[10]
أخبرت طيف زوجة أبيها بكل ما جرى. مررت أصابعها خلال شعرها بتوتر وشيء من العصبية وهي تمشي بين جانبي غرفة الجلوس.
زوجة أبيها ظلت مستمعة لها بصمت، تتبع حركتها بنظرات حيادية.
في النهاية توقفت لتتنهد: مدري ليش قبلت عرضه..
لم تفكر بقول لا، بالإصرار على الحصول على الطلاق. القبول كان على طرف لسانها قبل أن تتشكل الأفكار في ذهنها.
ردت زوجة أبيها: أقولك ليش؟/ التفتت طيف لها وأومأت لها بنعم، لتكمل: لقيتيها فرصة عشان ترجعين له.
فتحت طيف فمها لتعترض، لتقاطعها تلك بحزم: يعني بتقنعيني إنك بتساعديه كذا لوجه الله؟ كلنا ندور على مصلحته حتى إنتي. أدري إنك سويتي ألف سيناريو فبالك عن رجعتكم لبعض. أدري إنك تحبينه حب خلاك عميانة عن الرجال بعده. وأدري إنك مجروحة من رحيله، وناوية تخليه ما يتركك بعدها أبد.
إنلجم لسانها، لم تستطع إيجاد كلمة لتقولها.
مدت زوجة أبيها يدها لتجلسها جانبها وقالت: أدري كل هذا، وأنا معك.
أخيرا ردت طيف بخفوت: لا تتأملي كثير، هو قال إنه ترتيب مؤقت.
امتعضت ملامح زوجة أبيها بعدم تصديق واضح، وبثقة هتفت: خليك منه! إنتي بس اشتغلي عليه وجننيه. خليه ما يتنفس إلا هواك.
لم تستطع طيف منع نفسها من الضحك: من متى وإنتي
رومانسية كذا..؟
ابتسمت زوجة أبيها: فيني خير كثير..
لا تنكر، شعرت براحة غامرة بعد أن تحدثت مع زوجة أبيها وصارحتها. بدأت تشعر بالترقب نحو هذه الخطوة بدل التوجس. بعرفان قالت: مشكورة..
ابتسمت هي بدفء، ماسحة شعرها بحنان: العفو يا بنتي..
:
عرفت ثريا من المتصل قبل أن تنظر إلى الرقم. أتاها صوت ابن أختها عندما قبلت المكالمة: السلام عليكم..
ردت: وعليكم السلام./ لم تزعج نفسها بالخوض في المقدمات لتهتف: وش الكلام الفاضي اللي سمعته من طيف عنك؟
رد بتساؤل كان واضحا فيه التمثيل: أي كلام فاضي؟
أجابت: ترتيب مؤقت ومدري إيش. والله لو ما كنت عارفة إنك تخطط لشي يخليها تتم عندك كنت راح أفضحك عندها. قالي شهور وهو يموت في تراب رجولها ومو صابر عنها دقيقة..!
تنحنح بحرج ليرد: قوليلها كذا طيب! ما غير تنشب طاري الطلاق فحلقي كل مرة أتكلم معاها..
ابتسمت بحب. ما بال هذان الإثنان متعبان هكذا؟: وش تخطط له اللحين؟
أجاب بصراحة فاجأتها وربما فاجأته هو: بخليها تعترف إنها تبغاني وتبغى تتم عندي.. بخليها تنسى طاري الطلاق.
بوسعها أن توضح لهما عدم صحة المعتقدات التي يحملانها عن أحدهما الآخر، لكن ذلك كان درسا يجب عليهما تعلمه بنفسهما. هي فقط ستساعد وتدعم.
بحدة قالت: لا تجرحها وإنت ما تقصد بخطتك ذي..!
ليرد: ومن متى تهتمي بمصلحتها؟
لم تبالي بتلميحه عن الماضي، عن تصرفاتها التي لازالت تندم عليها: من اليوم اللي عرفت فيه كثر غلطاتي.. يمكن صح إني ما ولدت بنت، لكن مو معناته إنه ما عندي بنت.
سكت للحظة ثم قال: لا توصي حريص. بنتك في عيوني.
