الفصل الأول
1- استراحة الهارب
شيء ما انتزع ((دورا )) فجأة من نومها العميق.لقد اخترق مسامعها صوت غريب ,متخللا أصوات الليل المألوفة في الريف .
كانت قد لجأت إلي الريف بحثا عن الراحة , لكنها بعد ضجيج لندن . وجدت الليلة الأولى التي أمضتها وحدها في كوخ ( ريتشارد ) و ( بوبي ) موحشة , رغم اعتياد أذنيها علي أصوات الريف المختلفة . وأدركت أن ما كانت تظنه في البداية سكونا تاما, ما هو في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الخافتة.
استلقت الآن في سكون تام, تستمع إلى مجموعة الأصوات الليلية المألوفة . خرير النهر الرقيق الذي لا يبعد عن بابها أكثر من مئة ياردة ,و انسياب مياه المطر من الميازيب ببطء ,والوقع الرتيب لقطرات المياه المتساقطة من الأشجار التي تتلقى انهمار المطر .
.
كان يخترق هذه الأصوات المائية صراخ بطة مذعورة من شيء ما.... أتراه ثعلب ؟ في المرة الأولى التي سمعت دورا فيها أصوات الليل الغامضة الغريبة, تجمد الدم في عروقها, لكنها الآن, بعد مرور أسبوع على وجودها في الكوخ و لم تعد تشعر بالجبن إلى هذا الحد.
نزلت من سريرها وأسرعت إلى النافذة, على أتم استعداد لقذف المقتحم بسبابها وما تصل إليه يدها.
لكن المنظر الذي تكشف أمام ناظريها , في تلك اللحظة , كان بروز القمر بين السحب , ليلقى الضوء علي حدبات البط النائم , و السكينة البالغة التي كانت تكسو ضفتي النهر .كان كل ذلك يدل علي عدم وجود أي مخلوق , و إن يكن ثعلبا .
وضعت مرفقيها لبرهة علي عتبة النافذة ,مسندة ذقنها علي راحتيها . ثم مالت إلى الأمام تستنشق هواء الليل المفعم بشذا أزهار العسل الجبلية الممتزج بشذا الورود . أخذت تختزن هذه الروائح التي كانت تمثل لها وطنها انكلترا , بعد ما واجهته من رعب يثير الغثيان في مخيمات اللاجئين.
و من بعيد , لمع البرق يتبعه هزيم الرعد المنخفض . ارتعشت (دورا ) وأغلقت النافذة وتناولت معطفها المنزلي الحريري , بعدما أدركت أنها لن تستطيع الخلود إلى النوم والرعد يقصف في الأجواء . قررت النزول إلى الطابق السفلي , حيث يمكنها أن تدير الموسيقى التي تغطي ذلك الضجيج . أما النوم فتستطيع العودة إليه في أي وقت تشاء .وهذه هي إحدى المزايا الكثيرة للوحدة , بما في ذلك رقم تليفون لا يعرفه سوى اقرب المقربين من الأسرة .
.
فتحت باب غرفة النوم وخرجت ... ستعد أولا كوب شاي وبعد ذلك ....
وإذا بها تسمع ذلك الصوت مرة أخرى , فأدركت إن الذي أيقظها لم يكن صوت رعد .
كان صوتا أشبه بالسعال...سعال خفيف لطفل صغير .... وكان قريبا كأنه آت من داخل الكوخ .
لكن ما هذه السخافة ! . فالكوخ يحتوي علي جهاز امن شامل كان صهرها قد ركبه بعد أن قام باحتلاله متشرد لفترة ما .ولن يتكرر ذلك مره أخرى مع أي لص عادي , كما أنها واثقة من أنها لم تنس أي نافذة مفتوحة . لكن , لعلها مخطئة !
مالت من فوق درابزين السلم متنصتة , فلم تلتقط أذناها سوى الهدوء التام .
أتراها تخيلت صوتا ما ؟ نزلت درجة .كان الكوخ يبعد عن اقرب طريق عام عدة أميال , وكان المطر يهطل بغزارة طوال المساء .ما من عاقل يخرج طفلا من بيته في هذا الوقت المتأخر , خاصة إذا كان الطفل مريضا . نظرت في ساعتها , لكن الظلام كان دامسا فتعذرت عليها الرؤية . لا بد أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير .
