كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: عكس الرحيل
[11]
إذا تقدم شخص إليه قبل أسبوع وأخبره أنه سيجد طيف ويقابلها ويتفق معها، كان سيضحك ويحذر ذلك الشخص من رفع آماله بلا فائدة.
لكن هاهو الآن بعد أسبوع، جالسا جنبا إلى جنب مع طيف في رحلة طائرة سترجعهم إلى الرياض حسب خطة مفصلة الخطوات..
"أوكي.. زيارات أنصاص الليول ما كانت ضمن الخطة.."
لم يستطع منع نفسه. منذ لقائهم في ذلك المتنزه وهو يتحرق شوقا إلى رؤية وجه طيف. لم يستطع النوم إلى صباح اليوم التالي، وربما كان سيكمل سهره المترقب لو لم يتبع أفكاره الهائمة التي قادته إلى ركوب سيارته والإتجاه إلى شقة خالته.
لم يندم.. آه، لم يندم.
هل الشوق جعل ملامح طيف أكثر جمالا، أم كانت السنين كفيلة بذلك؟
اختفت مسحات الطفولة التي عهدها، ليحل محلها تقاسيم أنثوية صارخة. نعومة تخالطها حدة أبهرته حد الصمت، جعلته يراقب أدق وأبسط حركاتها بولع. حتى عندما بدت مرهقة، جديلة شعرها الطويل منفلتة بكسل، بقميص بيت واسع لا يبين تفاصيل ما تحته.. فتنته. فتنته وفتنته وفتنته.
وعندما نظرت إليه بحاجب مرفوع، مستغربة، أسكره تشربه حد الثمالة لذهب عيونها الذي لم يتغير، فقط ازداد حسنا وروعة.
"صادقة خالتي.. قسم إني منتهي.."
أرجعه صوت الطيار يعلن عن الإقلاع للواقع، ليدرك أن طيف كانت تكلمه: بخصوص شغلي..
كرر بتمثيل عدم فهم: وبخصوص شغلك؟
سألت: وش بسوي فيه؟ إنت جريتني بدون ما أعطي فرصة عشان أفسر غيابي.
أجاب: بسيطة، ما يحتاج تشتغلين.
كانت هذه فرصته ليوفي بوعده لنفسه، بتعويض طيف عن كل ما فاتها في الماضي.
أحس الاعتراض في نبرة صوتها: بس أنا أبغى أشتغل..
ابتسم، ليلعب ورقته الرابحة: ما تبغي تكملي دراستك وتأخذي الماجيستير؟
سكتت لتسأل بعد لحظات: كيف عرفت؟
عرف أن سؤاله كان له التأثير الذي أراده: ما يحتاج لها تحقيقات. وحدة بشهادة امتياز مثلك؟ استنتجت إنك كنتي تبغي تكملين بس ما قدرتي.
لا ينكر فخره بالإنجازات التي حققتها، إنجازات لا يمكن أن تفنى بمجال عملها الحالي.
بشك: وإنت اللي بتساعدني؟
ليرد: ليش لا؟
بدت كأنها تفكر بالأمر مليا: تدري إني ما بخلص بستة شهور صح..؟
بثقة محب لم يستطع كتمانها: ما عليك.
أخيرا ظهر في صوتها الرضا: طيب.. يصير خير، ومالك؟
مدت يدها لتطوق يده الموضوعة على ذراع كرسيه، شتته ذلك الملمس المخملي المألوف عن الرد ليسمعها تهمس بامتنان واضح فضح عن رغبتها في نيل تلك الشهادة: شكرا..
ألا تدري أنه مستعد لفعل أكثر من ذلك من أجلها؟: العفو.
:
قد كانت قبل أيام تفكر بعدم تخيلها لركوب طائرة، والآن ركبت واحدة إلى أرض الرياض التي لم تطئها منذ ثمان سنوات.
