كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
مقدمة
"لا..... لا...... أرجوك يا أبي.. أنا لا أريد الذهاب.."
"هيا.. فات أوان البكاء.."
"أمي.. أرجوك.. لا تسمحي لهم بأن يأخذوني.. أمــــي......"
"........................"
"أبي.. لِمَ تفعل هذا؟.. ما الذي فعلته لأستحق هذا؟.."
"................................."
"أأنت غاضب مني؟.. أخبرني بما تريده وسأفعله،
سأطيعك في كل أمر فلا تدعهم يأخذوني.."
"تحرك بسرعة وإلا صفعتك بقوة على وجهك.."
أرجوكم.. أنا لا أريد الذهاب..
لا أريد الرحيل..
لِمَ تفعلون بي هذا؟؟...
أبـــي.. أمـــي......
لماذا؟؟........
***********************
~ الفصل الأول ~
منتصف القرن الهجري السابع....
والعالم الإسلامي في أسوأ حالاته الممكنة.. فبعد عصور طويلة حكمته فيها الدولة العباسية بقوة وحكمة، بدأ الوهن يدبّ في أعضائها وبدأت تتمزق وتتفتت إلى دويلات صغيرة مستقلة مثل الموحدين في المغرب العربي والأندلس، والأيوبيين في مصر والشام ومن بعدهم المماليك، والغوريين في الهند، والسلاجقة في الأناضول، والدولة الخوارزمية في فارس وما يتاخمها من شرق الدولة الإسلامية.. ولم يبقَ من آثار الخلافة الإسلامية القوية التي كانت تثير الرهبة في نفوس أعدائها، إلا الخليفة العباسي الذي كانت خلافته صورية، ولا تتجاوز بغداد وأجزاء من العراق..
ولما كان الأمر على هذا الحال، لم يكن من المستغرب أن يحاط العالم الإسلامي بأعداء من كل صوب وحدب.. وطمعهم يتزايد في استقطاع بعض أجزاء من العالم الإسلامي، وهدفهم الأكبر هو في السيطرة على معقل الخلافة الإسلامية وتحطيم الدولة الإسلامية تماماً.. ومن هؤلاء الإمبراطورية البيزنطية ذات العداء المتأصل مع المسلمين، ومملكة أرمينيا التي خاضت حروباً طويلة مع السلاجقة، ومملكة الكـُرج التي لم تتوقف الحروب بينها وبين الدولة الخوارزمية، بالإضافة للإمارات الصليبية في الشام وفلسطين، ولا ننسى التتار الذين بدأوا يجتاحون أجزاء كبيرة من الدولة الخوارزمية منذ عدة سنوات، وقد عجز سلطانها (محمد خوارزم شاه) عن صدّهم ففضل الهرب منهم حتى وافته المنيّة.. كما عجز خليفته السلطان (جلال الدين) عن صدّهم فهرب إلى الهند، وعاد بعد خمس سنين ليشن حرباً شرسة على الجانب الشرقي من العراق ضد الخليفة العباسي بهدف توسيع ملكه غرباً، مما يجعل الحيرة تغمرنا لما آل إليه المسلمون في تلك السنوات.. ولم يلبث السلطان (جلال الدين) أن خسر جيشه وقضى نحبه دون أن ينجح في صد التتار أو استعادة ملكه القديم..
لكن.. لنترك بغداد وخليفة المسلمين الضعيف، والذي أغمض عينيه وصمّ أذنيه عن كل ما يجري حوله مادامت بغداد آمنة.. ولنترك الكوفة العامرة في الجنوب الغربي من بغداد.. لنتوقف عند قلعة تبعد مسير يوم عن الكوفة، متوسطة الحجم يحيطها سور كبير بأربع أبواب رئيسية، وهي قلعة (سنداد).. يحكم القلعة أحد الولاة التابعين للخليفة العباسي، وفي وسطها قصره الفخم الذي اعتنى بإبراز جماله وملئه بالخدم والجواري من كل صنف ولون.. وباراه في ذلك تجار القلعة وأغنيائها، فأكلت قصورهم جانباً كبيراً من القلعة، بينما احتلت البيوت البسيطة للعامة ما تبقى من أحيائها.. وفيها جيش يتبع الخليفة ويحمي ساكنيها من أي هجوم غير متوقع..
وعلى مبعدة من تلك القلعة، في موقع يفصل بينهما مساحات عشبية غزتها بعض الأشجار المتفرقة، ولا يبعد الكثير عن الفرات الذي يشق تلك الأراضي متجهاً نحو الجنوب، يقع قصر متفرد أراد له صاحبه أن يكون منزوياً بعيداً عن البشر.. كان القصر فخماً، وإن كان متوسط الحجم مقارنة بقصور القلعة، بطابقين وغرف لا تقل عن العشرين رغم أن سكانه لا يتجاوزون صاحب القصر التاجر (ربيعة بن حبّاب) وابنته.. واجهة القصر مزينة بفسيفساء باللون الأزرق والأخضر والأبيض بأشكال هندسية متماثلة، ونوافذه ذات أطر خشبية وعوارض مزخرفة وفوقها ظلة دائرية تخفف وهج الشمس عن غرفها، وبابه الخشبي الثقيل مزخرف ومزين بشرائح من الذهب.. كان القصر مكوناً من عدد من القاعات التي زينت جدرانها بزخارف ملونة لأشجار وأوراق منمنمة، وزيّن السقف من الفسيفساء المتقنة الجميلة التي ينعكس عليها النور بشكل جميل.. وقد فرشت الأرضية بالسجاد الفارسي المزخرف ووزعت عليه الطنافس والمطارح، وعلى النوافذ ستائر حريرية مزركشة بألوان زاهية.. وحول القصر حدائق واسعة زينت بعدد كبير من الأشجار مختلفة الأنواع والتي منحت المكان مظهراً جميلاً وجعلت الجو ألطف وأخف حرارة عما سواه.. وبين الأشجار والممرات الحجرية التي تقطعها، وضع عدد من الكراسي الرخامية في أنحاء متفرقة لتساعد أصحاب القصر على الاسترخاء والاستمتاع بالجو اللطيف وبأصوات مختلف أنواع العصافير والحمام التي اتخذت من تلك الأشجار أعشاشاً لها..
وفي جانب من المكان، بنيت عدة حظائر لعدد من الحيوانات واسطبلات لعدد أكبر من الخيول.. وحول تلك الحدائق، سور حجري عالٍ اعتنى صاحب القصر به حماية له من قطاع الطرق وممن قد تسوّل له نفسه التعدي على ساكنيه في هذا الموقع المتطرف البعيد عن المدن والقرى..
لم يكن ساكنوا القصر، بخلاف ربيعة وابنته، يقلون عن أربعين شخصاً من العبيد والجواري الذين استخدمهم ربيعة في خدمته والقيام بشؤون القصر وما حوله.. وفي أحد الممرات المؤدية للطابق العلوي من ذلك القصر، سارت خديجة، وهي إحدى النسوة العاملات في القصر، بسرعة واللهفة واضحة على وجهها الذي بدأت التجاعيد تغزوه وخصلات بيضاء تتخلل سواد شعرها.. وكلما اقتربت منها إحدى الجواري لتحدثها بأمر ما، لوّحت بيدها لتصرفها دون أن تتوقف وهي تصعد للطابق العلوي من القصر متجهة لزاوية منه.. ثم اقتحمت جناحاً قريباً بعد طرقات سريعة على بابه وهي تقول بلهفة "جمان.. لديّ من الأخبار ما سيطرب له قلبك.."