نزلت درجة أخرى. قد يكون الصوت صادرا من حيوان صغير فضاعفه سكون الليل العميق .ومع ذلك بقت مترددة في نزول السلم .
و إذا بهزيم الرعد يجلجل فترتد به العاصفة من فوق التلال . نسيت كل شيء وهبطت السلم بسرعة بالغة ولجأت إلى غرفة الجلوس .لكم ما إن مدت يدها إلى زر الإضاءة , حتى أدركت أن الرعد كان أخر مشاكلها . ارتدت يدها إلى فمها المنفغر من الذهول . انساب ضوء القمر من النافذة ليسكب الضوء علي طفلة صغيرة بان التعب علي وجهها الهزيل .
.
كانت واقفة في وسط غرفة الجلوس . وخيل إلى ( دورا) للحظة مخيفة أنها رأت شبحا . ثم سعلت الطفلة مره أخرى لم تكن (دورا )علي معرفة بهذه الأمور , لكنها كانت واثقة من أن الأشباح لا تسعل .
كانت الطفلة ترتجف تحت الدثار الرقيق الذي يلف جسدها , وكان شعرها الداكن الرطب مشعثا وقد التصق بوجهها الشاحب , كما كانت قدماها عاريتين تماما . بدت هذه الطفلة من التعاسة بحيث لم تر دورا مثلها خارج مخيمات اللاجئين .
جمدت في مكانها للحظة لا تدري ما عليها فعله . لم يكن الخوف ما شعرت به تحديدا , لكن الشجاعة خانتها جراء ظهور هذه الطفلة الغريبة بهذا الشكل المفاجئ وسط غرفة الجلوس في بيت شقيقتها . وبدت عيناها كبيرتين للغاية وسط وجهها النحيل وهي تحدق إلى ( دورا) , فشعرت بشيء ما يحمل علي القلق في جمود هذه الطفلة الحذر .
ثم استعادت فجأة حسها المنطقي السليم , وخطر لها أن ما من سبب يدعو للخوف .فهذه الطفلة بحاجة إلى دفء وراحة بغض النظر عن المكان الذي أتت منه . تقدمت منها و أخذتها بين ذراعيها , تضمها لتعيد إليها الدفء من حرارة جسمها .
اتسعت عينا الطفلة بخوف وصمت , وظل جسدها متصلبا . لكن (دورا) أخذت تخفف عنها كما تفعل مع أي مخلوق صغير خائف . وتمتمت بصوت لا يكاد يعلو عن الهمس (( لا بأس , حبيبتي , لا تخافي! حدقت الطفلة مجفلة ويد (دورا) تمر علي جبينها لترفع خصلات شعرها الرطبة . كانت بشرتها حارة وجافة , ووجنتاها متقدتين بشكل مرضي بالرغم من شحوبها .
يجب على هذه الطفلة أن تكون في فراشها ألان في ليلة عاصفة كهذه , بدل أن تهيم علي وجهها وتدخل بيوت الغرباء . كما أنها بحاجة إلى طبيب .
تمتمت (دورا) : (ما اسمك , يا حلوه ؟).
... وتركت ما تبقى من أسئلة إلى الوقت المناسب .خاصة ذلك المتعلق بطريقة دخولها إلى الكوخ .
.
حدقت الطفلة بها لحظة , وبصوت يجمع بين التأوه و الأنين , تركت رأسها يسقط على كتف (دورا) . كان وزنها خفيفا , و يعود في معظمه إلى الدثار المبلل الذي ألقت به (دورا ) بعيدا , ودثرت الطفلة بمعطفها الحريري . من تراها تكون ؟ ومن أين ....؟
بقي السؤال معلقا في رأسها عندما سمعت صوت ارتطام مفاجئ آت من وراء باب الغرفة , ثم تعالى صوت رجل يطلق الشتائم .
يبدو أن الطفلة لم تكن وحدها . وقررت ( دورا) فجأة , بعد أن تملكها غضب عنيف , أن تتحدث إلى هذا اللص الذي يخرج طفلة مريضة معه في مغامراته الليلية . و دون الاكتراث بالخطر المحتمل من هذا الضيف غير المرغوب فيه , فتحت الباب علي مصراعيه وأضاءت النور .
_ أي شيء ....؟
كان الرجل الدخيل واقفا أمام خزانة وفي يده مصباح , فاستدار وهو يطرف بجفنيه من النور المفاجئ , رافعا يده الممسكة بالمصباح ليظلل عينيه .
