[14]
إذا بقي شيء على حاله، فإن ذلك الشيء سيكون عادة مالك في إغراق نفسه في العمل.
طيلة ليلة الأمس كانت تسمع للمكالمات والاجراءات التي كان يقوم بها من مكتبه. تفقدت حاله بين الفينة والأخرى، مزودة له بالقهوة التي بدا عليه الحاجة لها، وحينما زاد الأمر عن حده ورأته يقاوم النوم، أصرت عليه إنهاء عمله وأخذ قسط من الراحة، ليماطلها بابتسامة و "بس مكالمة أخيرة". في النهاية وجدت نفسها تغفو على الأريكة، لكنها استيقظت على السرير عند الفجر، لتراه قد ذهب للمسجد.
نامت بعد صلاتها واستيقظت عند الثامنة صباحا، لترى مالك قد عاد إلى مكتبه بدلا من غرفة النوم، غاط في نوم غير مريح بين أوراق ومستندات. اشتبهت أنها لم تكن المرة الأولى التي نام فيها في مكتبه، وأنه قد فعلها مرات عديدة قبيل مجيئها.
عاهدت نفسها بألا يكون لمثل هذه الحادثة تكرار.
تقدمت إليه توقظه: مالك.. مالك قم نام في السرير..
لا تجاوب. دل ذلك على مدى إرهاقه، فهو كان خفيف النوم عادة.
اقتربت أكثر، تهز كتفه بخفة وتهمس في أذنه بنبرة رجاء: يلا يا قلبي اصحى، ما ينفعلك النوم هنا..
فقط عندها تحرك ليجلس باستقامة، يرمش النعاس من عيونه، ينظر لها بغير استعياب دائخ. همس لنفسه عندها بسخرية: أكيد بحلم..
سألته: تحلم بإيش؟/ نظر إليها مرة أخرى بتأكد لتتسع عيونه بصدمة. ما باله يتصرف بغرابة؟ أكل ذلك من إرهاقه؟ أحاطت وجهه بين كفيها، وبصرامة حانية قالت: ما بتروح الشغل اليوم..
أومأ لها بقبول لكنها لم تكتفي بذلك، فأمسكت يده تقوده إلى غرفة النوم. لحسن حظها، فهو قد تبعها دون اعتراض.
بدا عليه التحسن عندما استيقظ وصلى الظهر. سألها، بما أنها أجبرته على أخذ يوم إجازة، إين تريد الذهاب، أصر عليها متجاهلا لتحايلاتها ومماطلاتها دون استسلام إلى أن أجابت المكتبة، فهي كانت تنوي شراء كتب للتحضير لكورسات الماجيستير في تخصصها.
:
طلبت منه المرور بصراف قبل المكتبة، لتستغرب من المبلغ المالي الهائل الموضوع في حسابها.. كان يوجد في حسابها ألف آخر مرة تفقدته فيه، لكن الآن يوجد مضاعفاته بالمئات..
لم يكن هناك إلا مشتبه به واحد..
رفع مالك حاجبه، مستغرب: توك تشوفين..؟
لم يحاول الإنكار حتى: ماعلينا من ذا، وش معنى هالمبلغ اللي في حسابي؟
أجابها بكل بساطة: مهرك مؤخرا.
استنكرت: مهري؟/ لتردف، تستنطقه للمرة الثانية: وش محل هذا المهر من الإعراب في وضعنا؟
أرادته أن يقول أن هذا المهر لم يكن جزءا من صفقتهما، أنه كان بادرة حقيقية منه لبداية جديدة..
لكنه نطق بدلا من ذلك: تعويض عن الماضي..
سألته سؤالا بدر إلى ذهنها من لحظة لقائهما: وش هدفك يامالك؟
ربما كان هذا أقصى ما تصله من الشفافية و كشف الروح. تمنت أن يقابلها بالمثل.
ابتسم ابتسامة مائلة لم يصل ألقها إلى عيونه، مبقيا نظره على الطريق بدلا عنها: عجيب.. كيف إنتي تسألين هذا السؤال بالذات..
لم يعقب كلامه ذاك بشيء، فقد وصلا إلى وجهتهما.
:
أمضيا الوقت في المكتبة بصمت، ليعودا إلى السيارة إلى ذات الصمت.. إلى أن توقف مالك أمام ما بدا كأنه مطعم: خلينا نتعشى قبل لا نرجع..
