كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل التاسع ~
مع مطلع شمس اليوم التالي، نهضت جمان بتعب وعسر جالسة رغم قيودها التي لم يحاول أحدهم فكها طوال الليل، مما اضطرها للنوم بوضعية مؤلمة وعلى الأرض الصخرية رغم الفراش الهزيل الذي فرش لها.. عندما بدأت أشعة الشمس تتسلل للموقع منيرة الكهف تمكنت جمان من رؤية ما حولها بشكل أفضل، لكن ظل عقلها عاجزاً عن العثور على وسيلة للهرب مع وجود المرأة والرجل في هذا الكهف.. بينما اختفى الزعيم في كهف آخر كما يبدو إذ لاحظت أن المرأة والرجل يغيبان بين فترة وأخرى في أول الليل قبل أن يعودا بعدها بفترة قصيرة.. وإن شعرت جمان بالراحة لبقاء المرأة في هذا الكهف طوال الليل مما أشعرها أن ذاك الرجل لن يمسّها بسوء بوجودها..
حاولت جمان فك قيودها بشتى الطرق دون نجاح كبير، عندما وجدت المرأة تقترب منها حاملة بعض الطعام والماء ووضعته قريباً قائلة "سأفك قيودك.. لكن لو حاولت الهرب فلن أتوانى عن ضربك.. أفهمت؟"
قالت جمان بغضب "ما الذي تنتوينه بتظاهرك بالطيبة؟"
ابتسمت المرأة وهي تقول بلطف "طبعاً لا يسرّني أن أتركك بجوعك طويلاً.. لا أظن أحداً قد يرغب بشراء فتاة عجفاء قد هدّها الجوع وأذهب جمالها.."
قطبت جمان بغضب شديد، عندما وجدت المرأة تسألها باهتمام "أنت بكرٌ.. ألست كذلك؟"
نظرت لها جمان بصدمة وقد احمرّ وجهها للسؤال، ثم صاحت بغضب "وما شأنك أنت؟"
قال الرجل القريب بابتسامة "ردها هذا يؤكد ذلك..”
ولذعرها وجدته يقترب فيمد يده نحوها مضيفاً "وهي من قرب تبدو مليحة جداً، لولا هذه القذارة التي تغطيها.. لكن يمكن التغاضي عن هذا حالياً.."
لكن المرأة سارعت للطم يده وهي تبعده عن جمان قائلة بتقطيبة "لا تأمل بذلك أبداً.. لقد أخبرني أحد تجار البصرة أنني لو أحضرت له فتاة بكراً بهذا الجمال فسيدفع ثمنها بدنانير ذهبية.. لاسيما إن كانت عربية الأصل فهو يفضلهنّ على غيرهن.. لذلك إياك ولمسها.."
بدت لها المرأة ذات نفوذ في هؤلاء القوم، فلم يعترض الرجل رغم أنه أشد قوة منها بل اكتفى بالتذمر وهو يغادر.. بينما ابتسمت المرأة لجمان المذعورة وهي تقول "اهدئي يا فتاة.. لن يمسّك أحد بسوء هنا إن أطعتني.. لذلك لا أنصحك بفعل ما يغضبني.."
وغادرت بعد أن فكت قيد يديها تاركة قيود قدميها التي تعيقها عن الهرب، فلم تعلق جمان وهي واجمة تنظر للطعام رغم جوعها ولا تكاد تمسّه.. لم تغادر المرأة هذا الموقع وهي تجلس جانباً تتناول بعض الطعام بدورها وتراقب جمان عن كثب لمنعها من الهرب.. لكن جمان لم تكن لتستسلم لحالها هذا.. عليها الهرب، وعليها بذل ما تستطيعه في سبيل ذلك.. فهل هربت من أيدي التتار لتقع في أيدي قطاع الطرق بهذه السهولة؟.. ثنت قدميها تحتها وحاولت بيد واحدة فك قيد قدميها دون أن تلفت لها الأنظار، وباليد الأخرى تتظاهر بتناول الطعام رغم عدم شهيتها له..
رأت في تلك اللحظة زعيمهم يدخل الكهف فيقترب من المرأة يحدثها.. أنصتت جمان محاولة استخلاص شيء من حديثهما لعلها تستطيع به أن تجد طريقة للهرب.. فسمعت الزعيم يقول وهو يجلس جانباً "لم يعد شريد بعد.. ولا أعلم ما الذي دهاه.."
قالت المرأة وهي تكمل طعامها "لا تقلق عليه.. لا يمكن لأحد أن يقبض عليه أو يؤذيه.. وحتى لو حدث له ذلك فلن يخْـلص منه بشيء.. أنا أثق منه بذلك"
لم يعلق الزعيم وهو يتناول بعض الطعام بدوره، فسألته المرأة "متى يعود البقية من الموصل؟.. لقد تأخروا كثيراً"
قال الزعيم "ربما خلال يوم أو يومين.. لم أنت بلهفة لعودتهم؟"
أشارت المرأة لجمان قائلة "حتى يتسنى لي أخذها للبصرة للتاجر حمدان.. لا أريد أن يطول بقاؤها عندنا فتهزل أكثر، فقد امتنعت من تناول الطعام منذ البارحة.."