فرأى (دورا) وهتف قائلا : ( رباه , من أنت ؟)
تجاهلت (دورا) أن الرجل يفوقها طولا بكثير وقد بدا قادرا على رفعها بالسهولة نفسها التي رفعت هي بها الطفلة بين ذراعيها . و تجاهلت كذلك مظهره الرث كأنه أمضى أسبوعا ينام في العراء وأجابته بحده : (من الذي يريد أن يعلم ؟) .
تصلب الرجل أمام هذا الهجوم .
_ أنا ....
و فجأة انزل ذراعه التي كانت امام وجهه وراح يبتسم .
.
كانت شقيقة (دورا)تمثل في الإعلانات وعارضة أزياء مما جعل (دورا ) قادرة علي تمييز الابتسامة المهنية المتكلفة . رأت نوعا من الطيبة في هذا الرجل و هو يتقدم نحوها وقد بدا عليه الارتياح و الهدوء :آسف لم اقصد الصياح , لكنك أخفتني .
- أنا أخفتك ؟
نظرت إليه دهشة من هدوء أعصابة ثم تمالكه نفسها وسألته : (كيف دخلت إلى هنا ؟)
_اخترقت القفل بمثقاب .
اعترف بذلك بصراحة و دون ارتباك و هو يتأملها بفضول . وأضاف : (ظننت الكوخ خاليا ).
كيف يخترق القفل و يعترف بذلك باسما دون أبداء أي ذرة من الخجل أو الندم ؟ أن أي لص عادي كان سيلوذ بالفرار . وأحكمت ذراعيها حول الطفلة التي استقرت علي وركها ...و لكن اللص العادي لا يصحب معه أطفالا مرضي في مغامراته الليلية !
_حسنا المنزل غير خال,كما ترى , فانا اسكن هنا .
قالت ذلك متجاهلة تواجدها المؤقت هنا في غياب أختها .
.
عندما عرضت عليها (بوبي ) استعمال الكوخ أثناء غيابها هي وريتشارد ,طلبت منها التصرف كما لو انه بيتها لكن الرفاهية تصحبها المسؤولية . و ها هي ذي ( دورا ) الآن ترى أن الوقت قد حان لكي تضطلع بالمسؤولية بشكل جاد .وهكذا , حملقت إلى هذا الدخيل , رافضة التأثر بما كان عليه هذا المتشرد الفارع القامة , ذو الابتسامة المتقنة , الذي يبحث بلا ريب عن مكان جاف يبيت ليلته فيه .
كررت قولها ( أنا اسكن هنا , ولا اؤجر غرفا سواء كان ذلك باجرة أم لا , لهذا , من الأفضل لك أن ترحل )
تلاشت ابتسامته فجأة : ( سأذهب حين أصبح مستعدا لذلك و .....)
فقاطعته : (قل ذلك للشرطة . فسيصلون إلى هنا في أي لحظة الآن .)
وحين علا صوتها , تصاعد بكاء الطفلة بشكل واهن متألم جعل (دورا) تلتفت إليها و هي تحتضنها برفق وتملس على شعرها .
_ماذا تفعل في الخارج مع هذه الطفلة المريضة , وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ كان يجب أن تكون في السرير .
هدأت الطفلة تحت لمساتها .
.
-سأضعها فيه تحديدا بعد أن اسخن لها بعض الحليب ....
قال ذلك بتوتر , مثبتا بذلك شكوكها . و أشار برأسه إلى علبة حليب كرتونية موضوعه علي المنضدة , وأضاف : ( لم أتوقع ان أجد أحدا هنا )
_سبق أن قلت هذا .
تجاهلت (دورا ) صوته الذي بدا متناقضا مع بنطالة الجينز الممزق والملون بالوحل , وكنزته القذرة التي تعلوها سترة جلدية لا بد أنها كلفته مبلغا باهظا , لكنها الآن باتت بالية من خشونة الاستعمال . يظل المتشرد متشردا و إن تحدث بلكنة تلامذة المدارس الخاصة .
_أظنك كنت عازما علي البقاء دون إذن مسبق .
بدا الضيق علي ملامح الرجل و هز كتفيه : (لا , طبعا . إن (ريتشارد ) لا يمانع في مكوثي هنا لعدة أيام .
-ريتشارد !