أبهرها
ديكور المطعم الراقي. لم تتخيل أنها ستدخل هكذا مكان في الماضي. قادها مالك إلى طاولة معزولة محجوبة عن الناس وطلب طلبه، وعندما سألها عما تريد، أخبرته أنها لم تكن مشتهية لطعام.
كانت سارحة، غارقة في أفكارها لدرجة أنها لم تلاحظ وصول طلب مالك. فقط لاحظته عندما رفع مالك شوكته لها بلقمة من صحنه: كلي..
انحرجت تنظر يمنة ويسرة عن جرسون يقترب ويرى هذا المشهد: قلتلك مانيب مشتهية..
لم يخفض مالك شوكته ولا بدرجة: كلي وإلا بظل كذا.
أخيرا، فعلت ما أراده، ليأكل هو قسطا ثم يعود إلى تقديم قسط لها. إصراره العنيد أودى بهما إلى تقاسم طلبه.
يحيرها مالك قلبها هذا، بين اهتمامه وغموض كلماته.
حسنا، لن تستسلم، ستظل تحاول به إلى أن تسحب منه الكلمات التي تريد.
:
لم يرجع بهما إلى البيت.. هناك محطة يريد التوقف عليها قبل ذلك..
فقط عندما توغلا أكثر في أحد الأحياء لاحظت طيف أن ضواحيها كانت مألوفة جدا بالنسبة إليها: هذا..؟
أجابها دون الحاجة إلى سماع بقية سؤالها: إيه..
أوقفهما أمام بيت تعرفه طيف تمام المعرفة. سألته بصوت أدماه الشجن: ليش جبتني هنا؟ ما عاد هذا بيتي خلاص..
ليسألها بدوره وهو يخرج مفاتيحه من جيبه، يفتح به باب البيت المتماسك رغم قدمه: مين قال؟
حتى مغطاة، يعرف أن ملامحها اعتراها الاستغراب المذهول: كيف..؟
ببساطة: اشتريته.
فعلها لحظة رجوعه إلى الرياض من الخارج. لم يستسغ أبدا فكرة أن يكون هذا البيت لأناس آخرين، وحتى إن لم يجد طيف ويرجعه إليها، سيحفظه لها ولذكراها: بحول الملكية لك بأقرب فرصة إن شاء الله..
سمع صوتها يتهدج بشهقات مكتومة، تخطو ببطء داخل بيتها القديم بعدم تصديق: ما تدري كيف كنت شايلة فقلبي فقد هذا البيت، نار تحترق فصدري.. آخر أثر من أبوي وفقدته لحاجة.. كنت أجمع بجزء من راتبي عشان أرجعه، بس الناس اللي اشتروه كانوا يزيدون في سعره كل سنة..
يذكر خبث الشارين وحيلهم، لكنهم لم يصمدوا أمام المبلغ الذي عرضه عليهم. باعوا البيت بلهفة جشعة، غير مكترثين بمآربه الخاصة..: هذا هو رجع لك..
ضحكت بخفوت مع شهقاتها: تصدق..؟ ماكنت تحتاج تعطيني مهر، سواتك ذي تكفي وزود..
ابتسم بدفء حزين وهو يراها تكشف وجهها المحمر الملطخ بالدموع، يرافقها في مشيها أرجاء البيت، تتحسس جدرانه كأنها تتزود من ذكريات..
همست بأنين عندما وصلت إلى الركن الذي كان يفضله والدها لقراءة أّذكاره وورده..: لسى صوته عالق في بالي..
يذكر حسرته على عدم تواجده لحضور جنازة ذلك الرجل الطيب، يذكر أن أول ما فعله بعد رجوعه هو زيارة قبره: الله يرحمه..
ظل ماشيا جنبها، مثبتا لها بذراعه وهي تكمل مسيرتها، إلى أن وصلت إلى الملحق. أخيرا ظهر شيء من المرح في صوتها: يضحك منظره مقارنة مع جناحك..
ليرد بابتسامة سخرية على حاله: وش رأيك لو قلتلك إني أفضله على جناحي..؟
سألته: من أي ناحية؟
أجابها: الذكريات اللي فيه..
تساءلت بهمس سمعه: مع نفس الأشخاص، يمكن تتشكل ذكريات أحلى فمكان مختلف..؟
في ذهنه، أجابها..
"وإنتي معاي؟ إيه.."