علق الزعيم "ستتناول الطعام ما إن يقرصها الجوع بحق.. لا تقلقي.. يمكنني إرسالك مع شريد وعبيدة للبصرة"
غمغمت المرأة "إن فعلنا ذلك ستبقى وحيداً في المخبأ.. ماذا لو هجم عليك جنود والي الكوفة؟.."
قال الزعيم بثقة "لا تقلقي.. لن يقدروا عليّ مهما جنّدوا من الجنود.."
ظلت جمان تستمع لما يقولانه وهي تفكر بشكل محموم.. عليها الهرب هذه الليلة إن كانت تريد النجاة بنفسها من هذا المصير.. ربما يغدو الهرب بالنسبة لها أكثر صعوبة بعد بدء رحلتهم نحو البصرة.. لذلك، فالليلة هي فرصتها الوحيدة وعليها استغلالها قبل فوات الأوان..
بعد أن أنهوا طعامهم، غادر الزعيم والمرأة تتبعه نحو كهف آخر، بينما بقي المدعو عبيدة معها في ذلك الكهف.. لم تكن تعلم متى ستعود المرأة أو الزعيم أو متى سيعود بقية الرجال.. ففكرت أن تستغل هذه الفرصة وتغافل الرجل لتهرب، وهي قد رأتهم يربطون الخيول خلف صخرة في سفح الجبل، فلو حالفها الحظ بالهرب يمكنها أن تسرق إحدى تلك الخيول وتهرب بها..
كانت قد تمكنت من حلّ رباط قدميها، لكنها ربضت في موقعها تراقب الرجل من طرف خفي محاولة عدم جذب الانتباه إليها.. ثم لاحظت أنه انكبّ على سلاح له معتنياً بشحذه وصقله باهتمام مولياً ظهره لها وهو مطمئن لكونها مقيدة.. فتلفتت جمان حولها بحثاً عن شيء تستفيد منه في التغلب على الرجل، لتجد قربها حجراً متوسطاً.. تناولته بخفة ونهضت بهدوء محاولة ألا تصدر صوتاً، ثم اقتربت من الرجل بحذر إنما بشيء من السرعة وهي تنوي مباغتته بضربة تفقده وعيه ليتسنى لها الهرب.. لم يبدُ لها الرجل منتبهاً لها وهو يتأمل نصل سيفه فيما رفعت الحجر وهي تقترب منه وهوت به بقوة نحو رأسه.. لكنها فوجئت بالضربة تهوي في الفراغ عندما مال الرجل برأسه جانباً والتفت إليها قائلاً "أيتها الخبيثة..."
وجدته يجذب ذراعها ويلقيها أرضاً وهو يلوي يدها خلف ظهرها ويجذب الحجر منها.. فتأوهت جمان بألم وهو يضغط برأسها على الأرض الصخرية قائلاً "كيف تمكنت من التخلص من قيودك؟ ظننتك موثقة بإحكام"
قالت جمان مقطبة "كيف عرفت أنني خلفك؟"
ابتسم الرجل وهو يُنهضها "لحسن حظي أنني لمحت طيفاً خاطفاً في نصل السيف.. ورغم أني لم أعرف ما هو، إلا أنني تفاديت الضربة بشكل غريزي.."
وقادها عائداً لعمق الكهف وهو يقول "عليّ تقييدك بشكل أقوى هذه المرة.. لا أدري ما الذي ستفعله بي تلك الشرسة لو تمكنتِ من الهرب"
ظلت جمان مقطبة بشيء من الحنق وهي تجده يقيد ذراعيها لجسدها بإحكام بالحبل، وقيد قدماها بدورهما بشدة حتى آلمها.. ولما ابتعد زفرت جمان وهي مستاءة لفشلها في الهرب.. كيف لها وهي الضعيفة بقلة حيلتها أن تهرب من بين أيدي آسريها؟ ربما لو حاولت ذلك أثناء ترحالهم نحو البصرة لوجدت فرصة أفضل في الهرب.. لكن هل تستسلم لهم حتى يحين ذلك؟..
***********************
مضى أغلب النهار وسلمة يجول في تلك السهول بلا فائدة، فيعود حيناً لتلك القرية بحثاً عن جمان، وينطلق لما جاورها من بقاع لعله يجد لها أثراً أو يدله أحد على ما جرى لها.. كان الإنهاك قد بلغ منه مبلغه وهو لم يكد ينل قسطاً من الراحة منذ اختطفت جمان، وجرحه قد بدأ يؤلمه أكثر بعد أن عجز عن علاجه بشكل صحيح مكتفياً بإبدال الضماد عليه بين فترة وأخرى..
