*
-2-
جدة / الخميس .
10:17 صباحاً .
أجلسُ في " استراحة المستشفى " و بيدي اليمنى كُوب قهوةٍ أرتشفُ من مرارتها التِي توازي مرارةَ أفكاري المُضجرة .
والأخرى ممُسكاً بها كتاباً أراجعُ منه ما درست خلال سنواتِي الماضية لأزاول مهنة الطب .
حانقٌ أنا على عقلي الذي يتعمدُ أغاضتي
بتفكيره الدائم حول مشاعر قلبي
الذي هُو أيضاً أساس مشاكلي ,
أقلب في صفحات الكتاب بملل , كما لو كُنت أٌقلبُ كتاباً يحتوي على جميع متاعبي في هذه الحياة ,
ورُوحي تتنهد بتعب وسُئم .. سُحقاً !
أشعرُ أني أحتاجُ نوماً طويلاً , 10 ساعات !
يوم !
شهر!
وقد أحتاجُ نوماً لمدة سنة !!!
زفرتُ التفكير اليائس من عقلي المزعج
واضعاً الكتاب على الطاولة أمامي ,
وأكمل ارتشاف قهوتي الصباحية طارداً هيام أفكاري الغليظة .
وها هُو الصديقُ أتى ساحباً كرسياً مُقابلاً لي ليجلسَ عليه والتعبُ بادٍ على مُحياه .
أمالَ برأسهِ على الخلف مُردفاً بإعياء : تعــب ألف .
لا زلتُ صامتاً أنظرُ بسرحانٍ في الفراغ .
رفع فيصل ناظريه لي وهتف : هيــه ترا انا هنا !
أجبتهُ بملل : شايفك .
أمالَ خدهُ على كفهِ ليقول بابتسامة خلفهَا حنق : تغيرت مرة يا رياض .
-" أحلف ! "
-" والله ! "
-" اللي خابره أن أنا الآن نفس أنا زمان , مافرق شيء "
عدل جلستهُ وحدق في عيني بحدة : على الأقل كنت تضحك , اللحين بس قافل محد يكلمك .
ابتسمتُ غصباً على حديثهِ الأخير : تبالغ !!!! , هه شوفني ابتسم .
ضربَ وجههُ بكفهِ دليلاً على يأسه مِني وأردف : ما منك رجا .
صمتٌ مهيب سادَ بيننا
والتفكيرُ واحد " ماذا حَل بي ؟ "
فيصل يعتقد أنَ تغيري هُو أمرٌ جديد ومُريب
ولكن في الحقيقة منذُ زمن بعيد رميتُ بـ رياض الذي يعرفه في واديٍ ليسَ بهِ قاع .
أما أنا الآن فقط طيفهُ ومما نجا من جثته , لقد خبئتُ عن الجميع أمر مقتله ..
ولكن في العام الماضي حينما كُنت بين أسرتي حدثَ أمرٌ ما
قررتُ بعدهُ إزالة القناع وبانت حقيقتي التي خبأتها ..
حقيقةَ أن كُل شعورٍ سعيد فيَ قد قُتل .
لفتَ انتباهي فيصل بنظرةٍ يشيرُ بها لشيءٍ ما !
ألتفتُ إلى حيثُ أبصر بطرف عينه
لتقعَ مُقلتي على آسرتي ومُعذبتي
إلى حيثُ أجدُ رُوحي الضائعة بين دهاليز
الشقاء الُمضنية .
عدتُ ببصري إلى حيثُ الكتابُ أمامي فأسحبهُ بين يدي
وأقلبه بلا إدراك لما هُو مكتوب بين هذه السطور الكثيرة .
صوتُها اللاعبُ في كياني
يخترقُ طبلةَ أذني جيداً , تنهدتُ بضيق وأنا انظرُ للصفحات
التي تتوارى الواحدة خلفَ الأخرى بين يدي المضطربة .
" أشعرُ بها في قلبي "
هذا ما كان يدُور بين ضربات فؤادي .
قمتُ بعجلة حاملاً كوب القهوة والكتابُ مازال بإحدى يديّ
هتف فيصل مُتفاجئاً : على وين !
مضيتُ في طريقي مسرعاً كسرعة نبضات قلبي
ولم أُعره جواباً .
-
7:16 مساءاً .
ها هُو يومي الطويل على مشارف الانتهاء , بعد أحداثٍ كانت شبه ميتة .
لم يحدث أمرٌ ما معي بعدما نهضتُ من أمام فيصل في الصباح حيثُ أن مزاجي تعكر لحظتها .
