كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل السابع ~
بعد نصف نهار من السير المتواصل، وقف سلمة وجمان لإراحة الخيول قليلاً والحصول على بعض الراحة بدورهما.. غمغمت جمان وهي ترى الشمس تميل عن كبد السماء "أما كان من الأفضل لنا الانضمام لإحدى القوافل؟ وجودنا وحيدين يجعلنا صيداً سهلاً"
قال سلمة "سألت عن القوافل في المدينة قبل أن نغادرها.. لكن لم أعثر على أي قافلة مغادرة اليوم.. وأغلب القوافل الموجودة قد رفض أصحابها مصاحبتنا لهم خشية أن نكون عيوناً لقطاع الطرق.."
تنهدت جمان وهي تعلق "لكن مع كل ما جرى لنا أشعر أن الترحال منفردين يصيبني بقلق وتوجس كبيرين.."
غمغم سلمة وهو منشغل بالحصان "أنت تعلمين أني لن أدخر وسعاً في حمايتك.."
نظرت بعيداً هامسة "أدرك ذلك.. لكنك لن تستطيع هزيمة جماعة من الرجال مهما كنت شجاعاً.."
قال بحزم "لكني لن أتوانى عن ذلك حتى لو تسبب في موتي.."
نظرت له بعينان متسعتان، ثم قالت بانفعال "لِمَ تفعل هذا؟"
تساءل بهدوء "أفعل ماذا؟"
قالت "لطالما تساءلت في اليومين الماضيين.. لِمَ تبذل كل هذا الجهد لأجلي؟.. لِمَ تخاطر بحياتك لتنقذني ولتجمعني بأبي؟.. كان بإمكانك الهرب بجلدك وحيداً، لكنك خاطرت لتهريبي من القصر ومازلت معي رغم كل ما جرى.. ما الذي يدفعك لذلك؟.."
أجاب سلمة رافعاً حاجبيه "لم أكن لأترك ابنة مولاي في موضع الخطر وحيدة.. ليس هذا مستغرباً.."
غمغمت وهي تتأمل ملامحه بحثاً عن جواب "لا.. بل هو غريب تماماً.."
فقال سلمة بتأكيد "لكني حريص عليك يا مولاتي وسأبذل جهدي حتى تصلي لبر الأمان.. فلا تخشي شيئاً.."
قطبت جمان وهي تقول "ما الذي تجنيه من كل هذا يا سلمة؟.."
أبعد سلمة بصره عنها وهو ينظر بعيداً، فشعرت جمان أنه قد هرب من مواجهتها.. وقبل أن تحاول استدراجه للحديث من جديد، سمعته يقول وهو يضيق عينيه "هناك قافلة.."
استدارت جمان بدورها بشيء من القلق وهي تنظر للسواد المتبدّي عند الأفق، ثم قالت بتوتر "أأنت متأكد أنها قافلة وليسوا قطاع طرق؟"
امتطى سلمة الحصان قائلاً "لا يمكن أن نترك فرصة كهذه تفوتنا لمجرد الشك"
امتطت جمان الفرس بدورها ولكزتها لتتبع سلمة الذي تقدم تجاه القافلة بسرعة محاولاً اللحاق بها قبل ابتعادها.. وكلما اقتربا منها لاحظا أنها ليست قافلة بضائع.. فعدد من الجمال كانت تحمل هودجاً على ظهورها.. وكثير ممن امتطوا الخيول قد شابت لحاهم دالة على تخطيهم الكهولة..
لم يخفف سلمة سرعة حصانه حتى وصل إلى مقدمة القافلة حيث يكون رئيسها عادة، فوجد ثلاث رجال متفاوتين في الأعمار يركبون الأحصنه وقربهم عدد من العبيد الحبشيين منهم من هو راكب ومنهم من هو ماشٍ على قدميه.. فتوقف سلمة مع توقف الرجال لمرآه وقال "السلام عليكم.. إلى أين أنتم متجهون بهذه القافلة؟"
نظر له أحد الرجال بتردد وهو يرد السلام ثم سأله مقطباً "ومن تكونان أنتما؟ وإلى أين أنتما ذاهبان منفردين؟"
قال سلمة "نحن عابرا سبيل، لكننا نريد الذهاب للحِلـّة.. ونفضـّل الحصول على بعض الصحبة لو كان اتجاهنا واحداً.."
التفت الرجال نحو أحدهم والذي بدا أنه رئيس القافلة، فتقدم الرجل من سلمة قائلاً "بل نحن ذاهبون لأبعد من هذا.. لكننا سنمر قريباً من الحِلـّة في طريقنا.."
سأله سلمة "أيمكننا الانضمام إليكم؟.."
غمغم الرجل مقطباً "مواردنا لا تكفي إلا من هو معنا.. وعددنا ليس قليلاً......"
قاطعه سلمة قائلاً "لا نبغي منكم شيئاً فنحن نملك ما يكفينا.. كل ما نريده هو الترحال معكم حتى نصل قريباً من الحِلـّة"
فقال الرجل "لا أرى ما يمنع ذلك.."
وأشار للقافلة لتكمل مسيرها.. فسار الجمع وسار معهم سلمة قريباً من الرئيس الذي بدا بفضول كبير لمعرفة هويتهما وسبب ترحالهما.. وانضمت جمان للقافلة بدورها وهي تسير بالفرس قريباً من سلمة ملاحظة النظرات التي تلقيها عليها بعض ممن كن في الهوادج من خلف الأستار المسدلة.. لكنها أدارت بصرها بعيداً بصمت.. كانت طوال سني عمرها ترتحل في الهودج كلما غادرت القصر نحو القلعة.. هذه هي المرة الأولى التي ترتحل فيها على ظهر الحصان، ولم يكن هذا معتاداً بالنسبة للنساء، خاصة من ذوات المكانة العالية.. لم تكن جمان تجد حرجاً من ذلك مع سلمة، لكن وجودها مع أغراب جعلها تشعر بحرج من النظرات الموجهة إليها..
حاولت أن تبعد تفكيرها عنهن وهي تسمع سلمة القريب يسأل رئيس القافلة "ألم تصِلكم أنباء عن التتار في هذه المنطقة؟ ألن يعترضوا طريقنا في هذه الرحلة؟"
قال الرئيس هازاً رأسه "لم أسمع عن تقدمهم لهذه النواحي من قبل.. لكن قطاع الطرق والعيارون أمر آخر"
علق سلمة "قطاع الطرق ليسوا بسوء التتار.. ثم إنهم جماعات متفرقة في مواقع محددة.."
قال الرئيس "قد يكون قطاع الطرق كذلك، لكن العيارون أكثر من ذلك بالتأكيد.. بل إن شوكتهم قويت كثيراً وتجاوز أذاهم قطع الطريق.."
