كاتب الموضوع :
همس الريح
المنتدى :
المنتدى العام للقصص والروايات
رد: زوجة رجل مشغول -- الكاتبه دانه
الفصل الأول
(متى ستعرف كم أهواك يا رجلاً..أبيع من أجله الدنيا و ما فيها – نزار قباني)
دانة مستلقية على ظهرها فوق السرير، تبحلق في الثريا كعادتها، لقد حفظت شكلها تماماً لكثرة ما تتعلق بها عيناها لساعات دون أن تشعر بالوقت، إلا أنها في بعض الأحيان تطيل التمعن فيها ثم تكتشف أن الوقت لم يمر وأن التأمل لم يدم لأكثر من دقائق، وكأن للثريا مع دانة نظاماً زمنياً مختلفاً، وكأن هذه الثريا العجيبة تستوقف الشمس لحظات كي تمنح دانة وقتاً لايعرفه غيرهما، ثم تستعجلها أحياناً أخرى إشفاقا على دانة من رتابة الوقت.
هذه المرة آثرت الثريا أن تستعجل الشمس بالمغيب، ثم بالشروق، تخلل الوقت نوبات من نوم أو ربما "إغماءات إرادية" فقد استطاعت دانة أن تطور لديها مهارات تخدير عالية الجودة، إن حبها لسيف كان أقوى لديها من غريزة البقاء، لاتهمها صحتها بقدر ماتهمها مشاعره،تفضل أن تئد مشاعرها على أن تجرحه بمعرفة أن مشاعرها مجروحة! إن حبها لسيف كان أكبر من طموحها الذي كان يطاول السحاب، لم تستطع أن تغضبه بتمسكها بالوظيفة التي لطالما تمنتها، لم تستطع أن تقنعه أن يسمح لها بمزيد من الزيارات الأسبوعية لمنزل أهلها، فراق أهلها لأيام أهون عليها من اتهامه لها بالإلحاح (الحنّة) .
يفسر الرجال تكرار أي طلب من زوجاتهن بال"حنة" لأن ذلك يبرر لهم التهرب وعدم الاستجابة،سهل عليهم أن لا يلحّوا لأن أمرهم بيدهم، أما المرأة فتضطر للإلحاح لأن أمورها بيد الزوج الذي إن تجاهلها لا يعتبر مهملاً لاحتياجاتها وإنما تعتبر هي "حنانة"، دانة لا يمكن أن تسمح لنفسها بإعطاء سيف سببا ليجد فيها عيباً، تخشى أن يبغضها فيبتعد عنها أكثر من ابتعاده الآن.
لقد جعلها حبها له تضحي بغريزة الأمومة في سبيل إرضائه، منعت نفسها من محاولة الإنجاب بناءاً على طلبه ولم تفتح معه الموضوع حتى لا تزعجه، أصبح حبها له إعاقة تعاني منها، إعاقة تمنعها حتى من الاستمتاع بصلاة قيام الليل كما السابق، لقد تجاوز حبها له بعض الحدود الدينية التي وضعتها لنفسها، لليال عدة تؤجل مفارقتها لسريرهما لتظل بقربه أو تنتظر أن يبعد يده عنها وهو نائم كي تذهب وتصلي، لا يطاوعها قلبها أن تحرك يده وهو نائم، فتنتظر أن يقوم هو بذلك حتى تفاجأ بآذان الفجر يخترق سيمفونية أنفاسه التي تطربها، فتشعر بالذنب والتقصير، فتستغفر الله وتعزم على عدم العودة لهذا التصرف مجدداً،ولكنها تكرره.
"يوم كامل دون أن تسأل عني يا سيف ؟" لا تعرف أخباره و لا يسمح لها بذلك، لا يحب أن يشعر بقيد من أي نوع، يفعل ما يريد وقت ما يريد دون أن يلزم نفسه بإخبارها أي شيء عن يومه، تمنت لو أنها سكرتيرة لديه ليس لإشباع فضول الأنثى التي لم تشك في إخلاصه يوماً، وإنما لتطمئن عليه فقط، تعشقه.