و لا أستطيع لوم فيصل في ذلك فأنا دائماً في مزاج مُضطرب .. إذاً ليسَ من العدل رمي أسبابي البغيضة عليه .
أجلسُ في الممر المقابل لبوابة الخروج , أنتظر رفيقي الذي طال انتظاري له .
يبدو أنَ ظهورهُ سيطول ويطول .
استويت بجذعي واقفاً بعد أن قررتُ الخروجَ مُنتظراً فيصل في باحة المستشفى الخارجية .
أسيرُ بخطوات سارحة تشبهُ عقلي وأفكارهُ المُملة .
يوماً ما سأٌقطعُ هذا الحبل .
نعم ؛ سأٌقطع حبل وجدانِي .
وليسَ هذا الحبل فقط , وإنما أيضاً حبلُ أمالي الكفيفة إذا ما أزعجتني يوماً ما بكثرتها .
جلستُ على أحدى الكراسي الموجودة في حديقة المستشفى والمقابلة لبوابتهِ الداخلية والخارجية أيضاً .
الشُجيرات من حولي تتراقصُ يُمنة ويُسرة على أنغام نسائم لطيفة تتهاوى , أبصرتُ السماء فوقي فإذا بالبدر قد أكتمل .
لقد أنتصفَ الشهر وعودتي للرياض باتت قريبة .
تنهدتُ بانزعاج لتذكري هذا الأمر وَ لمماطلة فيصل وتأخره عليَ , و لكن سُرعان ما تبدد هذا الانزعاج
ليحلَ محلهُ قرعُ طبول مُضطربة مرتجفة داخل غُرف قلبي .
علِقت عيناي بها وأنا أراها تسيرُ خارجةً من المستشفى .
تمضي أمامي بخطواتٍ سريعة ومُقلتيها تنظرانِ للأمام بتركيزٍ شديد
أني أرى من بعيد في حدقتيها لوعة اشتياق ولهفة ,
توجهت أحداقي تلقائياً إلى حيثُ تنظر لأرى سيارةً فاخرة
تقفُ خارجاً على قارعة الرصيف
عقدتُ حاجبيَ بقلق وتوتر !
لأرخِي عقدةَ حاجبي بتوجس وأنا أرى شابةٌ تنزلُ من السيارة .
قد تكون في عُمر آسرتي ,
احتضنت كلٌ منهما الأخرى بتوق وكأن فُراقاً طويلاَ
حالَ بينهما , لا أعلم أي شعورٌ استولى على فؤادي
وأنا أراها تُطيل احتضان الأخرى
هل هيَ الغيرة ؟
أهكذا هيَ الغيرة ؟! , شعورٌ قاهر يفتكُ القلب !
إحساس كريه يُسيطر على النفس !
ما بكَ يا رياض ؟
أتغار عليها من بنات جنسها ؟
سُحقاً لكَ أيها القلب !
ستكُون أنتَ دماري حتماً
ها أنا ذا بسببكَ أغارُ عليها من رفيقتها
أشعرُ كأني طفل سلبوا منه لعبتهُ ليفرحَ بها
طفلٌ آخر !
سأصمت , وسأصمت !
حتى لا أنفجرَ من شدةِ حنقي وغيرتي .
سأكتمُ عبرتي , لعلَ أملي يُبصر النُورَ يوماً .
وتضحكُ لي الدُنيا وتكونين أنتِ معي .
-
رأيتها تصعد السيارة لتتحرك بعدها مُبتعدة , لأتنهد بتعب وازدراءٍ على حَالي .
وها هُو رفيقي الغالي قد ظهر , ولكن يا خيبتي حينما رأيتهُ يسير مع أثنين من رفاقه ,
لقد عرفتهما , إنهما ماجد وعبد الله .
لطالما حدثني عنهما .. وعن الصداقة التي بدأت تحيك ثوبها بينهم .
لأكون صريحاً أنا لم أحاول مرةً أن أدخُل في صلة جديدة , دائماً أتهرب من هذا الأمر
أحصر علاقاتي حول مبدأ [ العمل وفقط ]! .
عكس فيصل الذي هُو اجتماعي جداً ويحب تكونين الصداقات أينما ذهب .
لا أعلم ماذا يحبُ فيصل في تكوين العلاقات ! , ففي الحقيقة أنا " بيتوي " جداً , أكره الاختلاط بالناس , أعامل الجميع بسطحية شديدة ..