:
ليلتها احتضنته في يقظتها، أحس ببلل دموعها على قميصه، وسمعها تهمس: عمري ما بنساها لك.. مشكور يا مالك، مشكور..
همس بدوره وهو يمسح على شعرها، يهدئها إلى أن غفت: يا سخفك، ما في ديون بين زوجين..
عرف من تلك اللحظة أنه لن يستطيع الاستمرار بخطته بعد ذلك، عرف أنها خطة فاشلة بكل جدارة.
أيعقل أن الشوق يضنيه وطيف أمامه، أن الحنين يدميه وهي أول ما تراه عيناه حين استيقاظه، أن التوق يحرقه بزخم جامح وهي على بعد لمسة ونفس؟
تعجب أنه لم يجن بعد من كثرة ما كبت..
كان هدفه في البداية أن تقوم هي بالبادرة، أن تتخطى حاجز الطريقة التي تم بها زواجهما، ذلك الشعور بالذنب الذي جعلها تنطق بالإذن في طلاقها..
لكنه قليل الصبر فيها، وسيعاملها من الآن كما يهواه قلبه، كما تستحق هي..
سيقوم هو بالبادرة.
:
سمعت صوت مالك وراءها وهي تعد القهوة، يعلق على كتبها التي اشترتها: وش ذي الطلاسم؟/ أردف يسألها: حبيبتي، من جدك تقدرين تفهميها؟
كادت القهوة الساخنة تصب عليها إذا لم تتجنبها في آخر لحظة. هرع مالك إلى جانبها قلقا يتفقدها من أي حروق، بينما هي ظلت غائبة عن العالم للحظة، تعتريها الحمرة.
جرها ليبتعدا من المطبخ التحضيري، ليجلسها على أول كرسي في طريقه: خلاص خلينا من القهوة اليوم..
فقط هذا ما أفاقها لتعترض واقفة: ليه؟ مافيني إلا العافية.
ضيق عيونه بشك: واضح إنه فيه شي مشغل بالك. ما راح أخاطر تحرقي نفسك عشان قهوة أقدر أصبر عنها.
أصرت بصدق: بالي موب مشغول بس..
استحثها: بس؟
نظرت إليه بحزم: لا تقول كلام زي كذا لي..
لم يكن مالك من النوع الذي ينطلق لسانه بالمسميات الغزلية، ويالحسن حظها في ذلك، فقد تبين أن كلمة "حبيبتي" منه فقط عاثت في قلبها عواصف هوجاء.
استغرب: أي كلام؟
ردت تمثل عدم التأثر: حبيبتي ومدري إيش..
كرر، ربما ليستوعب: معترضة إني أقولك حبيبتي..؟
لم تنظر إليه عندما أجابت بخفوت، محمرة إلى أذنيها: إيه..
ضحك بخفة، لتراه يبتسم بتسلية خبيثة عندما رفعت نظرها إليه: والله هذا لساني وأقول اللي إبغى.. يعني حلال عليك تقوليلي حبيبي وقلبي، وحرام علي أسوي المثل..؟
أسمعها تلك المرة؟
لم تدرك أنها كانت تتراجع إلى أن تلاقى ظهرها مع الجدار. حبسها مالك بجسده، يلعب بخصلات شعرها المنفلتة من ربطتها. همس بعمق حار: العين بالعين والسن والسن والبادئ أظلم يا طيف./ أردف وابتسامته تزداد بخبث.. مثير: بقولك حبيبتي، بقولك قلبي، بقولك روحي وعيوني وأنفاسي لين ما أشبع..
نظر نظرة خاطفة إلى شفتيها قبل أن يقول: إلا لو خليتيني أسكت..
كانت طيف في حالة يرثى لها أمام هذا الهجوم الكاسح، بقلبها المتسارع نبضا إلى درجة خطيرة، أنفاسها التي لا تستطيع إيجادها، وذهنها الذي اجتاحه هذا الغازي..
ربما كانت ستفعلها حقا، ربما كانت ستسكت ذاك اللسان المدمر لكل دفاعاتها، لكنه ابتعد عنها، يتكلم بحرقة وقهر: خسارة إني لازم أروح الشغل اليوم..
تطلب منها لحظات طوال لتمالك نفسها، حتى تتذكر أنه كان ذاهبا. قالت بصوت مخنوق، ماسحة ظهر عنقها الملتهب حرارة، تفكر بتهوئة وجهها على خفاء..: إيه، صح.. بحفظ الرحمن..
[انتهى البارت...]