وجدت نفسها تقول قبل أن يقفل الخط: مالك..
رد: هلا خالتي..
ابتسمت لرده، يشبه ذاك في الماضي عندما كانت تتصل به وهو في أحد أشغاله، لتطلب منه مقاضي للبيت.
نطقت بكلمة تكررت في بالها من اللحظة التي أدار مالك ظهره ليرحل عن حياتها، كلمة شعرت بمعناها طوال سنين: آسفة..
لوهلة، ظنت أنه أقفل الخط، لكنه رد ليفاجئها: سامحتك.. وأنا آسف على سواتي فيك..
شعرت بحرارة الدموع تتشكل في مقلتيها. رددت كلمته بابتسامة: سامحتك يا ولدي..
:
استيقظت طيف على رنين جوالها، لترى أن الساعة كانت تشير إلى الواحدة ليلا وأن المتصل كان له رقم لا تعرفه. تركته وعادت للنوم، ليزداد المتصل إصرارا مرة بعد أخرى. باستسلام ردت ليأتيها صوت مالك بحيوية لا تنتمي إلى هذه الساعة: طيف؟ صحصحي معاي، تراني برى و باب المبنى مقفول.
ذلك كان كفيلا بجعلها تقفز واعية: إيش؟!
كرر إجابته: أنا واقف برى..
وقفت لتنظر من خلال نافذة الغرفة التي تتشاركها مع زوجة أبيها والمطلة على بوابة المبنى، لترى مالك واقفا قرب سيارته ممسكا بجواله. لبست عباءتها بعجلة وهدوء لكيلا توقظ زوجة أبيها ونزلت من السلالم بسرعة خاطفة كان سيشكو منها العم مازن لو رآها. فتحت الباب لتخطو مسرعة إلى مالك.
تكلمت قبل أن يفعل بحدة لاهثة: تبغى تفضحنا؟ ليش جاي ذا الوقت؟
استند مالك على سيارته الفارهة وابتسم بتسلية: واحد ويزور زوجته، عادي..
العم مازن كان ملتزم بقوانين وقواعد يجب على ساكني شققه كلهم أن يطبقوها بحذافيرها، حتى أخته لم تسلم من صرامته. هذا الوضع بأكمله كان خرقا لكل القوانين. ردت: موب بأنصاص الليول.
مال إليها وهمس: والله إنتي اللي مقعدتنا في الشارع بدل ما تدخليني جوا، ومستقبلتني بهواش بدل أحضان..
شعرت بإحمرار وجهها وتسارع نبضات قلبها بطريقة لم يكن لها علاقة بنزول السلالم على عجل. حمدت ربها أن ملامحها كانت مغطاة. أشرت له أن يتبعها ودعت ربها ألا يستيقظ العم مازن ويزداد هذا الوضع خرابا.
تبعها مالك بأريحية لتستقبلهما زوجة أبيها فور دخولهما الشقة. بدا غريبا بين أركانها المتواضعة بلباسه الرياضي واضح العلامات المسجلة. نظرت إلى مالك بإنزعاج متعب: وإنت ما لقيت إلا ذا الوقت؟
هز مالك كتفيه كإجابة، لتوجه نظراتها إلى طيف: جهزيله المجلس ينام فيه..
لم يحتج مالك إلى من يرشده، فالشقة كانت صغيرة وأركانها واضحة. خلعت طيف عباءتها تنتوي إحضار الفرش واللحافات بينما رجعت زوجة أبيها إلى الغرفة.
لم تدرك أن مالك كان يحدق بها إلى أن انتهت من تجهيز المجلس له. نظرت له باستغراب: فيه شي؟
هز رأسه بــلا: أبد بس.. ما شاء الله.
استغربت أكثر ليفسر بابتسامة: أقلدك..
تذكرت ردة فعلها عند رؤية مالك للمرة الأولى، وعندها فقط أدركت أنها كانت بدون عباءة معه للمرة الأولى لسنين. انحرجت وشعرت برغبة غامرة بإخفاء نفسها، لذا نهضت لترجع إلى أمان الغرفة.
