كاتب الموضوع :
لَحَّنْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: آمالٌ كفيفة / بقلمي
*
-7-
الحادي عشر من ذُو الحجة لعام 1436 هـ .
9:47 صباحًا .
فوضوية ! !
هذا ما يمكنُني وصفهُ عن شخصيتي الفوضوية فعلًا . حسننًا ! إن الفوضى العارمة
التِي أتحدثُ عنها ليستْ متعلقة بالوسط الذي أعيشهُ أو المكَان من حولي أو حتى الظاهرةْ على مُحياي .
لا أنها أعمق من ذلك بكثير . إنها فوضى مشاعر مُتخبطةُ الخُطى يتبعهُا تمرد يمشي ثملًا بالكادِ يٌبصر طريقه !
إن هذه الفوضى والضوضاء الغليظة تجري خلفِي منذُ وقتْ طويل , حتى استطاعتْ الإمساكَ بي وأجبرتنِي على الخضوع لها .
أما التمرد فهذا أعتقد أنهُ ولد معي !
فلطالما كُنت سببْ جنون والدتِي , حيثُ أنني ارمِي بقوانين الأسرة في أقربْ سلة مهملات أمامي
وأمضي ..
في الحقيقة إن الفوضوية في المشاعر هذهِ بدأت ترُوق لي منذُ أن خضعتْ لحكمها .
لأنني ومنذُ ذلك الحين أًصبحت أتذوق طعم مشاعرٍ كثيرةٍ لذيذة في آن واحد .
فعلى سبيل المثال ؛ تذوق شعُور السعادة المؤقتة والكثير والكثير من الحُزن والملل , هذا بالإضافة
إلى إغداق فؤادي بالحُب المُزيف فأنا لستُ حبيبةَ شخصٍ ما ولا يوجد شخصٌ ما يحبني
أي أني مُجرد كاذبة تُمثل دور الحبيبة فقط حتى تستمتعْ بطعمِ الحُب الوهمي .
وأيضًا لا أنسى الفشل الذريع في أمور شتى والسقوط من نصفْ طريق الجبل إلى سفحه
ورؤيتي للنجاح يجلسُ على عرشهِ في القمة ضاحكًا بسخرية وحتى يُغيظنِي لأعود لصعود من
جديد , فهُو يعلم ما هي " سيكولوجية الشخصية " لدي وأنَ أكثر ما تمقته هُو الاستسلام للفشل .
ومن جانب آخر مشاعر الغضب التِي دائمًا ما تشتعلُ داخلي وإلى هذه اللحظة لم أطلق لها
العنان بشكل واضح وصريح , فغالبًا عند اشتعال الغضب في صدري أقوم بسكبْ ماء بارد
عليهْ حتى يؤول للخمود , ومن هذا المنبر يمكننِي التحدث عن جانبْ آخر من تلك الفوضى الكثيرة والذي هُو " البرود الزائف " .
وها أنا ذا و بينَ جُدرانٍ عتيقة وعلىَ سريرٍ وثير ناعم أتقلب وبين يديَ كتابٌ ما أبصرهُ .
مُعتادة أيضًا على ما يُسمى بالوحدة وهذه لا يمكنني وضعها داخل إطار " الفوضى "
إنها تُشبه نوعًا ما التمرد في استفرادهِ بنفسه , الفرق بينهُما أن الوحدة هِي عدوتي
بينما التمرد هُو توأمي .
ولأنني اعتدتُ الحربَ مع الوحدة القابعة بين أركانِ رُوحي
أحَاول دائمًا قهرها غصبًا حتى لا تتمكنْ مني فيؤول الأمر إلى " وحشة و اكتئاب حاد " .
لذلك بالمقابل لدي أصدقاء يأنسونَ قلبي .
هؤلاء الأصدقاء هُم أيضًا جنود أُحاربُ بهم ومعهم هذه الوحشة اللعينة والفراغ المُزعج .
إن أكره ما لدي هُو " الفراغ " ! حتى أنهُ تخطىَ الفشل في مرحلة الكراهية عندي ولو كانَ شخصًا لقتلتُه .