وفي نهاية الجناح الواسع، والذي يضوع برائحة خفيفة من عطر البنفسج، اتجهت خديجة نحو فتاة تجلس في جانبه قريبة من نافذة واسعة وهي تقول بسعادة "لم أسعد يوماً كما شعرت قبل قليل.. عندما استدعاني مولاي لم أكن أعلم أنه سيزف لي خبراً مثل هذا.."
التفتت لها الفتاة بصمت وحيرة، وخديجة تتأملها بصمت.. لم تكن الفتاة تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، رقيقة الملامح، ببشرة بيضاء شاحبة، وشعر أسود فاحم اعتنت بإطالته حتى تجاوز خصرها، وقد لمّت خصلاته بشرائط زاهية تنسدل معه، وجسد نحيل لا يوحي بقوة رغم أن الفتاة مليئة بالنشاط عادة.. لكن أكثر ما يلفت إليها النظر عيناها السوداوان الداعجتان برموشها الطويلة التي تزيدها جمالاً..
غمغمت خديجة وهي تبتسم "محظوظ هو حقاً.."
فقالت جمان بصوتها ذو البحة الخافتة "ما بالك اليوم يا خديجة؟ أنت تتكلمين بألغاز لا أفقه منها شيئاً.."
جلست خديجة قريباً منها وهي تعدل خصلات شعر الفتاة لتزيحها عن وجهها قائلة "لقد أخبرني مولاي اليوم بخبر أطربني.. أتعرفين عبدالله بن جعفر قائد جيش قلعة سنداد؟ ذاك الذي دائماً ما يأتي لزيارة مولاي بين حين وآخر"
قالت جمان بحيرة "أعرفه طبعاً.. ما به؟"
قالت خديجة بابتسامة متسعة "لقد أبلغ مولاي برغبته خطبتك لابنه الأكبر.. ستتزوجين قريباً يا فتاتي.."
اتسعت عينا جمان بدهشة، قبل أن يعتري القلق ملامحها وهي تغمغم "وهل وافق أبي؟"
قالت خديجة "لا أرى ما يمنع ذلك.."
خفضت جمان رأسها بقلق واضح ويداها تعبثان بقلادة حول عنقها مذهبة ذات زمردة خضراء وسطها، فسألتها خديجة بتعجب "ما الأمر يا عزيزتي؟ لِمَ غلبك الهمّ بهذه الصورة؟"
أدارت جمان وجهها جانباً مغمغمة "لكني لا أعرفه، ولا أعرف كيف ستكون حياتي بعد زواجي منه.. لا أظن أن أبي سيرفض شخصاً ذا قدر كبير مثله، لكن ماذا لو أساء لي؟"
ابتسمت خديجة قائلة "وكيف لشخص أن يسيء لفتاة مثلك؟ ستكون حياتك هناك رائعة كما هي هنا.. فلا داعي لهذه المخاوف.."
ابتسمت جمان بخجل واضح، فاحتضنتها خديجة بحنان وهي تقول بصوت متهدج "يا لعروسي الجميلة.. من كان يصدق أن أشهد هذا اليوم؟"
غمغمت جمان "لكن شيئاً لم يحدث بعد.. فلم كل هذه السعادة؟"
أحاطت خديجة وجه الفتاة براحتيها وهي تقول "وكيف لا أكون سعيدة؟.. صغيرتي.. طفلتي التي ربيتها على ذراعيّ هاتين.. ستغدو عروساً رائعة الجمال.."
ضحكت جمان بسرور وهي تقول "عادة لا أسمع منك إلا التقريع لشأن أو لآخر.. إن كان زواجي سيغير طباعك تلك فأنا أكثر سعادة به.."
دلفت إحدى الجواري الجناح قائلة "مولاي يرغب بلقائك في مجلسه يا مولاتي.."
نظرت جمان لخديجة وخداها يحمران وهي تقول "أتظنين أنه سيحدثني عن هذه الخطبة؟"
ابتسمت خديجة مجيبة "أظن ذلك.. هيا، لا تدّعي الخجل واذهبي إليه قبل أن ينفذ صبره.."
تنهدت جمان وهي تقف وتسوّي ملابسها، ثم تخرج من جناحها متجهة نحو مجلس أبيها الذي يقع في الجانب الآخر من القصر.. كان مجلسه عبارة عن غرفة واسعة منيرة لوجود عدد من النوافذ التي توزعت في جدرانها، وقد فتحت مصاريعها الخشبية سامحة للنور والنسم العليل بالتغلغل فيها.. وفي عدد من زواياها أرفف عديدة ملئت بكتب ذات أغلفة جلدية مذهبة العناوين، فقد كان أبوها ممن يعشقون جمع الكتب القيّمة، ويقضي جلّ وقته يتصفحها ويدقق في محتوياتها.. وفور أن دلفت الغرفة، وجدت جمان أباها في زاوية المكان على كرسي خشبي يقع قرب إحدى النوافذ، وهو كعادته يحمل كتاباً في يده يقرؤه بتمعن.. كان أبوها، ربيعة بن حباب، في أوسط عمره بلحية وشعر أسود خالطه البياض في مواضع كثيرة، ووجه هادئ وإن لوّحته الشمس بقسوة لكثرة رحلاته التي يقوم بها مع قوافل تجارته التي لا تتوقف أغلب السنة.. يعتني بهندامه الفخم ويرتدي عمامة على رأسه، بينما زيّنت أصابعه عدة خواتم فضية..
لما رآها تدلف بصمت هشّ لها ربيعة وهو يقول "صباح جميل يا جمان.. سعيد برؤيتك هذا الصباح يا ابنتي الجميلة"
ابتسمت بشيء من الخجل مغمغمة "أنت لا تفصح عن سعادتك برؤيتي كل يوم.. ألهذا سبب ما؟.."
اتسعت ابتسامة ربيعة معلقاً "أتظنين أني لا أعلم بأن خديجة قد أخبرتك بالأمر كله؟ تلك المرأة لا تستطيع أن تبقي على سرّ لأكثر من دقائق معدودة"
جلست جمان على كرسي قريب وهي تعلق "أهو سرّ؟"
أجاب ربيعة وهو يضع الكتاب بيده جانباً "ليس تماماً.. إنما رغبت بأن أبلغك بالأمر بنفسي.. والآن قد أفسدتْ خديجة علىّ متعتي برؤية ردة فعلك للأمر.."
احمرّ وجه جمان مغمغمة "أنتما تهزءان بي.."
ضحك ربيعة وهو يمسك بيدها قائلاً "يا ابنتي.. من يمكنه أن يهزأ منك؟.. إنما هي فرصة لن تتكرر، بما أنني لا أملك ابنة غيرك.. والآن، ما هو ردك على خطبة ابن عبدالله بن جعفر لك؟"
خفضت جمان وجهها محاولة ألا تظهر مشاعرها بوضوح، ثم قالت بخفوت "ألست موافقاً على تلك الخطبة يا أبي؟.. فما أهمية رأيي أنا؟"
شدّ على يدها وهو يجيب "موافق طبعاً وإلا ما عرضت الأمر عليك.. لكن رأيك يهمني يا ابنتي.. لن تجدي من هو أفضل من هذا الشاب، فقد التقيته بضع مرات وهو شاب طيب ودمث الأخلاق.. لكن إن لم تكوني موافقة على هذا الزواج فلا يمكن أن يتمّ أبداً"
ظلت جمان مطرقة للحظات وهي تفكر في الأمر.. رغم أن الموضوع كان مفاجئاً لها، إلا أنها لا تجد سبباً لرفضه، خاصة مع سعادة أبيها به كما يبدو من حديثه.. عاد يسألها "إذن يا ابنتي.. ما رأيك؟"
احمر خداها وهي تخفض وجهها وتقول بخفوت "الرأي رأيك يا أبي.."