يتجاوز تفكير دانة الإيجابي حدود الذكاء إلى ما هو عكسه، ترى المسالمة في الاستسلام، والطاعة في الضعف، تسمع الموسيقى في صفارات الإنذار،وترى نصف الكوب المملوء بالماء حتى وإن كان الكوب مكسوراً ويرشح! لا ترى في تصرفات سيف إلا الخير، أقنعت نفسها بخيرية عدم معرفتها لكيفية سير يومه لتتعلم الاستعداد الدائم لحضوره، ألهمها بقاؤها اليومي لساعات أمام التلفاز أن تكون رائعة الجمال طوال اليوم مثلهن، تقطر ملابسها مسكاً ويعبق المنزل بروائح العطور، كل شيء مثالي وجاهز لاستقبال سيف، في أي لحظة.
لعل سبب تعلقها المفرط بسيف هو حياتها قبله، البنت المثالية التي يضرب المثل بكمال عقلها، كانت حلم الأمهات وكابوس الفتيات لمقارنة أمهاتهن بينها وبينهن، لم تلتفت يوماً لصغائر الأمور، ولم تهتم بأي ما يمت للعشق بصلة من بعيد أو قريب، أصمت أذنيها عن كل قصيدة حب، وأعمت عينيها عن كل وردة حمراء،أقفلت قلبها لاإرادياً وشددت الرقابة حتى على الخيال، شكت في نفسها كثيراً ووصلت لمرحلة التسليم بأنها هكذا، باردة "من الله" ،حتى جاء سيف فقلب موازين حياتها الدقيقة،وفجر فيها ينابيع العطاء، لم تكن قبل بمثل هذا الحنان، أبداً! بل إنها كانت مادة للتندر بين أوساط صديقاتها لجفافها العاطفي "دانوه الله يعين ريلج عليج ماعندج إحساس كلش" كما ظنن، والواقع المتناقض أن الأولى هو طلب العون من الله لها بسبب كم الحنان الذي ستستنزفه .
عودة للثريا التي تبحلق بها دانة، إذ لها معها ذكريات عديدة:
• ففي أول مرة يتأخر فيها سيف خارج المنزل إلى الصباح اكتشفت أن عدد الخرز حول إحدى اللمبات يقل عن البقية، 23 وليس 24 خرزة.
• في أول مرة يغلق فيها سيف الهاتف في وجهها اكتشفت أن الثريا لم تكن معلقة بشكل مستقيم وإنما مائلة قليلاً.
• انطفأت إحدى لمبات الثريا في ذكرى زواجهما.
ما بال غريق انشغل عن الاستغاثة أثناء الغرق بتأمل لون السماء التي لم يلتفت لها يوماً؟ لعل العقل البشري العاجز عن تحمل بعض الإحباطات الشديدة يلجأ إلى هذه الحيلة اللاإرادية التي تضمن تخديره مؤقتاً بانشغاله بشيء آخر، أي شيء! فالطالب المتكاسل لا يجد أنسب من ليلة امتحان أصعب المواد عليه ليقرر أنه بحاجة ماسة لمعرفة عدد مربعات البلاط في فناء المنزل الخلفي! والأم العاقلة المفجوعة بزواج زوجها من أخرى تقرر فجأة أنها بحاجة ماسة لتنظيف الدعامات الحديدية أسفل السرير،والتي لم ترها يوماً.
غريب أمر هذه الثريا، يظن الشخص أنها وضعت لتزيد من إنارة المكان، إلا أن إضاءتها خافتة كئيبة، ثم لماذا ترتبط الإضاءة الخافتة بالرومانسية؟ هل هناك ما يجب إخفاؤه كي تتحقق الرومانسية؟ أم أنها وهم نخشى أن يفضحه النور؟ ألن تتأتى الرومانسية إلا بإخفاء واقع ما؟ تساؤلات مزعجة دارت في خلد دانة ، "هل وصل بي الحال إلى نبذ الرومانسية بعد أن وجدت أن التعطش لها لم يأت بنتيجة؟" لتسكت الأصوات في رأسها قبل أن تتمادى تطاولت دانة علبة الفيتامينات الموجودة بجانب السرير والتي تخبئ بداخلها الأقراص المنومة، تناولت قرصين ، ثم قرص، ثم قرصين! لم تنتبه وظنت أنها لم تتناول ما يزيد عن ثلاثة، حدها الأقصى، هي عموماً لا تهتم، تشعر أنها تسدي لسيف معروفاً بتخدير نفسها في غيابه الغير مبرر كي يمر الوقت بسرعة فلا ينفذ صبرها وهي تنتظره فتنفعل في وجهه إن أطل ببساطة وكأن شيئاً لم يكن، سحبت اللابتوب (جهاز الكمبيوتر المحمول) من تحت السرير، فتحت موقع اليوتيوب العالمي المختص بمقاطع الفيديو، استلقت على ظهرها واستمعت لعدد من القصائد المصورة حتى شعرت بالنعاس، أغمضت عينيها واختارت أن تغفو على قصيدة نبطية لشاعر سعودي اسمه سعد الخلاوي ففتحت الصفحة عليها،استمعت لمقدمتها، سحبت اللحاف وأغمضت عينيها حتى نامت..
