كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: عكس الرحيل
[15]
تنهدت طيف بحسرة وهي تشاهد جموع الحجاج هذه السنة على التلفاز: خسارة، كان نفسي أحج السنة هذي..
ليرد عليها مخففا عنها: بوديك السنة الجاية إن شاء الله..
نظرت إليه بابتسامة مستغربة: من جد؟
ليستغرب هو من استغرابها: إيه، ليش لا؟
ابتسمت بدفء: أجل بخليك عند وعدك..
:
سألته جدته ما يريد على إفطار يوم عرفة، ليعدد كل ما صنعته طيف في ذاك الرمضان الذي قضاه معها ولم يشتهيه في الماضي..
كانت مفاجأة لهم كلهم مساعدة طيف في إعداده، فهي لم تكن تنزل للمطبخ الرئيسي إلا للضرورات القصوى..
كاد يختنق ضحكا عندما سمع جدته تعترف على مضض: تعرف تطبخ بنت الفياض..
:
ابتسمت ثريا لتلقي اتصال من طيف بعد صلاة العشاء مباشرة، تهنئها بالعيد قبل الناس. صراحة، كان لدى ثريا الاعتقاد بأنها ستنساها ببعدها، لكنها لم تفعل، بل واظبت على الاتصال بها يوميا.
أردفت طيف تهنئتها بقول: قالي مالك كلام مهم أمس..
كان لديها شك عظيم بماهية ماحدث مالك به طيف. تنهدت بغيظ: ما لقى إلا إنتي يقوله ذا الكلام..؟
لتسأل طيف: ليه؟ أنا مو معترضة، بالعكس../ استطردت حاكية: تدرين، حتى هو ما بغى يفتح معاي الموضوع بالأول، بس بالأخير قالي عشان أقنعك..
زفرت بضيق: ما بتقنعيني وخلاص، سكري الموضوع..
اكتسب صوت طيف حزما عندما قالت: أرفضي لأي سبب، بس لا تخليني عذر. أبوي الله يرحمه له سنين متوفي، يحق لك تعيشي حياتك. وهذا هو نصيب وجا..
أرادت أن تعترض لتقاطعها بإكمالها: يعلم الله إنك بتبقي فنفس المكانة فقلبي..
سألتها ثريا عندها بمرارة، سؤالا تعرف إجابته قبل النطق به: مجرد زوجة أب، صح؟
لترد طيف بيقين وصدق دافئ: لاء، بظل أشوفك أمي اللي ما ولدتني..
إنلجم لسانها، مصدومة لتلقي هذه الكلمات التي لطالما أرادت سماعها من طيف، كلمات لم تظن قط أنها تستحق النيل بها. ستجهش في البكاء إذا لم تله نفسها عن أفكارها هذه: عجوز وتقوليلي عرسي؟
ضحكت: أما ذي فصراحة أكبر كذبة سمعتها في حياتي. لساتك في الخمس والأربعين وما يبين حتى. غيرك تزوجوا أكبر، وإنتي ماشاء الله من أجمل اللي شافتهم عيوني..
ابتسمت بحرج وسرور لم تستطع إخفاءه: من متى والكلام يقطر منك كذا؟ أعهده ينسحب منك سحب.
أجابتها بكل أريحية، تنبئها أن شيئا تغير بشكل إيجابي في تلك الصغيرة: شكله القعدة مع ولد أختك فكت لساني..
لا تنكر، شعرت براحة أكبر حيال هذا الأمر بعد معرفة شعور طيف، وفضول نامي حيال هذا الرجل الذي أتاها فجأة خاطبا: بستخير وشوف.. إذا صار خير بعطيكم خبر.
تنفست طيف الصعداء: وهذا هو اللي نبغاه..
ابتسمت ثريا، تهز رأسها بعجب من وضعها بعد إنهائها للمكالمة..
"أولادي كبروا وصاروا يخطبون لي.."
:
"صدق إني ما كنت مقدر النعمة اللي كنت فيها.."
يا سبحان الله! ما إن قرر المضي في إظهار ما في قلبه لطيف، حتى جاءت المشاغل تتوالى عليه تباعا دون رحمة. بين المجموعة وأفراد العائلة الزائرة من بعيد وسفرياته التي لا تنتهي..
أحلام يقظته أصبحت عن يوم يقضيه في البيت.
"يبغالي إجازة.. إجازة طويلة وبعيدة عن الكل.."