وبعد أن كاد ييأس حقاً من العثور عليها، لمح على مبعدة حصاناً وحيداً ينهب الأرض نهباً متجهاً لجانب بعيد منه.. فلم يملك أن يلكز حصانه ويلحق بذلك الحصان بدوره قبل أن يبتعد.. ربما كان ذلك الرجل هو سبيله للعثور على جمان.. لكن لو لم يعثر عليها، لو أكد له صاحب ذلك الحصان أنه لم يسمع بما حدث لها، فما الذي عليه فعله؟ أيستسلم؟ أيرحل للحِلـّة متناسياً أمر جمان؟..
ضغط سلمة على أسنانه بقوة وهو يلكز الحصان المنهك المرة تلو الأخرى.. لا.. إنه يرفض التفكير بذلك.. ما الذي سيفعله بعد أن تغيب جمان من حياته؟.. أيحق له نسيانها وتجاهل ما جرى لها؟.. ألن يشعر بالندم طوال عمره أن فرط بها وهي في حمايته؟.. طبعاً لن يطيق أياً من ذلك..
لما اقترب سلمة من الحصان، رأى صاحبه يلكزه ويستحثه على الهرب منه، كما لاحظ ثيابه الدالة على كونه تترياً.. التمعت عينا سلمة بلهفة وهو يرى التتري أمامه وحيداً وبدا أنه عازم على الهرب منه.. وجوده وحيداً يعني أن سلمة لن يجد جهداً في القبض عليه، وربما تمكن من سؤاله عن رفاقه الذين اختطفوا جمان مع بقية النسوة..
لم يكن سلمة ينوي ترك تلك الفرصة تفوته، فركض بالحصان قدر ما يستطيع محاولاً القبض على التتري حياً لاستجوابه.. شعر بالحصان يلهث بقوة رغم سرعة ركضه مما جعله يخشى أن يكبو في أي لحظة فيفقد فرصته الأخيرة للإمساك بالتتري وهو خيطه الوحيد الذي سيدله على جمان.. أعمل سلمة فكره بحثاً عن وسيلة لإجبار التتري على التوقف، أو إسقاطه من فوق الحصان دون أن يؤدي لمقتله.. وبعد أن اقترب من ذلك الحصان، وشعر في الآن ذاته أن حصانه قد بلغ أقصى جهده، لم يجد سلمة بداً من التصرف بسرعة.. فتأكد من ثبات سيفه، ثم رفع نفسه على ظهر الحصان قليلاً قبل أن يقفز بسرعة على التتري القريب منه، فتسببت قفزته تلك في الإطاحة بالتتري وسلمة معه أرضاً في سقطة مؤلمة وجسداهما يتدحرجان لوقت قصير..
حاول التتري النهوض، لكن سلمة لوى ذراعه ودفعه أرضاً مثبتاً إياه في موقعه.. عندما هتف الرجل "مهلاً.. ما الذي تريده مني؟"
تجمد سلمة وهو يسمع قول الرجل بلغة عربية لا شائبة فيها، ثم انتبه لملامحه التي لا تشبه ملامح التتر أبداً.. فقال متعجباً وهو يتراجع قليلاً عن الرجل "من أنت؟"
وقف الرجل بشيء من الحذر قائلاً "أنا عابر سبيل.. ما الذي تبغيه مني؟ ولم اعترضت طريقي؟"
أجاب سلمة وهو يتفحص ملامح الرجل الحذرة "أبحث عن فرقة من التتار سَطَت على قافلة قريبة وعبرت هذه السهول منذ يومين.. ألم ترها؟"
قال الرجل "تلك القافلة؟ لقد رأيت آثارها في طريقي وتعجبت من ذلك.. لكني لم أرَ أي تتري هنا"
فقال سلمة مقطباً "إذن لم ترتدي ثياب التتر وأنت عربي؟"
قال الرجل محتداً شيئاً ما "وما الذي يمنع ذلك؟ إنما فعلت ذلك لأحمي نفسي من شر التتار وأنا أرتحل وحيداً في هذه البقاع غير الآمنة"
لم يقنع هذا القول سلمة.. لا يمكن أن يكون هذا الخيط الوحيد لجمان وهماً.. لابد من سبيل لها وهو لن يستسلم بسهولة.. ونظرات الرجل الحذرة المتوترة تدله أنه ليس مجرد عابر سبيل.. عاد يقول للرجل دون أن يتخلى عن سيفه "أخبرني.. ألم ترَ فتاة في هذه الأنحاء؟ لقد هربت من فرقة من التتار بعد أن اختطفوها من القافلة، لكني لم أعثر لها على أثر.."
قال الرجل مقطباً "وما أدراني؟.. السهول واسعة ولا يمكن أن أعرف من عَبَرَها أو أراه في طريقي.."
ولوح بيده مضيفاً "وطريقي لا يمر بتلك القرية المدمرة بتاتاً.."
سمع الرجل سلمة يقول "ما أدراك أنها لجأت للقرية المدمرة؟"
انتبه الرجل لزلته، ففوجئ بسلمة يقترب منه بسرعة ممسكاً بتلابيبه بقوة وهو يقول بغضب ظاهر "أين هي؟ ما الذي فعلته بها؟"
قال الرجل بسرعة "أنا لا أعرفها ولم أرها.. لقد رأيت القرية المدمرة سابقاً، فلما ذكرت لي الفتاة شككت أنها قد تلجأ إليها هرباً من التتار"
قال سلمة بغضب "أتظنني أحمقاً؟.. من يلجأ لقرية مدمرة؟!.. قل الحقيقة وإلا ما تركتك.."
