كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل الثاني ~
في الأسابيع التالية، انشغلت جمان بالتحضير لزفافها القريب، بعد أن أصرّ عبدالله بن جعفر أن يقام بعد عودته من بغداد في أمر عاجل استدعى رحيله.. وقد تزايدت سعادة جمان وهي تجد اهتمام القصر منصباً عليها، وإن كانت حريتها قد قيّدت أكثر من السابق.. فغدا ممنوعاً عليها التجوال لأوقات طويلة في حدائق القصر، أو الانضمام للتجمعات النسائية التي تقام في قصر والي قلعة سنداد بين فترة وأخرى وتحضره نساء من عليّة القوم في القلعة.. لا تعلم سبب هذا، لكن خديجة كانت تحكم قبضتها عليها بشدة وتحرسها أفضل من أي حارس بالقصر.. تأففت جمان ذات مساء وهي تراقب الجواري يرتبّن ملابسها الحريرية المطرزة بعناية والمزدانة باللآلئ والجواهر مختلفة الأحجام بالإضافة لخيوط الذهب التي تخللت القماش بتطريزات منمنمة زادتها لمعة وجمالاً.. فتقوم الجواري بوضع الملابس في صناديق خشبية مزخرفة ومزينة بأشكال صدفية، ويقمن برشّها بعطر الورد الذي تضوع رائحته في الجناح الواسع.. ولما ازداد تأفف جمان، قالت إحدى الجواري ممن يماثلنها بالسن وكانت تلعب معها مرات عديدة في صغرها رغم العقاب الذي ينالها من ذلك "ما بالك يا مولاتي مستاءة؟ إن هي أيام وتنتقلي لقصر زوجك، فما الذي يحزنك؟"
قالت جمان بضيق "خديجة أضحت لا تطاق.. لقد بتّ مختنقة بحراستها لي طوال اليوم.. لا أدري بمَ سيفيدني إطاعة طلباتها العسيرة هذه"
ابتسمت الجارية قائلة "إنها تتمنى رؤيتك تولين عناية أكبر بنفسك استعداداً لزفافك.. فلم لا تطيعينها وتهتمي بنفسك كما قد تفعل أي عروس؟"
تأففت جمان من جديد وهي تنظر عبر النافذة للحدائق التي أصبحت نادراً ما تستطيع الوصول إليها، ثم تلفتت حولها متسائلة "أين خديجة؟.. لم أرها منذ الصباح.. ليس من عادتها التغيب كل هذا الوقت عن جناحي"
نظرت الجواري لبعضهن البعض بنظرة خاطفة، ثم قالت إحداهن "أبلغتني أنها متعبة قليلاً، وأوصتني أن أعتني بك حتى تخلدي للنوم"
اعترى القلق جمان وهي تقول "ما بها؟ أهناك ما يتعبها؟"
أسرعت الجارية تنفي الأمر قائلة "لا تقلقي يا مولاتي.. إنما هو صداع عارض، وهي امرأة كبيرة في العمر لا تقوى على تحمّل التعب كثيراً"
ثم ابتسمت مضيفة "أم أن قلقك من حلولي محلها في العناية بك؟ لا تحملي هماً يا مولاتي، فلن أغادر إلا بعد أن ألبي طلباتك كلها.."
ظل القلق بادياً على وجه جمان، لكنها نبذته مع دخول ربيعة الجناح، فسارعت الجواري للابتعاد فيما اعتدلت جمان في مجلسها وهي ترى الابتسامة الواسعة على وجهه قبل أن يقول "كيف حال العروس الجميلة؟"
احمرّ خدا جمان وهي تقول بابتسامة محرجة "لا داعي لهذه الأوصاف يا أبي.."
جلس قربها معلقاً "وهل جانبت الصواب؟"
نظر حوله للمعمعة التي صنعتها الجواري في جناحها أثناء عملهن، ثم قال بشيء من الضيق "ألم يكن من الأفضل البقاء بعد زواجك مع زوجك في هذا القصر؟ سيغدو خالياً بعد رحيلك، ولا أظنني سأطيق ذلك"
ابتسمت جمان معلقة "أما آن لك أن تتزوج وتأتي بمن تؤنس وحدتك في هذا القصر؟"
ضحك ربيعة قائلاً "الآن بعد أن وَخَطَ الشيب؟ لا أظن أن امرأة قد ترضى بمجالسة رجل في مثل عمري لما بقي له من العمر"
فقالت "كان عليك المبادرة بذلك منذ زمن طويل.. لكنك ماطلت طويلاً.."
تنهد ربيعة وهو يلمح القلادة في عنق جمان ذات الزمردة الخضراء، والتي نادراً ما تتخلى عنها.. فمد يده وأمسكها يتأملها معلقاً "لم يكن حزني على والدتك بعد موتها يسمح لي بالتفكير في أخرى.. بل إن مجرد رؤية هذه القلادة التي أوصت قبل موتها بأن تكون لك كان يزيدني ألماً فوق ألمي.. وبعد أن مرت السنوات انشغلت بتجارتي وبك انشغالاً تاماً أغناني عن التفكير في أي أمر آخر"
تساءلت جمان وهي تراقب ملامح أبيها "أنت كنت تحب أمي.. أليس كذلك؟"
قال ربيعة مبتسماً "أمك كانت أجمل من عرفته بين النساء، وقد أحببتها حباً كبيراً ملك عليّ جوارحي.. لكني الآن نادم.. ربما لو تزوجت لأنجبت زوجتي لك بعض الإخوة والأخوات.."