حسننًا , إن هؤلاء الأصدقاء الأوفياء هُم الكُتب , لدي هَوس ناحية القراءةِ والكتاب
لذلك كثيرًا ما أُضيء وقتِي المُظلم بالقراءة , وكما يقُول المتنبي في قصيدته " خيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ " .
إن المكَان الشاغر في حياتي الذي تركهُ كُل من ريان ورياض أصبحَ مُوحشًا جدًا
في بداية الأمر افتقدتُ ريانًا عندَما أخذتهُ الأقدارُ بشكلٍ مُفاجئ مِنا حتى أصبحَ مُنطويًا أكثرَ على نفسه ومن هُنا أضعتُ الأول !
قلتُ لنفِسي حينها " لا بأس " لا زالَ رياضٌ معي فهُو أقربُ لي سنًا وروحًا , ولم أكملْ عبارتِي تلك حتى رحَل الثانِي وبقيتْ وحيدة .
تذكرتُ حينها أبشعَ حُلمٍ رأيتهُ في صغري , حُلم قاسٍ على فؤاد طفلة لم تجدِ الدفء إلا بين أخويهّا .
أمشي معهما في طريقٍ طويل لا نهايةَ له , أحدهما احتضنَ يدي اليُمنى والأخرَ اليُسرى ,
كانا يقوداننِي إلى حيثُ لا أعلم ! , فقط أمضي معهما لأنني بينهما لا خوفٌ عليَ و لا روع ..
وبعد برهةٍ ما لم أشعرْ إلا ويديَّ الصغيرة تائهة في الفراغ تبحثُ عن موطنها الأوليّ ,
أبصرتُ الاثنينِ بسرعة فإذا بهما يمضيانِ أمامي ولا أرىَ سوى ظهريهما , تاركِين نبضًا ضجَّ فزعًا ضجَّ دمُوعًا .
في ذلك السن كان هذا الحُلم هُو فيلم رعبي لدرجة أنني عندما استيقظت منه طلبتْ منهما قطعَ وعد بأن لا يتركَا يديَّ ابدًا ولا اعلمْ هل وفيّا بذلك أم لا !
-" ريــــــــــم !!! "
صرخةٌ اخترقتْ مسامعِي , كسرتْ انخراطي النهِم في القراءة .
استويتُ قليلاً غيرَ مستوعبة لما سمعته ولم ألبثْ طويلًا حتى
رميتُ بالذي بينَ يدي على عجل ومنطلقة ركضًا خارج الغُرفة ولأصادفَ حينها أمي المذعورة والتي خرجتْ هي أيضًا على أثر صراخ رياض !!
إن ما حادثتُ بهِ نفسي وعلاقتهَا الوطيدة بـ الفوضى هُو بالضبط ما يحدُث لي الآن .
اضطرابُ مشاعر عنيفة ما بين ترقبْ وقلق وخوف !
في قلبِي أرجو أن تكُونَ صرختهُ صرخةَ بشرى
صرخةَ أنَ أملهُ الذي لا يرىَ باتَ مُبصرًا .
ولكن رُعبي أن تكُون هذه الصرخة هي مُتنفس لقهرهِ على حَاله
و على غبنه من وطأةِ الأيام القاسية .
وصلتُ مع والدتي إلى طرفِ الدرجْ من الأعلى ناظرةً إلى الذي يقفُ عندَ الباب المفتوحِ على مصرعيه ,توسعتْ عينايَ تلقائيًا لما رأته .
سنينٌ طوال عشتهُا مع رياض لم أشهد في مُحياهُ
ازديانَ فرحةٍ وسعادةٍ كهذه !
لوهلة تأكدتُ بأنْ ذاك فعلًا أبصرْ !
وتأكدتُ بأنهُ بدأ يمشي سويًا و كأنما يرى طريقهُ جيدًا ..
طريقهُ الذي عليهِ سيقودُ أخي إلى روضٍ من المُنى مُزهر .. إلى فضاءٍ من الحُرية مُقمر .