دفعه الرجل بعيداً وهو يقول "بل أنت أحمق بالفعل.. تتهمني دون دليل.. ارحل بعيداً قبل أن تلقى ما لا يعجبك"
قطب سلمة وهو يقول بحدة "لماذا ترفض إجابتي؟.. هل رأيت ما حدث لها؟.. أريد استعادة الفتاة مهما كان الأمر.."
قال الرجل ضاحكاً بسخرية "كف عن التفاؤل يا رجل.. غادر قبل أن أفقد صبري"
أدرك سلمة من قول الرجل الأخير أنه يعلم خبر جمان بالتأكيد، لا كما ينفي دائماً.. وبينما استدار الرجل ليمتطي ظهر حصانه متجاهلاً سلمة بما بدا كثقة مبالغ فيها، فوجئ بضربة قوية قاسية على مؤخرة رأسه أسقطته أرضاً بدوار شديد، لكن سلمة عاجله بضربة أخرى بمقبض سيفه أسقطت الرجل فاقد الوعي بصمت.. عندها جذب سلمة الجسد بعيداً نحو صخرة قريبة.. وهو يقول "يبدو أنك وقعت في يدي لحكمة يا هذا.. ولن أضيع هذه الفرصة بتاتاً.."
عاد لحصان الرجل فجذبه وربطه في شجيرة قريبة، قبل أن يفتش جرابه بحثاً عن حبل يقيد به الرجل.. بينما استطالت الظلال وبهتت وهي تمتزج بالظلمة التي هيمنت على الموقع رويداً رويداً..
***********************
بعد بعض الوقت، استيقظ الرجل ملاحظاً أن الظلام قد حلّ عدا عن نور القمر الخفيف، وضوء نار قريبة تضفي شيئاً من الدفء على تلك الليلة الباردة.. حاول الاعتدال جالساً وهو يجد يداه مقيدتان خلف ظهره بحبل غليظ، بالإضافة لقيد حول قدميه عند الكاحل.. نظر الرجل حوله ليجد سلمة قد وقف قرب نار قريبة أشعلها تلك الليلة، فتقدم سلمة منه والرجل يقول "ما الذي تريده مني يا هذا؟.. كيف تجرؤ على تقييدي؟"
قال له سلمة ببرود وهو يقف قريباً منه "أتظن لك الحق بما تقوله؟.. أخبرني.. أين الفتاة؟ من أخذها؟.."
ضحك الرجل شيئاً ما وقال "ألازلت ترجو أن تعثر عليها؟.. استسلم يا هذا.. لابد أنها الآن تساق لأقرب سوق للنخاسة"
بدا الغضب ظاهراً على سلمة وهو يصيح بالرجل "من فعل ذلك؟.. من عاونك على هذا؟.."
نظر له الرجل بصمت للحظات قبل أن يقول بهزء "تباً لك.."
جذبه سلمة بقوة ليقف وقال له بصرامة "أخبرني ولا تثر غضبي.."
قال الرجل بابتسامة ساخرة "ومن تكون أنت لأخشى غضبك؟"
لم ينتظر سلمة برهة وهو يلكمه على وجهه بقوة ألقته أرضاً، ثم ركله بقوة في بطنه وهو يقول بحدة "أتظنني سأرجوك لتجيب عن سؤالي؟ تكلم يا هذا.."
لم يظهر الرجل ألماً ولم تزايل ابتسامته شفتيه، فازداد غضب سلمة وهو يضربه بقوة مراراً على وجهه حتى أسال الدم من أنفه وفمه.. لكن جن جنونه لما رأى الرجل غير عابئ به وضحكته لا تخفت وهو يقول "أهذا كل ما عندك؟"
عندها استل سلمة سيفه ودفعه دون تردد في كتف الرجل بقوة.. أطلق الرجل صيحة ألم وهو غير قادر على الحركة لئلا يزداد ألمه مع بقاء النصل في كتفه، بينما قال سلمة بحنق "لست أدري لم تتكتم على ما تعرفه وحياتك بين يديّ.."
لهث الرجل بألم وقال "لأنني عرفت من وجهك أنك لست من النوع الذي يستلب أرواح البشر بسهولة.. فلا تدّعِ غير ذلك"
دفع سلمة السيف أكثر في كتف الرجل مثيراً آلامه وهو يصرخ بشدة فيما قال سلمة "لكنني لن أتوانى عن تعذيبك حتى تجيبني.. لن أتهاون أبداً في البحث عن الفتاة، ولست أملك الصبر الكافي لانتظارك.."