ربتت جمان على كتفه قائلة "ربما لو تزوجتَ امرأة أخرى وغدا لك أبناء آخرون لكرهتُ ذلك في صغري، لكني الآن أشعر أنك قد ظلمت نفسك بذلك"
وقف ربيعة يراقب حدائق القصر للحظات قبل أن يلتفت إلى جمان قائلاً "ربما أترك هذا القصر وأعود للسكنى في قصري الواقع في قلعة سنداد"
غمغمت جمان "لكنك تركت ذاك القصر منذ أمد بعيد"
عاد ربيعة ببصره للحدائق مجيباً "أجل.. اشتريت هذا القصر بناء على رغبة والدتك، فهي تحب الحدائق الفسيحة المحيطة به.. والسكنى في القلعة كان يتعبها فجسدها الضعيف بحاجة لمثل هذا المكان المتطرف البعيد عن البشر.. وقد راق لي هذا القصر بدوري ولم أرغب بالرحيل عنه بعد موتها.. لكن الآن، بعد أن تغادريه أنت أيضاً، سيغدو من المستحيل عليّ العيش فيه وحيداً"
لم تعلق جمان وهي تقف جواره تراقب الأشجار التي اهتزت أفرعها بفعل الريح فتتطاير بعض أوراقها التي اصفرت لتسقط صابغة الأرض بلونها الباهت.. تنهدت جمان وهي تفكر في هذا القصر الذي شهد سنين عمرها كلها.. هي متأكدة أنها ستشتاق لهذا القصر ولحدائقه الواسعة الفسيحة، لكنها لا تلوم أباها على رغبته بمغادرة القصر.. فكلما كان المكان أكبر وأكثر اتساعاً، كلما كان أكثر وحشة في صدر ساكنيه إن افتقدوا عزيزاً عليهم.. التفتت جمان إلى أبيها قائلة برجاء "أبي.. أرجو ألا تبيع هذا القصر مهما كان.. أبقِه كما هو.. فمن يدري متى نعود إليه، وهو غالٍ عليّ كما هو عليك بالتأكيد، فاحتفظ به أرجوك.."
ربت ربيعة على رأسها مجيباً "لا تقلقي يا فتاتي.. لا يمكنني التخلص من هذا القصر ففيه ذكريات لا تعوّض بالنسبة لي.. أظنني سأحتفظ به وأزوره في كل صيف.. فصيف القلعة خانق حتماً.."
فقالت جمان بحماس "إذن سآتي أنا أيضاً.. لا أعتقد أن هناك من سيمانع بذلك.."
ابتسم ربيعة معلقاً "أتعنين عامراً؟ أتمنى ألا يكون متسلطاً ويجبرك على البقاء في قصره ما بقي لك من العمر.."
نظرت له جمان وقد اعتراها القلق لهذا الخاطر، فضحك ربيعة مضيفاً "لا تقلقي.. سيحسن معاملتك بالتأكيد فهو شاب طيب، وقد أوصيته مراراً بك وقد وعدني بأنه لن يخذلني.."
ابتسمت جمان وهي تتأمل الحدائق من جديد مغمغمة "قد لا يكون التغيير سيئاً كما قد نخشى.."
***********************
في اليوم التالي، لاحظت جمان أن خديجة لم تأتِ لإيقاظها والاعتناء بها كالعادة، فتوجهت بالسؤال للجارية التي باشرت أمورها في هذا الصباح "ما بالها خديجة؟ أما زالت متعبة؟"
قالت الجارية بابتسامة وهي تتقدم من جمان حاملة ثوباً لتساعدها على ارتدائه "لا يا مولاتي.. إنها بخير حالٍ هذا اليوم.. لكنها انشغلت بترتيبات نقل متاعك ونقل الخدم الذين سيسبقونك لقصرك الجديد.. لا تقلقي لغيابها فهي في هذه الأيام لا تكاد تجد وقتاً لشرب الماء.."
صمتت جمان مقطبة، فهي غير معتادة على غياب خديجة لأكثر من عدة ساعات في اليوم.. فهذه المرأة قد لازمتها منذ مولدها، ولا تكاد تذكر يوماً مرّ عليها دون أن تبدأه برؤية وجهها وسماع صوتها الحاني..
بعد أن تناولت إفطارها، وبعد أن جالت في الحدائق لوقت طويل دون أن تسمع صوت خديجة الحانق كالعادة في الفترة الأخيرة، اتجهت لإحدى الجاريات متسائلة "أين خديجة؟ أريد أن أراها.."
قالت الجارية "لا أعلم أين هي يا مولاتي.. ربما كانت منشغلة في....."
قاطعتها جمان مقطبة "استدعيها إليّ حالاً.. أخبريها أن تترك كل ما تفعله وتأتِ إليّ.."
خفضت الجارية رأسها موافقة وأسرعت لتلبية طلبها.. بينما جلست جمان على أحد الكراسي الرخامية في الحديقة بنفاذ صبر.. ماذا دها خديجة هذا اليوم؟ أهي غاضبة منها لشيء فعلته؟.. غيابها غير معتاد أبداً، وحجة انشغالها هذه لا تقنعها.. لابد أن تواجهها وتفهم منها حقيقة ما تفعله..
بعد فترة قصيرة، عادت الجارية مرتبكة وقالت دون أن تواجه جمان بعينيها "أخبرتني خديجة أنها ستأتي لرؤيتك بعد انتصاف النهار.. فهي منشغلة حقاً ولا تستطيع الحضور.."
نهضت جمان بعصبية وقالت "أين هي؟"
قالت الجارية بتلعثم "إنها منشغلة جداً يا مولاتي.."
قالت جمان بحدة "خذيني إليها.."
نظرت الجارية حولها بقلق، ثم تنهدت قبل أن تقول "مولاتي.. لا أعتقد أن من المناسب ذهابك إليها في هذا الوقت بالذات.. وسيعاقبني مولاي بشدة لو أخذتك إليها"
تساءلت جمان بقلق "لماذا؟ ما الذي يجري هنا؟"
قالت الجارية وهي تتلفت حولها "في الحقيقة، خديجة مريضة قليلاً.. وعندما علم مولاي بذلك أمرنا أن نمنعك من الاقتراب منها.. لا يريدك أن تمرضي أنت أيضاً ولم يبقَ على زفافك الكثير.."
ازداد القلق على وجه جمان وهي تدرك أن سبب اختفاء خديجة ليس انشغالها كما يدّعون.. لابد أن يكون مرضها شديداً فلم يكن المرض العادي بقادر على منعها من مزاولة أعمالها المعتادة.. تجاهلت جمان طلب الجارية وهي تسرع الخطى نحو القصر والجارية تتبعها.. وعوضاً عن التوجه للأقسام العلوية منه، اتخذت جمان طريقها نحو قسمه الخلفي حيث يقع المطبخ الكبير وجناح جانبي خاص بالجواري.. اعترضت الجارية عندما أدركت مراد جمان قائلة "لا تذهبي إليها يا مولاتي.. سيغضب مولاي بشدة لذلك.."