معظم الناس ظنوا أن كونه وريث جاسر السامي الأرجح كان سهلا، مدلل مُنفذة أوامره لا يتحمل العواقب. لكنهم كانوا مخطئين، فجده كان أكثر صرامة عليه من موظفيه، لا يرضى منه إلا النجاح الكامل، لا يسلمه إلا أصعب الصفقات في أغرب الأوقات، غير مستمع لتدخلات عميه المتوسطة المطالبة بالتخفيف عليه.
لن ينكر، جده علمه الكثير، وصرامته زادته خبرة ومعرفة في زمن قصير.
لكن..
سألته طيف بعد رجوعهما من الصلاة، بغيظ مكتوم فاجأه: مين ينعطى سفرة عمل في العيد؟
تنهد: في أشياء عمرها ما تتغير..
عندها فقط لاحظ النقوش على يدي طيف: متى أمداك تحنين؟
أجابته وهي ترفع أكمام جلابيتها، لتريه امتداد نقوش الحناء الرائع على طول ذراعيها: حلو؟ قعدت الليل كله أنقش فنفسي. ماعمري سويتها..
إذا ذاك كان سبب اختفاءها: يفتن..
أعجبه وبشدة تناقض بياض بشرتها مع حمرة الحناء الداكنة، أعجبته دقة النقوش وتداخلها الملفت مع بعضها.
ابتسمت برضا، لتخطو مسرعة إلى غرفة الخزانة: استنى بوريك نقش ثاني..
الفضول اعتراه لحماسها وما تريد عرضه له، فانتظر رغم أنه كان يجب عليه النزول.
:
دار ما حدثته بها مي ليلة الأمس وهي في خضم نقش يديها في ذهنها، يحثها على فعل ما تنتويه..
(نقشي سيقانك بعد وإلبسي أقصر وأضيق شي عندك. عندك جسم الوحدة تنجلط تحصله، استغليه..!)
"يقطع شر مخك الجهنمي يا مي.."
نظرت للفستان الباذنجاني الذي ظنت أنه سيبقى في غيابات الدواليب، بعيدا عن النور، لينتهي المطاف بها باستعماله كبطل مخططاتها.
لبسته على استعجال، رتبت شعرها لأقصى ما تستطيع، تنفست بعمق، ثم خرجت من غرفة الخزانة.
حانت ساعة الصفر.
:
اختنق عند ظهورها مرة أخرى بعد دقائق، مرتدية فستانا قصيرا يفصل جسمها تفصيلا، لونه الداكن الباذنجاني يزيد مظهرها فتنة، يعرض بكل بذخ ساقيها المنحوتتين وامتداد نقوش الحناء على طوليهما..
"هذي ناوية على دماري.. مافي تفسير ثاني.."
سألها قبل أن تتكلم، مشتعل من منظرها، من فكرة أن ترى عين أخرى ما يراه الآن: بتروحي كذا قدام الناس؟
ضحكت، كأن الفكرة لا يجب أن يُفكر بها حتى: طبعا لا. مافي أحد ثاني بوريه غيرك..
سحبها إليه، محكما قبضته على خصرها، لا يفصل بين وجههما سوى الأنفاس: حذاري يا طيف، الواحد يمكن يفهمك غلط، يظن إنك تبغين تطولين عندي..
رفعت حاجبها، ولمع التحدي في ذهبها: واللي يشوف نظراتك اللحين بيفهم غلط بعد، بيظن إنك تبغاني أطول عندك..
هذا التحدي، هذه الثقة، كسرت آخر قيوده. شدها يقربها منه أكثر، ليرن هاتفه بكل حقد الدنيا قبل أن ينال مراده.
ابتعد عنها ليجيب، ليأتيه صوت سيكرتيره الآلي: الطائرة على وصول أستاذ مالك..
"بسوي منك ذبيحة يا حمد..!"
رد عليه بنفس الآلية: مشكور..
سمع طيف تتنهد وراءه، ربما غير مدركة أنه سمعها: إيه والله، فيه أشياء عمرها ما تتغير..
:
لم تمض ساعة منذ ذهاب مالك إلا وسمعت طيف طرقا على باب الجناح، فتحته بعد تبديل ملابسها وفوجئت من الزائر، جدة مالك، ملامحها ممتعضة كما هي عادتها معها.
دعتها إلى الدخول، لتختار الجدة الجلوس حول كاونتر المطبخ التحضيري.