وجذب السيف بغير رفق تاركاً الرجل يتلوى من الألم.. وقبل أن يهدأ صراخه كان سلمة يدفع السيف من جديد في فخذ رجله وهو يراقب ملامحه بهدوء تام.. عليه العثور على جمان، مهما تطلب منه ذلك.. هذا كل ما كان يدور في ذهنه في تلك اللحظة وهو لا يكاد يرى العذاب على وجه الرجل ولا يكاد يسمع صراخه..
بعد مضيّ ساعة، كان الرجل يلهث بقوة وهو يرى سلمة يقف قريباً ينظر له بهدوء وصمت، فقال الرجل "أنت لا تنوي الاستسلام، أليس كذلك؟ ألا تعرف من نحن؟ ألم تسمع بجماعة أبو الذياب؟ ألا تعلم ما الذي سيفعله زعيمنا لو رأى ما فعلته؟"
قال سلمة "لا يهمني.. لو أخبرتني بما أريده منذ البدء لما نالك ما نالك"
بصق الرجل الدماء المتجمعة في فمه دون أن يجيب.. فرأى سلمة يتقدم من فخذه الجريح، ووجده يقبض على الجرح النازف بأصابعه بقوة ويضغط عليه مثيراً آلاماً جمّة جعلت الرجل يصرخ عالياً وهو يتلوى ألماً.. بينما قال سلمة "لا تضطرني لإيلامك أكثر.. إن أصررت على الصمت، لن أتوانى عن بتر أطرافك حتى تخضع لي.. فما الذي ستفيدك به عصابتك تلك عندما تفقد أطرافك؟ بل أجزم أنهم سيرمونك للسباع لأنك ستغدو بلا فائدة"
وضغط على الجرح بقوة أكبر، فصاح الرجل متألماً "كفى.. سأخبرك.. توقف أرجوك"
نظر له سلمة بصمت دون أن يخفف ضغطه على الجرح، فقال الرجل والعرق يتفصد من جبينه "لقد أخذوا الفتاة لمخبئنا في الجبال التي تبدو في الشرق.. هناك.."
وأشار بوجهه لجهة من الجهات، فتتبعه سلمة ببصره ملاحظاً الجبال التي بدت على مبعدة بشكل خفيف من سواد تلك الليلة، ثم تساءل "ما الذي سيفعلونه بها؟"
لهث الرجل وقال "أغلب الظن أنهم سيبيعونها في إحدى المدن البعيدة من هذه المنطقة.. ربما الموصل أو البصرة أو دمشق.. لا أعلم بالتحديد"
تخلى سلمة عن الجرح والرجل يغمغم من بين أسنانه متألماً "أيها الوغد.."
نهض سلمة واقفاً وهو يقول "يحسن بك أن تكون صادقاً.."
لم يعلق الرجل وهو يبصق المزيد من الدماء، عندما فوجئ بسلمة يضربه على رأسه بقوة بمقبض سيفه ضربة أفقدته وعيه على الفور.. فتنهد سلمة وهو يمسح يده المخضبة بالدماء متطلعاً للرجل الذي غاب عن وعيه وهو ينزف دماً في أكثر من موضع، ثم نظر شرقاً حيث تقع الجبال التي أشار إليها الرجل.. قبل أن يعود للجسد الملقى أرضاً ويشرع في تضميد جراحه بصمت.. رغم أنه لم يتوانَ عن استخدام القسوة في استجواب الرجل، لكنه كما حدس ذلك الرجل لم يكن من النوع الذي يقتل دون سبب.. والآن بعد أن حصل على ما يبتغيه من خبر جمان، فهو لا يستطيع قتل الرجل ولا يستطيع تركه ليقضي نحبه نزفاً في هذا الموقع المقفر.. وبعد أن انتهى من تضميد جراحه جيداً، فك وثاقه وترك حصانه مربوطاً في شجيرة قريبة قبل أن يطفئ النار التي قد تجذب لها الأنظار.. ثم امتطى حصانه ميمّماً وجهه شطر الجبال الشرقية بصمت..
***********************
أمضت جمان ليلتها الثانية بأسوأ حال.. ولما بدأ النور يزداد ويبدد الظلمة في جوانب الكهف، أسندت جمان رأسها للجدار الصخري بضيق وألم من قيدها المحكم.. تشعر أن قدماها تخدرتا وأنها فقدت الإحساس بأصابع يديها لقوة ضغط الحبل وعدم تحركها لساعات.. فصاحت متذمرة "أطلقوني.. لقد آلمني جسدي لطول جلوسي.."
قالت المرأة بصرامة "صمتاً.. أتظنين أن لك الخيار بذلك؟"
قالت جمان محتدة "هل سأبقى جالسة حتى نذهب للبصرة؟ لقد تعبت"
لم تعرها المرأة أي اهتمام، فعادت جمان تقول بحنق "أطلقيني.. ألا يمكنني الاغتسال والحصول على رداء نظيف على الأقل؟"
وجدت المرأة تنظر لها مفكرة للحظة، ثم نهضت قائلة "لا بأس.. ربما من الخير فعل ذلك.. فأنت بهذا الشكل ستنفرين كل من يراك ولن يشتريك أحد ولو بدرهم.."
