطفها الملثم تبرق بالرضا السافر. رأت نفسها مربوطة إلى عامود معدني بحبل سميك وبإحكام، في أرض فضاء لا روح فيها. "تجهز زين، السافل..!"
رأت طرحتها ونقابها مرميان جانبها، لكن عباءتها ما زالت عليها.
شعرت بشعور ذعر بارد يتسلل لاقتراب الخاطف منها، يمسح بعيونه على تقاسيم جسدها المستورة. أخذت تلهج بالدعاء في سرها، تشعر بالدموع تنزل صامتة على خديها لموقفها. حاولت تمثيل الصلابة بقولها، ناوية إضاعة الوقت ولو بدقيقة: لساتنا قريبين من نقطة تفتيش. لو اقتربت مني شبر بلم عليك الناس كلها!
لم يكترث واقترب، لتعض على يده عندما امتدت إليها. صفعها بكل قوة حتى أحسن بطعم الدم في فمها، لكنها لم تكترث أيضا وأخذت تتلوى في مكانها، تعض أي شيء يصلها منه، تصرخ بكل ما أوتيت من قوة. لم تكترث حتى عندما وضع السكين بتهديد على عنقها، بل فضلت الموت على ما يبتغيه: ما بتتهنا فيني وأنا عايشة! ما بتتهنا!
كان هذا كفيلا باستفزازه إلى درجة لكمها بكل غضبه. شعرت كأن فكها ينفصل من محله للحظة. بصقت الدم الذي تجمع في فمها بوهن، لكنها رجعت بالنظر إليه بثبات: اذبحني أفضل لك..
رفع يده ليوجه لها ضربة أخرى، لكن قبل أن تأتي أتى ذاك الصوت الهادئ آمرا: بعد عنها..
رفعت نظرها فإذا هي ترى جواد واقفا والشرر يتطاير من عيونه، غضب قاتم مرتسم على تعابير وجهه الجامدة عادة.
تركها الخاطف لينقض بالهجوم عليه، لتراهما يخوضان في عراك مميت. لمحت الخاطف يطعن فخذ جواد بسكينه قبل أن يقلب عليه جواد الآية وينهال عليه باللكمات التي أودت على الخاطف بالإغماء..
عندما رأت الخاطف يسكن تحت جواد دون حركة، صاحت توقظه من هياج غضبه: خلاص! خلاص، انغمى عليه! تكفى لا تموته وتدخل نفسك في مشاكل مالها نهاية!
كررت وهي تشهق بدموع لم تدرك أنها تذرفها، تراه يتوقف ليلتفت لها، قبضات يديه مضرجة بالدماء: خلاص يا جواد.. راح شره..
وقف بصعوبة عندها، يلتقط السكين الملقى على الأرض، ويجر الخاطف من قدمه. فك أسرها من الحبال ليقيد الخاطف بها، رابطا له بالعامود المعدني. رأت جواد يتهاوى في وقوفه لتقترب منه وتجعله يستند عليها، ماشية معه إلى السيارة.
سمعته يزفر: أقدر أمشي..
لكنها تجاهلته، كان جل همها ذاك الجرح الغائر في فخذه والعواقب التي سيحدثها.
عندما وصلا إلى السيارة، جعلته على الفور يستلقي على المقعد الخلفي. قلبت في السيارة بحثا عن أغراض تنفعها قبل أن يقول كلمة حتى.
تحمد ربها على تذكرها لعادته في وضع عطر في سيارته. أخذت لها علبة المناديل مع زجاجة العطر وقارورة ماء ممتلئة وجدتها ملقاة في أرضية السيارة.
حاولت إيقاف النزيف ثم تنظيف الجرح بقدر ما تستطيع. خلعت عباءتها ثم قطعت أسفل فستانها ذا القماش القابل للتمدد بقدر يكفي للفه فوق المناديل التي وضعتها فوق الجرح.
بقي جواد صامتا يراقبها بنظرة لم تعر لها في هذه اللحظة بالا. وعندما انتهت، قفزت إلى مقعد السائق تشغل السيارة لتتجه إليها إلى أقرب مركز صحي.
سمعت صوته وهو يسأل، يقاوم الألم: من متى.. وإنتي تعرفين تسوقين؟
أجابته محاولة بكل جهدها دفع غضبها القلق: أبوي علمني قبل لا أتزوجك..
