لم تصدق ما سمعته، ظلت محدقة إلى صديقتها، منتظرة متى ستنفجر بالضحك وتقول انها كانت تمزح.. لكن ملامح صديقتها طيف بقت على ما هي عليه من الجدية التامة: انتي من جدك؟ من بين كل الناس اللي يتزوجون.. إنتي؟
لم تستطع مي إدخال الفكرة في رأسها.
منذ اليوم الذي تعرفت فيه على طيف، كانت طبيعتها وشخصيتها ثابتة.. لا تغير سوى ازدياد همومها. التفكير بالأعراس و الأفراح كان آخر ما تفكر به. جل تفكيرها كان ابوها وعلاجه، دراستها، شغلتها. بقلق سألت: انتي مغصوبة؟ ترى اقدر اكلمـــ…
قاطعتها: لاء، خالتي عرضت علي الفكرة وانا وافقت.
لم يفاجئها أكثر من خبر زواج طيف إلا معرفة من اقترح الفكرة. منذ متى كانت زوجة ابو طيف تهتم بمستقبلها؟: ليه؟
تنهدت طيف باستسلام: ابوي. ما تقدري تتخيلي كيف هو فرحان بموافقتي./ تمتمت: ما كنت ادري انه كان شايل همي هالكثر..
طبعا، طبعا. نقطة ضعف طيف الوحيدة، ابوها. حتى لو كان الشيء على حساب راحتها وسعادتها، فأبوها فوق نفسها دوما. ابتسمت مي محاولة تلطيف الجو: طيب وعريس الغفلة ذا كيفه؟ من وين جاي؟ وسيم وسامة مليون فولت ولا مشي حالك يا جدار بيج..
رمقتها طيف بنظرة مستغربة: عليك مصطلحات.. مدري كيف تجيبينها..
استعجلتها مي بالكلام، فوقت الفسحة قرب على الانتهاء وعليهما حضور حصصهما بفصول متفرقة. "فرقوا شملنا الله يفرق شملهم". هذا ما قالته عندما عرفت ان طيف كتبت في فصل مختلف. ما زالت تفاوض المشرفة على نقلها إليها: عرفتي قصدي يختي. يلا انطقي..
هزت طيف كتفيها بلا مبالاة: مدري.
لم تعجبها هذه الإجابة على الاطلاق: ايش اللي مدري؟
كررت طيف اجابتها: مدري عنه شي، بس اسمه وعمره وانو تحليلاتنا تتطابق.
استحثتها، ربما يكون هنالك امل..: ما جاك فضول؟
جاوبتها تلك بأريحية: مصيري بعرف.
كانت تعتبر طيف أختها التي لم تلدها امها، لكن بعض المرات، برود صديقتها كان كفيلا باستفزازها إلى درجة فظيعة. "الله يعينك يا عريس، راح تتزوج بالقارة المتجمدة الشمالية وانت ما تدري": عسى تنحرقي بنار حبه وبعدين نشوف مين اللي يهتم.
امتعضت ملامح طيف، غير مستسيغة للفكرة: يالدراما اللي عندك، وبعدين مو المفروض تتمني هو يصير له كذا بدالي؟
رفعت مي يديها الى السماء: عسى ربي يخيلكم ذايبين بعشق بعض./ التفتت اليها: ارتحتي؟
قالت ناهضة: لاء. ليش تدخليني انا بالسالفة؟
تحلطمت: ما يرضيهم العجب..
:
اليوم وصل عريس الغفلة. اليوم ارتبط اسماهما ببعض.
رتبت زوجة ابيها حفلة صغيرة لم يحضرها سوى قلة من نسوة لم تعرف طيف معظمهن. الوحيدات اللواتي عرفتهن كن مي وامها.
حضنتها مي باكية، مفسدة مكياجها الناعم. دعت لها وتمنت لها كل خير بين شهقاتها ومحاولات طيف لتهدئتها. ربما كانت صورة مضحكة، عروس تهدئ صديقتها ليلة عرسها.. عروس بالكاد بدت عروسا. اكتفت بفستان ساتر فيروزي اللون اهدته لها زوجة ابيها.
زينة وجهها كانت معدومة غير رسمة كحل ومسحة ملمع. جدلت شعرها الطويل وأسدلته على كتفها.
مرت المراسم بهدوء وسرعة. ربما بعد سنين، عندما تحس بارتباط حقيقي بواقع ما كانت تقدم عليه، ستندم على قلة الحضور وانعدام علامات المناسبة.. لكن الآن، كانت طيف بقمة الارتياح.
أجلسوها بجانب من صار الأن زوجها. لم تلتفت إليه مرة. ربما كان السبب عدم مبالاة، ربما خجلا، فدفء ساعده الملاصق لساعدها جعلها واعية كل الوعي بأقل حركة يفعلها. يا ترى هل كان مثلها، غير مهتم بما يحدث حوله؟ هل وافق لغاية مثلها؟ ربما أراد قرب خالته بعد وفاة أمه بأي طريقة..