اتسعت ابتسامة ربيعة وقال "رائع.. إذن اليوم سيحضر عبدالله بن جعفر وابنه لزيارتنا ولرؤيتك.. فقد أصرّ على هذا.."
نظرت له جمان بتوتر كبير وقد فوجئت بالأمر، ثم غمغمت بارتباك "أهذا ضروري؟ لا أستطيع ذلك.. ما الذي سيظنه بي؟"
قال الأب هازاً رأسه "لقد ألحّ عبدالله بن جعفر بذلك، وهذا حق الخاطب أيضاً يا فتاتي.. فما دمنا قد وافقنا على خطبته من حقه أن يراك وتريه قبل أن نستكمل الزفاف.. لا تخشي شيئاً، سيكون ذلك لوقت قصير فقط.."
فركت جمان كفيها بتوتر، وهزت رأسها موافقة.. فقال ربيعة وهو يربت على كتفها "ستكون الأمور على ما يرام.. ثقي بذلك"
ابتسمت له ابتسامة لم تخلُ من التوتر، ثم نهضت مغادرة المجلس بصمت.. هذه تغييرات جوهرية تحدث في حياتها بشكل مفاجئ، ولا تدري إن كانت حقاً تستطيع التفاؤل بهذا التغيير أم لا..
***********************
في عصر ذلك اليوم، كانت جمان تغادر القصر وتسير عبر الحدائق المحيطة به مرتدية لباساً خمري اللون مطرز بخيوط ذهبية ورصعته لآلئ في جوانب عديدة منه.. وقد لفـّت شعرها الطويل وثبتته على رأسها وغطته بالبرنس، وهو غطاء للرأس يخفي ما تحته من الشعر، المرصع بالجواهر والمحلى بسلاسل ذهبية رقيقة وبالأحجار الكريمة.. نظرت جمان لجانب من الحديقة حيث وقف أبوها مع ضيفيه.. فجذبت نفساً عميقاً محاولة أن تثبـّت خطواتها لئلا تتعثر لشدة حرجها وغمغمت "لابد أنني أبدو خرقاء في نظرهما.. يا إلهي ماذا أفعل؟"
قالت إحدى الجواري من خلفها مبتسمة "أنت جميلة يا مولاتي.. لا تقلقي، لا أظن الشاب سيغادر إلا وهو معجب بك أشد الإعجاب.."
لم تعلق جمان وهي تقترب أكثر من الرجال الثلاثة الذين كانوا يتجولون في حدائق القصر، وقد توقفوا مع اقترابها بينما تأخرت الجارية التي كانت تتبعها، فقال ربيعة مبتسماً "ها هي درّتي وجمانتي الوحيدة.. اقتربي يا ابنتي.."
ألقت جمان عليهم السلام بصوت خفيض خجل وهي تخفض بصرها متجنبة النظر للشاب الذي وقف على يمين عبدالله بن جعفر قائد جيوش القلعة، بينما قال عبدالله بصوت عالٍ "ونِعْمَ الفتاة هي.. لا أظنني سأجد أجمل منها لتنضمّ لعائلتنا زوجة لابني.. أليس كذلك يا عامر؟"
التقت عينا جمان بعيني الشاب فخفضتهما بسرعة وخجل والشاب يقول مبتسماً "بالطبع.. هذا شرف لنا في الحقيقة أن نناسب عائلة ذات وجاهة كعائلتك يا سيدي.."
ابتسم ربيعة بفخر وهمّ بقول شيء، لكنه وجد عبدالله يجذبه من ذراعه ليكملا سيرهما في الحدائق، بينما تأخر عامر قليلاً وهو ينظر لجمان التي وقفت بتوتر شديد.. فابتسم لها وهو يشير بيده لتسير معه خلف الرجلين الذين تقدما قليلاً.. تزايد حرج جمان وهي تنظر لأبيها الذي لم يعترض وإن ألقى عليها نظرة ضيق.. فزفرت جمان بتوتر وهي تتبع الشاب بخطوات مترددة، وأخذت تسترق النظر لوجهه كلما التفت بعيداً عنها.. كان وسيماً، ولأنها لم تر كثيراً من الشبان من قبل فهي لم ترَ من هو أكثر وسامة منه.. شعره أسود فاحم يبدو على شيء من الطول من تحت عمامته الفاخرة، بسمرة خفيفة وعينان سوداوان لامعتان.. طويل القامة ويرتدي رداءً فخماً بدا أنه اعتنى باختياره، ولحيته مشذبة بعناية.. ولما نظر إليها مبتسماً خفضت بصرها من جديد بصمت حتى سمعته يقول "إذن، اسمك جمان.. أليس كذلك؟"
هزت رأسها إيجاباً دون أن تتفوه بكلمة، فقال لها "إن لم تبادليني الحديث فلن أستفيد أمراً من قدومي اليوم.."
ابتلعت ريقها بتوتر وقالت بصوت خافت "ما الذي تريد مني قوله؟"
فسألها "كم عمرك؟"
أجابت بتردد "تجاوزت الخامسة عشر من عمري.."
لم يعلق عامر وهو ينظر حوله مما جعلها تتوتر أكثر.. أهذا جيد أم سيء؟.. سمعته يقول بعد لحظة "ألا تمانعين مغادرة مكان جميل كهذا والعيش في القلعة؟ نملك قصراً كبيراً وحدائق واسعة حوله، لكنها ليست باتساع هذه الحدائق.."
هزت جمان كتفيها دون أن تجيب.. فقال عامر وهو يتفحص ملامحها "أبي كما تعلمين هو قائد جيش قلعة سنداد، وهي مكانة كبيرة يجب أن نأخذها بالاعتبار.. فلا يمكنني قبول أي فتاة كزوجة لي إلا لو كانت تستحق ذلك.."
شعرت جمان بشيء من عدم الراحة لقوله، لكنه قال وهو ينظر إليها "لكنني سعيد أنني فكرت بخطبة ابنة التاجر ربيعة بن حباب.. لم أكن أظن أنه يخبئ فتاة بهذا الجمال في قصره المنعزل هذا.."
صمتت جمان وهي تخفض وجهها الذي توردّ بشدة، فابتسم عامر وهو يقول "بعد أن رأيتك، أنا الآن أشد إلحاحاً لإتمام هذا الزواج.."
سمعا نداءً خافتاً من جهة الرجلين اللذين ابتعدا قليلاً، لكن عامر بدا متجاهلاً له بشكل تام.. فغمغمت جمان بصوت خفيض مرتبك "أبي يناديك.."
اتسعت ابتسامة عامر وهو يتأملها، ثم قال "إذن، يا أميرتي العزيزة.. سأذهب للحديث مع أبيك، ولن أرحل حتى نحدد موعداً لهذا الزواج.."
عاد يسمع نداء ربيعة الذي تعالى بإلحاح، فودعها عامر وغادر وجمان تراقبه بمشاعر مختلطة.. كانت تشعر بخجل شديد وهي ترى شاباً وسيماً مثله مهتماً بها، وهذا بالتأكيد يغمرها بسعادة لا مثيل لها.. لكن، هل حقاً ستكون أكثر سعادة في قصر زوجها كما هي في قصر أبيها؟ هل سيعاملها معاملة حسنة؟ هل وهل....؟ أسئلة عديدة تدور في عقلها وهي تفكر في ذلك المستقبل المجهول الذي ينتظرها مع شخص لا تكاد تعرف عنه شيئاً..