سألتها: وش تحبي تشربي؟
ظلت صامتة للحظات ثم أجابت: قهوة.
قضيا الوقت مابين إعدادها للقهوة وإعطائها لها بصمت، لتمتعض ملامحها بعدم رضا مما أعدته لها: ذوقي مهوب مثل ذوق مالك.. حالي وقليل نكهة..
لم يغضبها ردة فعلها: وش اللي تحبينه طيب؟
لم تجبها، فقط نهضت من مكانها وغادرت.
:
حكت لمالك عن زيارة جدته لها عندما تأكدت من طيب أحواله، ليستغرب: عجيبة الدنيا الثامنة.
حقا كان غريبا أمرها. حتى حفيدها لم يفدها بسبب زيارتها تلك.
في اليوم التالي زارتها بنفس الوقت، طلبت منها نفس الطلب، وانتقدته نفس الانتقاد.
في اليوم الثالث حصل تغيير. انتقدت قهوتها نعم، لكنها أنهت فنجانها كاملا.
في اليوم الرابع، فقط قالت: أحسن من أمس..
في اليوم الخامس، أنهت فنجانها دون أي كلمة، وطلبت منها صب فنجان آخر.
سألتها ذلك اليوم: وش رأيك في الجناح؟
أبدت طيف رأيها بصراحة: حلو، عجبني. مالك قال إنك إنتي نقيتي فالأغراض.. عندك ذوق جميل.
أتلك ابتسامة رضا مكبوتة تراها؟: قالك هدفي من تأثيث جناحه؟
أومأت لها بنعم، لتبتسم بتلميح: وأظنك حققتيه صح؟
استنكرت: ماكان هدفي إنه يتزوج وحدة مثلك!
لم تلق لاستنكارها ولا كلماتها بالا: بس كان هدفك إنه يتزوج ويستقر ويبقى تحت عينك..
سألتها بنظرة تعجب: ليش إنتي كذا؟
أمالت طيف رأسها باستفهام: كيف.. كذا؟
أجابتها الجدة بصراحة: باردة وما تزعلي من كلامي اللي أرميه عليك في الروحة والجية..
ابتسمت طيف لها: يعني تعترفي إن كلامك شين..
حركت الجدة يدها بحدة ربما كانت من انحراج، تخبرها بأن تسرع في الإجابة. أجابت عليها بنفس صراحة سؤالها: أيام فراقي عن مالك، كنت شايلة هم كيف عايلتكم بتتقبله. كان خوفي إنكم بترفضوه حتى لو جده بغاه.. لكن اللي أشوفه اللحين منكم طمني. مقدر أزعل منك وإنت بس تبغين مصلحته./ رأت ملامح الجدة تنشرح بتفاجؤ مسرور، لتردف بخبث: وصراحة، رفع ضغطك صار شي زي الهواية..
ضيقت الجدة عيونها: يعني تعترفي إنك كنتي متقصدة رفع ضغطي..
قربت طيف إليها فنجانها: خذي قهوتك لا تبرد..
:
كرر مالك سؤاله: وش تقصدين إنتي وجدتي وصلتوا لتفاهم..؟ كيف صارت هذي؟ قوليلي كل التفاصيل.
مقارنة بالماضي، فإن المكالمات المتبادلة بينها وبين مالك في الحاضر أصبحت أكثر عفوية، أكثر أريحية وطولا. أصبحت لا تتردد بالاتصال عليه، تتكلم معه بالحدود الذي يسمح له جدوله المزدحم.
خالط صوته التذمر المرح: فيه أحد يذاكر قبل لا يبدأ؟
أقفلت كتابها بطيب خاطر: لازم أبني معلوماتي اللي تبخرت مع شغلي./ أردفت: ومو كأنك تعطيني فرصة أقرا لي فيها.
استنكر: وش تبغين قراية أكثر من كذا؟ من زين المادة بعد. والله ما غثني في الثانوي إلا كيمياء.
ابتسمت: كأني أشم ريحة غيرة..
ليرد: وعقلك كله مع أحماض الأمين؟ إيه أغار.
كانت تقصد غيرة من إلمامها بتخصصها، لا غيرة من الانتباه الذي كانت تعطيه له. كثرت زلاته هذه الأيام، وأصبحت شيئا فشيئا تستطيع رؤية صورة مبهمة: لاتخاف، مافي شي مشغل بالي أكثر منك..