خطا مالك جانبها بكل أريحية، يوجهها حيث شاء إلى أن وصلا عند سائق ينتظرهما ويقودهما إلى فيلا جاسر السامي التي يسكنها مالك.. أو بالأحرى، قصر جاسر السامي، فهذا البناء الفاره الذي تدخله لا ينفعه وصف آخر.
تعلم أن عائلة مالك فاحشة الثراء، لكن كل يوم تفاجأ بمقدار ما عند تلك العائلة. كان عالما مختلفا عن الذي عاشته طوال حياتها.
وضع مالك يدها في يده يرشدها إلى ما عرف عنه أنه جناحه، أو ربما كان يعني شقة. ما باله يسمي كل شيء بمسمى أصغر؟ نظرت إلى المطبخ التحضيري، إلى ركن الجلوس، إلى الحمام، إلى غرفة النوم، إلى المساحات الفاصلة بينها كلها.. : كل هذا، كنت تسكنه لحالك؟
أومأ بنعم وتنهد: بلا أنيس ولا ونيس../ لم تلحظ نظره الخاطف إليها قبل أن يكمل: بين أفكاري ولوعتي..
أرضاها وأحزنها بنفس الوقت، تلميحه بأنه شعر بالوحدة. أرضاها لأنها شعرت بوحدة موجعة، تشعر بها كل ليلة، تتسلل إلى قلبها كنصل جليدي يدميه بلا رحمة. أحزنها لأنها لا تريد أن يجد الألم له طريقا، حتى الآلام التي تشعر بها. أي تناقض هذا الذي أحدثه فيها؟
سألت وهي تخلع عباءتها: ولقيت ونيسك اللحين؟
سألها بالمقابل: بتظني إيش؟
بثبات أجابته: لقيته.
ابتسم لها بدفء ولم يعقب كلامها بشيء آخر.
لاحظت تفاصيل معينة وهي تتفحص الجناح، لم يبد معدا لشخص واحد فقط: تجهيز ذا الجناح غريب..
بعفوية لم تدرك أنها مُتقصدة فسر لها: جدتي الله يهديها كانت مصرة أعرس، وتحمست مع التجهيزات وهي ما بعد لقت لي عروس..
رددت بطء، مازال ذهنها عالقا في تحليل تلك الكلمات الأخيرة: تلقالك.. عروس؟
رد: وبإصرار بعد..
تعرف هذا الشعور.. شعرته مرة منذ سنوات، في متنزه وتحت مضايقات عابثات. شعور تملكي مدمر، يجتاح كل خلية من خلايا جسمها.
غارت، غارت من مجرد فكرة جمع مالك مع كلمة عرس. سألته بهدوء يخفي تحته عاصفة هوجاء: وصار لها اللي بغته؟
أجاب: لا، ودورك إنك تقنعيها إني ما أبغى غيرك. تقدرين تسويها؟
"وليش ما تكون ذي الفكرة حقيقة؟": إيه.. أقدر.
:
إقترح مالك بأن تأخذ حريتها في جناحه وترتاح، فهي ستقابل أفراد عائلته عند الفطور. امتثلت لنصيحته، فهي تريد أن تكون بأكمل نشاطها في ذلك اللقاء.
اتصلت بزوجة أبيها لتعلمها بوصولهم بسلامة، ثم بمي تخبرها أنها في الرياض قبل أن تنام. لم تتركها مي إلا بعد أن أخذت منها وعدا بالزيارة قريبا.
كان سرير مالك ناعما وثيرا، مريح إلى أبعد حد، يحمل أثرا من رائحته التي اشتاقت إليها. لأول مرة منذ سنوات تنساب بسرعة إلى النوم، من غير قضاء وقت بالتقلب والتململ.
استيقظت قبيل الفجر بساعة، وعلى الرغم من قلة ساعات نومها، إلا أنها شعرت بنشاط بالغ. استحمت ولبست اللباس الذي قال مالك أن عمته هي من جهزه لها، جلابية زيتية اللون، تزينها نقوش وغرز ذهبية. قماشها كان فاخر النوع، وتفصيلها رائع أنيق.