نظر له سلمة متسائلاً بدهشة، ففسّر الرئيس قائلاً "أغلب قطاع الطرق والعيّارين هم من المجرمين الهاربين من المدن في المنطقة.. ولا هم لهم سوى الإثراء مستغلين محنة القرى والمدن بالتتار.."
وأضاف متنهداً "مع هجمات التتار التي سمعنا بها في بعض المدن والقرى، بدأ العيّارون في استغلال ذلك.. فبدؤوا بدورهم يهجمون على القرى التي وَهَنَت بعد رحيل التتار عنها فيستولون على ما أبقاه التتار خلفهم من طعام ودواب.."
أضاف رجل آخر وهو يخفض رأسه بأسى "سمعنا أنهم أيضاً يختطفون النسوة لبيعهن كجواري في أسواق النخاسة، ويستبقون من يشاؤون معهم في مخابئهم التي لا نعرف موقعها.."
نظرت جمان بقلق لسلمة الذي سأل الرجال مقطباً "ولمَ لا يفعل الولاة شيئاً بأمر أولئك المجرمين؟ ألا يجب ردعهم لئلا يرتكبوا المزيد من الجرائم؟"
قال الرجل قالباً كفيه "وما الذي يستطيعون فعله وهم عاجزون حتى عن ردع التتار؟ الوضع أصبح مخزياً في الخلافة الإسلامية، وما عاد الجيش المسلم بقادر على صدّ أولئك الكفرة بعدده القليل وتخاذل جنوده الواضح.."
صمت سلمة وهو يستمع لما يقال بضيق ومرارة.. مع كل ما يجري في المدن حول بغداد، فإن الخليفة وجيشه لا يتحركون لصدّ تلك الجماعات من التتار والتي يبدو أنها تفرقت في طول البلاد وعرضها.. ولا يكاد يأبه لما يجري لشعبه طالما بقيت بغداد حصينةً بمنأى عن ذلك القتال.. لأي مدى يمكن لتخاذل هذا الخليفة أن يصل؟..
***********************
بعد حلول الظلام، أوت جمان في جانب القافلة مع بقية النسوة، وإن لم تتمكن من النوم سريعاً مع البرودة التي انتشرت في الجو وتغلغلت في عظامها.. لكنها لم تكن تملك إلا دثاراً خفيفاً من جملة ما اشتراه سلمة من الكوفة، ولم تستطع طلب شيء من النسوة اللواتي لم تُبـْدِ إحداهن أي اهتمام بما يجري لها.. فصمتت جمان وهي تنطوي على نفسها وتغفو بين وقت وآخر بعد أن هدّها التعب..
وبعد أن لاحت طلائع الفجر، نهضت جمان بصعوبة مع التعب والألم الذي تشعر به في أعضائها.. فرأت جمعاً من الرجال والنساء قد نهض وبدأ يعدّ العدة للرحيل مع طلوع الشمس القريب.. سوّت وشاحها على رأسها وهي تتنهد مفكرة في الطريق الطويل الذي عليهم قطعه على ظهور الخيل، والتعب الذي سيلحقها من ذلك.. ثم وقفت وتقدمت من موقع الحصان والفرس التي يملكانهما وهي ترى سلمة يقف قربهما يعتني بهما ويتأكد من ثبات السرج عليهما.. فقالت عندما وصلت قربه "هل حظيت بنوم مريح؟"
غمغم سلمة "ما يكفي لمواصلة السير.."
صمتت جمان وهي تتلفت حولها، فقال سلمة "أعلم أنك لست معتادة على الترحال بهذه الطريقة.. لكن استخدام الخيول هي أسرع طريقة للوصول لهدفنا وأسرع في حال واجهنا أي مهاجمين.. لكن لنأمل أن نجد مولاي في الحِلـّة لتنتهي رحلتنا الطويلة هذه.."
قاطعتهما صيحة ألم تبعتها شهقة فزعة منعت جمان من الرد عليه وهما يلتفتان نحو موضع الصوت الذي صدر من خلف الجمال التي بركت بصف متوازٍ، ثم ترك سلمة موقعه على الفور وهو يركض تجاه الصوت.. بينما أمسكت جمان بلجام الفرس لئلا تهرب بقلق لا يمكنها إخفاؤه.. مع كل ما مرّا به، غدت متوجسة قلقة بشكل دائم.. ولا يطمئنها إلا وجود سلمة إلى جوارها، فهو بعد كل ما قدمه لها يمنحها شعوراً بالأمان في هذا الزمن العصيب..
أما سلمة، فقد اقترب من مصدر الصوت ليرى بين بضع رجال أحد العبيد الحبشيين وقد سقط وسهم يخترق صدره.. ووسط الدهشة، سمعوا صوت سنابك الخيل واضحة تقترب منهم.. تغلب الجمع على الدهشة بسرعة، فلم يكن أمر الهجوم على القوافل مستغرباً، واستلـّوا كل ما يملكونه من أسلحة ورئيس القافلة يقول "استهدفوا الخيول أولاً لنمنع تقدمهم.."
لم يكن أحدهم يملك قوساً وسهاماً، لكن حاملي الرماح استعدوا برماحهم بانتظار اقتراب الفرقة المهاجمة وحصولهم على مجال أوضح لإجادة الإصابة..
كان نور الفجر يمنحهم رؤية بسيطة للموقع حولهم بشكل جعل هوية القادمين صعبة التكهن.. لكن لمّا أصبح المهاجمون على مسافة قريبة، صاح أحد العبيد فجأة بذعر "إنهم التتار.."
بدت لهم في تلك اللحظة هوية المهاجمين أوضح ما يكون، مع ملابسهم المميزة المصنوعة من فرو وصوف، والخوذات الحديدية على رؤوسهم، والحراب ذات الخطاف التي تبدو لهم واضحة..
توتر سلمة مع هذا المنظر وهو يحصي المهاجمين فوجدهم لا يقلـّون عن خمسة عشر رجلاً.. فهل يمكنهم التغلب عليهم بسهولة؟.. لم يكد هذا السؤال يدور في ذهنه حتى فوجئ بأغلب العبيد وبعض الرجال يتراجعون بذعر واضح مختبئين خلف القافلة، في نفس اللحظة التي وجدوا فيها وابلاً من السهام يتدفق نحوهم.. تراجع سلمة ومن حوله بدورهم مبتعدين عن مرمى السهام وسلمة يصيح بمن حوله "لا تهربوا.. نحن نفوقهم عدداً وقوة بالتأكيد.."
صاح رئيس القافلة بدوره "لا تتخلـّوا عن أسلحتكم أيها الجبناء.. دافعوا عن النساء والأطفال وسنغلبهم بإذن الله تعالى.."