فقالت جمان بسرعة "ارحلي واتركيني وشأني.. لن يعرف أبي أنك أنت من أخبرني بمرض خديجة.."
وأسرعت تجتاز الممرات الضيقة التي تؤدي للغرف الصغيرة الخاصة ببعض الجواري ممن كن ذوات شأن أعلى من البقية، واجتازت بعض الغرف الكبيرة التي تضمّ عدداً أكبر من الجواري الأصغر سناً وشأناً.. وفي نهاية أحد الممرات باب وحيد، كانت تعرف يقيناً أنها غرفة خديجة فلطالما اختبأت فيها عندما كانت صغيرة.. وقبل أن تصل للغرفة، وجدت بعض الجواري ممن أدركن قدومها يقفن في وجهها وإحداهن تقول "مولاتي.. ابتعدي عن هذا المكان فهو ليس آمناً.."
سألتهن جمان مقطبة "ما بها خديجة حقاً؟.. لمَ يمنعني أبي من القدوم إليها لمجرد كونها مريضة؟"
قالت الجارية مبتسمة "مولاتي.. إن هي أيام ويحل موعد زفافك.. لا يرغب مولاي بتأجيله بسبب مرضك، ولا يتمنى رؤيتك مريضة بأي حال"
قالت جمان بإلحاح "أنت تكذبين.. لم يمنعني أبي من زيارة خديجة في السابق مهما كان مرضها.. هذا ليس عذراً.."
وتقدمت آمرة "ابتعدن عن طريقي.."
حاولن منعها، لكنها أصرّت على دخول الغرفة وأبعدتهن عنها بحدة.. ولما فتحت الباب ودلفت للغرفة المظلمة إلا من نور ضعيف يتسلل من نافذتها الصغيرة، كانت تستطيع أن ترى أن خديجة بأسوأ حال.. منهكة شاحبة بشفتين جافتين ووجه ملتهب حرارة وجسد يرجف بوضوح، وإلى جوار سريرها وضع إناء للقيء، ولم تكن رائحة المكان سارّة أبداً.. اتسعت عينا خديجة وهي ترى جمان تقف عند رأسها، فنهضت بعسر شديد وهي تقول "ما الذي جاء بك هنا يا فتاتي.. غادري الغرفة أرجوك"
تلمست جمان جبين خديجة لتجده مشتعلاً بحرارة لم تشعر بمثلها من قبل، فقالت بقلق "ما بك يا خديجة؟ أهي حمى؟"
دفعت خديجة يد جمان بعيداً وهي تقطب قائلة "أرجوك ارحلي.. لا تجعلي مولاي يغضب لمجيئك إلى هنا.."
قالت جمان باعتراض "لن أرحل بالطبع.. هل تناولت ما يقيم أودك؟ علينا بإخراجك من هذه الغرفة الخانقة.."
فقالت خديجة بحدة "أخبرتك أن تغادري.. لا تجعلي الأمور أكثر سوءاً من هذا يا جمان.."
ونادت إحدى الجواري بعصبية قائلة "أخرجوها من هنا.. لا أريدها أن تبقى في هذه الغرفة.."
نظرت لها جمان باستنكار وعدم فهم، بينما جذبنها بعض الجواري بقوة لإخراجها من الغرفة وإغلاق الباب خلفها.. فوقفت جمان خارج الغرفة وهي تصيح بحدة "لم تفعلين هذا يا خديجة؟ أنا لا أفهم شيئاً.."
قالت لها إحدى الجواري بتوتر "مولاتي، لا تتعبي خديجة فهي بأسوأ حال.. مولاي أمرنا أن نبعدك عنها مهما كان الأمر، ومخالفة أمره سيوقعنا، ويوقع خديجة، في العقاب.. فهل هذا ما تريدينه؟"
نظرت لهن جمان بحيرة شديدة وقلق أشد، ثم استدارت بخطوات سريعة خارجة من جناح الجواري.. بينما تنهدت خديجة وهي تعود للاستلقاء على سريرها بأنين للآلام الحادة المنتشرة في أنحاء جسمها.. وغمغمت "يا إلهي.. أرجو أن تمرّ هذه الأزمة على خير.."
***********************
اتجهت جمان من فورها لمجلس أبيها الذي هشّ فور رؤيتها وهو يقول "مرحباً بابنتي الجميلة"
قالت جمان بحدة لم تملكها وهي تقترب منه"لماذا أمرت الجواري بمنعي من دخول غرفة خديجة والاطمئنان عليها؟"
تنهد ربيعة وهو يغلق كتاباً بيده ويضعه جانباً، وقال "لأنها مريضة جداً، وأخشى أن تنتقل لك العدوى في هذا الوقت.. أنت على مشارف زفاف لا يمكننا تأجيله.. وليس الوقت ملائماً لمثل هذا المرض.."
قالت بحنق "هذه حجة لا أساس لها من الصحة.. أنت تحاول إبعادي عن خديجة بأي طريقة.. لماذا؟ إن هي إلا حمّى ستزول بسرعة.. فلمَ تمنعني من الاطمئنان عليها ولو قليلاً؟.."
قال ربيعة بهدوء "ليست مجرد حمّى يا جمان.. إنها تقيء طوال الوقت.. هذا لا يحدث من مجرد حمّى.."
قالت جمان باعتراض "بل الحمّى الشديدة قد تفعل ذلك.."
فقال ربيعة "وما سبب هذه الحمّى الشديدة؟.. أتعرفين ذلك؟"
فتحت جمان فمها لتجيب، لكنه قاطعها قائلاً "ليست مصابة بالزكام، ومع ذلك الحمّى عالية جداً.. هي مريضة بمرض ما، وأخشى من هذا المرض الذي لا نعرفه حتى الآن.."
قالت جمان بضيق "لكن من المحزن ترك خديجة بهذه الحال.."
قال ربيعة "لا تقلقي.. الجواري سيعتنين بها بأفضل مما قد تفعلين أنت.. لنأمل أن تصبح أفضل في وقت قريب.."
صمتت جمان بمضض.. هناك الكثير مما عليها فعله هذه الأيام بسبب زفافها القريب، لكن ما حدث لخديجة صرف تفكيرها عن كل هذا وهي تنشغل بالتفكير بها..