صلت سننها وانتظرت الفجر، وفقط بعد قضاء الصلاة وبداية الشروق رجع مالك إلى الجناح بصحبة امرأة بمنتصف العمر، جميلة مريحة الملامح. أشار مالك إليها: أعرفك بعمتي شيخة. عمتي شيخة، هذي زوجتي طيف.
تقدمت شيخة إليها ترحب بها بحفاوة وابتسامة مشرقة: أجل هذي طيف اللي حكيت لي عنها.. هلا وسهلا فيك يا بنتي. نورتي نورتي! / التفتت إلى مالك لتقول بغمز: ما ألومك. قمر.
احمرت طيف بانحراج. لم تعتد أن يتصرف معها أحد هكذا. ردت بخفوت ناظرة إلى مالك لينجدها: تسلمين..
لكن مالك تجاهل كليا طلبها للمساعدة واكتفى بالابتسام برضا وهو يرى عمته تعصرها حضنا ومديحا.
في النهاية أفلتتها لتذهب وتوصي بألا يتأخرا عن الإفطار: عمتك حبوبة..
وافقها: أذكر إنها كانت أول من رحب فيني لما جيت هنا، ومن ذاك اليوم هي صارت أقرب وحدة لي من عايلة أبوي.
استفسرت: كثيرين هم؟
رد: تقدري تقولي كذا، بس اليوم ما بتشوفي غير عمتي وجدي وجدتي. بتلحقي على الباقين بعدين.
أخبرها عندها نبذة عن عائلة السامي الرئيسية.
الرؤوس الكبيرة، جده جاسر وجدته هديل. ولدا من الأطفال أربعة: زياد، شيخة، سالم، والأصغر عبدالله.
عمته شيخة كان لها زياد، هادي، والجازي.
سألته: يعني سمت ولدها على أبوك؟
أجابها: إيه، كان له معزة كبيرة بقلبها.
عمه سالم كان له زوجتان. من زوجته الأولى مزنة، كان له نور ونوال. من زوجته الثانية سوسن، كان له جاسر، ميار، وسماهر.
عمه عبدالله كان له هديل، سامر، علي، ورد، وسارة.
ابتسم لذكرهم: بيجننوك ذولا الصغار..
بادلته الابتسامة: مو شكلك متجنن مرة معاهم.
أردف عندها بغموض: مشكلتي أحب اللي يتعبني.
لم تتنسى لها الفرصة بسؤاله عن معنى كلامه، فهو قد أخرج علبة مخملية من الكيس الذي كان يحمله ليفتحها وترى طيف طقم مجوهرات مبهر بلونه الذهبي وترصيعاته الخلابة كالنجوم. لم يبدُ ثقيلا متكلفا، يُلبس فقط عند التقاط صورة، بل عمليا للغاية. من نظرة تعرف أنه أُختير باهتمام بالغ.
لم تكد تنطق بالسؤال عن هوية صاحبة الطقم حتى فاجأها بإلباسه الطقم لها، قطعة قطعة قطعة، من العقد إلى الأقراط إلى الأساور. أكمل مسيرته بخاتم وضعه بنفس الإصبع الذي كان يحتوي خاتم والدته، ليكمل الخاتم الجديد حسن الخاتم القديم.
نظر إليها بتفحص ثم برضا غامر: كنت أتوقع إنه بيطلع حلو عليك وما خاب ظني.
لازالت تشعر بدفء قربه، بلمسات أنامله العرضية الخاطفة وهو يلبسها الطقم: ليش تكلف نفسك كذا؟
أجابها ببساطة: لأني أبغى.
:
صدق ناصر عندما قال أن مالك كان له لمحات من أبيه ومنه.
عاطفة أبيه وكبرياؤه، نزعته هو للتخطيط والتحليل.