انتبهت جمان في تلك اللحظة لصوت خافت خلفها، فأدارت وجهها لتنظر باستغراب نحو موقع الصوت.. وخلف شجرة متوسطة الحجم لا تبعد إلا بضع خطوات منها، رأت شاباً يجلس مستنداً إليها بظهره وقد أراح سيفه على ركبته وهو يتأمل نصله بإمعان، بينما رقد الغمد على الأعشاب بجواره.. فاقتربت منه متسائلة "سَلـَمَة؟ ما الذي تفعله في هذا المكان؟"
وقطبت قليلاً مضيفة "هل كنت تتنصّت علينا؟"
التفت الشاب إليها بعد أن أعاد سيفه لغمده بحرص قائلاً "وما المهم في حديثكما لأتنصت عليه؟.."
كانت ملامحه هادئة لا توحي بأي انفعال كعادته، وهو ما كان يغيظها أحياناً.. رغم أنه لم يكن بوسامة عامر، إلا أن ملامحه مريحة للناظر إليه بوجهه النحيف وشعره البني بلون البندق، وعيناه العسليتان الحادتان اللتان يضيقهما تفادياً لنور الشمس.. بلحية وشارب خفيفين، وبشرة جاهد لتصبغها الشمس بسمرة خفيفة متخلصاً من بياضها السابق.. ورغم نحول جسده، إلا أنه يمتلك مهارة في استخدام سيفه.. وقد اعتنى ربيعة بتدريبه على استخدام كافة أدوات القتال ليكون عوناً له في رحلات قوافله التي لا تنتهي..
قالت جمان وهي تقترب منه خطوات متخلية عن تقطيبها السابق "أسمعت بما جرى؟"
لم يعلق سلمة وهو يرفع بصره ليرى ابتسامتها السعيدة وهي تضيف "ذلك الشاب الذي كان يحدثني.. اسمه عامر، وهو ابن قائد جيش قلعة سنداد.. "
واستدارت ناظرة للموقع الذي وقف فيه عامر مع أبيها يتحدثان مضيفة بابتسامة خجولة "لقد خطبني من أبي.."
لم تجد من سلمة استجابة لقولها، فنظرت له بتعجب لتجده قد وقف وهو يثبت غمد السيف في حزامه الجلدي، ولما سألته "ما رأيك؟ أليس خبراً سعيداً؟"
أجاب بهدوء "بالطبع.. هكذا أتخلص من ملاحقتك بين يوم وآخر كما أفعل عادة.. وقد يغدو القصر أكثر هناءً من السابق"
وأضاف بابتسامة صغيرة "أرى أن تزيلي هذه الابتسامة البلهاء من وجهك، لئلا يهرب الشاب قبل إتمام ذلك الزواج"
وغادر الموقع بصمت وهي تنظر له بدهشة مستنكرة لتعليقه الجارح، قبل أن تقول بحنق "أنت أحمق يا سلمة.."
لم يستدر أو يعلق على قولها الذي سمعه بوضوح وهو يحث الخطى نحو مبنىً متوسط الحجم عادي المظهر يقع في زاوية الحدائق الواسعة المحيطة بالقصر، بينما استدارت جمان بدورها بشيء من الغيظ لتجد أباها يتحدث مع عامر ويضحك بصوت عالٍ.. بدا مسروراً، مما يؤكد لها أنه راضٍ كل الرضى عن هذا الزواج الوشيك، ولم تفتها النظرات التي يلقيها عليها عامر بين لحظة وأخرى.. فغلبها الخجل وهي تخفض رأسها وتسير بخطوات مرتبكة نحو القصر.. تباً لك يا سلمة.. من يهتم بما تعتقده؟ إنها اليوم سعيدة.. ويبدو أنها دخلت من أوسع أبواب السعادة منذ هذه اللحظة، وما خلف الباب أكثر جمالاً وروعة بلا ريب..
***********************
في تلك الليلة، جلست جمان قرب نافذتها تراقب خيوط القمر الفضية بافتتان ظاهر.. لا تدر لمَ، لكن كل شيء في القصر وخارجه بدا جميلاً اليوم.. أهو الحب؟ احمر خداها بشدة وهي تضع يديها عليهما متحسسة الحرارة التي غزتهما.. أيمكن أن يكون حباً؟ هل وقعت فيه بهذه السرعة؟ هل أحبت عامراً من اللقاء الأول؟ لكنه يستحق.. أليس كذلك؟.. شاب بوسامته ولطفه ورقته، لا يمكن ألا يغزو قلب أي فتاة منذ اللحظة الأولى..
تنهدت وهي مستغرقة في تأمل الحدائق المحيطة بالقصر، والتي غسلها القمر بنوره الفضي.. ولا يعكر صفو ذلك الجمال إلا ذلك المبنى المتوسط الذي يقع في زاوية المكان ونور مشاعله يبدو لها واضحاً..
تأففت بشيء من الضيق في اللحظة التي دخلت فيها خديجة جناحها حاملة بعض الفاكهة.. فسألتها بتعجب "ما الذي يسبب لك الضيق في هذا اليوم السعيد؟"
غمغمت جمان بشيء من الضيق "لقد أخبرت أبي أن ينقل ذلك المبنى من أمامي لموقع آخر.. إنه يفسد عليّ جمال المنظر الذي أراه من نافذتي"
علقت خديجة وهي تضع ما في يدها جانباً "تعنين مبنى العبيد؟ وما شأنك به؟ أنت ستغادرين هذا القصر خلال وقت قصير ولن يسبب لك الضيق بعد الآن.."
قالت جمان بتذمر "وقت قصير؟ أنت تعلمين أن إعدادات مثل هذا الزواج تستغرق شهوراً كاملة"
قرصت خديجة خدها برفق وهي تقول "ولم العجلة يا فتاة؟"
احمر خدا جمان وهي تغمغم مرتبكة "لست.... لست متعجلة أبداً.."
ضحكت خديجة وهي تغمغم "يا لطفلتي العزيزة.."
قالت جمان باحتجاج "طفلة؟ أهذا ما تطلقينه عليّ في هذا اليوم بالذات؟ لقد أصبحت عروساً.."
ابتسمت خديجة ابتسامة حانية وجلست خلفها حاملة مشطاً من الصدف مزيناً بورود مرصعة بزمرد متفاوت الأحجام، ففكت شعر جمان وهي تغمغم "طبعاً.. أنت أجمل عروس رأتها عيناي.. لكن حتى بعد زواجك، وحتى بعد أن تصبحي أماً بإذن الله، ستظلين طفلتي الصغيرة ما حييت.."
فكت ضفائرها الطويلة وبدأت تسرّح شعرها الناعم برفق وحنان ظاهر، فقالت جمان باهتمام "أنت ستأتين معي لقصري الجديد.. أليس كذلك يا خديجة؟"
ابتسمت خديجة قائلة "وهل أنت بحاجتي هناك؟ لقد أصبحتِ كبيرة بما يكفي.. وسيكون لديك من الجواري ما يكفي للعناية بك.."
قالت جمان بغير تصديق "لا يمكن.. أنت ستأتين معي.. وإلا لن أرحل من هذا القصر"
ضحكت خديجة معلقة "وهل ستبلغين زوجك بأنك لن تغادري إلا بوجود مربيتك؟ يا لك من طفلة"
وربتت على رأسها مضيفة "لا تقلقي.. أنا من سيسبقك لقصرك الجديد.. فلن يطمئن قلبي إلا وأنا أراك كل يوم وأعتني بشؤونك بنفسي.."