تناول يدها ليضع في إصبعها خاتما بسيطا. احساس غريب.. كيف كان يعامل يدها كأنها زجاج هش. لم تدرك انها كانت تحبس أنفاسها إلا عندما أطلقتها لحظة ترك مالك ليدها.
:
لم تظن أبدا أن الملحق الذي تعبت من أجل ترتيبه سيكون لها نصيب منه. لكن.. لم يبد الملحق بالشكل الذي تركته عليه، أنواع الأغراض كانت موضوعة في أرجاءه بشكل عشوائي لا يمت للترتيب بصلة. بالكاد تستطيع رؤية اثاث الملحق الأصلي..
ربما عجبها كان واضحا من طريقة وقوفها عند الباب، فمالك تنحنح قبل أن يقول: معليش على الفوضى، كل شي صار بسرعة وما امداني ارتب اغراضي اللي جبتها..
"يا كثرة اغراضك"، قالت طيف في نفسها، متجاهلة التوتر الذي بعثه سماع صوته للمرة الأولى. لم تستطع تسمية نصف ما كانت تراه أمامها. سيكون عليها أن تنام بغرفتها رغم توصيات زوجة أبيها، أمر كان في صالحها. فكرة ان تشارك هذا الملحق الصغير مع رجل لم تعرفه سوى اليوم أصابتها بذعر لم تود الاعتراف به.
سألها: نصلي؟
عندها فقط رفعت نظرها اليه ورأته للمرة الأولى..
وسيم، كان انطباعها الأول، وسيم جدا..
لم تكن من النوع الذي يقيم حسن المظهر. مقاييس الجمال كانت عندها بلا قيمة تذكر. لكن يمكنها القول بأن مالك كان بكفة المليون فولت.
.
ملامحه كانت مزهوة بالشموخ، حادة مصقولة. شعره قصير، ناعم كثيف، داكن حد السواد. عيونه بنية.. ذكرها اللون بالقرفة.
لم تدرك أن همستها بـ("ما شاء الله") سُمعت من قبله إلا عندما ابتسم ضاحكا.
أحست بحرارة خجل غير معهود وعلى عجل ذهبت لإحضار جلال صلاتها.
صلا، دعيا، سألا خير ما سيأتي به وضعهما الجديد.
على الباب وقفت: تصبح على خير.
تنفست الصعداء عندما رد عليها ولم يستوقفها: وإنتي من أهله..
مغلقة باب الملحق خلفها، ظلت طيف تمسح ظهر عنقها الحار، متساءلة عن سبب تمرد احاسيسها.
:
منذ وفاة والده، لم تعد أم مالك على نفس الحال. تغيرت طباعها، وأصبح التناقض يسيرها.
لطالما كانت أمه تميل إلى بذر المال أكثر من أبيه، لكن بعد وفاته زادت في التبذير إلى حد الإضرار بما جمعه والده وتركه لهما. لم تكن تخبره، فأشد ما عليها كان أن يحزن لما أودت بهما الحال. كل ما طلب ولم يطلب، كانت تشتريه. كل ما احتاجه في دراسته، كانت توفره. ربما كان هذا لتعويض نقص، تعويض سند ووحدة.. لايهم، فالنتيجة واحدة. مع تراكم الديون على امه، اضطر إلى الموازنة بين الدراسة والعمل من أواسط مراهقته.
يندم إلى أن يغرق بحسرته كلما تذكر ماذا كان حديثه الأخير مع أمه قبل أن يصله الخبر المفجع من جارتهم.. عن الديون، كله عن الديون. وكوضع الملح على جرح نازف، أخذه بعض الحاضرون يوم دفنها على جنب ليطالبوا بأموالهم، لم يأبهوا فحقهم كان أهم بالنسبة لهم من محن غيرهم.
باع أغلب أغراضهم.. لم يبقى من حلي أمه سوى خاتم بسيط احتفظ به. كان خاتمها المفضل، خاتم أرادت أن تهديه زوجته المستقبلية..
:
لطالما وجد نفسه يتساءل عن عزلتهم، لا أقارب، لا جيران.
كلما سأل أباه عن عائلته، اكتسبت ملامح وجه أبيه حزنا أليما. لم يجبه مرة.
الوحيدة التي كانت تزورهم كانت خالته ثريا، وحتى هي لم تكثر وتطل في زياراتها، ليس برغبة منها بل بسبب أبيه.
وفاة والده جعلت مالك يدرك ما كان يفعل، ما كان سبب الجدالات بين والديه التي سمعها صدفة. عرف أن أباه كان ممانعا لزيارات الجيران والصديقات وحتى أقارب أمه. لولا عناد خالته ومفاجآتها بزياراتها، لما عرف مالك بوجودها.