وارتفع حاجباها لدى تلفظه باسم صهرها بكل حرية .
_اعني (ريتشارد ماريوت)صاحب هذا البيت .
_أنا اعرف من هو ( ريتشارد ماريوت ). وأرجو المعذرة أن خالفتك الرأي بالنسبة إلى ردة فعله .فانا اعلم رأيه السيئ في مقتحمي البيوت عنوة .
بدا المرح علي وجه الرجل الدخيل عند سماعها وأجابها : (إلا إذا كان هو الفاعل ...فهو الذي علمني كيف ادخل إلى هنا ).
قال ذلك محدقا في عينيها في تحد فقالت باحتجاج : ( يستعمل ريتشارد مهاراته لاختيار أجهزة الإنذار وليس لاقتحام البيوت ).
.
_هذا صحيح .
اخذ (غانون) يتأمل المرأة الشابة التي كانت تتحداه بإصرار . فهي إما مجنونة , وأما أكثر خشونة مما تبدو عليه بكثير . كانت ترتدي قميص نوم من الساتان , ملتصقا علي جسدها بشكل مثير . أما المعطف الذي كان بإمكانها ستر نفسها به , فقد أحكمت لفه حول (صوفي)ليدفئها . حسنا , أن اشد النساء قساوة لهن نقاط ضعف . وهو أمر وجد نفسه هذه المرة فقط مرغما علي استغلاله لمصلحته . تقدم خطوة إلى الأمام. لكنها لم تتراجع , بل بقيت في مكانها و أخذت تحدق إليه . فقال : سأخذ (صوفي ) .
و إذا بالاهتمام يتوهج في عينيها بدلا من العداء . اخذ يقاوم شعوره بالذنب لما كان يوشك علي القيام به , لكن ابنته كانت في حاله لا تطاق و سيبذل كل ما في وسعه في سبيل سلامتها .
_تأخذها ؟
_لقد طلبت منا الذهاب .
ومد يديه إلى الطفلة , لكن (صوفي) شعرت بالانزعاج و أخذت تتذمر من النعاس بينما اخذت المرأة بها إلى الخلف و هي تضمها إلى صدرها , تؤنبه بحيرة ( لا . لا يمكنك إخراجها . إن حرارتها مرتفعه .)
_حقا؟ ووضع يده علي جبين الطفلة ثم هز كتفيه مذعنا ( قد تكونين علي حق . فقد مرت بأيام صعبه .)
ثم وضع يديه برفق تحت إبطي الطفلة كأنه يريد حملها , و قال ( لكن لا تقلقي , سنتدبر أمرنا بطريقة ما)
شعرت ( دورا) بقلبها ينفطر , وتبدى علي وجهها الصراع الداخلي الخاطف الذي أظلمت منه عيناها . كانت تريده أن يذهب , لكن ضميرها منعها من إخراج صوفي في مثل هذه الليلة الهوجاء . ثم قالت بعد أن انتصر ضميرها ( يمكنك أنت الذهاب , لكن ليس هي . أظنك كنت تريد تسخين بعض الحليب لها ؟)
.
نظر إلى علبة الحليب الكرتونية علي الخزانة إلى جانب زهرية تحتوي علي أزهار ذابلة حسنة التنسيق , علقت بقربها سترتان رثتنان علي مشجب خشبي .
كان المكان , في المرة الأخيرة التي زار فيها هذا الكوخ , عبارة عن غرفة صغيرة . لكنه الآن أصبح منزلا أنيقا من الحجر المتوج بالقرميد .
ارجع نظره إلى المرأة الشابة متوقعا , أن تطلب منه البقاء في أي لحظة , لأجل الطفلة . لقد آن الأوان لتذكيرها بأنه صديق ريتشارد . علق مصباحه اليدوي علي خطاف خلف الباب حيث وجده . كان هذا , علي الأقل , ما لم يتغير منذ رحلة الصيد تلك ... ثم التقط علبة الحليب ...
_نعم , هذا صحيح .
و أشار إلى الخزانة المفتوحة التي تحتوي علي الأحذية بدلا من المقلاة وغيرها من الأواني المماثلة التي كان يبحث عنها .
_كنت في الواقع ابحث عن قدر صغير لتسخين الحليب حين أقلقت راحتك . ماذا حدث للمطبخ ؟ ومتى ركب ريتشارد مولد الكهرباء ؟
أجابته (دورا) باختصار ( ليس هذا من شانك ).