وطارت من يدينـي أمنيـات اسـرااب
ولاحطت علـى ضفـة .. عناوينـي
تنهدت دون أن تشعر، انتقلت لجنبها الآخر، وشعرها الأسود الناعم قد غطى وجهها، ونزلت دميعة من عينها فاختلط سواد الكحل ببياض الوسادة، كالعادة.
ومـرّت صورتـك وترقـرق العنّـاب
ولون التوت غنّـى فـي شرايينـي
ياليت آكون حلـم يعيـش ماينجـاب
وانااااام وصفـة رموشـك تغطينـي
سمعت هذا البيت الذي تداخل مع الحلم الذي تراه في نفس اللحظة ،لعل مخيلتها رسمت المنظر لكثرة جلوسها أمام التلفاز تأثراً بإعلان تلفزيوني لنوع من الأجبان، به طفلة ترتدي فستاناً أبيض وتزين شعرها بأزهار الأقحوان من الحقل، رأت دانة نفسها في حقل يشبهه مليء بتلك الأزهار ذات الأقراص الذهبية والأوراق البيضاء، كانت ترتدي الأبيض وتزين شعرها كتلك الطفلة ولكنها تنتحب بصمت، أتاها زوجها سيف من بعيد فاستبشرت، هو نفسه بطوله الفارع وقد سد قرص الشمس وراءه، وبشرته السمراء التي بدت في الحلم بيضاء لحضوره المضيء المبهر، أمسك يديها فأشاحت بوجهها عنه، أدار وجهها جهته بحنانه المعهود في لحظات الصفاء،أبعد خصلات الشعر عن عينيها ليفاجأ بالدمعة التي حاولت إخفائها، نظر إليها وكأنه أراد أن يقول بعينيه النادمتين: "صدقيني لن أُ ُبكيك مجدداً" ،صدقته، مسح الدمعة وقبّلها بين عينيها..فأغمضتهما وابتسمت..
واحلق بك سمـا ود وغـلا واعجـاب
وفي قلبك عـن العالـم .. توارينـي
واذا تسأل : صحيح إن الهـوى غـلاب
جوابي لـك : تكـرّم ناظـر بعينـي
تشوف إنسـان بهيـام المشاعـر ذاب
يغني لك " أحبـك لـو تجافينـي "
وحانت رحلتـي والأمنيـات ركاب
مقادير البدو ... ...قامـت تسرّينـي
وفجأة، رن هاتف سيف الجوال في الحلم، تضايقها جداً رنة ال "نوكيا" البغيضة، أفلتها من يديه، وانشغل بالاتصال الذي جاءه، نظرت إليه بتحسر وتباعدت المسافة بينهما في الحقل، نبتت بينهما المزيد من الأزهار ولكن الجراد كان قادماً من بعيد ولم ينتبه سيف لدانة أو الحقل أو الجراد، حاولت أن تتكلم، أن تصرخ، ولكن صوت المتصل والجراد والقصيدة كان أعلى منها.
رحلت بـحلم شايب وبعزيمـة شـاب
مرامي : عودة الـورد لـبساتينـي
حبيبي ماعلى الصلب الكسيـر عتـاب
وانا جور الزمـان المـر .. مروينـي
تعاتبني ... وانا مابين ناب وناب!؟
وعن لمّة حطامي ... عجزت ايديني
كفاني من عذابـي وحشـة الأغـراب
وأنا اشوف بعيونك ..... " لاتخليني!"
(زوجة رجل مشغول)
بقلم/ *دانة*
|