أكان لتملك، ذلك الطبع الغريب البغيض لأبيه، أم لغيرة من أمه، من عدم تواصل عائلته معه بينما هي تزار و يُسأل عن أحوالها؟
:
برحيل والدته، بدت الشقة باردة كئيبة.
بجانبه رأى دموع خالته تنزل بصمت على خديها. وضع ذراعه على كتفيها وشدها إليه. تركها تبلل قميصه بالدموع. تمنى لو يستطيع التعبير عن حزنه مثلها، لكن صدمة الواقع جعلته كفيفا عن شعوره.
لا يدري كم تطلب من الوقت ليستوعب..
أمه رحلت.. أمه رحلت..
:
رفض مرارا وتكرارا عرض خالته بالسكن معها رغم الحاجة. لم يرد الإثقال عليها، يكفيها ما سمعه من أمه مرة. زوج مريض متقاعد وابنته، بيت صغير وتكاليفه.
نظرة العناد اختفت من عيون خالته ليحل محلها رجاء: ما راح تثقل علي، إنت سندي..
لم يستطع الرفض بعد ذلك.
:
عرض خالته الآخر صدمه: إيش؟
كررت: بنت زوجي، أبغاك تتزوجها. البنت واثقة منها ومافي زيها.
لم يستطع الإختيار من عشرات الاعتراضات التي تزاحمت في ذهنه، عن عدم كفاءته و تحمل المسؤولية في الحاضر: كيف تبغيني أتزوج اللحين؟ مستحيل. الله يعافيك، امسحي الفكرة من راسك..
خالته لم تستسلم. ظلت تحاول إقناعه، معطية نواقض لكل حججه.
في النهاية وافق لأسباب عدة لم يكن متأكدا من أي منها..
:
مر الأمر كسرعة البرق.. حتى التحليل الذي تمنى أن يعطيه عذرا انتج تناسبا لا عدم تكافئ.
الحضور من الرجال كانوا قلة كان أكثرهم أصدقاؤه، لكن لم يخفى سرور حماه واستقباله الكل بحبور، متحركا بنشاط لا يوحيه جسده المريض.
كلمه بجدية: هذي نور عيني يا مالك. خليها فعيونك..
أجابه مالك: إن شاء الله..
حتى وإن كان غير واثقا من كل ما يحدث، فلن يظلم من أصبحت الأن زوجته.
:
زوجته..
لم يظن مالك أنه سيدعو أنثى بتلك الصلة إلا بعد سنين، في مستقبل بعيد أسس فيه نفسه. لكن الأقدار يسيرها الله، وهاهو الآن متزوج في العشرين.
لا يعرف الكثير عن زوجته حتى ملامحها.. عرف أن اسمها طيف. عرف أنها صغيرة في السن. عرف أنها تدرس في مدرسة في آخر الحي. عرف أنها فارعة بالطول. عرف لون وطول شعرها. والأن، بعد أن ألبسها خاتم أمه، عرف أن أصابع يدها كانت رفيعة رقيقة، وملمس جلدها ناعم مخملي.
لم ينطق لها بكلمة منذ بداية مراسم ارتباطهما. مشيا بصمت إلى الملحق.. فقط عند فتحه تذكر مالك حالته الفوضوية وعدم ملائمته للنوم فما بالك بليلة زواج. برر بإحراج لطيف التي بقيت واقفة عند الباب: معليش على الفوضى، كل شي صار بسرعة وما امداني ارتب اغراضي اللي جبتها..
لم تتكلم فسأل ليدير دفة الموضوع: نصلي؟
حينها رفعت طيف نظرها إليه. غريزيا، لاحظ لون عيونها.. ذهب ذائب، بارز بالكحل. "يمكن الذهب يغار حتى.." بينما كانت ملامح وجهها مبهمة، عالقة بين الطفولة والرشد، عيونها كانت قصة أخرى.. فتنة ساحرة جعلت دقات قلبه تسرع، سرقت أنفاسه للحظات..
فقط همستها العفوية بـ(ما شاء الله) جعلته يفيق. تذكر أين كان ومن معه. ابتسم، شعور بالرضى يغمره. "يمكن تزوجت على غفلة، لكن على الأقل المدام راضية بشكلي.."
عند انتهاءهما من الصلاة، لاحظ مالك ارتباك وخوف طيف، وقوفها المتردد المنتظر عند الباب. لاحظ نعومة صوتها الهادئ عندما قالت: تصبح على خير.
.
كان قراره الأن، إما أن يبقيها و إما أن يتركها.. رد: وإنتي من أهله..
راقبها تذهب منفتحة الأسارير، مغلقة الباب خلفها.
لو لم يأتي الأمر على حين غرة، ربما في أوضاع أكثر بهجة، ربما كان وضعهما ليختلف.. ترقب وشوق بدل خوف وتردد، ارتياح بدل ضغط.. ربما كان ليبقيها جانبه.
فكر قبل أن يستلقي على سرير مزدحم، "خلينا نتعود على بعض أول.."