بعد يوم، وبينما كانت جمان جالسة مع ربيعة في جانب من الحديقة وهو يحدثها عن بعض ما سمعه من أخبار القلعة، رأيا إحدى الجواري تقترب منهما راكضة والقلق يبدو جليّاً على وجهها.. ولما وصلت إليهما أحنت رأسها وهي تقول "مولاي.. لقد ذهبت للاطمئنان على خديجة، وفوجئت برؤية طفح جلدي ينتشر في وجهها ويديها.."
نظرت جمان لأبيها بقلق وهو يسأل الجارية "أمازالت حرارة جسدها مرتفعة؟"
أجابت الجارية "بل هي أفضل حالاً اليوم.. لكن الطفح انتشر في وجهها بسرعة لم نتوقعها"
تساءلت جمان "ما الذي يعنيه هذا؟"
تنهد ربيعة وهو يقول "لا أعلم حقاً.. لكني سأستدعي أحد المعالجين من القلعة.. قد يعرف ما بها.."
ونظر إلى الجارية قائلاً "استدعِ لي مَيْسَرَة.."
أسرعت الجارية لتنفيذ أمره بينما تساءلت جمان بقلق "لم لا ترسل سلمة؟ سيكون أسرع بتنفيذ أمرك"
قال ربيعة "سلمة أرسلته بالفعل لإنجاز أمر لي في القلعة.. لا تقلقي، لن يتأخر ميسرة طويلاً"
غمغمت جمان بتوتر "أتظن أن هذا المعالج قد يفلح في علاجها؟"
غمغم ربيعة "لنأمل ذلك يا ابنتي.."
صمتت جمان رغم أنها تودّ طرح الكثير من الأسئلة لعلها تعثر على جواب يخفف من قلقها.. لكن لم يبدُ أن أباها يملك الأجوبة التي تطمح إليها..
***********************
سار سلمة عبر طريق من طرقات القلعة في حي من أحيائها بصمت وهو يتلفت حوله.. كان ذلك الحيّ ذا طرقات أضيق من المعتاد ووجوه ساكنيه كالحة ذات نظرات حادة وعبوس ظاهر.. لكنه لم يعبأ بذلك وهو يتقدم نحو بيت متوسط الحجم ذو عدد من النوافذ ينبعث منها صخب ظاهر رغم أن الوقت لم يزل في منتصف النهار.. عبر سلمة من الباب المزخرف رغم أنه بدا قديماً مهترئاً، ونظر عبره لصحن البيت الواسع الذي صفّت فيه طاولات دائرية في عدد من جهاته وحولها أرائك يتكئ عليها عدد من الرجال بعضهم بدا منعّماً بملابس فاخرة، والبعض الآخر بدا غريباً عن هذه البلاد بملابسه المختلفة وملامحه التي كانت مزيجاً من أعراق شتى.. لم يعبأ سلمة برائحة الخمر التي تخنق الأنفاس، ولا بالضحكات العالية والصخب الدائر بين الرجال ويحيط بهم مجموعة من النسوة اللواتي كان أغلبهن من الجواري، وقد تنافسن على ارتداء ما يلفت الأنظار من الملابس المطرزة والقلنسوات ذات اللآلئ.. بينما جلست إحداهن في جانب المكان ضامّة عوداً لصدرها وهي تعبث بأوتاره وتتغنى بأبيات تتغزل في الخمر وعشق ذوات القد المياس..
سار سلمة متجاوز عدداً من الطاولات نحو رجل يبدو من ملابسه وملامحه أنه يهودي.. فقد تم فرض ملابس معينة على أهل الذمة في العالم الإسلامي من يهود ونصارى، ومنعهم من التشبه بلباس العرب.. لذلك التزم اليهود بملابس لونها رمادي يتوسطها زنار ضعيف وطيلسان عسلي على الرأس بدل العمامة التي يتخذها العرب.. كان الرجل يجلس قرب إحدى الطاولات وقد فرد مجموعة من الأوراق أمامه وهو يدقق البصر فيها، وخلافاً للآخرين، لم تكن هناك أي أوانٍ للخمر ولا أي نسوة قربه أو أي ندماء من الرجال.. بقي وحيداً يدفن عيناه في الأوراق أمامه حتى لاحظ ظل سلمة الذي سقط على الأوراق، ولما رفع رأسه حياه سلمة وهو يستخرج من ثيابه صرة من المال.. فوضعها أمامه على الطاولة قائلاً "مولاي ربيعة بن حباب يرسل لك تحياته.. بعثني بهذا المال كدفعة أولية للدين الذي لك عليه.. وهو يعدك بمثله بعد أسبوعان أو ثلاثة..”
استخرج الرجل الأموال وبدأ عدها بدقة وتأنٍ بينما ظل سلمة واقفاً بانتظاره دون تذمر بعد أن تجاهله الرجل ولم يدعه للجلوس.. سمع سلمة الصخب يتزايد من خلفه وضحكات رجل عالية تغطي على ما سواها من أصوات بحيث التفت سلمة للصوت تلقائياً.. وعند طاولة بعيدة، جلس حولها عدد من الرجال وعدد أكبر من الغانيات، رأى سلمة بينهم عامر ابن قائد جيوش القلعة وقد تخلى عن وقاره المعهود وأخذ يضحك ملء شدقيه بينما التصقت به إحدى الغانيات وهي تضحك بدورها بسرور ظاهر..
عبس سلمة وهو يراقب هذا المنظر رغماً عنه، وتراءت له ابتسامة جمان الخجول عندما كان عامر يحدثها...... شتان بين المنظرين.. وشتان بين هذا العالم وذاك..
بقي سلمة وقتاً طويلاً يراقب ما يجري حتى سمع الرجل القريب يناديه بحدة، فاستدار سلمة ليجد الرجل يقول له بحنق "ألم تسمع ما أقوله لك أيها العبد؟ أتظنني أملك اليوم بطوله؟"
غمغم سلمة معتذراً والرجل يزفر بحدة، ثم قال له "قل لمولاك إن هذا المال لا يكفي.. أريد فوق هذا المبلغ مائة دينار، وإلا ضاعفت الدين ضعفاً كل أسبوع يمر.. أفهمت؟"
رغم ضيق سلمة من هذا اليهودي، إلا أنه لم يعترض وهو يعده بأن يبلغ مولاه تلك الرسالة، ثم استدار مغادراً وهو يلقي بنظرة طويلة على طاولة عامر اللاهي قبل أن يزفر ويغادر المكان بصمت..