وجد سلمة بعض الرجال وقليل من العبيد يقفون معهما، في اللحظة التي وصلت فيها فرقة التتر للقافلة فتفرقت بسرعة حولها على الخيول مثيرة سحابة من الغبار، بينما تقدم خمسة منهم نحو رجال القافلة وهم يلوحون بسيوفهم بثقة مطلقة.. كان الفارق في القتال بين من يمتطي ظهور الخيل ومن كان راجلاً كبير، لذلك حاول سلمة أن يتجاوز هذا الفارق بأن وجّه ضربته الأولى نحو فخذ الحصان الأقرب إليه والذي كبا على وجهه مع الضربة وهو يطلق صهيله.. فتسبب ذلك في سقوط التتري أرضاً والحصان يضع ثقله على ساقه.. ولم يمهله سلمة فاندفع نحوه وأجهز عليه بضربة واحدة أورثته جرحاً عميقاً في عنقه.. التفت سلمة على الفور ملاحظاً أن بعض رفاقه قد نجحوا في ضرب المهاجمين، بينما آخرين سقطوا من الضربة الأولى بين جريح وقتيل..
رأى سلمة حصاناً آخر قادماً نحوه والتتري فوقه يضرب من يصل إليهم من الرجال بقوة مطيحاً بالكثيرين.. فحاول سلمة تكرار ما فعله سابقاً معه للتخلص منه.. فلما اقترب الحصان منه هوى سلمة بسيفه بقوة نحو فخذه بضربة حمّلها أقوى ما عنده.. لكنه فوجئ في اللحظة ذاتها أن التتري قد وجه له ضربة سريعة أصابته في جنبه الأيمن بقوة ألقت به للوراء بعنف والحصان مستمر بركضه.. ووجد نفسه في اندفاعه يرتطم بحصان آخر بقوة قبل أن يسقط جسده جانباً.. تحامل سلمة على نفسه محاولاً النهوض عندما سمع صهيلاً خلفه، ولما التفت بسرعة للخلف رأى أحد التتر يجذب لجام حصانه ليدفعه ليقف على قدميه قبل أن يدوسه بقدميه الأماميتين بقوة أسقطته أرضاً من جديد بدون حراك..
ومع الهجوم، تعالى صراخ النسوة والأطفال، فأدرك من بقي من الرجال أن بقية التتار قد داروا خلف القافلة لتفاديهم والوصول للنساء وما تحمله القافلة من زاد ومال دون مقاومة.. أما جمان، فكانت تتلفت حولها بذعر مع مرأى الخيول التي دارت حول القافلة وإدراكها أن المهاجمين هم التتار، بينما صوت المعركة التي دارت بين رجال القافلة ومن بقي من التتار يصل لسمعها بوضوح.. رأت التتار يترجلون من خيولهم، فتقدم جزء منهم من النسوة والأطفال الذين انزووا في جانب المكان وصراخهم يعلو بشدة، بينما تقدم جزء آخر نحو ما تحمله الجمال على ظهورها من زاد ومال متخلصين بسهولة من العبيد الذين وقفوا يرتجفون بذعر.. لم تدرِ جمان ما الذي عليها فعله.. هل تقف في موقعها رغم التتار الذين بدؤوا بتفتيش القافلة وسلب ما فيها ناهيك عن سبي بعض النساء وقتل الأطفال؟.. هل تتراجع بحثاً عن سلمة مع صليل السيوف الذي يصلها بوضوح؟.. هل تركب حصانها وتوّلي هاربة تاركة سلمة خلفها؟..
ترددت وقلبها يخفق بشدة وهي ترى أحد التتر يجذب صبياً صغيراً باكياً يتوسل إليه، فلم يتردد في توجيه ضربة قوية نحو صدره قبل أن يلقي جثته جانباً ويقبض على طفل آخر من بين سبعة أطفال ضمّتهم القافلة.. ورأت تترييْن آخرين يقتربان من النسوة الباكيات فيقتلان بعضهن ويستبقيان الأخريات دون أن يجدوا مقاومة تذكر عدا الهلع والصراخ والبكاء.. تحاملت جمان على نفسها وركضت نحو موضع سلمة بفزع لا حدود له.. على الأقل وجودها قربه سيمنحهما فرصة أفضل للهرب متى ما تسنـّى لهما ذلك.. وبعد أن تجاوزت الجمال التي تفصل بينها وبين ذلك الجانب والتي بدأت تطلق رغاءً مزعجاً مع فزعها وبعضها ينهض ملقياً ما على ظهره، وقفت جمان مصعوقة مع مرأى الجثث المتناثرة للرجال ومن بقي منهم منشغل بقتال عدد من التتار وهم عاجزون عن التخلص منهم بسهولة.. نظرت جمان بذعر لقتال الرجال مع التتار دون أن تلمح سلمة بينهم، ولم تنتبه لأحد التتر وهو يتقدم منها حتى فوجئت به يجذبها من ذراعها ويلويها خلف ظهرها بشكل جعلها تصرخ بقوة.. حاولت جمان التملص منه دون فائدة وهي تجده يجذبها بقوة نحو حصان وقف قريباً فيقيد يديها إلى السرج بإحكام..
نظرت جمان حولها بفزع وهي تحاول تحرير يديها من القيد.. كانت المعركة قد بدأت تهدأ، ولذعرها رأت عدداً من الرجال من أصحاب القافلة يسارعون لخيولهم فيمتطونها ويهربون بها مولـّين الدبر دون تردد، ولم ترَ سلمة في أي مكان.. فصاحت من بين صراخ بقية النسوة "سلـمــــــة..."
لم تجد استجابة وهي ترى التتار يقتلون من بقي من الرجال ثم التفتوا نحو الجمال فأجهزوا عليها دون تردد رغم عدم وجود معنىً حقيقي لذلك.. لكنها عادتهم في تدمير كل ما لا يمكنهم الاستيلاء عليه.. عادت جمان تصيح بذعر "سلمة.. أين أنت؟"
تزايد الذعر في صدرها مع الصمت الذي جاوبها.. ولم يمض وقت طويل حتى وجدت أن التتر قد فرغوا من سلب ما يمكن سلبه من تلك القافلة وقتل كل من لا يرغبون به من أفرادها، ثم عادوا نحو خيولهم وحملوا النساء غصباً عنهن مستعدين للرحيل.. وجدت جمان التتري يقترب منها فيحرر يديها، عندها حاولت الهرب منه رغم عدم جدوى ذلك.. لكن، هل الاستسلام خير لها؟.. فوجدته يقبض على ذراعها بقوة ويلويها خلف ظهرها بشكل مؤلم، قبل أن يحملها بخفة ويضعها على ظهر الحصان منكفئة على وجهها.. حاولت جمان النهوض وهي تجده يمتطي الحصان بدوره، لكنه لم يمنحها فرصة أخرى للهرب وهو يلكز الحصان ويتبع رفاقه مبتعدين عن المذبحة التي تركوها خلفهم.. أخذت جمان تصرخ بذعر وهي ترفس محاولة الاعتدال رغم وجود التتري الذي يقبض على يديها خلف ظهرها ليمنعها من الحركة.. لكنها لم تتوقف عن الصراخ بذعر وعن محاولة تحرير نفسها من قبضته.. يجب أن تهرب منه.. يجب أن تعود لسلمة.. لكن..... أين هو سلمة..؟.... أين اختفى وهي أحوج ما تكون إليه؟..