أحب ذلك الفتى منذ أن عرف بوجوده. رأى فيه وريثا يستحق اسمه ومجموعته. فطنته وموهبته كانت حقلا خصبا حرص على تنميته، ليثمر بزهو يده اليمنى حاليا.
لكن.. كان لمالك نفس أخطاء أبيه، نفس المشاعر الجياشة والتعلق بمن لا يستحق.
يذكر مرة كلمه عن زواجه بتلك التي جاءت من طرف ثريا، أخت زوجة زياد التي تسببت بفقدانه لابنه: تزوجت وإنت صغير. بتغير رأيك لما تمر سنين..
ليجيبه حفيده بعناد واثق: مابغيره.. رأيي وببقى عليه للممات.
يذكر مرة كلمه مالك عن والديه: تدري إن أمي كانت تحاول في أبوي يوصلك؟
لم يبق ليسمعه بعد ذلك.
يذكر ليلة الأمس عندما عاد مالك بتلك التي تزوجها منذ سنين، بمحيا بدا أكثر إشراقا وسعادة: أدري إنك إنت السبب اللي خلاني أقابلها..
لم يكن جاسر رجل أعمال عبثا، لن يُلدغ من نفس الجحر مرتين.
استخدم مصادره الخاصة للبحث عن زوجة مالك ليجدها تعمل في شركة انتهى الأمر بشراءه لها، ليكلف مالك بالإشراف على الإجراءات. وكما كان كالمتوقع، وجد زوجته بين الموظفين.
توقع أن يجلبها مالك إلى هذا البيت. توقع أن يريد بقاءها.
حسنا، سيدعه يفعل ما يشاء. رفضه القاطع وتمنعه جعله يخسر ولده، لن يخسر حفيده أيضا.
سينتظر. سينتظر أن يضجر مالك من زوجته، أن يرى حقيقتها بعد ذهاب نشوة التمرد. سينتظر من تلك الزلة. سيزول الوهم لا محالة، وعندها سيخلي الركام ويعوض حفيده بمرشحة من اختياره وموافقته.
رأى حفيده يدخل ويجلس على مائدة الإفطار بصحبة شابة لم تبد بالمظهر الذي توقعه، لم تبدُ متصنعة ولا مستهترة.. لكن، ربما المظاهر كانت خداعة.
سألتها زوجته بحدة سينبهها عليها لاحقا: وش اسمك؟
رد عليها مالك قبل أن تفعل هي: اسمها طيف يا جدتي.
لطالما كانت هديل بعيدة عن الدبلوماسية، تفصح عما في قلبها بشفافية تامة. يحب صدقها هذا، لكن ليس هو ما يحتاجه في هذا الوضع الحالي.
سألت هديل بدورها بسخرية واضحة: وهي ما عندها لسان؟
قاطعها هو بحزم: خلاص. خلينا نفطر.
بدأوا الإفطار بصمت وأنهوه هكذا، ليفترقوا كل إلى وجهته.
:
امتعضت ملامح عمته بضيق: ما عجبني تصرف أمي مع زوجتك.
تنهد مالك بنفس الضيق: ما كنت أدري إنها بتولع كذا.
سألته: وكيفها زوجتك؟ عساها ما تضايقت؟ أعرف أمي، لسانها يبغاله تعود.
ابتسم لذكرها: لا ما عليك، ما أعطت لجدتي بال.
تنفست عمته براحة: والله كنت خايفة، بس طلعت زوجتك كفو.
رفع نظره بتذكر: إيه، بوديها السوق اليوم وأبغاك تروحي معاها إذا عندك فرصة.
ردت: أكيد، ولا يهمك.
وصاها: اشتري لها غصبا عنها. أعرفها بتقول ما تحتاج شي. طنشيها.
عندها ضحكت عمته: والله إنك رايح في خرايطها يا ولد أخوي!
