كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: عكس الرحيل
[13]
ربما لاحظ مالك قلة النشاطات التي يمكن الانخراط بها في جناحه، فهو قد أرشدها إلى مكتبه أو بالأحرى، مكتبته، لتشغل نفسها كلما شعرت بالضجر.
فغرت فاهها بانبهار لرؤية المجموعة المعتبرة من الكتب المصفوفة بترتيب. تتخيل أنها بكل سهولة تستطيع قضاء ساعات طوال في هذا المكان دون الملل للحظة.
كان كنزا، هذا المكتب.
سألته بتأكد: عادي أتعبث فمكتبك؟
ترددت في أخذ راحتها في الحال، فربما يوجد هنا ملفات مهمة خاصة بالعمل لا يجب الاقتراب منها.
لكن مالك أجابها بابتسامة دون تشرط قبل أن يتركها: المكتب وصاحبه حلالك..
ما ألبق لسانه. لوحدها الآن، تساءلت إذا كان يمتلك هذا اللسان الفضي مع الآخرين أيضا. على الأرجح، فأي رجل أعمال ذو قيمة يجب أن يعرف للذوق.
لكن.. كم كانت تمقت فكرة أن تكون شخصا آخرا يتلقى كلام مالك اللبق، المعسول أحيانا.
لوهلة ليلة الأمس.. كادت تفضح نفسها، رامية آخر دفاعاتها عرض الحائط، ناسية غايتها، أن تجعله يقر برغبته في بقاءها عنده.
هو لم يكن خيارها كزوج، وهي بالتأكيد لم تكن خياره كزوجة. لكن، بينما هي تخطت ذاك الحاجز وأصبحت ممتنة لجمع القدر بينهما، لم تكن واثقة من الأمور ناحيته، صحيح أنه قد سامح خالته، لكنه في المقابل قد اقترح تمثيلية مؤقتة بينهما. موقنة هي أنه كان يهدف لشيء، لكن ما هو؟
يالله، يالحالها المزري! أمامها كتب من شتى الألوان وتخوض في تأملات نفسية.
مهما حاولت القراءة، وجدت أفكارها تعود إلى ذاك الطريق، إلى أن استسلمت وعادت إلى غرفة النوم.
نهاية الليلة، سمعته يدخل الجناح ثم الغرفة. كانت مستلقية تعطيه ظهرها، لكنه تكلم مخاطبا لها: أدري إنك صاحية..
استغربت لتسأل: وليه واثق كذا؟
رد:ما عمرك نمتي بوضعيتك هذي./ استطرد: وكمان.. أتذكر وحدة قالتلي إنه صعب عليها تنام وأنا غايب.
ظلت صامتة إلى أن أحسته قد استلقى جانبها: خلاص.. الوحدة ذيك تعلمت تنام لحالها.
لم تدري إلا وهو يحتضنها من الخلف، شادا إحكامه على خصرها، هامسا في أذنها: وأنا مرة ثانية بعلمك كيف ما تنامي بغيابي..
تهدج نفسها، وصوتها بدا خافتا بعيدا عن المرارة التي كان من المفترض أن تحس بها. سألته تستحثه، تستدرجه: إذا هذا ترتيب مؤقت، مو أحسن ننسى بعض؟
أحست بحرارة أنفاسه جانب رقبتها: وش أسوي؟ فيني أنانية..
"أناني.. متعب.. ومؤذي.."
لا يدرك، أليس كذلك؟ لا يدرك أنها لا تحتاج إلى التذكير. حقا تعرف ما تفتقده جانبها.
سيقتلها، هذا الكبت، هذا الحال الذي يجب ألا يدوم. ستجن من أفكارها هذه، من ذاك البعد والقرب المربك.
هي لم تأتي لخوض حرب خاسرة.
:
رأت فرصتها في تغيير السيناريو الحالي في الصباح قبيل ذهاب مالك إلى مقر عمله. مشت معه إلى باب الجناح، لتعطيه لائحة مقاضي: مطبخك فاضي..
ابتسم وهو يقرأ اللائحة: يالله! من زمان عن ذا.
ربما كان يجب عليها طلب مقاضيها من الخدم الكثرى الموجودين في هذا البيت، لكنها لم تستسغ الفكرة، لم تكن متعودة.. لم يبد أن مالك مانع هذا، بل بدا مسرورا إلى حد فاجأها: بشوف اللي أقدر أجيبه..
مالت نحوه لتطبع قبلة على خده، هامسة: في حفظ الرحمن..
لاحظت عندها جدة مالك المتسمرة في مكانها من الصدمة، تتراجع مبتعدة عن هذا المشهد، ليلاحظها مالك بدوره.