زفرتُ الضيق الذي غزى قلبي , محاولاً رسمَ ابتسامة أستقبل بها رفاق فيصل الذينَ اقبلوا .
هتف عبد الله بمرح ضارباً كفهُ بكفي : أهـلاً أهــلاً بـ رياض .
ضحكتُ غصباً لمرحه وأردفت بخفوت : هلا بك أكثر .
لألتفت لفيصل الذي تحدث : رياض بنروح مع عبد الله و ماجد نتمشى شوي .
ليُردف عبد الله مُكملاً بنبرةِ تذكير : وبعد العشاء إن شاء الله حنتعشى سوا ..
ومن ثمَ وزعَ نظراتهِ بيننا : ولا ؟؟!
بهُتت ملامحي تلقائياً
" أرجوك يا فيصل ليسَ الليلة " .
بعجلة تداركت الوضع خوفاً من أن يلحظ رفاقهُ ضجري فأردفت بخفوت : عن نفسي تمام ..
وأكملت بهدوء مُبطن : بس وين بنتعشى ؟
قال ماجد بحماس : فيه مطعم برجر مرة لذيذ أعرفه
لألتفت لفيصل الذي هتف بسرعة وهو ينظر لي : على حظك شيء تحبه .
غصبتُ شفتاي على الابتسام وَ مُشتتاً نظراتي المُتهكمة هُنا وهُناك : فعلاً على حظي .
-
10:08 مساءاً .
أخذنا ماجد بعد صلاة العشاء لأحد المطاعم لنتناول طعامَ العشاءِ على حسابه .
وها نحنُ نتجالسُ مُتقابلين لبعضنا , ففيصل يجلسُ أمامي وبجانبه عبد الله
وبجانبي جلسَ ماجد , يتجاذبون فيما بينهم أطراف الحديث .
بينما أنا سارحٌ في زجاج النافذة أمامي والصمتُ هو مليكي ومولاي ..
أما السيدُ " ملل " فقد تمكنَ مِني في لحظاتٍ ما .
فتارةً يشُدني حديثٌ جاد يصدرُ من ماجد الذي لاحظتُ ذلك على شخصيته الجادة .
وأما عبد الله فهوَ من يقلبُ الحديث الجاد لحديث مسلٍ ومرح بمشاركة فيصل .
وهاهُو عبد الله يُثرثر على رؤوسنا ما جرى معهُ في حفل زفاف أخيه
كانَ حديثاً جميلاً فقد أسئلتهُ عن العادات و التقاليد التي يتبعونها في حفلات الزفاف هُنا بالحجاز .
فأنا لم أحضر زفافاً حجازياً من قبل , عبد الله هُو المُتحدث المُتحمس وأنا المستمع المُهتم .
ليقطعَ هذا الحَوار الهام بالنسبةِ لي ماجد الذي هتف : صح ! على ذكر الزواجات تعرفون عادل اللي بقسم السجلات الطبية ؟
بردود متتابعة " ايوا "
-" خطب منار عبد الرحمن الممرضة تبع قسم الجراحة "
-" بالله ؟ "
قالها فيصل متفاجئاً ولم نكن عنه أنا وعبد الله ببعيد .
-" ايوا دوبه الموضوع ماله الا كم يوم من اعلنوا خطوبتهم واليوم قابلته وقال لي "
أستند فيصل بجذعهِ على ظهر الكرسي : الله يتمم ويبارك لهم .
لتبدأ مِن هنا سلسلة من الاحاديث المُملة.
-" لا قالوا لك ( نصيب ! )"
هتف عبد الله عالياً " من جد ! شوف أصلاً أش جابُو لها "
-" هو على ما أظن مو من جدة حتى "
ليردف عبد الله باهتمام لحظتها : إزا هوا والله شايفها البنت الكويسة واللي حتكمل معاه حياتُه لو أنو من المريخ حيخطبها .. ليش ! , لانو بالمختصر هيا المناسبة لُه .
تدخّل ماجد مُقاطعاً رفيقه : لكن اوقات الظروف تكون عكس ما يخطط صاحبها ! لا تنسى ان هذا نصيب .
هتف عبد الله رداً على قول الأخير : احنا ما نختلف , هدا نصيب و شيء مكتوب .. ولكن
هل حتستسلم بمجرد ما تشوف انو الظروف ضدك ! لا يا حبيبي " استعن بالله ولا تعجز " .