وبعد ساعة أو ساعتين، خرج عامر من باب الحانة وهو يتغنى ببعض الأشعار الماجنة ويلوح بصرة مليئة بالدنانير في يده.. لكنه توقف فجأة مع مرأى سلمة الذي كان يقف في جانب المكان بصمت وإن ظهر العبوس جلياً على ملامحه.. تعرف عليه عامر على الفور فقد رآه عدة مرات مع ربيعة أو بمفرده مُرسلاً من سيده إلى عبدالله بن جعفر.. فقال بشيء من السخرية "هل أرسلك مولاك تتجسس عليّ لتشهد على حسن سلوكي أيها العبد؟"
اقترب سلمة من عامر بخطوات ثابتة وهو يقول بهدوء ظاهر "لست بحاجة لأن يرسلني أحد، فالمجون ظاهر على وجهك منذ رأيتك للمرة الأولى.."
فقال عامر باستخفاف "إذاً؟.. هل ستبلغه بما رأيت؟"
استمر سلمة في اقترابه حتى وقف في مواجهة عامر وقال "ألا تخشى أن أفعل؟"
ضحك عامر بسخرية وقال "إن كان مولاك سيستمع لمقولة عبد ويكذب قولي فهو لا يستحق أن أصاهره حقاً.. فقل ما بدا لك..”
شعر سلمة برغبة ملحّة في لكم وجه عامر ليزيل تلك البسمة الساخرة من شفتيه، لكن مثل ذلك الفعل سيغضب مولاه منه بشدة وهو لا يطيق ذلك.. فقال سلمة مقطباً "ما الذي يحملك على التردد على هذه الأماكن وعرسك قريب؟ لِمَ ترغب بالزواج بابنة مولاي حقاً؟"
مال عامر نحوه وقال بهزء "لا شأن لك أيها العبد..”
اختنق سلمة برائحة الخمر الكريهة من أنفاس عامر الذي استدار بعدها مضيفاً بضحكة "لم لا تعود لمولاك بسرعة قبل أن يغضب منك؟.. فليس للعبد أن يتسكع في مثل هذه الأماكن..”
ظل سلمة واقفاً وهو يشد قبضة يديه بقوة ويضغط على أسنانه بغضب ظاهر، ثم غمغم لنفسه بحنق "تباً لك ولأمثالك..”
لكنه لم يكن يجرؤ على مخاطبة مولاه في هذا الأمر، فلن يعيره أي اهتمام بتاتاً مقابل قول عامر.. ففي هذا العصر الغريب، لم يكن شرب الخمر جهاراً والتردد على مثل تلك الحانات يقابل بأي استنكار من العامة.. تنهد سلمة وهو يغادر بدوره بصمت.. ترى، ما الذي ستحمله لك الأيام في كنف عامر يا جمان؟..
***********************
جلست جمان بتوتر وهي تهز قدمها في مجلس أبيها بانتظار ما سيسفر عنه فحص الرجل الذي أحضره ميسرة لخديجة.. فقال ربيعة وهو يتصفح أحد كتبه "أنت تصيبينني بالتوتر بكل هذا القلق الذي تبدينه.."
قالت جمان "كيف يمكنك أن تكون هادئاً هكذا؟ أشعر أنني سألتهم أصابعي لشدة التوتر.."
ابتسم ربيعة مجيباً "لا تلتهمي أصابعك يا عزيزتي فزفافك قريب.. لا نريد أن نفسده لأي سبب.."
لم تعلق جمان وهي تشعر أن أباها يعلق أهمية كبرى على زفافها، بينما ما عادت هي تراه بهذه الأهمية.. سمعت في تلك اللحظة طرقات على الباب فأسرعت تلفّ وشاحها على رأسها مخفية خصلات شعرها.. وبعد أن سمح ربيعة للطارق بالدخول، فتح الباب ودخل منه ميسرة، وهو شاب مملوك لأبيها ضئيل الجسد نحيف الوجه لا يتجاوز العشرين من العمر بكثير.. فقال ميسرة فور دخوله "مولاي.. الرجل الذي أحضرته معي من القلعة يريد الحديث معك.."
فأشار له ربيعة بإحضاره، ثم التفت إلى جمان قائلاً "عودي لجناحك يا ابنتي، وسأخبرك بما أعلمه عن خديجة"
نهضت جمان واقفة وقالت برجاء "بل سأبقى في الغرفة المجاورة.. أريد أن أسمع ما يقوله هذا المعالج بنفسي.."
لم يظهر ربيعة اعتراضه على الأمر، فأسرعت جمان تدلف لغرفة ملحقة بمجلس أبيها، وأبقت الباب موارباً وهي تقف قربه بتوتر.. وبعد قليل، سمعت صوت رجل يلقي السلام على أبيها والذي ردّ عليه السلام بأحسن منه وطلب منه الجلوس.. فجلس الرجل قريباً وقال "لقد عاينت المريضة وساءني ما رأيته.. لا أدري لمَ أبقيتموها هنا طوال هذا الوقت.."
تساءل ربيعة بدهشة "ماذا تعني؟ ولم لا نبقيها هنا؟"
قال الرجل بأسف "لأن مرضها هذا معدٍ وقاتل.. قد يصيب من حولها بالعدوى لو لم تكونوا حذرين.."
سأله ربيعة بقلق "هل عرفت بأي مرض أصيبت؟"
مسّد الرجل لحيته الرفيعة وهو يقول "لست متأكداً بعد، لكن أغلب الظن أنها مصابة بالجدري.."
نظر له ربيعة بصدمة بينما صعقت جمان لما تسمعه وتوترها يزداد بشدة.. ولما سمعت أباها يقول باستنكار "أأنت متأكد؟ ألا يمكن أن يكون مرضاً آخر؟ الحصبة مثلاً؟"
قال الرجل هازاً كتفيه "لا نعلم بعد.. ربما بعد يوم أو اثنان سنتأكد من الأمر.. لو أصبح الطفح على جلدها أكثر قسوة ونبتت لها رؤوس فهذا بلا شك هو الجدري.."