بات واضحا لها الآن سبب تفحص الرجل للخزانة في الظلام , إذ لم يخطر له أن يبحث عن زر مصباح كهربائي . لربما رأى الكوخ من قبل , لكن ليس في ألاثني عشرا شهرا الماضيه لكن ذلك لا يعني أن ادعاءه معرفة ريتشارد أثار اهتمامها . إن أي شخص قريب من هذا المكان يعلم أن هذا الكوخ ملك لريتشارد ماريوت . ثم ما أهمية ذلك ؟ انه ما يزال مقتحما له .
قالت : ( لم اعرف اسمك ).
_جون غانون.
.
مد يده ليصافحها حسب العادة , كأنهما في حفلة كوكتيل وليس في مواجهة غريبة بعد منتصف الليل , كان ينبغي خلالها أن يكون منكمش بسهولة , بل العكس . فقد راحت عيناه تطوفان بإعجاب علي شعرها المشعث فوق المعطف الحريري المنسدل , و أظافر أصابع قدميها المطلية باللون الوردي . ثم نظر إلى وجهها , وقطب جبينه قائلا : ( هل تقابلنا من قبل ؟) .
لقد قابلت العديد من الناس حين عادت من البلقان . فكان الغرباء في الشارع يتحدثون إليها و الصحافيون يسعون وراءها ليكتبوا عن (تلك ) التي تركت عملها الاجتماعي لكي تقود شاحنات الإغاثة عبر أوروبا . إن اكتشف هويتها سيعرف أن الحظ حالفة لثقته برهافة إحساسها وطيبة قلبها . إن الحاجة إلى الهرب من هذا كله هي التي دفعت (دورا) للجوء إلى الكوخ فما الفائدة الآن من إثارة الموضوع ؟ من الأفضل إلا يتذكر أين رآها من قبل . لذلك تجاهلت يده الممدودة إليها . لم تكن تريد التزام التهذيب مع مجرم اقتحم بيت شقيقتها , رغم رقة صوته وعينية البنيتين وذقنه المشقوق بشكل جذاب , و إن كانت لم تحلق منذ أيام . كانت العينان البنيتان تطوفان بكل حرية علي تفاصيل جسدها . وبما أنها كانت تحمل الطفلة بين ذراعيها , لم تستطع التحرك بحرية لارتداء معطفها . لكنها عندما لاحظت عينيه المحدقتين في أظافر قدميها الوردية , أرجعت قدميها إلى الوراء وحجبتهما عن النظر وقالت : ( ليس الوقت مناسبا للتعارف ) .
أجابها بمرح باد على وجهه ( هذا صحيح . سأحاول بشكل أفضل ).
_لا تزعج نفسك .
.
فقال و هو ينظر إليها بتأمل (ليس من عادتي اقتحام البيوت عنوة . لكن من أنت ؟) .
حاولت (دورا) جاهدة كبت رغبة تملكتها في الاستفسار عن عاداته , وسألته : هل يهمك من أنا ؟ هز كتفه : ( لا أظن ذلك . لكن اسمحي لي بان أقول انك تعتبرين تقدما كبيرا بالنسبة إلى ما كانت علية إليزابيث . فهي ما كانت لتضيع وقتا على عمل تافه مثل طلاء أظافر القدمين .)
يا له من رجل قليل التهذيب . لم يكفه اقتحام البيت عنوه , بل اخذ يغازلها . ومع ذلك , بدأت تتقبل تدخله بحياة صهرها الخاصة . سألته مستفهمة ( إليزابيث ؟) .
-إليزابيث ماريوت , زوجة ريتشارد . تلك المرأة التي تنقصها المخيلة . ذلك النقص الناتج عن جشعها , والدليل علي ذلك تخليها عنه لأجل صيرفي .
_صيرفي؟
_اعني صاحب بنك , وليس الصراف الذي يجلس خلف المنضدة . لم أظن قط انه سيبيع بيته .
-ما الذي جعلك تظن انه باعه ؟
نظر حوله : هذا النوع من الأغراض لا يلائم ذوقه .
ابتسمت (دورا) بدورها : ربما أنت لا تعرفه جيدا كما تظن .
ألقى عليها نظره أخرى متأمله , ثم هز كتفيه : هل اسخن الحليب ؟ أم تسخنينه أنت ؟ أرى الأشياء كلها قد نقلت من مكانها .