***********************
بعد مدة لا يعلمها قضاها في غيبوبة، نهض سلمة فجأة جالساً بذعر وهو يتلفت حوله، مما أورثه آلاماً جمّة في جانبه الجريح.. انثنى بألم وهو يضغط على جرحه بيده، بينما سمع صوت أحد الرجال قربه يقول وهو يدفعه ليستلقي من جديد "لا تتعب نفسك هكذا.. لقد انقضى كل شيء...."
اتسعت عينا سلمة مع مغزى قوله وهو يتلفت حوله.. كانت الشمس قد ارتفعت عالياً في السماء، لكن لم يجد قربه إلا بضع رجال لا يتجاوزون العشر مع خيولهم.. ولم يجد أحداً قربه غيرهم.. نظر للرجل بعدم فهم وتساءل "ما الذي جرى؟ أين التتار؟ وأين النسوة وبقية القافلة؟"
قال الرجل بأسى "لم يبق أي شيء.. استولى التتار على القافلة وسَبَوا من بقي حياً من النساء.. نحن هربنا منهم بالكاد بعد أن تغافلناهم، ولولا وجود الخيول قريبة منا لما استطعنا النجاة بأعناقنا منهم.. ولمّا عدنا لموقع القافلة بعد رحيلهم لم نجد حياً سواك.."
كان ذعر سلمة يزداد مع كل كلمة يسمعها.. فانتفض واقفاً على الفور رغم ألمه ممسكاً بالجرح الذي قام الرجل بتضميده، وتلفت حوله بذعر ليرى البقعة حوله خالية من أي أثر للتتار، أو للقافلة، أو لجمان.. فقال وفزع شديد يتملكه "لا يمكن أن يحدث هذا.. أين جمان؟"
والتفت للرجل صارخاً "كيف تركتم التتار يختطفون النسوة بكل هذه السهولة؟"
قال الرجل خافضاً رأسه "حاولنا جهدنا إنقاذ الجميع، لكن التتار كانوا أقوى منا.. ولو بقينا على قتالهم لقتلونا جميعاً دون فائدة"
فصاح سلمة بغضب "وهل بقاؤكم أحياء بهذ الصورة له فائدة؟.. تعساً لكم.. من أي اتجاه ذهب التتار؟ إلى أين ذهبوا بمن اختطفوه؟"
لم يجبه الرجل وهو مقطب، فتركه سلمة واستدار راكضاً نحو الخيول خلفه والتي لا تتجاوز العشر، فأسرع نحو أقربها وقفز فوقها رغم ألمه وأمسك بلجامها.. لكن قبل أن يتحرك بها فوجئ بصاحب الحصان يجذب اللجام من يده بقوة وهو يصيح "إلى أين تنوي الذهاب؟"
صاح سلمة "يجب أن ألحق أولئك المجرمين.. لقد اختطفوا جمان، ويجب أن أستعيدها مهما يكن الأمر"
قال الرجل بحدة "بجرحك وتعبك هذين؟ سيقتلونك قبل أن تقترب منهم مسافة كافية"
فقال سلمة بغضب "يجب أن أفعل.. لا يمكن أن أتركها بين أيديهم.. لا يمكن أن أتخلى عنها الآ........."
زاغت عيناه مع الدوار الذي أصابه بسبب الدماء التي فقدها والمجهود الذي بذله في القتال سابقاً، وكاد يسقط أرضاً من على ظهر الحصان لولا أن تمسك بالسرج في اللحظة الأخيرة وهو ينفض رأسه بقوة.. فجذبه الرجل ليدفعه للنزول وقام بإسناده لئلا يقع قائلاً "بحالتك هذه لن تصمد طويلاً على ظهر الحصان.. من حسن حظك أن التتار ظنوك ميتاً، فلا تقتل نفسك مرة أخرى.."
دفعه سلمة عنه وهو يقول "اتركني.. يجب أن ألحق بهم قبل أن يغيبوا عن الأنظار.."
فقال له الرجل بحدة "رحيلك الآن لن يفيد الفتاة في شيء.. لا تقتل نفسك دون داعٍ يا هذا"
وأضاف قبل أن يعترض سلمة "كل التتار يعودون لجيشهم الذي عسكر في همذان.. لو اعتنيت بجسدك وبجراحك حتى تستردّ عافيتك فستتمكن من اللحاق بهم قبل مضيّ وقت طويل"
قال سلمة بمرارة "مع أولئك المتوحشين سيغدو الوقت متأخراً جداً.."
لكنه لم يملك الاعتراض مع الدوار الذي عصف برأسه.. بينما أجلسه الرجل أرضاً وكشف عن جرحه الذي عاد يتصبب دماً، فقال وهو يضمده من جديد "ما الذي تأمل أن تفعله بجرح كهذا؟.. لا تتهور وترتكب ما تندم عليه"
لم يعلق سلمة وهو يرمق الأفق بمرارة شديدة وجزع لا حدود له.. لابد أن يلحق بها مهما يكن، لابد أن يحميها قدر ما يستطيع.. لكن..... لِمَ وضع القدر أولئك الوحوش في طريقه؟.. يا لحظه التعس..
***********************
لم يكن لدى جمان، والحصان يركض بها بشكل حثيث، أي أمل بالنجاة مع كل خطوة تبعدها عن موقع سلمة الذي اختفى ولا تدري أهرب مع الهاربين أم أنه قتل.. ظلت على وضعها ملقاة فوق ظهر الحصان ودموعها تهطل من عينيها بعد أن كفـّت عن الصياح والصراخ منذ أمد لعدم جدوى ذلك.. وإن حاولت النهوض من موقعها منعها التتري من الحراك بقبضة يده التي يضغط بها على ظهرها بقسوة.. غالبت جمان غصّة في حلقها وهي ترى السهول تنطوي والأشجار المتفرقة تتراكض في الاتجاه المعاكس بأسرع ما تملكه، بينما الشمس تغادر عرشها في وسط السماء وتنحدر نحو مغيبها بحسرة واضحة وكأنها تدرك معاناة من وقعوا في أيدي وحوش كهؤلاء.. كان كل شيء يبدو حقيقياً بأكثر مما تتمناه جمان.. صوت سنابك الخيول المتلاحقة ولهاثها العالي.. صراخ بعض النسوة وبكاؤهن بيأس.. صياح بعض أولئك المتوحشين بأصوات غليظة وبكلمات لا تفهم حرفاً منها.. رائحة الدماء العالقة بكل شيء والمختلطة برائحة العرق والغبار المتطاير في كل مكان..