همت طيف بالابتعاد خطوة، لكن مالك منعها من ذلك، يسألها بعمق اكتسى صوته: هذا تمثيل؟
ابتسمت طيف بغموض: فكر اللي تحبه..
كم أرضاها رؤية الضياع في عيونه.
:
من بين كل إخوة أبيه، كانت شيخة الوحيدة التي عرفت سيرة زوجة مالك مسبقا، قبل سنة بالضبط من إعلان الأمر على جميع أفراد العائلة. لا عجب، فهي كانت الأقرب إليه، وعلاقتهما كانت عفوية بدلا من الرسمية التي شابت علاقته مع عميه.
تذكر أنه كان بسبب شكوى مالك من تلميحات العائلة له بالزواج، لا يسلم من عم ولا زوجة عم، وحتى جدته كانت مشاركة مخضرمة في ذلك الموضوع: طيب أنا متزوج وراضي بوضعي..
لتصعق حينها: متزوج..؟!
لم يذكر الكثير عن زوجته طيف، فقط بضعة تفاصيل متفرقة مبهمة جعلتها تتساءل ما أبقى ذكراها في بال ابن أخيها، ليجعله صادا تماما عن الارتباط بأخرى.
لا تنكر، أقلقها اعترافه، فعلى حسب كلامه، كان صغيرا بالسن عندما تزوجها، وربما مسيرا بطيش الشباب. ربما تلك الطيف لم تكن بالمستحقة لوفائه، ربما تزوجته على طمع، ربما ستكسر قلبه إذا أتى يوم ووجدها.
لكن، لم تفصح عما بدر لذهنها، وتركته لوحده لإحساسها بأن كثرة التدخل ستؤدي إلى نفوره. كم شابه أباه في تلك الناحية.
لم تمض سنة إلا وقد أصبح أمر زواجه بطيف معروفا، مُقابل بسخط غامر مكتوم من قبل الكل عداها، فالفضول كان ما أعمى بصيرتها عن أي إحساس آخر.
لم تصبر إلا وقد زارت بيت أبويها صباح وصول مالك وزوجته إلى الرياض. لتعرف الإجابة عن كل أسئلتها.
الفرح العارم البادي في عيون ابن أخيها جعلها تتقبل تلك الزوجة قبل أن تراها، فذلك العمق في العاطفة لم تعهده أبدا في مالك.
حينها أتت ساعة اللقاء، ووجدت شابة غاية في الجمال في الجانب الآخر. إذا كان الأمر يقاس بالجمال فقط، فلا يلام ابن أخيها في صده عن الكل غيرها.
لكن.. هناك جوانب أخرى لهذه الشابة، أليس كذلك؟
في رحلة التسوق التي كلفهما بها مالك، لمحت الكثير عن طيف، وما لمحته داوى قلقها على ابن أخيها، جعلها تدرك مدى ولع مالك المضحك المبرر بها.
حازت على موافقتها دون أي جهد يذكر.
:
لم يتطلب الأمر الكثير لتعرف طيف أن بيت جاسر كان مركز اجتماعات العائلة الرئيسي. منذ الصباح الحركة لم تتوقف أرجاء البيت، وحتى الليل ما زال أفراد العائلة يتسامرون.
لم تحب طيف قط جمعات النساء، لم تجد سهرات الكلام والحكايا شيئا تنخرط فيه. ولكونها الزوجة التي ظهرت من العدم، فإن كل الأنظار كانت موجهة إليها، متفحصة لها من الفستان الفوشي الأنيق الذي اشترته مع العمة شيخة، إلى تسريحة شعرها الملفوفة البسيطة، إلى زينة وجهها المعدومة عدا عن الكحل الذي يرافقها على الدوام، وروج وردي جريء.
خفف عنها جلوس العمة شيخة جانبها، معرفة بها بكل من التقت بأعينهن: هذول اللي لابسين كأنهم مطقمات زوجات أخوي سالم، مزنة وسوسن.
رأت طيف امرأتان لابستان لفساتين متطابقة في كل التفاصيل إلا اللون، ولم يبدُ عليهما الرضا عن ذلك.
أكملت تشير إلى إمرأة حامل، و أخرى تخاطبها بحماس: الحامل نورة، زوجة أخوي عبدالله ومعاها مرام، زوجة ولدي زياد.
أشارت عندها إلى شابات أنيقات جالسات في زاوية منزوية بعض الشيء عن باقي النسوة: اللي تبلع في الحلا بنتي الجازي، مخطوبة وما يبين الله يصلحها. الهاجدات جنبها بنات مزنة، نور ونوال. اللي تطقطق في الجوال جنبهم وفي عالم ثاني صديقتهم سعاد، خطيبة ولدي هادي. زواجهم بيكون بعد العيد.
