كاتب الموضوع :
همس الريح
المنتدى :
المنتدى العام للقصص والروايات
رد: زوجة رجل مشغول -- الكاتبه دانه
الفصل الرابع
(..وإن أتاني يمشي أتيته هرولة – حديث قدسي )
منذ أول يوم في بيتها بعد المستشفى، عقدت دانة العزم على بناء علاقة مستمرة مع رب العالمين، أيقنت أن الجانب الروحي وحده هو ما يحقق لإنسان التوازن في كافة جوانب حياته الأخرى، هو الدعامة التي تمنع الحياة من الاختلال أو الانهيار باسم الحب أو غيره، هو الصخرة التي يستند إليها العبد إن تلاطمته أمواج الاكتئاب وتجاذبته هموم الحياة، توضأت وصلت ركعتين ثم دعت الله أن يعلق قلبها به وحده لأنه سبحانه لاشك سيفرح بقلبها ويرفع قدرها عنده وبين ملائكته وعباده، أما البشر فسيستغلون هذا الحب لمصالحهم، ناجت الرحمن مناجاة دامعة ورجته أن يشغل وقتها بما يقربها إليه، وييسر لها الصحبة الصالحة التي تعينها على السير في طريق الجنة، ذلك المكان السرمدي الرائع،دار النعيم المقيم .
اتجهت إلى غرفة النوم، أخرجت من الدرج الشموع العطرية الغالية والورود التي تحاكي الطبيعية في جمالها، ملئت حوض الاستحمام بالماء الدافئ ووزعت بتلات الورود في الحمام، تماماُ كما تفعل لسيف،وأفضل. شغّلت التسجيل الذي تحتفظ به لأصوات الطبيعة من شلالات وطيور وغيرها، أشعلت الشموع وأغمضت عينيها في حوض الاستحمام معتبرة هذا الحدث من طقوس احتفالها بنفسها التي قررت صقلها مجدداً. خرجت من الحمام وأشعلت قطعة من الفحم أحرقت بها العود الغالي، تبخرت به وحدها هذه المرة و قررت أنه ليس حكراً على سيف بعد اليوم.
بعد أسابيع:
سجلت دانة اسمها لحضور حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، بدأت في الحضور والحفظ وتطوعت في المؤسسة الخيرية التي تحفظ بها للقيام بأنشطة متعددة، تنتشي بالعطاء كالزهرة التي تتفتح وتبهر من حولها باللون والعبير بعد أن كانت منغلقة على ذاتها لا يعلم أحد بالقدرات الكامنة فيها.
أما سيف، فهو مرتاح لسعادتها ويحاول أن يتجاهل حقيقة أن لا يد له في ذلك، يحاول أن يقنع نفسه أنه السبب وراء إنجازاتها لأنه سمح لها بالخروج، يصاب بالغيرة ممن تمنحهم دانة وقتها، إلا أنه كلما تذكر حادثة الانتحار المزعوم يثني نفسه عن قرار منعها من ممارسة الأنشطة التي تهدد مكانته في قلبها كما يظن، فهو في كل الأحوال لن يسد هذا الفراغ، يملؤه الاستغراب من تصرفات زوجته التي لم يعتد عليها هكذا، أبداً! كانت شمعة تحترق لتضيء له الطريق، سعد بالإضاءة ولكنه لم ينتبه للاحتراق إلا بعد الحادثة، أما الآن، فهي كالنحلة، تأخذ الرحيق لتعطي العسل، عمر الشمعة قصير ،لابد ستذوب يوماً ويعود الظلام، أما النحلة فأذكى، تفيد وتستفيد.
على الجانب الآخر أصبحت جذابة أكثر في عينيه لوجود عامل الغموض في حياتها الآن، كانت مجندة في خدمته أما الآن فهو يعلم بالصدفة عن أنشطتها إن صادف أن استمع لها تتحدث بالهاتف عن حملة توعية ما، أو رأى أوراقاً على الطاولة بها أرقام وحسابات لتحديد ميزانية مشروع دعوي، أو كالمرة التي تلقت فيها اتصالات تطلب منها حضور اجتماع عاجل لإعانة عائلة طردت للشارع بعد عجزها عن دفع إيجار مسكنها، نظر سيف لدانة باستغراب وهي تهرع لكتابة رسالة وإرسالها بالفاكس ( الذي لم يكن يعلم أنها تعرف استخدامه ولم يعلم أنها تحتفظ بأرقام فاكسات الجهات الحكومية) للجرائد وتنتظر الرد، ثم بعد أيام واتصالات يجدها تحمد الله و عينيها تدمع سعادة وهي تتلقى بشرى انتقال العائلة إلى السكن الجديد بإعانات المحسنين.