ارتاحت جمان لذلك الجواب، فاستدارت تنظر من النافذة القريبة وهي تتنهد وتفكر في حالها متى ما غادرت هذا القصر.. فقالت خديجة مبتسمة "المهم الآن أن تعتني بنفسك وتتأهبي لهذا الزواج.. عليك أن تكوني أجمل عروس يراها أهل القلعة.."
ولوحت بإصبعها محذرة "وكفي عن ألاعيبك التي تقومين بها عادة.. عندما تصبحين عروساً، عليك أن تـَزِني أفعالك لأن زوجك لن يغفر أخطاءك كما قد يفعل والدك.."
وغادرت الجناح بصمت، بينما نظرت جمان من النافذة من جديد وحاجباها يرتفعان.. بالفعل.. عندما تغادر هذا القصر، لن يُسمح لها بالقيام بما تفعله عادة في بعض الليالي.. هذه خسارة كبيرة، أن تفقد متعتها الوحيدة في سجنها الكبير المزخرف هذا، لتنتقل بعده لسجن مزخرف آخر قد يكون أكثر تشدداً..
نهضت بنشاط غير عابئة بتحذير خديجة، وبعد أن تأكدت أن باب جناحها مغلق، أسرعت تستبدل ملابس نومها العطرة، لترتدي قميصاً قطنياً بني اللون طويل اليدين، وسروالاً من القماش ذاته، ويتوسط خصرها حزام جلدي عريض.. وارتدت حذاءاً أسود اهترأ لكثرة الاستعمال يرتفع ليغطي قدمها حتى منتصف ساقها.. وأخيراً، رفعت شعرها للأعلى لتضع فوقه عمامة بيضاء لفتها على رأسها بإحكام.. نظرت لنفسها بابتسامة متسعة وهي تتذكر محاولات خديجة الدؤوبة للاستيلاء على هذا الرداء الذي اسْتـَلـَبـَـته جمان من أحد الفتية العاملين في القصر وهو أحد عبيد أبيها ممن يماثلها في الحجم، والذي تفلح جمان في استعادته كل مرة بمعاونة من ذلك الفتى، وتخفيه بمهارة عن عين خديجة الحانقة.. ولم تكن تفعل ذلك إلا لسهولة تسللها بهذا الرداء وإبعاد الأنظار عن هويتها الحقيقية..
بعد أن استعدّت، وقفت قرب باب جناحها تصيخ السمع للحظات، قبل أن تفتح الباب وتطلّ عبره متأملة الممر المظلم خارج الجناح.. ولم تلبث أن أغلقت باب الجناح خلفها وتسللت عبر الممر والسلم الهابط نحو الطابق الأرضي من القصر.. لم تكن تنوي الخروج من باب القصر الرئيسي لئلا تلفت الانتباه، بل كانت دائماً تلجأ للخروج من أحد الأبواب الخلفية البعيدة عن الأنظار.. لقد مارست جمان هروبها منذ وقت طويل، لذلك لا تجد أي صعوبة في التسلل من القصر مستترة بالظلام.. بعد لحظة قصيرة كانت تخرج من أحد الأبواب الخلفية وهي تتلفت حولها بحذر.. كالعادة في مثل هذا الوقت الساكن، لم يكن هناك أي شخص ممن يمكن أن يعيق خروجها.. ابتسمت لنفسها وهي تغادر بخطوات خفيفة عابرة الحدائق نحو سورها الخلفي، حيث تتسلل جمان عبره نحو المساحات الواسعة خلف القصر والذي تبعد أقرب قرية منه أميالاً عدة.. سارت جمان بسرعة ممنية نفسها بساعة من السكون والتأمل، بالشعور بالحرية والانطلاق وهي التي تكره الحدود التي يحيطها القصر بها..
***********************
في تلك الليلة، قبع سلمة فوق سطح ذلك المبنى عادي المظهر في زاوية الحدائق غير عابئ ببرودة الشتاء القارسة، وقد انشغل بشحذ سيفه باهتمام بالغ على نور مصباح زيتي صغير يلقي بضوئه الأصفر الباهت على ما حوله.. وبين فترة وأخرى يرفع سلمة بصره بصمت مراقباً الحدائق الساكنة في ذلك الوقت المتأخر، والقصر الذي يبدو بعيداً أمامه بأنوار متفرقة فيه.. كل شيء كان يبدو مختلفاً في الليل عنه في النهار.. فبعد النهار الذي يراه صاخباً بأكثر مما يطيق، يأتي الليل ومعه الوحشة التي أصبح يشتاق إليها ويتوق للخلوّ فيها بنفسه وبأفكاره وحيداً.. لذلك كان انزعاجه بالغاً عندما سمع تلك الخطوات التي اقتربت منه قبل أن يجلس صاحبها قربه قائلاً "أليس من الأفضل أن تأوي إلى فراشك؟ أنت بالكاد تأخذ قسطاً من الراحة طوال اليوم.."
التفت سلمة للشاب الأسمر أكرت الشعر والذي تبرز عضلاته بوضوح من تحت ثيابه القطنية، بينما تلتمع عيناه في ضوء القمر وهو يراقب ما يفعله.. فغمغم سلمة "لا بأس.. سأذهب بعد قليل.."
نظر الشاب للقصر المواجه لهما وقال "من كان يصدق أن تلك الفتاة ستتزوج قريباً؟ سيغدو القصر هادئاً مع رحيلها.."
قال سلمة بهدوء "تلك الفتاة هي مولاتك يا إمام.."
ضحك إمام معلقاً "ابنة مولاي في الواقع.. وهي تصغرني كثيراً، ليس من العدل أن أناديها مولاتي حتى بيني وبين نفسي.."
ثم أضاف بتعجب "لكني عجبت من موافقة مولاي على ذلك الشاب.. لقد بغضته منذ رأيته، رغم وسامة وجهه.. كيف أعجب به مولاي بحيث يزوّجه ابنته الوحيدة؟"
غمغم سلمة وهو يتأمل نصل سلاحه "يكفي أنه ابن قائد جيوش القلعة.. تلك مكانة لا يستهان بها.."
نظر له إمام للحظة بصمت، ثم تنهد مضيفاً "أجل.. هذه هي المكانة التي لا يستحقها العبد مهما كان كفؤاً.."
تساءل سلمة بضيق "ماذا تعني؟"
ابتسم إمام مجيباً "لا أعني أكثر مما قلته.."
فنهض سلمة وأعاد سيفه لغمده وهو يقول ببرود "لا ترفع بصرك كثيراً.."
ورحل بينما إمام يناديه "إلى أين ستذهب؟ لقد انضممت لك للتو.."
لم يعلق سلمة وهو يغادر بصمت، فزفر إمام معلقاً "حتى متى ستظل مكابراً يا فتى؟.."
رأى في تلك اللحظة شبحاً أسود يقترب من مبناهم بخطوات حثيثة، فوقف إمام في موقعه وهو يصيح "من هناك؟"
توقف الشبح للحظة يلتقط فيها أنفاسه.. ثم صاح بصوت لاهث "أين سلمة؟ فليخرج لي حالاً.."
تعرّف إمام على صوت المربية خديجة، فغادر موقعه بحثاً عن سلمة وهو يقول "تباً.. هل فعلتها مرة أخرى؟"
في تلك الأثناء، كانت جمان تقف على مرتفع عالٍ على شيء من المبعدة من حدود القصر، تتأمل المساحات التي تستطيع رؤيتها من ذلك الموقع.. عندما يضيء البدر هذا المكان، يبدو كل شيء مذهلاً عسيراً على الوصف.. شعرت جمان بالبرودة التي تزايدت بشكل كبير، فضمّت ذراعيها حول جسدها وهي تراقب المنظر بصمت.. لو كان أبوها أو خديجة يقبلان القدوم معها لهذا المكان لما استطاعا إخفاء إعجابهما به.. لكن أحدهما لم يبدِ رغبة بالقدوم إليه، وهي تحصل على تقريع شديد كلما أخبرتهما برغبتها بذلك..