استوقفتها حينها طيف لتهنئها: مبروك..
لترد وكأن العبرة تخنقها: الله يبارك فيك.. آآخ بس، البيت بيصير موحش وكل بزراني في بيوت ثانية. كان مفروض أخليهم كلهم تحت نظر عيني..
ضحكت طيف برقة: مين يدري، يمكن أحسنلهم البيوت المتفرقة..
بدت العمة شيخة كأنها تفكر مليا في الأمر قبل أن تقول: تدرين.. معك حق.. مرام خلقة ما تحب سعاد والعكس صحيح. كل مرة يجتمعوا في مكان واحد تصير كارثة.
قطبت طيف حاجبيها: لسى ما صارت كارثة إلا اللحين..
لتجيبها بوجوم: أعطيهم وقت..
وحقا، لم تمضي نصف ساعة إلا والشابتان تتبادلان الكلام اللاذع، إلى أن قاطعتهما الجدة بحدة أخرستهما.
بقيت طيف بعيدة بعدا تاما عن الدراما الحاصلة حولها، لكنها أحست بالنظرات المزدرية الموجهة إليها.
سألت العمة شيخة: ليش أحس إن الكل يستنى مني الزلة؟
ابتسمت لها، محاولة التخفيف عنها: مو لشخصك، عشان المكانة اللي أخذتيها.
استفسرت: المكانة اللي أخذتها؟
لتشرح: زي ما تعرفين، زياد كان قريب من قلب أبوي، وبما إن مالك ولده، فمعزته من معزة أبوه. وعشان يتقربوا منه، الناس بدت تتكلم عن عرايس عندها، خصوصا زوجات سالم، سالفتهم سالفة./ أشارت إليها لتستطرد: بالنسبة لهم إنتي وحدة دخيلة جاية تخربي خططهم.
شعرت بالغيظ، بالغضب الغيور الكاسح. ثمان سنين والناس تعرض العرائس لزوجها ليختار من شاء.
تركت العمة شيخة جانبها لاستدعاء الجدة لها، لتخرج طيف هاتفها وترسل إلى مالك دون أخذ ثانية لتتمهل وتفكر.
#ما شاء الله، توي أدري إن الكل يبغى يزوجك من عنده.
لم تمض دقيقة إلا وقد رد عليها.
#لقطة أنا مو؟
لم تستطع منع نفسها من الابتسام حتى مع غيظها، فثقته كانت مضحكة.
#مدري، يمكن سعرك في السوق انخفض بوضعك معاي.
رده كان لحظيا كالأول.
#لا تخافي، أنا ماركة خام بجودة عالية.
سألته عندها.
#معناته استثمرت زين، صح؟
ليسألها بدوره.
#بالمنتف والكحيان قبل سنين؟
قطبت حاجبيها بعدم رضا من كلامه، فهي لم تره إلا بصورة واحدة في قلبها.
#الكحيان والمنتف، والهامور.. كلهم إنت. زي ما قلت، ماركة خام بجودة عالية في كل الحالات..
انتظرت رده لوهلة، وحينما مرت عدة دقائق ولم يرد، استسلمت، ليرن الجوال معلنا عن اتصاله بها. وقفت لتمشي بعيدا عن الجموع، ملاحظة لتتبع الجدة لها.
ردت عندها على اتصاله، تضرب عصفورين بحجر واحد: هلا حبيبي..
:
ابتسم له ولد عمته زياد بود وكلام مبطن، ليشغله عن مراسلة طيف للحظة: أشوف وجهك منور هذي الأيام..
"حتى الأخ الغافل هنا لاحظ.. عز الله إني فضيحة." لم ينكر: هذا اللي تشوفه؟
ليضحك الآخر: إيه والله! ما تخيلتك إنت من بين كل الناس بتستريح بالزواج.
قطعت عليهما صغيرة زياد نغم ذات السنتين، تتسلق ظهره وتتعلق برأسه: نفسي أعرف مين اللي دخل فكرة إني شجرة فعقل بنتك؟
حاول زياد فكه منها لتتشبث به أكثر: والله من كثرة الكرتونات اللي تشوفها.. عيب يا بابا، إنزلي من ظهر عمك!
منعه مالك من المحاولة أكثر: خليها على كيفها. هذا موال الأميرة نغم وحنا رعياها..
أخيرا استسلم زياد ليقول بتحذير: والله راحوا فيها عيالك، بتدلعهم دلع..
ليرد: عيالي وكيفي، بدلعهم لين يفطسوا.
أطفال؟ أطفال من طيف؟
كم أعجبته تلك الفكرة..
أتى عمه عبدالله بقطع حلوى، ليفك أسره من قبضة نغم الصغيرة. عندها فقط رأى مالك جواله ينبض برسالة غير مقروءة، ليفتحها ويبتسم بحب صاف لقراءة كلماتها.