راودتها فكرة أن تلقي نفسها من على ظهر الحصان بقوة ومن ثم تهرب بأي وسيلة كانت.. هناك خطر كبير أن تدقّ عنقها في تلك السقطة، لكن ربما كان ذلك خيراً لها.. تلفتت حولها بحثاً عن فرصة مناسبة، حتى وجدت الحصان الذي يحملها قد تأخر قليلاً وغدا في آخر القافلة الصغيرة، عندها عزمت جمان على تنفذ خطتها في تلك اللحظة.. ولما رأت التتري يلتفت بعيداً نحو أحد رفاقه، قامت برفع رأسها والنصف الأعلى من جسدها بقوة ودفعت جسدها بيديها عن الحصان.. ومع حركة الحصان العنيفة طار جسدها قبل أن يدرك التتري ذلك، لتسقط أرضاً سقطة مؤلمة على الأرض المنبسطة، وتدحرجت لمسافة طويلة قبل أن تستقر أرضاً.. حاولت جمان النهوض من جديد والهرب قبل أن يلحق بها التتري، لكن لما رفعت بصرها إليه فوجئت به قد استدار بالحصان وعاد إليها راكضاً.. حاولت الوقوف بسرعة بأعضاء مضعضعة وآلام عنيفة، لكنه كان قد وصل إليها في اللحظة ذاتها فوجّه إليها ضربة قوية بمقبض سيفه على وجهها أسقطتها أرضاً من جديد وهي تصيح بألم.. شعرت بالدماء تتجمع في حلقها من أثر الضربة، ولكن لم يمهلها التتري الذي ترجل من ظهر الحصان، فتقدم منها وجذبها من ذراعها بقوة ومن ثم صفعها بعنف غير آبه بالنظرة المرعوبة في عينيها، وصراخه يدوّي في أذنيها.. تجنبت جمان النظر إلى وجهه الذي يثير رعبها أكثر ودموعها تغرق وجهها، وقبل أن يعيدها على ظهر الحصان وجد البقية يقتربون منه ودار جدال بينهم لمدة قصيرة.. بدا أنهم قرروا الوقوف للراحة قليلاً، فقد هبط البقية عن ظهور الخيول فيما جعلوا النساء يجلسن في جانب المكان..
جلست جمان مع الباقيات وهي متمالكة لآلامها بصعوبة بالغة، فقالت لها إحداهن "كان ما فعلتِه حماقة كبيرة.. ماذا لو كسرتِ ساقك في سقطتك تلك"
غمغمت جمان "ربما كان ذلك أفضل لي"
فقالت المرأة مقطبة "لو حدث ذلك، فسيقتلك ذلك التتري دون أدنى تردد.. فهم لا يهتمون بالجرحى بتاتاً.."
وضعت جمان وجهها بين ذراعيها مكررة "ذلك حتماً سيكون خيراً لي.."
تعالى بكاء خافت من بعض النسوة بينما ظلت جمان على وضعها وهي تفكر في طريقة للفرار.. الموت أهون بالنسبة لها من الاستسلام المهين، ومحاولة الفرار ستجني عبرها فائدة من اثنتين.. إما أن تفلح في ذلك وتنجو من هذا المصير، وإما أن تفشل ويتم قتلها، وفي كلا الحالتين هي الرابحة..
رفعت رأسها نحو النسوة حولها وقالت "اسمعن.. يجب أن نعمل للفرار من بين أيديهم معاً.. فذلك أفضل من بضع محاولات فردية ستفشل بالتأكيد"
قالت إحداهن مرتجفة "لكن إن فشلنا فسيتم قتلنا.."
قالت جمان بحزم "أليس ذلك أفضل؟"
خفضت المرأة وجهها بصمت واعتراض واضح، مما جعل جمان تنظر لها بغير تصديق.. تلفتت في وجوه الباقيات لتلقى رداً مشابهاً، فقالت باستنكار غاضب "أتجدن هذه الحياة الوضيعة أفضل من الموت؟ بم تفكرن؟"
قالت إحداهن بضعف "ألم تري ما حدث للرجال وهم أقوى منا؟ ألم تشهدي الطريقة البشعة التي قتلوا بها؟"
أضافت أخرى منتفضة ودموعها تسيل "أولئك التتر متوحشون متعطشون للدماء.. لا أريد أن أقتل على أيديهم"
فقالت جمان بغضب "وما سيكون حالك إن ساقوكِ لمعسكر جيشهم؟ هل ستعاملين معاملة الأميرات؟ ستتمنين عندها لو قتلوك ألف مرة قبل أن يقتلوك فعلاً.. بأي عقل تفكرن؟"
سمعا صيحة غاضبة من أحد التتر ليصمتن، فانزوت النسوة على أنفسهن بذعر صامت، بينما خفضت جمان صوتها وهي تقول "علينا أن نعمل معاً ونهرب معاً.. قد ننجح في ذلك وننقذ أنفسنا من براثنهم.. لا داعي لهذا التخاذل.. أرجوكن"
نظرن لبعضهن البعض بصمت، ثم انبرت إحداهن تقول "أنا معك في ذلك، لكن كيف يمكننا التغلب على أولئك القساة الضخام الذين يفوقوننا قوة بكثير؟"
صمتت جمان مفكرة وهي تتأمل ما حولها، ثم ألقت نظرة متوترة على الرجال الذين جلسوا جانباً، قبل أن تزحف لمسافة قصيرة محاولة عدم جذب الانتباه بينما إحدى النسوة تهمس بخوف "ما الذي ستفعلينه؟"
لم تجبها جمان وهي تقبع قرب شجيرة من الشجيرات المنتشرة في تلك السهول والتي لا يتجاوز طولها قدم أو قدمان.. بأوراق صغيرة دائرية وزهيرات حمراء اللون، وقد ازدانت بأحجام متفاوتة من الأشواك القاسية المدببة خضراء اللون.. تلفتت جمان خلفها بحذر، ثم قامت بانتزاع بعض تلك الأشواك بما يناسب عدد النسوة الأسيرات.. وبعد أن تمكنت من ذلك عادت بسرعة للنسوة القلقات وهي تريهن الأشواك محاولة البقاء بعيداً عن أعين آسريهن.. فقالت إحداهن باستنكار "ما الذي سنفعله بهذا؟ هل سنقاتل الرجال بالأشواك؟"
قطبت جمان قائلة "نحن لا يمكننا القتال ولا نستطيع التفكير في ذلك.. لكن لديّ خطة أبسط وأكثر سهولة"
نظرن لها بعدم اقتناع، لكنها تجاهلت ذلك وهي تقول "إنهم يجبروننا على امتطاء الخيول قبلهم، أليس كذلك؟"
ورفعت إحدى الأشواك المدببة قائلة "كل ما علينا فعله هو، فور أن نكون على ظهور الأحصنة وقبل أن يصعد التتر عليها، غرز هذه الشوكة في فخذها بقوة.. ستفزع الأحصنة عندها وتحاول إسقاط مَن على ظهرها قبل أن تندفع راكضة بسرعة.. كل ما عليكنّ عندها هو التمسك بسرجها أو بعُرفها بقوة والتشبث بها حتى نبتعد مسافة كافية.. سيعجز التتر مع الثورة هذه من التحكم بها والإمساك بلجامها.. هذه هي فرصتنا الوحيدة"
وقامت بتوزيع الأشواك عليهن وإحداهن تقول باعتراض "تبدو لي خطة فاشلة.. من يدرينا أن الأحصنة ستفزع حقاً لشيء بسيط كهذا؟"
قالت جمان بحزم "أنا أعلم ذلك.. لا تستسلمن للجبن فهذه هي فرصتنا الوحيدة.."