تنهدت وهي تتأمل ما حولها ممنية نفسها بمتعة لوقت قصير، لكن عندما انتبهت لصوت سنابك الخيل وهي تقترب من الموقع غمغمت لنفسها "يبدو أنهم أدركوا غيابي بأسرع مما توقعت.."
أسرعت تختبئ خلف أجمة قريبة وقلبها يدق بسرعة.. لو رأوها الآن لأعادوها للقصر حالاً، حيث ستلقى تأنيباً شديداً من أبيها وخديجة بالتتابع، ثم تستولي الأخيرة على هذه الملابس وتجبرها على النوم باكراً.. لكنها لا تريد العودة الآن.. ليس بعد.. فبعد كل الأحداث التي جرت هذا النهار فهي مشوشة الفكر متنازعة المشاعر بين سعادة لتحوّل حياتها القريب والقلق لذلك.. ولا شيء سيهدئ بالها مثل الجلوس بعيداً عن القصر والنظر للقمر المنير والاستمتاع بهذا الهدوء.. لماذا يستكثرون عليها هذه المتعة الصغيرة؟..
ربضت في موقعها بانتظار ابتعاد الخيل وراكبيها وهي تسمع الأصوات تخفت بالفعل، عندما فوجئت بمن يجذبها من ذراعها لتقف وسط الأجمة بقوة.. فالتفتت بصدمة لترى على ضوء القمر ملامح سلمة التي كانت، على غير العادة، تـُبدي حنقاً شديداً.. فقالت بأنفاس مخطوفة للمفاجأة "كيف استدللت على مكاني؟"
قال بصوتٍ محتد "وهل يجدك في كل مرة شخص غيري؟ لِمَ تفعلين ذلك؟ تسببين القلق والإرباك للقصر كله لتستمتعي بكسر القيود قليلاً؟"
قالت باحتجاج "لأنكم لن تسمحوا لي بذلك عادة.. لهذا السبب ألجأ للخروج خلسة، فماذا يضيركم من ذلك؟"
علا صوته أكثر وهو يقول بغضب "لأن الكثير من حراس القصر يتم عقابهم جراء ذلك.. ألم يدر ذلك بذهنك؟"
اتسعت عيناها بصدمة، وسلمة يضيف "ماذا بظنك سيحدث لهم لو أصابك أي مكروه بعيداً عن القصر ودون حماية؟"
خفضت جمان وجهها وهي تقول بصوت مرتجف "لا، لم يخبرني أحد عن ذلك.. لمَ يتم عقابهم على ما أفعله أنا؟ لا ذنب لهم في خروجي من القصر"
قال سلمة زافراً "لأن مولاي متأكد أن نجاحك في التسلل عائد لإهمالهم في حراسة القصر.."
ظلت خافضة وجهها والحزن يغمرها، فزفر سلمة من جديد وقال "فلنعد الآن قبل أن يعمّ القلق القصر كله"
رفعت بصرها إليه قائلة "هل أستطيع البقاء لوقت قصير؟"
قال بضيق "طبعاً لا.. سيتهمني مولاي بالمخاطرة بحياتك لو أبقيتك هنا لمدة أطول، فهو يخشى ممن قد يتعرض لك خارج حدود القصر"
قالت برجاء "قليلاً فقط، ولن أخبر أبي بذلك"
ثم خفضت وجهها وهي تضيف "ستكون هذه آخر مرة أتسلل فيها من القصر.. فلا أريد أن أؤذي أحداً في سبيل متعتي هذه"
ظل سلمة متردداً للحظة، ثم حسم أمره وهو يرى الحزن في ملامح وجهها، فقال "حسناً، لوقت قصير فقط"
ابتسمت له ممتنة وقالت "شكراً لك.."
لم يعلق فيما تقدمت جمان قليلاً لتجلس على صخرة قريبة بينما بقي سلمة واقفاً خلفها بتحفز ويده على سيفه المعلق بغمده في حزامه.. بقيت جمان تتطلع حولها بصمت وهي تتأمل البقعة التي ازدانت بالأشجار وغدت خلابة مع النور الفضي الذي يغمرها.. وزادها الحفيف الخفيف الذي تصدره أوراقها مع النسمة التي تخللتها جمالاً.. بالإضافة لنهر الفرات الذي يشق الموقع على مبعدة ومياهه الفضية تبدو رائعة الجمال.. رغم أن الحديقة المحيطة بالقصر مليئة بكافة أنواع الأشجار المزهرة والمثمرة والتي يتم الاعتناء بها بشكل دائم، إلا أن منظر الطبيعة البكر خارج أسوار القصر يثير شغفها بشكل دائم، ولا تملّ الخروج إليها كلما سنحت الفرصة..
نظرت خلفها ملاحظة صمت سلمة التام.. وكما توقعت، وجدته يثبت بصره في الأفق كعادته.. كلما التزم سلمة الصمت، وجّه عيناه للأفق بنظرة حاولت دائماً أن تفسرها دون فائدة.. فقالت كاسرة الصمت "لطالما تساءلتُ عن مغزى نظراتك التي ترنو للأفق.. أهذا حنين لموطنك؟"
لزم الصمت للحظات قبل أن يقول بهدوء "كيف أحنّ لموطني وأنا لا أفارقه إلا بالكاد؟"
ابتسمت بجانب فمها معلقة "لا أقصد هذا الوطن، بل ذاك الذي غادرته منذ سنين طوال.. مهما اعتدتَ على العيش هنا، فلابد أن لهفتك للعودة لمسقط رأسك لم تخفت بعد"
علت جبينه تقطيبة وهو يقول بضيق "لا تفتئين تذكـّريني بأني غريب.. أهناك ما يعيب في ذلك؟"
قالت بسرعة "لم أعنِ سوءاً بقولي هذا، ولا أرى ما يعيب في كونك غير عربي الأصل.. إنما هو تساؤل دار في ذهني"
لم يعلق أو ينظر إليها، لكن فضولها لم يخفت وهي تتساءل "أتذكر ملامح موطنك؟"
أجابها بشكل قاطع "لا..."
واستدار مغادراً مما أشعرها بضيقه من هذا الحديث.. فأسرعت تلحق به وهي تقول "لم أنت متضايق هكذا؟ أنت غريب الأطباع هذا اليوم أكثر من اللازم.. استهزأتَ بي عندما رأيتني سعيدة، والآن تثور لسؤال لا أعني به سوءاً.."
قال بشيء من الحدة "ألا تجدين أي غرابة في أسئلتك تلك؟"
قالت بضيق "لو كنت تستاء مني لأخبرتني بذلك صراحة من قبل.. لطالما حدثتني عن أي شيء أسألك عنه بطيب خاطر.. فما الذي استجد اليوم؟"
لم يعلق وهي تدمدم "أمرك غريب جداً.. حتى هذا الضيق غريب عليك وأنت الهادئ هدوءاً دائماً عادة.."
اقترب سلمة من جواده الذي وقف غير بعيد، فقرّبه من جمان قائلاً "لنرحل بسرعة.. لابد أن مولاي قلق عليك.."