سأل منحرجا من انفلات مشاعره: واضح لهدرجة؟
أكدت له: ما شفتك معاها إلا اليوم وأبصم لك بالعشرة إنك مستوي خالص!
"وراها طيف ما تحس طيب؟ العالم كلها تدري إلا هي.."
:
رحلة التسوق هذه كانت من أكثر الأشياء إرهاقا التي مرت بها. جرتها شيخة أرجاء مركز التسوق الضخم، تشتري قطعة غالية الثمن وراء أخرى بدون أخذ رأيها أو موافقتها بعدما عرفت قياساتها. في نقطة ما استسلمت طيف لواقعها هذا. لا تدري حتى ماهية ما اشترته شيخة لها، لكنها توقعت أن مشترياتها كانت ذات ذوق رفيع.
بكل صراحة، شيخة فاجأتها. حلاوة طبعها وأريحيتها لم تكن ما توقعته منها. لا تتعجب من ارتياح مالك لها، فهي بدأت تشعر بنفس الشيء.
سألهم مالك عندما أتى ليرجعهم إلى البيت: عسى استنفذتوا موارد السوق؟
أكدت له شيخة الجالسة وراءهم: وأكثر، أبشرك!
نظرت طيف بينهما باستغراب.
أكان هذا أمرا يُبشر الشخص به؟
:
"يا سواد ليلي.. وش ذي الفضايح؟!"
كان من المفترض أن تراقب شيخة عن كثب، ربما عندها كانت ستتجنب مواجهتها لحقيقة ما اشترته لها. عزمها على ترتيبها لملابسها الجديدة في غرفة الخزانة التي خصصت لها أصبح صاعقة.
خبأت الفستان الباذنجاني البالغ في القصر الذي أخرجته وراء ظهرها عندما سمعت حركة تشير إلى دخول مالك الغرفة. سألها بفضول: وش تسوين عندك؟
أجابته: ولاشي،. بس أرتب فأغراضي..
عرض عندها: أساعدك؟
ردت بسرعة: لا!/ تلثعمت عندما رأت اقتضاب حاجبيه باستغراب: أكيد إنت تعبان من الشغل..
هز رأسه بـلا: عادي، إنتي اللي هلكانة حدك. أعرفها عمتي، التسوق معاها مو شي أي واحد يقدر يستحمله.
صدق في ذلك، فهي بالكاد تشعر برجليها. تنفست الصعداء عندما تركها إلى الحمام قائلا: ماله داعي ترتبينها الليلة. خذي راحتك..
حينها أرجعت طيف نظرها إلى أزمتها التي ازدادت سوءا مع أول ظهور لـ"ملابس النوم". بحثت بينها إلى أن وجدت أسترها: منامة زرقاء اللون، حريرية عارية الأكمام وتصل إلى كاحليها، يرافقها روب طويل بنفس اللون.
حمدت ربها أن مالك انتهى من استحمامه بعد ترتيبها لأغراضها الجديدة. ودخلت هي لتستحم بدورها وتلبس المنامة وتخرج، ليراها مالك وهي توجه نظرها إلى الأريكة الوثيرة في ركن الجلوس.
نظر إليها بشيء من.. الغيظ؟: أظن إننا ناس كبار ونقدر ننام بنفس السرير. ما بيكون فيه أي حركات، لا تخافي.
شعرت بالحرج يتغللها إلى أخمص قدميها، ليست هذه المرة الأولى التي يتشاركان فيها سريرا، لكن مضي السنين جدد التردد.. ردت بثبات لم تشعر به: معاك حق.. نقدر.
بقيا كل في ركنه، كل معطي ظهره للآخر، كل واع بأقل حركة يحدثها الآخر.
همست: تصبح على خير.
ليرد بنفس الهمس: وإنتي من أهله.