ظلت جمان تستمع له بصدمة، فهي تعلم أن هذا المرض خطير وقد يكون قاتلاً.. ومن نجا منه أصيب بعاهات لا تحصى.. بينما أضاف الرجل "لقد نصحت الجواري بعدد من العلاجات الملائمة، وإن كنت أرى أن إبقاءها في هذا القصر وسط هذا العدد الكبير من الناس خطير.. ربما من الأفضل عزلها خارج القصر لكيلا تصيب العدوى شخصاً آخر.. عليكم بتكحيلها بالأثمد والكافور لئلا يثور الطفح في عينيها فيعميها.. وإذا ازداد الطفح ونضج دخّنوها بورق الآس أو ورق الزيتون فإنه يجففه.. واسقوها عدساً مقشراً و..........."
لم تستمع جمان لكلمة مما يقوله الرجل وهي تشعر بدوار في رأسها.. لم تكن تظن أن مرضها خطير يجب الحذر منه.. كانت تعتقد أنه مرض عارض سيزول وتعود خديجة كما كانت من قبل.. لكن الآن، ما الذي سيحدث لها؟.. بدأت الدموع تترقرق في عينيها وهي تحاول ألا تظهر بكاءها.. لكن الألم الذي اعتصر قلبها لم يكن شيئاً قليلاً..
بعد أن غادر الرجل، نادى ربيعة جمان بصوت هادئ.. حاولت جمان تمالك رجفتها وهي تخرج لرؤية أبيها الذي كان مطرقاً بصمت.. ولما رفع بصره إليها بنظرة فهمتها على الفور، قالت متوسلة "أرجوك يا أبي.. لا تبعد خديجة.. دعني أبقَ عندها وأطمئن عليها.. أنا قلقة كثيراً من مرضها هذا.."
فقال ربيعة بحزم "لا، وهذا أمر قاطع"
قالت جمان متضرعة "ولكنها......"
قاطعها ربيعة بحدة "أنت تدركين الآن أنها مصابة بمرض خطير.. لا أريد أن تصيبك عدوى مرض لا علاج له، ولا أريد خسرانك أبداً يا جمان"
خفضت جمان وجهها بحزن وهي تقول "وماذا عن خديجة؟ هل نتركها تلقى حتفها دون علاج؟"
تنهد ربيعة مجيباً "أدرك مدى خوفك عليها، ولست بأقل قلقاً منك.. لكن هذا قضاء الله، ولا نملك له رداً.. فما الذي بيدنا فعله؟"
قالت جمان باعتراض "لكن كيف أصيبت بهذا المرض من بيننا جميعاً؟"
وأضافت بصوت مرتجف "لماذا هي دون البقية؟"
قال ربيعة متنهداً "أنت تعلمين أن خديجة تذهب للقلعة بين يوم وآخر للعناية بأخت لها هناك.. أخبرتني إحدى الجواري أن تلك الأخت كانت مريضة، لكن خديجة قد أخفت عني ذلك لكي تتمكن من العناية بأختها متى ما سنحت لها الفرصة.. كانت تخشى أن أمنعها من الذهاب إليها، وهو ما كنت سأفعله لو علمتُ أن مرضها خطير.. وهذا ما جَنَته من خداعنا.."
صمتت جمان بحزن شديد وهي تشعر أنها ستفقد الأم التي لم تعرف غيرها، فربت ربيعة على كتفها قائلاً "جمان.. أنا راحل غداً في إحدى القوافل المتجهة إلى بغداد ولن أعود قبل مضيّ أسبوعين.. أطيعي ما طلبته منك ولا تقتربي من خديجة.. لا أريد أن تهلكي بمثل هذا المرض.. أنت صغيرة وأريد أن أشهد زواجك وأرى أحفادي بإذن الله"
حاولت جمان ألا تظهر اعتراضها وهي تهز رأسها إيجاباً، فأضاف ربيعة بصرامة "مَن في القصر جميعاً يعلمون بأنك محظورة من الاقتراب من غرفتها.. إن خالفت أمري فسيصلني خبر ذلك، وستلقين عقاباً على هذا.. أفهمت؟"
عادت تهز رأسها إيجاباً.. لكن عقلها لم يزل مشغولاً بخديجة وما أضحت عليه.. فأين السبيل لعلاجها وإنقاذها من براثن مرض مميت كهذا؟..
***********************
لم تكن الشمس قد أشرقت في اليوم التالي عندما كان ربيعة يمتطي جواده القوي ذو اللون الأشهب مرتدياً رداءً صوفياً غليظاً تحسباً للبرد، وخلفه عدد من العبيد المدربين على القتال لحماية مولاهم متى احتاج لذلك.. وفور أن استقر ربيعة على السرج التفت لسلمة الذي كان يقف قريباً منه ممسكاً بلجام جواده، فتناول ربيعة اللجام وقال "أوصيك بقصري يا سلمة.. قد كـَـثـُرَ قطاع الطرق في هذه الأنحاء، وأخشى أن يستغلوا غيابنا للهجوم على القصر وسلب ما فيه.."
فقال سلمة "لا تخشَ شيئاً يا مولاي.. أنا ومن بقي من الحراس سنبقى ساهرين حتى عودتك إلينا سالماً بإذن الله.."
هز ربيعة رأسه، ثم قال مقطباً "هناك أمر آخر.. لقد منعت جمان من الاقتراب من غرفة خديجة.. عليك أن تتأكد من أنها لن تخالف أمري هذا.. أبلغ جميع الجواري بذلك وليراقبنها جيداً.."
قال سلمة "لا تقلق يا مولاي.. لن يحدث ذلك أبداً.."
فجذب ربيعة اللجام ولكز الجواد ليبدأ مسيره والنور قد صبغ الأفق بلون باهت لا يكاد ينير الأرض تحته.. بينما بقي سلمة يراقب القافلة الصغيرة التي انطلقت نحو القلعة لتنضمّ للقافلة الكبيرة والتي تحمل بضائع خاصة بمولاه، ومن ثم تبدأ سيرها بعد طلوع الشمس مباشرة نحو بغداد مروراً بالكوفة والحِلـّة.. في رحلة قد تستغرق أسبوعين أو أكثر ذهاباً وإياباً..
تنهد سلمة وهو يستدير ويتجه نحو القصر القريب.. ولما رفع بصره للنافذة في الأعلى والمقابلة للساحة، رأى ظلاً يغادر موقعه قربها، فأدرك أن جمان كانت تراقب رحيل أبيها.. لابد أنها تعيسة جداً بسبب مرض خديجة.. ويخشى أنها لن تتردد في مخالفة أمر أبيها مادامت الفرصة سانحة لذلك..