لم تعترض وهي تمتطي الجواد بمهارة، ثم جذب سلمة لجام الجواد وسار بقربه عائداً للقصر.. بينما نظرت جمان أمامها وهي تفكر في ضيق سلمة غير المعهود.. لطالما دارت بينهما أحاديث شتى.. لطالما عاونها في كل ما تريده.. حتى ركوب الخيل هو من علمها إياه منذ سنوات رغم اعتراض خديجة الدائم وتذمرها من ذلك.. فما الذي تغيّر اليوم؟..
ألقت نظرة على وجه سلمة الخالي من أي انفعال بعد أن نبذ ضيقه واسترد هدوءه المعتاد.. بالفعل هذه هي المرة الأولى التي تراه فيها بهذا الضيق والانفعال.. ربما منذ كفّ عن البكاء عندما أحضره أحد التجار هدية لأبيها منذ سنين عديدة.. كانت في ذلك الوقت لا تتجاوز الخامسة من العمر، ولأنها وحيدة بلا إخوة، كانت تستمتع باللعب مع أي عبد أو جارية تقاربها في السن حتى تحضر خديجة فتنتهرهم وتعود بجمان للقصر حانقة.. لم تكن جمان تفهم سبب حنق خديجة من لعبها مع العبيد، أهناك ما يؤذيها فيهم؟ أم أنهم مرضى بمرض مميت لذلك أصبحوا عبيداً؟ ذلك كان الخاطر المضحك الذي لطالما وجهته بتساؤل لخديجة، والتي كانت تضحك قليلاً ثم تقول لجمان بابتسامة "يا فتاتي، أنت ذات مكانة عالية في هذا القصر.. ولعبك مع هؤلاء العبيد لن يعود بخير عليهم.. لا يسرّك رؤية أحدهم يعاقب على لعبه معك، أليس كذلك؟"
فتهز جمان رأسها وعيناها تتسعان لذلك الخاطر، فتلمس خديجة أرنبة أنفها قائلة "إذن تعدينني أنك لن تفعلي ذلك مجدداً؟"
فكانت جمان تهزّ رأسها بحماس، لكن سرعان ما تنسى ذلك الوعد ما إن ترى إحدى الجواري الصغيرات في أحد ممرات القصر، عندها تسرع لتجذبها من يدها وتنطلق بها إلى جانب من الحديقة لتلهوان متناسيتين ما يجري حولهما ما أمكنهما ذلك..
حتى كان ذلك اليوم الذي رأت فيه فتىً غريباً، ورغم أنه يكبرها بست أو سبع سنوات، إلا أن ذلك لم يمنع الاهتمام الذي بدا عليها تجاهه.. وجدته وهي تجول في الحديقة بحثاً عن أحد الصبية ممن اعتاد اللعب معها، وقد كان هذا الفتى جالساً قرب أحد الجدران في منطقة معزولة منطوياً على نفسه، وبدا لها من اهتزاز كتفيه أنه يبكي بحرقة إنما بصوت مكتوم.. فاقتربت منه متسائلة "ما بك؟ أهناك من ضربك؟"
لم تجد منه استجابة، فاقتربت أكثر ولمست كتفه معيدة تساؤلها، لتفاجأ به يقفز واقفاً وفزع واضح على وجهه الغارق بدموعه.. نظر إليها قليلاً بصمت وهي تسأله "من أنت؟ ولم أنت مختبئ هنا تبكي وحيداً؟"
ظل ينظر لها بعدم فهم، ثم سمعته يغمغم بكلمات لم تفهمهن قبل أن يغادر الموقع بخطوات سريعة رغم ندائها المستمر له.. أسرعت بعدها بفضول كبير تتبعه لتجده يتجه لمبنىً منزوٍ في جانب الحديقة كان مخصصاً للعبيد، وقبل أن تتهور باللحاق به حيث غاب في المبنى سمعت صوت خديجة الحانق كالعادة يلاحقها..
بعد أن غالبت ترددها، عادت إلى خديجة لتمطرها بوابل من الأسئلة عن ذلك الفتى الباكي، وسبب بكائه منزوياً بمفرده.. فقالت خديجة وهي تجذبها معها عائدة للقصر "هو عبد جديد لمولاي أحضره له أحد التجار.. يقال إنه من القوقاز، لذلك لا يعرف اللغة العربية بعد.. سيكف عن البكاء يوماً ما ولابد فلا تقلقي بشأنه.."
نظرت جمان خلفها وخديجة تجرها نحو القصر، فراقبت مبنى العبيد للحظات قبل أن تعود لخديجة بالتساؤل "وطنه ذاك.. أهو بعيد؟"
ابتسمت خديجة مجيبة "بعيد جداً يا طفلتي.."
فعادت جمان تتساءل "أيبكي لأنه غادر وطنه؟ أيريد العودة لأهله؟"
غمغمت خديجة بصوت خافت "لابد أنه كذلك.."
في اليوم التالي، بحثت جمان بإلحاح عن الفتى، لتجده يعمل في رعاية بعض الحيوانات التي يملكها القصر في حظيرة جانبية، فوقفت قربه تتأمله بصمت للحظات ملاحظة أنه تجاهلها تماماً.. ثم قالت له "من الذي أحضرك إلى هنا؟ ولم لا تعود إلى أهلك؟"
وقف الفتى ينظر لها مقطباً، ثم عاد لعمله بصمت وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة، بينما اقترب منها أحد الرجال وطلب منها الرحيل لئلا تعطل أعمالهم.. في الأيام التالية بقيت جمان تطارد الفتى في كل موقع وتغمره بأسئلتها التي لا يفهمها ولا يعرف كيفية الرد عليها فيلجأ لتجاهلها أغلب الأوقات.. لا تعلم جمان ما الذي دفعها لملاحقته بهذه الصورة، لكن ربما كان حزنه الظاهر في بعض الأوقات يجذبها ويثير اهتمامها.. وعندما تجده في بعض الأحيان يبكي منزوياً بعيداً عن الآخرين، فهي لا شعورياً تقبع قربه والحزن يتملكها لمرآه.. فتبدأ بالبكاء لبكائه حتى تجده يكفّ عن البكاء ويحاول تهدئتها بكلمات لا تفقه معناهن، أو كانت تجري إلى أبيها باكية وتطلب منه بإلحاح إعادة الفتى الذي لا تعرف اسمه إلى أهله.. فلا تتلقـّى إلا بضع ضحكات من أبيها ومن معه قبل أن يَعِدَها بذلك بكلمات مبهمة ويرسلها بعيداً..
استمرت جمان على ذلك بضع أيام حتى بدأت تجد الفتى ما إن يراها حتى يسارع بمسح دموعه وهو يخفض بصره لئلا ترى احمرار عينيه.. عندها تقبع جمان قربه مبتسمة ابتسامة كبيرة وتحاول الحديث معه رغم ضعف حصيلته من العربية والتي لا تتجاوز بضع كلمات تعلمهن في الأيام الماضية..
ومع الوقت، لم تَعُد جمان ترى الفتى يبكي أبداً، إنما لم تره يبتسم إلا فيما ندر.. استعاض عن انفعاله السابق بهدوء قلّ أن ترى مثيلاً له، وإن كان لا يمانع في الجلوس معها في أوقات فراغه والحديث بما يملكه من كلمات قليلة.. وقد لاحظت أن حصيلته اللغوية تزداد بسرعة كبيرة مقارنة بالآخرين، وبعد أن اعتنق الفتى الإسلام منحه ربيعة اسم (سَلـَمَة) مستعيضاً به عن اسمه السابق الذي لا تعرفه.. إنما الشيء الوحيد الذي لا يتحدث عنه مهما حاولت، هو موطنه الأصلي وعائلته التي تركها أو تركته.. لا تعلم حقيقة ما كان عليه قبل أن يصبح عبداً، بل كيف أصبح كذلك وما الذي مرّ به حتى وصل لقصر أبيها.. ظل هذا في غموض تام مهما ألحـّت ومهما حاولت أن تجرّه للحديث..