بشكل عام فإن سيف و دانة يعيشان هذه الأيام أسعد مراحل زواجهما حتى الآن، رضيت منه بالقليل فوجدته يعرض المزيد من تلقاء نفسه، أصبح تواجده بقربها ممتعاً لأنها عرفته على أبعاد أخرى للمجتمع لم يكن ينتبه لوجودها، وصار يتكلم معها عن بعض أمور عمله وأصدقائه أيضاً، بل إنه في أحد الأيام دخل عليها الغرفة وهي جالسة أمام شاشة الكمبيوتر،وضع يده على كتفها ضاغطاُ بحنان فابتسمت و التفتت له لتجده ينظر إلى الشريط أسفل الشاشة و الذي تضيء به نوافذ عدة صغيرة من محادثات الماسنجر التي تجريها مع صديقاتها اللواتي فرحن بعودتها مجدداً إلى الحياة الاجتماعية، وإذا به يسألها إن كانت تقبل دعوته لها على العشاء في أحد الفنادق الراقية! مفاجآت العشاء معاُ في الخارج كانت في السابق ضرباً من الخيال بالنسبة لها، لم تكن لتتوقع أنه سيفرغ نفسه ليلة من أجلها، ولكنه فعل، وتكررت الدعوات التي لم تقتصر على العشاء، تطورت إلى وجبات من المثلجات!! أصبح هناك وقت يخرجان فيه لتناول الآيسكريم!!! الأمر الذي يعتبر رفاهية لم تكن دانة لتحلم بها من قبل، و رغم الإغراءات التي يعرضها عليها سيف بين فترة وأخرى لتعود كما كانت قبل متفرغة كلياُ له وحده إلا أنها ترفض ذلك بدلع وثقة لايقاومهما، هي تعلم أن رغبته في التواجد قربها إنما هي وليدة الحياة الجديدة، ولن تقبل بتغير هذه البيئة الصحية لحبهما.
وجاء شهر رمضان الكريم فاستهلكت فيه دانة طاقاتها ونوعت طاعاتها، لو كان لرمضان لسان لتحدث بجرائمنا في حقه، نملأ ليله صخباً بغير عباده، ونهاره شخيراً وبلاده، ثم نلومه لتقصيرنا! نزعم أحياناً بأنه في عام كذا كان به روحانية أكثر من عام كذا، وفي عام كذا مر سريعاً "مامدانا نختم" ،وفي عام كذا كان مليئا بالأحداث التي شغلتنا عن العبادة، نتهمه بأمور هو بريء منها متناسين أنه هو نفسه يعاد سنوياً، نحن الذين نتغير و يتغير تعاملنا معه وبالتالي لا تستسيغ أرواحنا طعم حلاوته بعض الأحيان بسبب مرارة الغفلة وغيرها.
شهر رمضان هذا العام مختلف جداً بالنسبة لأم دانة (عائشة) و أختها شريفة، فهو كاد أن يكون سادس رمضان يمر عليهما وهما على قطيعة، إلا أن شريفة جاءت باكية لمنزل أختها في ليلة 20 من رمضان بعد أن استمعت إلى محاضرة مؤثرة عن فضل العشر الأواخر من رمضان وذكرت فيها عظمة صلة الرحم وخطورة الأمر، يملؤها الندم والحسرة، تترجى أختها أن تسامحها.
عائشة (وهي تبكي من الفرحة): خلاص يا أم شاهين بس لاتصيحين قطعتي قلبي،الحمد لله إن الله شرح قلبج ورجعتي..
شريفة (وهي تبكي بحرقة): والله إني من يوم ماقاطعتكم وأنا في ضيق، مادري اشلون ضاعت من عمري خمس سنين وأنا محاربتج، سامحيني ياعاشة سامحيني ياختي..