بحث سلمة ببصره عن إحدى جواري القصر، فوجد إحداهن تحمل صناديق في يدها متجهة لجانب آخر منه.. ولما ناداها توقفت والتفتت إليه لتشيع ابتسامة على وجهها فور رؤيته قائلة "كيف حالك يا سلمة؟"
تجاهل سلمة سؤالها وهو يقول "هل رأيتِ خديجة هذا اليوم؟ كيف أصبحت؟"
هزت الجارية كتفيها قائلة "كما هي.. لا يبدو أنها بسبيلها للتحسن قريباً.."
قطب بضيق من عدم اكتراثها الواضح وهو يقول "أريدك أن تجعلي إحدى الجواري تحرس غرفتها طوال الوقت.. تأكدي أن مولاتي لن تقترب منها بأي حال وإلا كان العقاب من نصيبكن.."
قطبت الجارية قائلة "ولم العقاب لنا نحن؟ أليس من المفترض بمدللتكم تلك أن تطيع ما يطلب منها ولو لمرة واحدة؟"
نظر لها سلمة باستنكار وقال "وما شأنك أنت؟ كل ما عليك فعله هو إطاعة الأوامر بصمت.."
هزت كتفيها من جديد قائلة "لست أدري لم تحرصون على إبعادها عن خديجة.. إنها كبيرة بما يكفي لكي تدرك مخاطر ذلك بنفسها"
قطب سلمة وقال بصرامة "احفظي لسانك ونفذي ما طلبته منك.. لو تطاولت بالحديث عنها أمامي لأبلغت مولاي بذلك لكي تنالي من العقاب ما يلزمك حدودك"
ورحل دون أن يلتفت إليها مجدداً بينما راقبته هي بامتعاض، قبل أن تغادر مدمدمة "لا أدري لم يحيطونها بكل هذه الحماية وكأنها طفلة صغيرة.. حتى أنت يا سلمة؟"
وتنهدت مضيفة "مع كل النعيم الذي تعيش فيه، تجد فوق ذلك من الرعاية ما لا نحصل على جزء منه.. هذا غير عادل بالمرة.."
في ذلك اليوم، ورغم أن سلمة قد أمضى أغلب الأوقات قريباً من القصر يسأل عن خديجة وعما جرى لها في مرضها، إلا أنه لم يرَ جمان أبداً.. انتابه شيء من التوتر مع مضيّ النهار وهو يجلس على أحد الكراسي الرخامية ويهز قدمه بشيء من العصبية.. وبعد وقت قصير لم يملك أن ينهض ويعود للقصر مستدعياً إحدى الجاريات ممن يقمن على خدمة جمان، فسأل الجارية "كيف هي مولاتي اليوم؟ هل حاولت الاقتراب من غرفة خديجة؟"
قالت الجارية زافرة "حاولت ذلك عدة مرات، لكننا منعناها من دخول غرفتها وأقفلناها بالمفتاح.. لقد أتعبتنا كثيراً اليوم، وبعد أن تفشل تعود لتنزوي في جناحها وترفض الخروج.. يبدو أنها مصدومة بما جرى لخديجة"
فقال سلمة "اهتمي بها وتأكدي أنها لن تغافلكن وتقترب من غرفة خديجة.."
هزت الجارية رأسها، وغادرت وهي تزفر من جديد مبدية ضيقها بوضوح.. بينما نظر سلمة لنافذة جناح جمان بصمت أملاً برؤيتها قربها، لكن خاب أمله دون أن يلمحها.. فاستدار وعاد لموقعه السابق تتناهبه أفكار عدة.. هل يطلب رؤيتها؟ لكن بأي حجة؟.. لابد أنها حزينة وقلقة، ويتمنى لو يستطيع الحديث معها والتهوين من قلقها قليلاً.. لكنها قد تصاب بالضيق لو حاول الحديث معها عن هذا الأمر.. فما الذي يمكنه أن يفعله؟..
***********************
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، سار سلمة نحو زاوية معينة من حدائق القصر، غير مبالٍ بالضباب المنتشر في ذلك الوقت المبكر من النهار، وبالبرودة التي لم تُزلها الشمس بعد.. تجاوز عدة شجيرات ومن خلفهن ساحة حجرية صغيرة احتلتها أعداد من الحمام سرعان ما طارت مع اقترابه من الموقع، ومن خلف الساحة مظلة خشبية زينت بزخارف جميلة لشجيرات مزهرة.. وتحت المظلة بضع كراسٍ من رخام أبيض بارد الملمس، وعلى أحد تلك الكراسي استطاع أن يرى ذلك الظل الساكن لصاحبته التي ارتدت معطفاً بلون الكهرمان متصلاً بغطاء على رأسها ألقى بظلاله على وجهها.. لم يتمكن من رؤية ملامحها بوضوح وإن كان يدرك أنها ليست إلا جمان، وقد اعتادت الجلوس في هذا الموقع الهادئ منذ فترة لتقضي فيه أغلب ساعات الصباح.. وقد اعتاد هو أن يمرّ بهذا الموقع أيضاً في بعض أوقات الصباح ليراها، ويطمئن عليها..
شعر سلمة بالراحة لرؤيتها، بعد أن غابت عن نظره طوال اليوم السابق، فقد كان يبغي الاطمئنان عليها مباشرة عوضاً عن سؤال الجواري عنها في كل مرة.. اقترب حتى وقف قريباً من موقعها وهو يقول "ما الأمر هذا اليوم؟ أنت هنا أبكر من المعتاد.."
خفضت وجهها أكثر وهو يراها تمسح خديها، فتساءل مقطباً "ما الذي جرى؟ أأنت تبكين؟"
لم ترفع جمان بصرها إليه وهي تهمس بصوت مرتجف "ما الذي جاء بك إلى هنا؟"
أجاب "لقد ذهبتُ للاطمئنان على خديجة فوجدتها قلقة بشأنك وطلبت مني أن أبحث عنك.. يبدو أنها تخشى أن تحاولي الخروج من القصر بعد أن أخبرتكِ الجواري أن الطفح الجلدي في جسمها قد غدا أسوأ من السابق، لكن الحمدلله أنك لم تفعلي.."