رأتها جمان تتناول من صندوق قريب ملابس قطنية بلون سكري، واقتربت منها قائلة "لنأمل أنها مناسبة لك.."
حلّت قيد قدميها وأنهضتها ثم ساقتها معها خارجتين من الكهف ونزلتا من الجبل.. كانت السماء قد اصطبغت بحمرة ندية وأشرقت الشمس كقرص دامٍ في الأفق.. تلفتت جمان حولها بحثاً عن سبيل للهرب، ورأت الخيول المربوطة في جانب الجبل، بينما جذبتها المرأة معها وهما تقتربان من البئر الذي لم يكن بعيداً عن سفح الجبل.. رأت جمان البئر الذي لا يرتفع عن سطح الأرض، والذي كان ضيق الفتحة شيئاً ما إنما يسمح بمرور شخص متوسط الحجم.. اقتربت المرأة من جمان ففكت وثاق يدها وهي تقول "اخلعي ملابسك ولا تفكري بالهرب.."
نظرت جمان حولها وهي ترى المرأة تراقبها بدقة، فقالت مترددة "لا يمكن أن أخلع ملابسي هنا.. ألا يمكنني الذهاب لموقع أكثر ستراً؟.."
ضحكت المرأة وقالت "أتمزحين؟ لا داعي لاصطناع الحياء هذا.. هيا أسرعي وإلا دفعتك في هذا البئر.."
التمعت عينا جمان لما سمعته، بينما سارت المرأة نحو البئر فجذبت دلواً مربوطاً بحبل ودلّته من الفتحة الضيقة لاستجلاب بعض الماء.. توترت جمان وهي ترى الفرصة سانحة أمامها فلم تتردد ثانية، واندفعت نحو المرأة ودفعتها بأقوى ما تملك نحو الفتحة القريبة، فزلت قدم المرأة وهي تنزلق في الفتحة قبل أن تتشبث بالصخور القريبة وهي تصرخ "أيتها الوضيعة.. سأريك ما سينالك مني.."
لكن جمان غالبت ترددها وهي تقترب فتركل يد المرأة بشيء من القوة مما جعلها تنزلق أكثر في البئر وهي تصرخ بغضب وألم.. نظرت جمان عبر فتحة البئر بشيء من القلق، خوفاً من عودة المرأة بأسرع مما تتمنى وخوفاً من أن تتسبب بموتها فلم يكن هذا هدفها.. لكن رأت المرأة قد علقت وسط البئر وهي تتشبث بالصخور التي تكوّن جوانبه، ورفعت وجهها المحمر غضباً وهي تصيح بشدة "قفي مكانك أيتها الخبيثة.. إن حاولت الهرب فلن أتوانى عن قتلك.."
لكن ذلك التهديد لم يُثِر خوف جمان التي استدارت وركضت عائدة للجبل القريب حيث تقف الخيول وجلّ خوفها أن يسمع البقية صياح المرأة المتعالي.. اقتربت من موقع الخيول فنظرت للأعلى بتوتر خشية أن يراها الآخران، ولما لم تجد أثراً لأي منهما تقدمت من أحد الخيول وهي تهمس له "لا تخافي يا جميلة.. لن أؤذيك"
وأمسكت بلجامه فلم تجد منه ممانعة، بينما تعالى صياح المرأة أكثر وهي تنادي المدعو عبيدة.. ورغم آلام جسدها، فإن جمان قفزت على ظهر الحصان بعد أن فكت رباطه من الصخرة القريبة، عندما فوجئت بمن يقبض اللجام ويحاول جذبه.. نظرت جمان مخطوفة الأنفاس، فرأت عبيدة قد اقترب دون أن تلاحظه وهو يقول بحنق "إلى أين أيتها البلهاء؟"
وجدت جمان نفسها تلقائياً ترفع قدمها وتركله بأقوى ما عندها على وجهه.. ورغم أنه أقوى منها بمراحل، إلا أن الركلة قد دفعته لإفلات اللجام لوهلة، فلكزت جمان الحصان وركضت به مبتعدة بأسرع ما تستطيع وقلبها يدق بشدة.. رأت في طريقها المرأة قد غادرت البئر وهي تلوح بيدها غاضبة، لكن جمان لم تعبأ بها وكل همها أن تبتعد عن هذا الموقع.. حاولت تهدئة نفسها لتهدأ ضربات قلبها.. لقد ظنت لوهلة أن خطتها فشلت، وأنهم لن يتورعوا عن عقابها لما فعلته.. لكن الآن، فهي قد تمكنت من الهرب وعليها استغلال ذلك لئلا تسمح لهم بإعادتها لذلك المصير..
انتبهت لصوت خلفها، فالتفتت لترى المدعو عبيدة قد امتطى حصاناً آخر وبدأ اللحاق بها.. فاعتراها قلق حقيقي وهي تراه يقترب منها بسرعة.. لكزت جمان الحصان مرة تلو الأخرى وهي تهمس "لا تخذلني الآن يا حصاني العزيز.."