:
فتحت طيف عيونها لترى أنها كانت ملتصقة بمالك، لتدرك أن وجهها كان مدفونا بين رقبته وكتفه. أبعدت رأسها لتنطق شبه مختنقة، تنظر إلى نقطة معينة في الأفق: مو إنت قلت ما بيكون فيه أي حركات؟
رد بضحكة متسلية، تخفي وراءها إحساسا عميقا: مو أنا اللي قربت.. إنتي.
عندها فقط أحست بتطويقها له، لتشعر بحرارة خجل عارمة: آسفة..
كانت ستهم بالإبتعاد لكنه منعها من ذلك، محكما ذراعه حول خصرها: خليكي كذا شوي.. ما عمري مانعت.
لتستوعب وتنظر إليه بحرج هلع: مو هذي أول مرة أسويها؟
رد بصوت ناعس، واضح فيه قرب استغراقه في النوم مرة أخرى: ياما سويتيها قبل. بس كنت أصحى قبلك عشان ما تنحرجين.
الآن عرفت الحلقة الناقصة. الآن عرفت ما كان ينغص عليها نومها، يجعلها مستلقية لساعات بدون أن يجد لها النوم طريقا.
هو، قربه هو كان ما ينقصها.
همست بعفوية يسوقها إدراكها: اشتقت لذي النومة..
لم يجبها، لكنه نهض فجأة من السرير بعد فترة قصيرة.
:
خرج إلى المطبخ التحضيري، يشرب كأس ماء بارد لعله يثلج حرارة جسده المحموم ويهدئ قلبه المفضوح المتفجر نبضا.
لو بقي ثانية أخرى معها كان سيفسد كل شيء، كان سيريها مقدار شوقه لها ولقربها، كان سيفيض بمشاعره بدل تقطيرها قطرة قطرة كما كان يخطط.
كان سيكشف أوراقه بكل سرور لها، لتفعل به ما تشاء.
أهذا ما أودت به الحال؟ أربما كان أكثر صلابة قبل عشر سنوات؟
نداءها الخافت له أيقظه من غمرة أفكاره المشتعلة، لتزيد حماه بؤسا لرؤيتها تقف عند الباب، تنظر إليه بقلق ناعس، ناسية ارتداء روبها فوق منامتها الزرقاء: إنت بخير؟
تجنب النظر إليها، لعله سيستطيع تمالك نفسه للحظات. أجابها باقتضاب: إيه إيه، ما فيني إلا العافية. ارجعي نامي..
لم يسمع وقع خطواتها المبتعد. عرف أنها لا زالت معه. لم يدري إلا وهي واقفة أمامه، تكاد تلتصق به. تمرر أناملها على صفحات وجهه وجوانب عنقه بتفحص.
قطبت حاجبيها ولمع العتاب في عيونها، مبعدة كأس الماء البارد عن يده: مسخن وتشرب موية ثلج؟
راقبها وهي تتحرك أرجاء المطبخ، تستبدل كأس ماءه بآخر أكثر دفئا، تبحث في الثلاجة عن أقراص خافضة للحرارة. راقبها بقلة حيلة عاشق استبده العشق حتى النخاع.
"والله ما سخنت إلا منك ومن هالطلة.."
ناولته الأقراص بأمر: خذ ذول على بال ما أسويلك كمادات.
منعها من الذهاب: اهجدي.. قلتلك بخير. احتريت شوي وبس.
ضيقت عيونها بشك: متأكد؟
قبل جبينها بامتنان عفوي يخفي وراءه توقا حارقا: متأكد. خلينا نرجع ننام، وراي شغل الصبح.
تجمدت في مكانها، لكنها سرعان ما أومأت بصمت وعادت معه إلى غرفة النوم، لتنام وتعود إلى تطويقه، إلى تلك المعاناة العذبة.
"اللهم أرزقني الصبر والسلوان.. ما حسبت حساب إني بأكل تراب بسبت موالي الردي ذا."
هو فقط يريد أن يجعل طيف تعترف. ما باله يدفع ثمن خطته؟
[انتهى البارت...]
|