#الكحيان والمنتف، والهامور.. كلهم إنت. زي ما قلت، ماركة خام بجودة عالية في كل الحالات..
نهض لقسم معزول من مجلس الرجال واتصل بها، يريد وبشوق سماع صوتها، ليخطف ردها، صوتها الذي خالطه الغنج لأول مرة، أنفاسه: هلا حبيبي..
أتريد الفتك به؟ أتريد نهايته على يدها؟
لم يستطع الرد للحظات بدت كقرون، ليسمع تحلطما مألوفا.. صوت جدته.
أخيرا رد بخيبة أمل يخفيها بنبرة مرح: قاعدة ترفعين ضغط جدتي؟
ضحكت، ليدرك أن جدته تركتها: مرة سهل إن الواحد يرفع ضغطها الله يحفظها لك..
"هو أنا ناقص ضحكتها اللي تدوخني..؟"
أتاه اتصال من جوال العمل ليعتذر منها. يا لحظه أليس كذلك؟ لو لم يتصل به سيكرتيره يخبره عن مناقصة مغلوطة، كان سيأمر طيف بالرجوع إلى الجناح، كان سيريها ما فعلت كلمتها الثقيلة به..
رجع متأخرا إلى الجناح مع إبلاغ سيكرتيره له أنه سيتصل به حالما يتأكد من تصحيح الخطأ. تنهد بضيق، يبدو أنه لن يرتاح الليلة..
ظن أنه سيكون أكثر توازنا عند لقياها. لكن هيهات وهو يراها تفك شعرها من تسريحته، تمشط طوله الفاتن.
حاول أن يكون حياديا بقوله: أشوفه لساته طويل..
ربما كان أطول حتى مما كان عليه في الماضي.
رفعت نظرها إليه خلال سطح المرآة العاكس، لترد: ماكنت أهتم بطوله أبد، وبصراحة، كنت ناوية أقصه مرات كثيرة..
لم يستطع منع نفسه من الإقتراب وتمرير أصابعه خلال شعرها، هذا الغسق الداكن الذي رافقه في هذيان أحلامه. سأل بصوت عميق مفتون: وليش ما قصيته؟
ابتسمت ابتسامة ذات معنى، يبرزها الروج الوردي لأقصى فتنتها: واحد قالي ما أقصه..
تساءل للحظة، فقط تساؤل بريء لحظي، ماذا لو قبلها بكل الشوق الذي يشعر به؟ ليقطع رنين هاتفه عليه قبل أن يُلحق تلك الفكرة بفعل.
خطا بعجلة إلى مكتبه، يخاطب سيكرتيره بحدة لا سبب ظاهري لها.
:
حتى خلال سماعة الجوال، السخرية كانت جلية في صوت خالته عندما سألت: أحوال الخطة؟ ماشية تمام؟
"كيف عرفت؟ كيف عرفت إن حالي مكسور ومجبس؟"
رد: الشماتة مهيب زينة يا خالتي..
تنهدت: زي ما توقعت..
ابتسم بخبث وهو يتذكر شيئا سيغير الموضوع بأكمله: إيه قبل لا انسى أقولك، فيه ناس طالبين قربنا..
كان العجب واضحا في صوت خالته: قربنا؟ كيف؟
كتم ضحكة كادت تفلت منه: يحليلك وإنتي مسوية فيها بريئة وماتفهمي. جاني خاطب لك يا خالتي العزيزة.
سألته بكل جدية: مالك إنت استخفيت؟ جاك شي من أفكارك الخايسة؟
ليجيب: والله أنا بألف صحة وعافية. بس نستنى شورك.. ياعروس..
ظهر السخط في صوتها: ما تستحي؟! لو كنت قدامي ماكنت راح تتجرأ تقول هالكلام بوجهي! تعال زورني بس..!
تكلم كأنه لم يستمع لوعيدها: عريسك توب توب من جميع النواحي. أخلاق وأسلوب وجاه./ أردف يكرر كلماتها في الماضي: الرجال واثق منه ومافي زيه..
أقفلت الخط في وجهه، لكن أين ستفلت منه.
صراحة، لم يتخيل فكرة زواج خالته مرة أخرى، وبالعم ناصر من بين كل الناس.. لكن، ما إن طُرحت الفكرة، وجدها تعجبه، تعجبه للغاية. لديه الاحساس التام بأن العم ناصر سيعوض عن خالته الكثير، طيب أخلاقه المعروف عنه، لهفته الواضحة التي مازال مالك يشعر بالفضول حيالها.. كلها دلائل تدعم احساسه ذاك..
[انتهى البارت...]
|