لكن مالك كان لها بالمرصاد. أحكم قيد أصابعه حول رسغها، ليمنعها من الذهاب: بتخليني لحالي؟
ماطلت: بشوف شي بالغرفة..
تركها، لتخطو باستعجال إلى الغرفة وتجدها مغلقة. تطرق ولا تجد إجابة، تتصل ولا تجد ردا.
عادت تجر أذيال خيبتها إلى المجلس لتستقر على الكنبة الصغيرة بالزاوية، لتعود إلى النوم، وكعادتها، استيقظت عند الفجر. غريزيا اتجهت إلى مالك توقظه: قم الفجر أذن..
تناول هو يدها ليُقبل كفها ويقلب روحها. كانت عادة طورها في الفترة التي سبقت رحيله، لكن عمق لثم شفتيه لكفها الآن كان غامرا مسرفا. همس بصوت أجش من النوم وربما شيء آخر: تسلمين..
وجدت نفسها ترتعش بأحاسيس مضت سنين طوال من غير أن تحس بها. أجبرت نفسها على الرد متجنبة نظرة عيونه الناعسة: الله يسلمك..
"أجننه؟ كيف وهو يجنني قبل؟"
:
رجع مالك من المسجد ليتعذر عن الفطور: وراي ترتيبات أسويها عشان سفرنا.
رددت طيف: سفرنا؟
بدا كأنه خطر على باله إدراك: إيه ما قلتلك.. حجزنا الليلة إن شاء الله. جهزي نفسك بمر عليك بعد صلاة العشاء.
ردت عليه زوجة أبيها قبل أن تفعل طيف: بتكون جاهزة ما عليك.
لم تدري طيف إلا ومالك قد ذهب. التفتت إلى زوجة أبيها: إنتوا اتفقتوا علي ولا إيش..؟
أبدت تلك استنكارا بالغا: أبد.. يلا بس جهزي نفسك بسرعة!
تبعتها طيف وهي تنظر إليها بشك.
:
سألتها طيف، ربما للمرة العاشرة: بتكوني بخير لحالك؟
أجابت زوجة أبيها بثقة: إيه إيه. إنزلي، مالك له ساعة واقف عند الباب.
لا تدري لما فعلتها، لكنها فعلت. تلك البادرة التي تمنت لو تقدمها منذ الطفولة، تقلد فيها تصرفات بنات مع أمهاتهن.
حضنتها بخفة، وقبلت أعلى رأسها بإحترام. رجعت خطوة إلى الوراء ثم قالت قبل خروجها: مع السلامة.. انتبهي على نفسك..
أكان يُخيل لها رؤية لمعة دمع في عيونها؟
:
ربت مازن على ظهر أخته بمواساة: إذا حالتك بتصير كذا، ليش خليتيها تروح؟
تكلمت ثريا بين شهقاتها المكتومة: لازم يا مازن.. لازم..
أدرك من اللحظة التي عرفت فيها ثريا عن ابنة زوجها الراحل له أنها تعتبرها ابنة لها. والحق يقال، كانت طيف نعم الإبنة رغم عدم ارتباطهما بصلة دم تذكر.
وهاهي الآن تختبر شعور الأم عندما تتركها ابنتها لبيت زوجها.
هتف بمرح يحاول التخفيف عنها: كان اقنعتي طيف بعرضي ورحنا المحكمة وفسخنا عقدها مع ولد مناهل. كانت اللحين بتكون متزوجة ولدي فهد وساكنة تحت نظرك..
ابتسمت ترمش دمعها: ينقال إنت اللي بتسوي شي زي كذا بريحة مناهل..
تأفف: الواحد ما يقدر يتجادل معك..
ربما لم يقابل مالك، لكن يكفي أن يكون ابن مناهل ليكون له معزة خاصة في قلبه. عرضه ذاك كان مجرد اقتراح عابر ليريح ضميره من إصرار ولده على طيف. يحمد ربه أن طيف رفضت ولم يوضع في ذلك الموقف.
قالت بصوت أكثر ثباتا: إذا تعرف ليش تحاول؟
أجاب: أجرب حظي، يمكن أفوز ذي المرة.
[انتهى البارت...]