:
أكان يتوهم أم كلامها أصبح أكثر حلوا في سفره هذا؟ أتريده أن يشتاق أكثر مما هو مشتاق؟
لحسن حظه، فسفره هذا كان على انتهاء. المهمة التي كان عليه تحقيقها اكتملت والآن هو في جدة، يزور خالته ويتفقد أحوالها.. ويقطع الشك باليقين بخصوص خطبتها، فناصر حتى وإن لم يزعجه بالسؤال، كان واضحا عليه انتظاره الأحر من الجمر.
"موب سهلة أبدا خالتي.. خلت ناصر النجم منهلك على قبولها."
نظرت إليه خالته بتعب عندما فتحت الباب له ليلة زيارته: إنت ما تعرف تجي بساعة صاحية؟
مثل التحلطم، مقفلا للباب وراءه: تقولين لي كذا وأنا ذبحني الشوق لك؟
ابتسمت له بسخرية: موب أنا اللي ذبحك الشوق لها. إرجع للرياض بدل ما تتمنظرلي هنا.
حسنا، غلبته هذه المرة. ما بال طيف أصبحت نقطة ضعفه؟
أشرت له بأن يستريح بينما هي توجهت إلى غرفتها: بتكلم معاك في الصبح زي كل الخلق..
وحقا، كان لقاءهم الفعلي في الصباح. لأول مرة قابل خاله مازن، ذلك الخال الذي سمع عنه فقط في حكايا أمه. سره وبشدة وصل فرد آخر من عائلة أمه، بأن يتعرف على جانب جديد منها. لكن.. شيء ما أثار استغرابه وفضوله في ذلك اللقاء.
عندما خرج خاله مازن مع أولاده الثلاثة، سأل مالك خالته: هو أنا اللي متخيل كذا، ولا ولد خالي الكبير فهد كان كاره وجودي؟
تجنبت خالته النظر إليه، مشغلة نفسها بغسل الصحون: مدري عنه..
عرف الآن أن هناك خطب ما: هذي أول مرة أتقابل معه، وشمعنى؟
أخيرا تنهدت خالته، لتلتفت إليه: ما يكرهك لشخصك، بس..
استحثها على الكلام: بس..؟
لتكمل: هو خطب طيف..
لم..
لم يستوعب. سأل بهدوء بارد متجمد، طبقة هشة فوق حمم لاهبة: إيش؟
فسرت له على عجل: ما كان يدري إنها متزوجة، كثيرين غلطوا الغلطة ذي.
بدلا من إخماد النار، لم تفلح خالته إلا في إشعالها أكثر: كثيرين؟ ليه، هو كم واحد خطبها؟
أدركت خالته عندها غلطتها، لتسأله بدورها: أقولك الإجابة اللي تبغى تسمعها، ولا الحقيقة؟
رد: أبغاكي تكوني بمنتهى الشفافية معاي.
بوجوم أجابته أخيرا: عشرة مع فهد..
مضت لحظة صمت بينهما.
كرر: عشرة؟
لتكرر هي: عشرة..
ربما كانت هذه طبيعة لم يظهرها غالبا، لكنه غيور، غيور وبشدة. فكرة أن عشرة رجال فكروا باسم طيف فقط تحرقه، فما بال من فكروا بها كزوجة؟
لاحظت خالته تعبيره القاتم لتقول: ترى فهد لساته ولد خالك، لا تذبحه..
كأنه لم يسمعها: وله وجه عين يناظرني كذا! مفروض أنا أشرب من دمه مو هو!
تنهدت خالته بقلة حيلة: على باله إنك واحد ظالم معلق طيف عالفاضي.. ما يدري عن حقيقة وضعكم.
يريد أن يضحك حتى يتقيأ كل الدم المغلي في جوفه: وما شاء الله، يظن إنه بيصير بطلها اللي بينقذها من ظلم أسري.. حلم إبليس في الجنة!
أكبر غلطة ارتكبها هو مشيه شبرا واحدا خارج البيت الذي جمعه بطيف. سحقا سيموت من غضبه!
راقبته خالته الآن بتسلية: إذا بتستخف كذا روح لها أحسنلك./ استطردت وهي تعود إلى غسل الصحون: إيه، ترى تكلمت مع مازن ينشد عن ناصر النجم وما لقى شي عليه.. قوله إني موافقة..
هذا فقط ما جعله يخرج من عتمة أفكاره السوداوية للحظة: من جد؟
أكدت له: إيه من جد..
[انتهى البارت...]
|