ثم أضافت "الوقت في صالحنا، فمع غياب الشمس الوشيك سيمنحنا الليل ستاراً نحن بحاجة له.."
لاحظت أن بعض النسوة قد استرددن عزمهن وهنّ يخبئن الأشواك في أكمام ملابسهن، بينما بقي بعضهن ينظرن لها بيأس وتخاذل.. تذكرت جمان في تلك اللحظة سلمة الذي لطالما واجه تخاذلها ويأسها.. لابد أنه كان يراها بنفس النظرة التي ترى فيها هاته النسوة الآن.. لابد أنه اشمأز من تخاذلها كما تشمئز هي من تخاذلهن.. نظرت للأشواك في يدها وهي تشعر بمزيج القلق والانفعال لما هي مقدمة عليه، ثم همست لنفسها "أتمنى أن تنجح خطتي هذه.. وأن أتمكن من العودة إليك يا سلمة.. عندها سترى أنني حقاً غدوت فتاة أخرى.. ولن تشمئز مني عندها، أليس كذلك؟"
لم تترك فكرة موته تدور كثيراً في عقلها، فما هي بقادرة على احتمالها مع كل ما يجري لها.. لذلك أقنعت نفسها أنه حيّ ولابد.. حيّ وسيبحث عنها وسيجدها حتماً.. رأت في تلك اللحظة أولئك التتر يستعدون للرحيل من جديد، فهمست لمن حولها "لدينا فرصة واحدة فقط.. من ستجْـبُن عن المضيّ في الخطة، ستكون الخسارة خسارتها.. وقد تجني على البقية بفعلها ذلك.. تأكدن من تنفيذ الخطة عندما تكون النسوة كلهنّ على ظهور الخيل.."
بدا الاضطراب جليّاً على الوجوه فيما وجدن التتر يقتربون ويجذبونهن بعنف ويجبرونهن على امتطاء الخيول.. كان التوتر قد بلغ بجمان مبلغه وهي تخفي إحدى الأشواك بيدها بقوة وتنظر حولها بقلق عندما أجبرها أحدهم على امتطاء ظهر الحصان.. وفور أن أصبحت على ظهره، ولاحظت أن النسوة قد صرْن فوق ظهور الخيول بدورهن وهن يتلفتن حولهن بتوتر، خفضت جمان يدها بغفلة من التتري القريب ودفعت الشوكة في فخذ الحصان بقوة.. ومع الألم المفاجئ، صهل الحصان بقوة وهو يرفع قائمتيه الأماميتين بحيث كادت جمان تسقط من فوقه لولا أن كانت متأهبة لذلك وهي تتشبث بعُرفه بقوة.. وتعالى صهيل الخيول من حولها بينما ركل الحصان الذي هي فوقه بقائمتيه الخلفيتين بقوة والتتري يبتعد عنه قليلاً صائحاً بصوت غليظ.. حاول التتري أن يقبض على اللجام الذي أفلته مع حركة الحصان، لكن جمان عادت تغرز الشوكة مجدداً في فخذ الحصان التي ازداد ألمها وانطلقت راكضة بقوة قبل أن يتمكن التتري من الإمساك بلجامها..
لهثت جمان لفرط الانفعال وهي تتشبث بعُرف الحصان بقوة دون أن تحاول الإمساك بلجامه وإيقافه رغم عنف ركضه.. لم تكد تصدق أنها نجحت بهذه السهولة في الفرار من رجال يؤمن الجميع أنه لا يمكن الإفلات من قبضتهم.. نظرت خلفها لترى حال بقية النسوة، فوجدت ثلاثاً منهن قد أفلحن بالهرب أيضاً وإن كنّ يتشبثتن بالخيول بعسر شديد ويصرخن بفزع، بينما فشلت اثنتان من البداية عندما استطاع الحصان إسقاطهما من على ظهرها أرضاً قبل أن يفلح صاحبها في القبض على لجامها، والأخيرة لم تستطع دفع الحصان الذي تركبه للركض وصاحبه يقبض عليه بقوة..
ظلت جمان تنظر خلفها بقلق وقد أدركت أن حال من بقي من النسوة سيئ بالفعل كما بدا من صراخهن الفزع، بينما لم تكد إحدى النسوة الثلاث اللواتي تبعنها تتشبث بالحصان بشكل جيد وهي تسقط قبل أن تبتعد كثيراً عن موقعهم السابق.. نظرت جمان أمامها بقلق وهي تفكر فيما عليها فعله الآن.. مازال التتر يملكون ثلاث خيول على الأقل، ويستطيعون اللحاق بهن بسرعة وغضبهم شديد ولاشك.. هي لم تفكر فيما قد تفعله ما إن تتمكن من الفرار، ولا تستطيع التوقف لمساعدة الباقيات مع الفزع الشديد الذي ألمّ بالحصان بحيث يتعذر عليها الإمساك بلجامه أو تهدئته.. فتلفتت حولها بحثاً عن وسيلة للهرب أو طريق يمكنها أن تسلكه لأقرب مدينة أو قرية.. لكن مع الشمس الغاربة بدت لها السهول خالية من أي أثر، فعادت ببصرها للخلف بقلق لتلاحظ تفرّق من أفلح بالهرب من النسوة بعيداً عنها، بينما لاحظت أن التتر خلفها قد امتطوا ما بقي من الخيول وبدأوا باللحاق بهن..