هتفتُ عاليًا باستبشار غمرَ مهُجتِي
-" ها بشـر ؟ "
توسعت ابتسامتهُ أكثر فأكثر , حتى كشفَ ثغرهُ عن أسنانه .
ليهتفَ وأحداقهُ تتلألأ سعدًا
-" نقــول بإذن ربي إنه تـم ! "
هبطتُ درجتين وأقدامِي مُنتفضة , مُنتفضة لأني حقًا لم أكن لأضعَ 1% من موافقة أبي في عقلي .
ولكن يا رياض لتعَلم أن هذا طيفُ بشرى !
إن إلهي يُحبك ولن يكتبَ لك إلا ما يرى فيه خير لحياتك.
يعلمُ صدقَ نيتك , وهُو أرحم بقلبكَ المحزُون .
وألطفُ بروحكَ الأسيةِ .. وسيجزيكَ لصبرك لا محالة .
أدارَ ظهرهُ على عجل فناديت
-" ويــن رايـــح ؟؟ "
اختفىَ أخي وسط النُور الآتي من وراء الباب
ورحـل ركضًا من فرحته .
جلستُ مكانِي باسمة واضعةً كفيَ على ثغري غير مستوعبة لقرار أبي !
لابدَ لي من معرفة ما جرى , عليَّ دراسة ذلك القرار وكشف إذا ما كان هُناك خفايا لا أعلمها .
سمعتُ صوتَ أمي التي نسيتُ وجودها معنا منذُ قليل
-" ريم؟ وش بلاه اخوك !! ووش اللي تم ؟"
ألتفتُ لها لأبصرَ نظرةَ توجس في عينيها
ابتسمتُ لها بسرعة وأنا أقف
-" ولا شيء تعرفين ( فصلات ) رياض "
بنبرة حادة هزت جوفي
-" الله يستر من ( هالفصلات ) قولي وش عندك انتِ واخوك ؟ "
توترَ داخلي و أكفهر وجهي فقلتُ بجدية
-" يمه صدقيني ما فيه شيء أكيد أنه طالب طلبه من ابوي وما رده ! "
مضيتُ بسرعة وأنا اسمعُ هٌتافها
-" وأكيـــد تعرفيــن انتِ وش هــي !! ريــــم !! "
دخلتُ لغرفتي بسرعة مغلقة الباب خلفي , مسحتُ وجهي بكفِي وكأنني اطردُ السوادَ الذي خيم عليه
لستُ أنا من سيخبرها ولا حتى رياض .
إن أفضّل من سيزفُ لها الأمر هُو أبي ولننتظرَ بعدها المسرحية الساخطة .
-
10:25 صباحًا .
جلستُ على الاريكة في صالةِ الاستقبال مُنتظرةً ظهُور أبي , فلديَ كلامٌ ما اريدُ أن يعلمهُ جيدًا !
كلامٌ يرتجفُ توقًا حتى يظهر , ولم أنتظر كثيرًا حتى دخلَ والدي قادمًا من مجلسِ استقباله .