وجاء العيد فتعمدت دانة أن تظهر به في أبهى حلة، لأنه عيد من نوع آخر، يسجل دانة جديدة، ليست دانة العاشقة فحسب، وإنما دانة كوكتيل ( متنوعة)، مسلمة متفانية، و زوجة سعيدة وراضية ، و ابنة بارة، و قريبة واصلة للرحم، وصديقة مخلصة..وغيرهن، أما على صعيد أسرة دانة فيعد هذا العيد من أسعد الأعياد التي مرت عليهم منذ سنين، حيث أن القطيعة بين أمها وخالتها سببت لأمها حالة من الضيق النفسي الشديد حيث وصل بها الأمر أن لجأت إلى العلاج النفسي في فترة من الفترات إذ أنها تملك روحاً شفافة كابنتها لاتحتمل جرح الأحبة، كانت شريفة أختها أقرب إنسانة لها ولم تتخيل أن تفارقها يوماً لغير الموت، بل لو ماتت شريفة لكان الأمر أهون عليها من أن تفارقها بإرادتها، الفراق مؤلم والشوق موجع ولكن يصعب تقبل أرواحنا للأمر عند معرفة أن الأمر لايعدو كونه خياراً اتخذه أحبابنا بإرادتهم، هم باقون، في مكان آخر من هذا العالم، يتنفسون ويتحركون، ينامون ويستيقظون، يضحكون ويبكون، أحياء يرزقون ،قد اختاروا نفينا عن أرواحهم، قرروا أننا اكسسوار بشري رافقهم في مرحلة من العمر و لم يعودوا بحاجة إليه.
ليلة ماقبل العيد:
شاهين( ابن شريفة) جالس على الكرسي في الحلاق ينتظر دوره، يتحاشاه كل من يعمل في الحلاق من هنود وأتراك بسبب عصبيته وبذاءة لسانه، يحاول كل منهم أن يقنع الآخر بأنه مشغول عن حلاقة شاهين، احتد الحوار بينهم بلغاتهم التي لا يفهمها، لم يهمه الأمر إذ أن باله كان مشغول بآخر أحداث العائلة حيث لم تسعده المصالحة بين أمه وخالته، شعر بأن ذلك قد يفسد مخططاته التي تسعى للاستيلاء على قلب دانة ( حبيبة الطفولة والصبا التي لم يعرف قلبه غيرها حتى وإن لم يكن له مكان في قلبها يوماً) حيث قام شاهين بنبش أسرار سيف التي عمل جاهداً على إخفائها عن دانة.
مالبث شاهين أن استوعب حقيقة أن المصالحة هي أفضل مايمكن أن يحصل الآن فلمعت عيناه تفاؤلاً بالأمر، جاء دوره في الحلاقة وكان من نصيب محيي الدين، الحلاق الذي عرف عنه الإتقان وحسن الخلق، سلم شاهين رأسه للحلاق مطمئناً على غير عادته، شرح له ما يريد بوجه بشوش، نظر بقية الحلاقين إلى بعضهم في استغراب شديد، كان يريد من الحلاق أن يقصر من شعره إلى نصف رقبته حيث وصل طوله لتحت كتفيه بقليل، جلس يفكر في المصالحة التي أصبح يراها كورقته الرابحة للضغط على دانة التي بدورها قد عادت إلى الاندماج في شؤون أسرتها بعد أن تغيرت علاقتها بسيف مؤخراً.
يعلم شاهين أن لدانة معرفة لابأس بها بالأمور النفسية فيما يتعلق بحالة أمها التي لن يحتمل قلبها صدمات جديدة حيث لايمكن أن تحتمل خسارة العلاقة الرائعة التي كانت تجمعها بأختها بعد أن فارقتها خمس سنوات في كابوس صحت منه الاثنتين مؤخراً، شريفة لم تمثل لعائشة الأخت الكبرى فحسب، وإنما الأم التي احتضنتها بعد وفاة أمهما وتكفلت بكافة احتياجاتها النفسية والمادية في مرحلة المراهقة وما بعدها.
أنهى محيي الدين قص وتهذيب شعر شاهين، وجاء دور اللحية، طلب شاهين منه أن يحدد أطراف ذقنه التي كانت حلاقته على طريقة "الديرتي" ويجعله كأحد التقليعات الشبابية حيث تكون "اللحية" عبارة عن خط رفيع حاد الزوايا، ثم بعد أن أنهى محيي الدين الأمر نظر شاهين لنفسه في إعجاب شديد وهم خارجاً ثم مالبث أن تحول اعتداده بشكله إلى قلق من عدم تقبل دانة لهذا الستايل، "فديتها مابي أخرعها من أولها"، عاد إلى كرسي الحلاق وطلب منه حلاقة اللحية بالكامل وسط تعليقات الحلاقين وضحكاتهم حيث ظنوا أن ما فعله شاهين لا يعدو كونه "حركة نذالة" غير مستبعدة منه في حق محيي الدين كبير الحلاقين الذي أضاع على لحية شاهين وقتاً لايستهان به في ليلة العيد المزدحمة.
(زوجة رجل مشغول)
بقلم/ *دانة*
|