همست جمان وهي تتلفت حولها والذعر يعود لها "يا إلهي.. إلى أين يمكنني الهرب الآن؟"
في تلك الأثناء، كان سلمة قد تغافل الرجال بعد أن ربط أحدهم جرحه بشكل جزئي حتى يتمكن من علاجه في المدينة القريبة.. فاستولى سلمة على أحد الخيول عندما وجد الجمع حوله قد خلدوا للراحة، ولم يكن منهم من يهتم بأمر النسوة المختطفات بعد أن قـُتِل رفاقهن في مواجهة التتار، وحتى من كان مهتماً لم يكن يجد أي داعٍ لفقد حياته لأجلهن.. دفع سلمة الحصان للجري بعيداً بأقصى سرعته قبل أن يتمكن أحد الرجال من إيقافه، ووجّهه نحو الموقع السابق للقافلة وفي الاتجاه الذي رحلت إليه فرقة التتار كما أشار له ذلك الرجل من قبل.. شعر سلمة بعصبية شديدة وهو يلكز الحصان بقوةٍ ليدفعه لزيادة سرعته رغم أنه كان قد بلغ سرعته القصوى بالفعل، بينما مالت الشمس نحو مغيبها بسرعة مماثلة وسلمة يرمقها بقلق.. مع حلول الظلام، يغدو الترحال بالنسبة له خطراً مع انعدام الأمان في هذه البقاع.. لكن لم يكن يملك رفاهية التوقف وانتظار الصباح، وجلّ خوفه أن يستنفذ الحصان طاقته ويتهاوى قبل أن يبلغ هدفه.. فغمغم بقلق شديد "يا إلهي، ساعدني على إنقاذها من براثنهم قبل أن يمسّها أحدهم بأذىً.."
***********************
بينما كانت جمان تدير بصرها فيما حولها بذعر وهي تسمع صياح التتر من خلفها يقترب أكثر فأكثر، لاحظت ضوءاً على مبعدة من موقعها.. بدا لها الضوء كنار وسط الظلمة التي انتشرت مع مغيب الشمس، فقامت جمان بشيء من المشقة باسترداد اللجام الذي كان منفلتاً، وجذبته لتدفع الحصان ليستدير تجاه ذلك الضوء.. لابد من وجود قرية أو مدينة صغيرة قرب هذه النار، وقد تتمكن من الهرب عبرها والاختباء بين سكانها.. أو يمكنها أن تتجاوزها وتهرب من الجانب الآخر بعد أن تغيب عن أبصار ملاحقيها..
جال ببالها خاطر أن تكون تلك النار جزء من معسكر جيش التتار الذي لابد أن يكون قريباً، لكنها لم تكن تملك رفاهية القلق الآن وملاحقيها يقتربون منها أكثر فأكثر كما بدا من أصواتهم الواضحة.. ومع كل خطوة يخطوها الحصان تجاه النار، كانت تلاحظ أن النار أكبر من أن تكون قد أشعلت للتدفئة أو الإنارة.. ورأت على ضوئها بعض البيوت الطينية الصغيرة التي يعلوها سقف من سعف النخيل مكونة قرية صغيرة، وعدد من أشجار النخيل تقف شامخة قرب تلك البيوت.. كانت النار تشتعل في سقوف البيوت تأكل السعف الجاف بسرعة كبيرة، وقد امتدت لبعض الأشجار القريبة تأكل ما تطاله منها..
غمغمت جمان لنفسها بقلق "لابد أن هذا من فعل فرقة أخرى من التتر.. لكن ألا زالوا في القرية أم غادروها؟"
قررت المخاطرة بالاقتراب من القرية ومحاولة الاندساس بين منازلها القليلة، ومن ثم يمكنها أن تستغل الظلام الذي حلّ لتهرب من الجانب الآخر للقرية مما قد يمنحها وقتاً كافياً لتفلت من قبضة ملاحقيها..
لكن ما إن اقتربت من المنازل المشتعلة وكادت تسير بالحصان بينها، حتى فوجئت بسطح أقرب المنازل يتهاوى بدويٍ عالٍ بعد أن أكلته النيران.. أثار ذلك ذعر الحصان فتوقف عن الجري وصهل وهو يرفع قائمتيه الأماميتين بقوة فاجأت جمان فأسقطتها من على ظهره بعنف والحصان يستدير راكضاً بقوة من حيث أتى..
نهضت جمان بألم شديد وهي تتلفت حولها بفزع، وأسرعت تركض بين المنازل بشيء من القلق خشية أن يجدها أحد التتر.. مع هروب الحصان، بقي أمامها خيار وحيد هو في الاختباء في القرية أو البحث عن وسيلة أخرى للهرب.. لكن أين تختبئ في قرية بسيطة كهذه؟.. وبينما هي تجتاز البيوت الصغيرة، لاحظت أن المكان خالٍ تماماً، ولم تسمع صوتاً يدلها على وجود أي بشر أو حيوان في هذا المكان.. وبعد أن اجتازت البيوت ووصلت لساحة صغيرة وسط القرية، وقفت وهي تشهق بذعر مع مرأى الكومة التي توسطت الساحة، والنيران تلقي بضوئها عليها مانحة جمان رؤية جيدة لما أمامها.. كانت تلك الكومة العالية تتكون من جثث العشرات من الرجال والنساء والأطفال من أهل القرية كما يبدو.. العشرات قد سقطوا مضرجين بدمائهم، ورائحة الدماء تكاد تزكم الأنوف لشدّتها..
تلفتت جمان حولها والرعب يتزايد في صدرها مع بشاعة المنظر أمامها.. كان المكان حولها خالياً تماماً، ولا تستطيع العثور على أي شيء يعينها على الهرب.. لا شيء أمامها خلاف الجثث التي تناثرت على مساحة واسعة بالإضافة للكومة وسط القرية، بينما اشتعلت الأكواخ القريبة بالنيران بضوئها الأحمر الرهيب الذي يجعل المنظر أكثر شناعة.. في الآن ذاته، كانت تسمع صدى الصياح الوحشي يتردد في جهات عديدة من حولها بحيث أدركت أن ملاحقيها قد غدوا أقرب إليها مما تتمنى.. ازدادت ضربات قلبها شدة وهي تتلفت حولها بذعر بالغ بحثاً عن مهرب.. أين يمكنها الاختباء؟ في الأكواخ المحترقة؟ أم في العراء الذي لا يستطيع فأر صغير الاختباء فيه بنجاح كبير؟.. عادت ببصرها نحو الأجساد وخوفها يمنعها من الحزن على ما تراه، ولا الأسى لمصير قرية كاملة بهذه الطريقة الوحشية التي لا يمكن أن يرتكبها إنسان.. تذكرت ما قاله الرجل الأشيب في القلعة في اليوم الأول لهروبها من القصر..
لقد اندسست بين جثث القتلى فحسبوني قتيلا مثلهم..
شعرت باقتراب الأصوات منها، فاندفعت نحو الأجساد القريبة وقامت بنزع ملابس أقرب فتىً يماثلها في الحجم وهي تتلفت حولها بذعر.. ثم استبدلت ملابسها التي لا يمكن إغفالها بملابسه البسيطة، ودسّت جسده شبه العاري بين أقرب الأجساد إليه، ودسّت ملابسها السابقة بين الأجساد لئلا يدرك أحدهم ما فعلته.. ثم أخفت شعرها الطويل تحت عمامة أحد القرويين ممن كان ملقىً قريباً منها..