***********************
ارتدت جمان ملابس نومها وخديجة تلملم ملابسها السابقة وهي تدمدم بحنق "لِمَ تفعلين ذلك في كل مرة رغم اعتراض مولاي الدائم؟ هل اشتقت لرؤية غضبه ونيل عقابه حتى وأنت على مشارف الزواج؟ كان عليك أن تكوني أكثر تعقلاً.."
قالت جمان بشيء من الملل "يكفي يا خديجة.. لقد نلت ما يكفيني من غضب أبي، ويكاد رأسي ينفجر.. هلا تركت هذا الحديث للغد؟"
قالت خديجة بغضب "كان عليك أن تتذكري ذلك قبل أن تقومي بذاك العمل المتهور.. لا أفهم مغزى ما تفعلينه مع وجود كل تلك الحدائق المحيطة بالقصر.. ماذا لو اعترضك قطاع الطرق وأنت وحيدة؟"
تنهدت جمان دون أن تستمر في مجادلة خديجة التي دمدمت حانقة.. حقاً من يستطيع فهم مشاعر فتاة قضت عمرها بين جدران هذا القصر والحدائق المحيطة به؟ حتى أدنى عبد يملكه أبوها لديه من الحرية في مغادرة القصر ما يفوق ما تملكه هي.. وبعد أيام قليلة ستنتقل لسجن آخر حيث يغبطها العبيد والجواري على كل ما تملكه من نعيم لا يكاد ينسيها الجو الخانق الذي تعيش فيه..
عادت بتفكيرها لسلمة الذي أثار تعجبها بتصرفه اليوم، فتوجهت لخديجة متسائلة "ما به سلمة اليوم؟ يبدو بضيق شديد، وقد غضب عليّ بشدة عندما أتى لإعادتي للقصر"
قالت خديجة مقطبة "طبعاً سيغضب مع خشيته من غضب مولاي عليه وعلى الحراس.. أنت لا تقدرين عواقب أفعالك أبداً"
قالت جمان بإلحاح "لست أعني هذا السبب.. في كل مرة كان سلمة هو من يجدني قبل الآخرين، لكنه لم يكن يغضب أبداً.. كان يسمح لي بالبقاء لفترة أطول خارج القصر قبل إعادتي، ولم يكن يُبدي استياءً عندما أسأله عن أي أمر.. في المرة الماضية وعدني بأن يأخذني لرؤية القرية القريبة من الفرات لفترة قصيرة، لكنه اليوم....."
هتفت خديجة "قرية؟ هذا جنون.. لو كنت أعلم أن سلمة يجاريك في حمقك ذاك لما أرسلته لاستعادتك أبداً.. ذاك الأحمق.."
ودمدمت وهي خارجة "يبدو أنني سألجأ لعقابه هو هذه المرة.."
قالت جمان باعتراض "لا يحق لك ذلك.."
فقالت لها خديجة بصرامة "اخلدي للنوم الآن.. فالوقت متأخر، وقد تركت إحدى الجاريات لتحرس جناحك فلا تفكري بالخروج الليلة من جديد.."
وغادرت مغلقة الباب خلفها.. فزفرت جمان وهي تنظر من النافذة إلى مبنى العبيد الذي بدأت أنواره تطفأ ويسوده الظلام.. لو أوقعت خديجة العقاب على سلمة، فسيكون ذلك بسببها هي.. فكيف ستمنع ذلك؟..
***********************
في صباح اليوم التالي، خرجت جمان من القصر بعد أن استبطأت قدوم خديجة إليها، فبحثت عنها بسؤال الجواري ممن تمر بهن حتى قادتها قدماها لموقع قريب من مبنى العبيد والذي نادراً ما تقترب منه بعد أن شبّت عن الطوق.. نظرت حولها بانفعال ظاهر، حتى لمحت شخصين يقفان في جانب المكان تحت ظل إحدى الأشجار التي بدأت أوراقها تتساقط مع قدوم الشتاء.. فأسرعت نحوهما لتتبيّن في أحدهما خديجة التي وقفت مقطبة الحاجبين تتحدث بصوت خفيض، بينما الآخر لم يكن إلا سلمة الذي وقف أمامها بصمت خافضاً وجهه.. فهتفت جمان وهي تسرع إليهما "خديجة.. انتظري.."
نظرا إليها بدهشة وحيرة بينما نظرت جمان لهما بقلق بالغ، فسألتها خديجة "ما الأمر؟"
اندفعت جمان تقول "أرجوك يا خديجة.. لا تعاقبي سلمة على أي شيء.. أنا المسؤولة عن كل ما يحدث عند خروجي من القصر، ولا ذنب له في هذا.."
ظلا ينظران لها بدهشة لثوانٍ، قبل أن تفاجأ جمان بخديجة تضحك بصوت عالٍ بينما علت ابتسامة متسعة شفتي سلمة وهي تنظر لهما بعدم فهم.. ثم وجدت خديجة تربت على كتفها معلقة "يا فتاتي.. سلمة أعُـدّه ابناً آخر لي، مثلك تماماً.. ولن أقوم بعقابه بقسوة كما قد تتخيلين.."
خفض سلمة وجهه بصمت وإن لاحظت جمان أنه بدا سعيداً لقولها ذاك، بينما التفتت إليه خديجة مضيفة "ولا أظنه يغضب إن قمت بتقريعه قليلاً على أفعاله الحمقاء.. أليس كذلك؟"
تنحنح سلمة قبل أن يقول "إن من يجاري مولاتي في أفعالها يُعَدّ أحمقاً بالفعل.."
احمرّ وجه جمان بحنق لما بدا لها كإهانة، ثم قالت له بغضب "أتجرؤ على قول ذلك؟ كنتُ مخطئة لأثق بك بهذه الصورة.."
ثم التفتت لخديجة مضيفة بحنق "وأنتِ خدعتني.. سأكون أكثر سروراً لو قمتِ بعقابه بشدة.."
وغادرت المكان بغضب شديد وخطوات سريعة، بينما تابعتها خديجة بحنان مغمغمة "يا لطفلتي الحمقاء.."
التفتت بعدها لسلمة فوجدته يراقب ابتعاد جمان بدوره بصمت وبنظرات لم تفـُـتها، فقالت له برفق "كيف أنت اليوم يا سلمة؟"
نظر لها سلمة بعدم فهم، ثم غمغم "بخير حال والحمدلله.."
ابتسمت له خديجة معلقة "أخبرتني جمان أنك مستاء.. أرجو ألا يدفعك استياؤك هذا لأي فعل لا تقدّر عواقبه جيداً.."
أبعد سلمة بصره عن عينيها النفاذتين وهو يقول "لست مستاءً.. فلا تقلقي.."
وغادر بصمت خافضاً رأسه.. فتنهدت خديجة وهي تراقب ابتعاده وأفكار عدة تتناهبها.. رغم هدوئه الظاهري، فهي تدرك أن انفعالات شتى تدور في أعماقه في هذه الفترة بالذات.. وهي تخشى اليوم الذي يقرر فيه إفلات تلك المشاعر التي يكبتها عن الجميع بنجاح، لكن لا يفلح بإخفائها من عينيها هي.. وتخشى مما قد يفعله عندما يفصح عن تلك المشاعر بوضوح، ولن يكون ما يفعله سارّاً أبداً..
***********************
|