سألها: وين؟
كانت ستجيبه بـ"الكويت" لكنها انفجرت: غبي إنت؟! ليش جيت وحدك وما انتظرت الشرطة؟ متى بتبطل تسوي تضحيات عشاني؟!
ألا يعرف أن قلبها تجمد خوفا عليه من اللحظة التي ظهر فيها لوحده، أنه اختفى جزعا وصدمة عندما طُعن؟
وكأنه يريد إغاظتها أكثر، رد عليها بضعف وبتسلية ساخرة: إذا بتظني إن كلامك هذا بيخليني أندم على جيتي، فإنتي.. غلطانة..
ضربت بيدها على المقود، تهتف بين دموعها: غبي، غبي..!
أخيرا وصلت إلى المركز الصحي، لكن قبل أن تخرج أمرها بغيظ بالكاد كبت: إلبسي عباتك.
عندها تذكرت أنها فقط كانت لابسة لفستان يصل عادة إلى منتصف ساقيها، لكن بعد ما فعلته به وصل الآن إلى فوق ركبتيها بقليل. لبست عباءتها ثم همت بالخروج، ليأمرها بصوت أشبه بالفحيح: تغطي!
تذمرت بذات الغيظ: أنا وين وإنت وين! ما عندي شي اتغطى به. خلينا نطلع وننادي أحد يشوف حالتك!
عندها مد يده ليعطيها طرحتها الملطخة بالرمال: متى أمداك..؟
كرر ولم يجبها: تغطي..
عندما فعلت ساعدته على الخروج، تحاول دفع خوفها عليه بثرثرة "راح يكون بخير.. راح يكون بخير بإذن الله..": كان قلتلي إن طرحتي عندك عشان أربط جرحك فيها وما شقيت فستاني. تدري إنه كان آخر صرعة..؟
وترها قربه. ارتعشت لهمسه العميق الحريري في أذنها عندما أسندته عليها: يمكن كنت أبغى أشوفك تشقين فستانك..
ازدرت ريقها وتنحنت، لتقول بخفوت: شكل فقد الدم بدا يلعب فيك لعب..
:
وقتهم في المركز الصحي كان حافلا، ما بين تقارير شرطة وإجراءات طبية.
أخيرا انتهى الأمر وبقيا ينتظران وصول عمها طلال بصمت قطعه جواد عندما رفع يده، يتلمس اللاصقات الطبية فوق وجهها، معالجة للكدمات المطبوعة عليه من فعل الخاطف. كان جواد مصرا على معالجتها قبل معالجته هو لعجب الأطباء المناوبين.. وكان تلمسه ذا رقة سلبت نفسها للحظة. سألها: إنتي بخير..؟ اللي مريتي فيه..
لا تنكر، شعرت باليأس والدمار للحظة، لكن الله أعانها وأعطاها فرجا تمثل في جواد. شعرت بلمسات أنامله تطهر لوث الخاطف.
ابتسمت له بدفء: إيه.. أنا بخير..
قطع دخول عمها طلال عليهما، ظاهرا عليه الفجع لمرآهما.
قابلتهما العمة عبير بفجع أشد عند رجوعهم إلى الرياض، في أحد المستشفيات التي أصر عمها طلال على زيارتها للتأكد من حالة ابنه.
وأما لمى، فإنها انقضت عليها بالصراخ: كله منك، كله منك! طول عمرك تجيبين له البلى! كان بيموت بسبتك!
ردت عليها ميساء بجمود: أدري.. وبتحمل المسؤولية..
التفتت عندها إلى عمها طلال الواقف معهم خارج الغرفة التي كان يجري جواد فحصه فيها: لما نطلع، ممكن توديه قسمي عشان أعتني فيه؟
بدا على عمها استحسان الفكرة، بينما بدا على لمى الإعتراض القاطع، لكن قبل أن تبديه أيدتها، وياللعجب، العمة عبير: إيه، أفضل له. أصلا لمى ضعيفة حدها وما بتستحمل منظر الدم، فما أظن بتقدر تهتم بجرح كبير زي اللي عند جواد..
وبهذا حُسم الأمر.
انتهى البارت..
|