كانت جمان تلهث لفرط الانفعال والخوف وهي تتلفت حولها بينما الأصوات تعلو أكثر من عدة جهات.. فأسرعت ترمي نفسها وسط الأجساد منكفئة على وجهها بينها رغم الرائحة التي أثارت في نفسها الغثيان، لكنها لم تكن تملك رفاهية التذمر وهي تبطئ تنفسها ما استطاعت لئلا يبدو واضحاً في حال اقتراب أحدهم منها، وأغمضت عينيها بشدة وهي تدعو في نفسها أن ينجيها الله تعالى من أيدي أولئك السفاحين القتلة.. شعرت بارتجاف شديد في جسدها لشدة خوفها بعد أن أدركت أن عدداً من أولئك المتوحشين يجوب أنحاء القرية، فدسّت يديها تحتها لتخفي ارتجافتهما الواضحة ودموع الفزع تحتشد في عينيها..
بعد لحظات مفزعة، شعرت بالخطوات الثقيلة تقترب من وسط الساحة، ثم شعرت ببعض تلك الأقدام تركل الأجساد القريبة أو تدوس عليها متوغلة وسط المذبحة، فهمست لنفسها وهي تحاول إيقاف ارتجافة جسدها "يا إلهي.. أنقذني.."
ومن تحت العمامة التي تغطي رأسها، فتحت عيناً بشكل بسيط لترى ما يجري حولها.. ولفزعها الشديد رأت تترياً ضخماً يدوس الأجساد بغير أن يعبأ بها على غير مبعدة من موقعها.. وبين لحظة وأخرى يغرز رمحه بقوة في هذا الجسد أو ذاك ليتأكد من موت صاحبه.. فكتمت جمان شهقتها بأن عضّت يدها بقوة لئلا تصدر صوتاً قد يثير الانتباه.. كانت الخطوات التي تدوس الأجساد والرمح الذي يشقها بقوة بصوت واضح يقترب منها أكثر فأكثر، بينما أدمت جمان يدها وهي تعضّها بشدة أكبر لئلا تصدر صوت بكاء ودموعها تسيل على خديها وهي تخبئ وجهها بين الجثث.. ماذ لو اقترب منها وداسها بقدمه الثقيلة تلك؟ ماذا لو غرز في ظهرها رمحه المسنون ذاك؟ بل ماذا لو أدرك أنها على قيد الحياة فاعتقلها من جديد؟ ما الذي يمكنها أن تفعله وهي التي هربت منهم في المرة الأولى بمعجزة كبيرة؟..
اقتربت الخطوات منها أكثر فأكثر ورعبها يتزايد آلاف المرات مع كل خطوة.. راودتها رغبة النهوض والفرار من هذا الموقع، لكن عملها هذا سيغدو انتحاراً.. ومع اقتراب الخطوات، ومع الرمح الذي انغرز في أحد الأجساد القريبة بحيث تسمع بوضوح صوت اختراقه للحم قبل أن ينتزعه صاحبه بقوة والدماء تنتثر على بقعة غير صغيرة، علا نداء بصوت خشن من جانب الساحة.. فتوقف صاحب الرمح للحظة ملتفتاً خلفه، ومن تحت العمامة، رأت جمان تترياً آخر يقف بين المنازل المحترقة وهو يلوح بسيفه المخضب بالدماء ويصيح بحنق.. ظل صاحب الرمح يتجادل معه بصوت غاضب للحظات وجمان تدعو الله أن يرحلا دون أن يدركا وجودها الذي كادت ارتجافة جسدها تفضحه، ثم شعرت بالخطوات تبتعد قليلاً قبل أن يسرع صاحبها أكثر وهو يتبع صاحب السيف.. بدا لها أنهم عثروا على شيء ما، أو شخص ما، في موقع آخر لذلك كفوا عن البحث في هذا الموقع.. لكنها لم تغامر بالتحرك من موقعها وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتلاحقة ودقات قلبها المتسارعة..
وبعد أمد طويل، بعد أن خفتت الأصوات كلها ولم يبقَ إلا صوت قرقعة الأخشاب التي تتحطم بعد أن تحرقها النيران وتتآكل فتتهاوى أرضاً بدويٍّ مسموع.. بعد انتظار طال كثيراً حتى استيقنت جمان أن الموقع قد أصبح خالياً تماماً، رفعت رأسها قليلاً ونظرت حولها بقلق واضح، ثم اعتدلت جالسة بعد أن تأكدت أنها غدت في أمان جزئي.. كانت المناظر حولها عائمة بسبب الدموع التي سالت من عينيها، فحاولت مسحها بيدها عدة مرات ورائحة الدماء والدخان تزكم أنفها حتى لم تستطع تمالك نفسها وهي تفرغ معدتها الخاوية جانباً.. نظرت حولها وهي تمسح فمها، بينما تزايدت الدموع التي غمرت وجهها صانعة خطين وسط دماء القتلى التي لطخته، قبل أن تنخرط في بكاء مرير حاولت إيقافه بلا فائدة.. بكت بصوت عالٍ وقد عجزت عن السيطرة على انفعالاتها التي ما هدأت منذ فارقت سلمة.. بكت وبكت وهي تحيط كتفيها بذراعيها محاولة إيقاف اهتزازهما ودموعها تتساقط على ملابسها بلا انقطاع.... والآن.. إلى أين؟.. كيف ستهرب من هذا الجحيم؟.. وكيف لها الحصول على بعض الأمان وسط هذه المذابح التي لا نهاية لها؟..
***********************
~ بعيدا عن الخيال (٧) ~
هجوم التتار على القرى والقوافل
قام التتار ببعض الحملات في المناطق المحيطة بالعراق والتي لم يكن لها غرض إلا بث الرعب وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة التي تمت في السابق في عهد جنكيز خان ومن بعده أوكيتاي خان.. فالحملة التترية الأولى في عهد جنكيز خان قد مر عليها أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أجيال من المسلمين لم تر هذه الأحداث إنما سمعت بها فقط من أبائها وأجدادها.. والحملة التترية الثانية في عهد أوكيتاي كانت موجهة لروسيا وشرق أوروبا ولم يتأثر بها المسلمون.. لذلك قام التتر بهذا النشاط العسكري التدميري الإرهابي بغرض بث الرعب في قلوب المسلمين وإعلامهم أن حروب التتار مازالت لا تقاوم، وأن جيوش التتار مازالت قوية ومنتشرة..
من ذلك ما حدث في سنة ٦٥٠ هجرية عندما قامت فرقة تترية بمهاجمة مناطق الجزيرة وسروج وسنجار، وهي مناطق شمال العراق، فقتلوا ونهبوا وسبوا، واستولوا على أموال ضخمة كانت في قافلة تجارية بلغت أكثر من ستمائة ألف دينار..
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني
***********************
|