رغم ما بذلته، وجدت جمان أن الحصان الآخر يقترب منها حثيثاً بشكل روّعها وهي تلكز حصانها بقوة.. كان السهل الفسيح أمامها ولا مخبأ يمكنها اللجوء إليه.. فأين المهرب؟..
فوجئت جمان بالرجل، بعد أن عجز عن اللحاق بها وإيقافها لفترة، يستخرج من جراب الحصان حبلاً مربوطاً بحجرين مما يستخدمه قطاع الطرق عادة في عرقلة الخيول.. فلوح بالحبل للحظات قبل أن يرميه بدقة نحو قدمي الحصان الذي تركبه جمان، ولم يلبث الحبل أن أحاط قدمي الحصان وعرقل سيره ليكبو على وجهه بقوة وهو يطلق صهيلاً عالياً.. فسقطت جمان بقوة بدورها لتوقف الحصان المفاجئ وتدحرجت بشكل مؤلم، والرجل قد أوقف حصانه بدوره وترجل منه بينما فزع الحصان الآخر وفرّ فور أن نهض من كبوته وتخلص من الحبل الذي عرقل سيره.. اقترب الرجل من جمان بسحنة غاضبة وجذبها من ذراعها بقوة لإيقافها قائلاً بحنق "أكان يجب أن تفعلي ما فعلته؟.. لقد فقدنا الحصان بسببك والزعيم سيغضب لذلك.. كيف تريدين مني معاقبتك على ما فعلته؟"
صاحت جمان وهي تدفعه عنها "اتركني.. لا يحق لك استعبادي وبيعي.."
جذبها خلفه عنوة نحو الحصان وهو يقول "قولي هذا لمن سيشتريك.."
حاولت جمان تحرير يدها ودفعه عنها بشتى الطرق دون فائدة.. لا يمكن أن تفشل بهذه السرعة.. لا يمكن أن يكون هذا هو آخر المطاف.. لكن، كيف السبيل للهرب الآن؟..
في تلك الأثناء، كان سلمة يتقدم من الموضع الذي أشار إليه الرجل سابقاً وقد بدت له الجبال من هذا القرب مكونة من سلسلة من الجبال المتصلة.. فتساءل بقلق إن كانت جمان في الجبل الأقرب إليه أم أنها في موضع آخر من تلك السلسلة.. كيف سيهتدي إليها؟.. ربما كان عليه إحضار الرجل معه حتى لا يضيّع المزيد من الوقت..
رأى في تلك اللحظة حصاناً يركض أمامه على مبعدة بحيث لم يلحظه راكبه، وعلى ظهره ما بدا له كفتىً بملابس عادية، ويلحقه رجل على حصان آخر بشكل حثيث.. قطب سلمة وهو يراقب ما يجري متسائلاً في نفسه إن كان عليه الإمساك بأحدهما لاستجوابه.. ربما كان ذلك الفتى هارباً من قطاع الطرق كذلك..
تأكد لسلمة هذا الظن وهو يرى الرجل يستخدم الحبل بالحجرين لإيقاف الحصان وإسقاط من عليه.. ولم يلبث أن وقف قريباً منه وترجل نحو الفتى فجذبه من سقطته بقوة.. لكن لما رأى العمامة تسقط والشعر الطويل ينسدل على ظهر الفتى، خفق قلب سلمة بقوة وقد أدرك أن ذلك الذي ظنه فتىً ما هو إلا جمان.. لابد أن تكون هي.. فلكز حصانه بسرعة متجهاً إليهما وهو يرى مقاومة جمان الشديدة رغم ضعفها وهي تصيح بالرجل "اتركني.."
وصل لموقعهما بسرعة فقفز من حصانه وهو يستلّ سيفه ويصيح بغضب "اتركها.."
التفتت جمان للصوت برجفة في جسدها.. ثم اتسعت عيناها وهي تنظر للقادم دون أن تصدق ما تراه.. حدقت به للحظات محاولة التأكد أن هذا ليس هذياناً منها بعد طول تمني ورجاء.. لكن رغم إنهاكه ورغم أنه بدا بأسوأ حال، إلا أنه لم يكن إلا سلمة.. فدمعت عيناها لمرآه وهي تصيح "سـلـمــــــة.."
بينما جذبها الرجل إليه وهو يقول بحدة "من أنت؟ وما الذي تريده؟"
تقدم سلمة منه وهو يقبض على سيفه بقوة قائلاً بغضب "قلت لك اترك الفتاة.. ألا تفهم؟"
قطب الرجل وهو يمسك مقبض سيفه بدوره وقال "ارحل يا هذا.. لا شأن لك بما يجري هنا.."
لكن جمان عضّت يده بقوة شديدة فصرخ متألماً، بينما انفلتت جمان من يده وتراجعت مبتعدة عنه.. فاستغل سلمة الفرصة وقفز نحو الرجل مسدداً له ضربة بمقبض سيفه.. فلم يكد الرجل يرفع رأسه وقد فوجئ بالضربة القوية التي أصابته في جانب رأسه وأسقطته أرضاً فاقد الوعي.. زفر سلمة وهو يرى الرجل يسقط بلا حراك، ثم أعاد سيفه لغمده وهو يلتفت إلى جمان التي وقفت جانباً وهي تقبض على يديها بشدة وتنظر له بعينين متسعتين.. فشعر براحة عميقة وهو يراها بخير، رغم أنه لا يعلم ما الذي جرى لها خلال اليومين الماضيين.. لكن عثوره عليها أسعده بشدة بحيث لم يملك اللهفة التي بدت في ملامحه وهو يقترب منها..