لم يرد بذلك أن يريحها من حملها. بل وجد أكثر عرضه للإقناع وهي تحمل ( صوفي) بين ذراعيها .
-المطبخ من هناك.
.
نظر غانون حوله. كانت الألوان دافئة بلون الأرض . فقال وهو يمد يده إلى قدر نحاسية ويضعها بجانب الموقد : ( لقد توسعتم إلى داخل المخزن . هل بات كل شيء الآن بهذا الشكل ؟ )
_بأي شكل ؟
_بشكل الذي يحاكي ما نجده في مجلة (طراز العصر) .
_ أنا لا اقرأ أي مجلات من هذا الطراز . لهذا لا يمكنني الحكم .
لم يكن بالطبع في نية (دورا ) الخوض في حديث عن الديكور الداخلي مع لص وضيع . لكنها راجعت نفسها ... فالرجل من الارتياح و الرضا بحيث لا يمكن وصفه باللص الوضيع . أخذت تحملق إليه , لكنه لم يتأثر بذلك علي الإطلاق . بل هي التي كانت تبذل جهدا كبيرا لمواصلة التحدي . حولت نظرتها إلى الطفلة , وسألته : (هل قلت إن اسمها صوفي ؟ و هل هي ابنتك ؟).
_نعم
استدار ليسكب بعض الحليب في القدر . قالت بإلحاح : ( وهل تعلم أن حرارتها مرتفعه ؟)
_سبق أن ذكرت هذا .
_يجب أن يراها الطبيب.
_لدي بعض حبات من المضاد الحيوي لأجلها . كل ما تحتاجه ألان هو غذاء جيد وراحة تامة .
_هل هذه هي طريقتك في توفير هذا لها ؟ يجب أن تكون هذه الطفلة ألان في البيت مع أمها , وليس مع جوال يطوف بها الأنحاء في منتصف الليل ....
.
قاطعها قبل أن تقول رأيها في نوع الجوالين الذي ينتمي إليه هو , وألقى عليها نظرة جانبية تظهر جهلها بما تتحدث عنه : ( أهذا ما تظنينه ؟ ) .
من المحتمل أنها تجهل ذلك . لكن ما تعرفه جيدا أن علي (صوفي ) أن تكون ألان في بيتها . وعادت تنظر إلى الطفلة المرهقة التي توشك أن تستسلم للنعاس . كان من السهل أن تصعد بها ( دورا ) إلى غرفة نومها و تضعها في سريرها الدافئ . سألته ,وهي تقاوم بصعوبة الرغبة في القيام بذلك : ( كيف تعرفت إلى (ريتشارد ) ؟) .
_ كنا في مدرسة واحدة .
-حقا ؟
-حقا.
لم تكن (دورا ) تعلم تماما ما عليها توقعه . ربما تعارفا عن طريق عمل (ريتشارد) في مجال الأمن . أما أن يكونا في المرتبة نفسها , فهذا أمر يستدعي إعادة النظر فيه , لكن في المدرسة ! (ألما ميتر ) نفسها حيث يتعلم أولياء العهود . سألته مشوشة الذهن : ( من المؤكد انه يكبرك سنا ؟).
_بثماني سنوات أو ما شابة . كان هو صبيا من التلامذة القدماء بينما كنت أنا من تلامذة السنة الثانية الذين راحوا يرمونني بالكلمات الجارحة حين اكتشفوا أن أمي لم تكن متزوجة . لا أظن أن ذلك يحدث كثيرا هذه الأيام .
قالت وقد صعب عليها تصور هذا الرجل صغيرا عاجزا : ( لا . هل آواك ريتشارد تحت جناحه ؟)
_إن من طبعه حماية الضعفاء .
نظر إليها متسائلا (اعتقد أن ريتشارد يكبرك كثيرا . ما الذي يفعله لأجلك ؟ ) .
_أنا ؟
أضاف و هو ينظر إلى الإصلاحات المكلفة : ( لا أظنه يتحمل كل هذه المشقة ليؤجر البيت فحسب , فهل آواك أنت أيضا تحت جناحه الرقيق أم .....) .
كادت توضح له بسخط انه متزوج من أختها التي تكبرها بسبعة أعوام و حين قاطعها طرق حاد ومتكرر علي الباب الخلفي .
.