نظر فيصل لي بقلق وقلقهُ كان فِي محله , لقد نثر عبد الله الملح على جروحِي العميقة
ألمٌ خانقٌ أجتمعَ يسار صدري , سحبتُ نفساَ طويلاَ مُفعماً بقلةِ الحيلة .
وقف صديقي بسرعة قائلاً بتمثيل وهو ينظر لساعةِ معصمه : أوه الساعة عشرة ونص .
نظر عبد الله لفيصل بامتعاض وبتقليد لنبرة صوته : أوه الساعة عشرة ونص ! .
ليردف بعدها ساحباً فيصل ليعود للجلوس : أقول اجلس بس , بلا كلام فاضي دُوبُه الليل بأولو .
رغَم ما اشعرُ بهِ من وجدٍ وأسى وللذكريات الحافرة قهراً في فؤادي
أبتسمَ قلبي لاهتمام فيصل .
لتوِي علمتُ أني لستُ وحيداً في غياهب حُزني
فيصَل معي , يشعُر بِي .. وإن سخَر مني وقسا علَي
فهُو بذلك يُبطن إحساسهُ بِي وبالمُعاناة التي أًصبحت روتيناً عندي.
هتفتُ مبتسماً لفيصل : أجلس خلنا ننبسط شوي الوقت بأوله .
بهدوء وتوجس أبصرنِي لأطمئنهُ بتقاسيم وجهِي " أني بخير ولا شيء هُناك ".
ليعتدلَ بجلستهِ بعدها مُتنهداً ولنعُودَ بعد ذلكَ لمُختلف أنواع الحديث .
-
11:25 مساءً .
انتهى موعدنا المُفاجئ والغير مُدبر, فيصل يقُود السيارة بسُكونٍ تام .
وأنا في مُحيط حُزني أغوص .
اختَلَطَتْ عليَ الأضواء من حولي وتداخلت
في منظرٍ مُشوش , التداخل المُزعج هذا يّذكرنِي
في ألوان حياتي المُتغايرة .
نظرتُ لانعكاس صورتِي على زجاج النافذة , عيناي غائرة في شجنٍ سحيق .
هذا الشجن يلازمُنِي منذُ وقتٍ قاصٍ ولا زال يرفضُ الابتعادَ عني .
أعتقد أنِي أصحبتُ كئيباً أكثر مِن ذي قبل , الحُزن والتفكير اليائس والشجو والأشجان
والأسى الكثير كُلها تمثلُ حياتي البائسة .
كُلما حاولت ترتيبَ صفحات أفكاري وزرعَ أمل بين جنبات عقلي وقلبي .
فإذا بهِ أملٌ كفيفٌ لا يبصرُ النور , فأعود للغرق في بركةِ وحل الألم .
سحبتُ نفساً طويلاً لأزفرهُ , حككتُ عيني بسبابتِي .
لأسمع نبرةَ فيصل القلقة : رياض ؟
نظرتُ له بوجوم : همم ؟
كحَ التوتر الذي شعرَ به : لا بس بـ أشوف وش فيك !
أحداقي ضاعت في الفراغ : مافيني شيء لا تخاف .
-" تضايقت؟ "
- " على ؟! "
-" على وشو يعني ! على موضوع الزواج طبعاً "
أردفتُ بضيق انهك الفؤاد : قفلها من سيرة .
-" حاول في أهلك طيب ! "
ابتسمتُ بتهكُم : عشان أزيد الطين بله !
هتف عالياً بنفاذ صبر : أنت ليش سلبي ؟
-" الحياة خلتني كذا "
صرخ بغضب وحنق
-" حياة وشو تقصد وشو هااا ؟ ماشاء الله ولد عيلة ونسب والله انعم عليك وبين أهلك وبصحتك ! وش تبي أكثر وش ؟ "
أجبتهُ بهدوءٍ بارد كالصقيع مُعاكس لبراكينهِ التِي ثارت " أبي حريتي ! "
أرتجفَ فيصل لردي الغريب ونارهُ آلت للخمود وبيأس : لهالدرجة اللي صار لريان خلاك يائس كذا ؟
-" وأكثر ! وأكيد بلحق أخوي "
وأكملتُ بألم : تجربته أثرت فيني لدرجة مو معقولة , شعور خايس تنجبر على شيء ماتبيه , تنحط بشيء ماهو اصلاً براسك ..
لأستمرَ مُصِّراً على أسناني : تنحط بموقف أنت عاجز تطلع عمرك منه .
تنهدَ رفيقي بتعب من الحال الذي وصلت إليه : ما اقول غير ربي يهدي حالك ويحقق مُناك .
يتبع !