أما جمان فقد التمعت الدموع في عينيها رغماً عنها وهي تنظر له.. رغم أنها عزمت على ألا تظهر ضعفها أمامه أبداً، رغم أنها تمنـّت أن يراها قوية كيلا يشمئز منها، إلا أن مشاعرها قد تغلبت عليها وهي تراه أخيراً بعد أوقات بدت لها كدهر كامل.. فصاحت بشيء من الغضب، من نفسها ومن دموعها بالأحرى "أين كنت؟ كيف تترك التتار يختطفوني بهذه السهولة؟.."
اقترب منها سلمة قائلاً "أنا آسف لذلك.."
خفضت وجهها والدموع تنحدر على خديها وهي تقول بحدة "لقد انتظرتك ساعات وساعات.. لكنك لم تأت.. ظننتك حقاً قد تخليت عني وهربت.. لقد..... لقد......."
لم تستطع قول المزيد وهي تبكي بحرقة.. فهبّ إليها سلمة وهو يسألها بقلق عارم "أأنت بخير يا جمان؟ هل آذوك؟"
تشبثت جمان بملابسه بقوة وكأنها تخشى أن يهرب منها، وأسندت رأسها لصدره وهي تنشج باكية وقد فقدت السيطرة على ما كبتته من مشاعر طوال الأيام الماضية.. الذعر غير المتعقل.. الألم واليأس.. الخوف الذي ينهش قلبها بقوة.. لم تكن تعتقد أن مرأى سلمة سيُظهر كل ما حاولت السيطرة عليه وقد ظنت نفسها قد أضحت أقوى من السابق.. لكن قوتها المزعومة قد تهاوت فور أن رأته، وأدركت كم هي ضعيفة نفسٍ وبحاجة لوجوده بقوة.. بحاجة لحمايته، وللشعور بالأمان الذي يغمر أعماقها كلما كان قريباً.. ولم تكن تدرك أنها ضائعة تماماً بدونه..
ومع مرأى بكائها وتشبثها به، ازداد قلق سلمه وهو يقول بإلحاح "ما الذي جرى يا جمان؟ ما الذي فعلوه بك؟"
لم تجبه وهي تتشبث به أكثر وتقول باكية "لا تتركني مرة أخرى.. لا ترحل يا سلمة أرجوك.."
رغم أن قولها هذا قد أشعل قلقه أكثر، إلا أنه لم يلحّ بأسئلته وهو يمسك كتفيها ويقول بانفعال حاول كتمه "لا تخافي يا جمان.. لا أنوي مفارقتك أبداً بعد الآن.. الحمدلله أنني تمكنت من العثور عليك وقد كدت أقضي نحبي لشدة قلقي عليك.."
ظلت جمان تبكي بحزن مرير محاولة تناسي كل ما رأته وشهدته من رعب في وقت قصير نسبياً، وإن كان يبدو لعينيها زماناً أبدياً لم تشهد مثله في سنواتها السابقة.. بينما غالب سلمة شوقه إليها ولهفته لاحتضانها بقوة وهو يكتفي بالضغط على كتفيها ويهمس "حمداً لله على عودتك لي يا فتاتي.. حمداً لله.."
***********************
~ بعيدا عن الخيال (٩) ~
قطاع الطرق
من الجرائم التي ارتكبت ضد القوافل ما حدث لقافلة حجاج خراسانيين قبل وصولهم إلى بغداد أنهم لما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قصدوا طبرستان سنة ٥٥٢هـ، فأخذوا من أمتعتهم، وقتلوا نفراً منهم وسلم الباقون، وساروا من موضعهم، فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيليون، فقاتلهم الحجاج قتالاً عظيماً وصبروا صبراً عظيماً؛ فقتل أميرهم، فانخذلوا وألقوا بأيديهم، واستسلموا وطلبوا الأمان، وألقوا أسلحتهم مستأمنين، فأخذهم الإسماعيليون، وقتلوهم، ولم يبق منهم إلا شرذمة يسيرة، وقتل منهم الأئمة والعلماء والزهاد والصالحون وجمع كثير، وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام وخصت خراسان، ولم يبق بلد إلا وفيه مأتم. فلما كان من الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي: يا مسلمون يا حجاج، ذهب الملاحدة وأنا رجل مسلم، فمن أراد الماء سقيته. فمن كلمه قتله، وأجهز عليه، فهلكوا جميعاً إلا من سلم، وولى هارباً، وقليل ما هم.
((أمن حركة الحج من المشرق الإسلامي خلال العصور العباسية المتأخرة))
عبدالرحمن بن علي السنيدي
***********************
|