تقدمتُ نحوه بعد أن اقفلَ الباب مُهللة ومُرحبة
-" هـلا هـلا يبه "
أمالَ رأسهُ لي حتى أقبلهُ و أُردف
-" بشرني عنك اليوم يا الغالي ؟"
تبسّم مُجيبًا
-" بنعمه الحمد لله "
وأردفَ بتوجس أخفاهُ بضحكته
-" ها وش عندك يا الريم ؟ "
رسمتُ على شفتِي بسمة خفيفة
-" ما شاء الله يبه عارف ان وراي علم ! "
اخذ يدي ومضيتُ معه إلى أقرب أريكة حتى نجلس ونتجاذب أطرافَ الحديث
-" أيــه خابرك ما تجين إلا ووراك علوم .. ها قولي وش عندك ؟ "
عدلتُ من جلستي ساحبةً نفس طويل إلى صدري واتبعتْ
-" يبه أكيد قال لك رياض عن موضوعه ! "
تجهمّ وجههُ وخيّم عليهِ ضيقٌ واستياء
فأكملتْ بسرعة
-" تكفى يبه لا ترده ! تكــفى !! "
نظرَ للفراغِ عاقدًا حاجبيه بانزعاج فأكملتْ
-" يبه انت عطيته كلمه صح ؟ "
-" انا ما عطيته القرار الاكيد لكن نشوف الموضوع بالأول بعدين نقرر ! "
-" انت لو شفت فرحته يبه انك ما ترده والله ! واضح انه يبيها من كل قلبه ! "
بنبرة حادة اقلقتني
-" ريـم ! هاذي ماهي علومنا وانتِ تعرفين ذا الشيء ! بكرة رجاجيل القبيلة وش يقولون! "
بغيظ حاولتُ بقدر المستطاع كبته
-" دام هاذي علومنا ليه ( تأمله ) !! "
صمتْ قليلًا فأردف
-" ما عرفت اقوله ( لا ) "
-" يبه رياض أكثرنا بِر فيك انت وامي وما عمره عصاكم بشيء جازه لهالشيء .. دامه طلبك وجاك لحد عندك ويبي البنت على سنة الله و رسوله فلا ترده "
-" جدك ! اعمامك ! خوالك ! وش اقول لهم ! وش ؟ "
-" جدي رايه من رايك وحتى لو تضايق بيخبي ضيقته بنفسه اما خوالي واعمامي مردهم بيرضون دام صاحب الشأن راضي والمهم بينهم كلهم هو رياض وبس لانه هو من بيعرس ! "
أبصرنِي قليلًا وكأنه بدأ يقتنعُ بكلامي !
ليقفَ بعدها هاتفًا وكأنما يهربُ من حديثي
-" الله يكتب اللي فيه الخير "
ناديتهُ وهو يمشي مُبتعدًا
-" يـــبه ! "
وقفَ دون أن يلتفتَ صوبي
-" دام انك أعطيته كلمة توكل.. تكفــى لا تكـسره !! "
وبعدهَا رحلَ صامتًا
تنفستُ الصعداء مُتمددة على طول الأريكة
أشعرُ بأني ارتحتُ قليلًا بعد أن بحتُ بما أريدُ إيصالهُ لوالدي , أصابني هاجسٌ ما يخبرني
أن أبي تقبّل الفكرة رغم صعوبتها عليه ولكن أمي !
أمي كيف ستتقبلُها !
وحدها من ستقفُ جدارًا في طريق زواج أخي .
نعستُ من أثر التفكير المستمر وغفوت بعدها دون شعور .
-
انتفضتُ بقوة جالسةً أثرَ صراخٍ ما في جنباتِ المنزل !
سميتُ بالله زافرةً هذا الذعر و مُلتفتة للساعةِ الموضوعة على الحائط
إنها تُشير إلى العاشرة وخمسون دقيقة !
نظرتُ إلى الخادمتين الواقفتين أسفلَ الدرج تنظرانِ للأعلى بقلق
فهتفتُ مُناديه بالإنجليزية
-" ماذا يحـدث ؟ "
التفتنَ لي بسرعة لتهزَ إحداهنَ كتفيها وبعدها مضينْ !
اقتربتُ من الدرجِ قليلًا لعلي استوعبُ ماذا يجري في الأعلى
عرفتهُ جيدًا ! عرفتُ صراخُ من هذا !
ومن غيرُ أمي ستزمجرُ هكذا سخطًا .
هرولتُ للأعلى خوفًا وجزعًا
هرولتُ لعلي أنقذُ من في الأعلى من جبروتها .
-
اقتربتُ من حيثُ يأتي الصوت والتي هي غُرفتها المُبجلة .
البابُ مفتوح والممرُ العتيق مظلم ! ولا أبصر في الداخل سوى إضاءة خافتة مع نورِ النهار الكاسر لهذا الظلام البهيم .
مشيتُ داخلهُ بهدوء وعلى أطرافِ أصابعِي وحتى استرقَ السمعَ والنظر .
انتهـى .
|