تهدج صوت جمان وهي تقول "بم سيفيدني خروجي في هذه الحالة؟ خديجة مريضة جداً، وأنا لا أملك حيلة في الأمر.."
وأخفت وجهها بين يديها هامسة بصوت باكٍ "ما الذي سأفعله لو أصابها مكروه؟.. رباه.. لا يمكنني تصور هذا أبداً.."
فقال سلمة "لكنها ستغدو بخير.. لم هذا القلق؟"
هزت رأسها معلقة بحزن "لا تحاول الكذب عليّ.. لو لم يكن مرضها مميتاً لما أصرّ الجميع على إبعادي عنها، بل إنها مجبرة على ملازمة غرفتها ولا يدخل عليها أحد تقريباً.."
حارَ سلمة فيما قد يقوله لطمأنتها، فلزم الصمت وهو يراها تبكي من جديد هامسة "لو أصابها مكروه سأموت.. حقاً لن أستطيع العيش بعدها أبداً.."
صدمه ما قالته وشعر بالحنق ليأسها ذلك، فقال بشيء من الحدة "إنما هي مربيتك، لا أكثر من ذلك.. والموت قضاء لا يمكن منعه.. فكيف تتمنين الموت بهذه السهولة؟"
رفعت بصرها نحوه متفاجئة لانفعاله، وبالفعل كان ينظر لها بشيء من الغضب كسا وجهه بحمرة خفيفة.. فقالت جمان بألم "أنت قاسٍ.. ألا يهمك أمرها؟.. لكني أهتم، وأدرك أنني ضائعة تماماً بدونها.."
ثم دفنت وجهها بين يديها وهي تقول بغضب "ارحل.. لم أتخيلك قاسياً لهذه الدرجة.. غادر فلا أريد بقاءك هنا أبداً.."
وسالت دموعها بحزن شديد محاولة عدم التفكير فيما قد يجري لخديجة إن اشتدّ عليها المرض.. لا يمكن أن تكون هذه نهايتها حقاً.. حاولت إقناع نفسها بذلك مراراً لكن دموعها تسيل على خديها كلما فكرت بالأمر أكثر.. لم تكن تتوقع أن تحلّ بهم هذه المصيبة في هذا الوقت بالذات.. والأدهى أنها تجد الجميع مستسلمين لهذا الأمر بلا مبالاة كبيرة..
ولما تمالكت نفسها بعد مدة من الوقت ورفعت وجهها وهي تمسحه بيديها، لاحظت أن سلمة كان جالساً في جانب المكان بصمت وهو يراقبها.. عندها قالت بحدة "لمَ لمْ ترحل عندما طلبت منك ذلك؟"
علت شفتيه ابتسامة خافتة وهو يقول "أنتِ لم ترحلي كلما طلبت منك ذلك عندما كنت أنزوي وحيداً لأبكي.. أنسيتِ؟"
قالت وهي تشيح بوجهها "كنتُ طفلة في ذلك الوقت.. لكنك لستَ كذلك الآن.."
نهض سلمة قائلاً "هناك طبيب ماهر سمعت به يسكن الكوفة.. لن أستغرق وقتاً طويلاً في الذهاب إليه، وأرجو أن يوافق على الحضور معي.. ربما يتمكن هذا الطبيب من علاجها فيما فشل المعالجون في القلعة بذلك.."
نظرت له بأمل قائلة "أتظن ذلك؟"
هز كتفيه قائلاً "سأحاول.. المهم الآن أن تكفـّي عن البكاء كالأطفال، ولا تقتربي من غرفة خديجة مهما كان الأمر.. لا أريد أن تصابي بالعدوى أنت أيضاً.."
فقالت جمان بلهفة "حاول الإسراع بالعودة.. لا أريد أن يشتدّ عليها المرض أكثر من ذلك.."
هز رأسه بوعد صامت، ثم استدار مغادراً وهي تنظر له بأمل.. أيمكن أن يفلح في إنقاذ حياة خديجة؟ ستكون ممتنة له أبد الدهر لو فعل ذلك.. فهي لا تتخيل حياتها بدون تلك المرأة التي استحقت عرش الأمومة بنجاح تام.. كيف لها أن تهنأ بحياتها دون أن تستيقظ على صوتها الحاني، وتنام قريرة العين دون أن تشعر بيدها تمسح على شعرها بعطف بالغ؟..
***********************
استغرق سلمة في رحلة الذهاب والعودة أطول مما تمنى، فلم يتمكن من العودة إلا بعد أن مالت الشمس لمغيبها في اليوم التالي.. وعندما أبلغتها إحدى الجواري بعودته، أسرعت جمان إلى نافذة جناحها فنظرت عبرها لترى سلمة يقف قرب جواده المنهك قريباً من باب القصر، ولم ترَ أحداً معه.. فقطبت وهي تسرع خارجة من جناحها مدمدمة "ما الذي يقصده سلمة بهذا؟"
وفور أن وصلت لباب القصر ورأت سلمة ينتظر وصولها رغم التعب البادي على وجهه، حتى قالت مقطبة "أين ذاك الطبيب الذي وعدتني بإحضاره؟"
أجاب سلمة بهدوء "رفض المجيء معي.."
نظرت له جمان باستنكار، ثم قالت بحدة "ماذا تعني؟ كيف يرفض هذا الطلب ويمتنع عن معالجة شخص مريض؟ ألم تقل إنه ماهر بعمله؟ ما كان عليه أن يرفض القدوم"
قال سلمة "عندما أخبرته بمرض خديجة وبما أصبح عليه حالها رفض القدوم وأخبرني أن ذلك أمر لا فائدة منه.."
تزايد استنكارها مما تسمعه وسلمة يضيف "وطلب مني إبعادها عن القصر لئلا تنقل العدوى لمن حولها.. فهذا المرض لا شفاء منه متى ما وصل لهذه المرحلة.."
صاحت جمان بحنق "مستحيل.. من هو ليقرر أمراً كهذا؟ إنه أحمق لا يفقه ما يقوله.."
قال سلمة محاولاً تهدئتها "لا داعي لكل هذا الانفعال.. لقد أخبرتك بما أبلغني به، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن ننفذه على الفور.. فلننتظر عودة مولاي وهو سيقرر ما علينا فعله.."
قالت جمان محتدة "هذا لا يكفي.. اذهب وابحث عن طبيب آخر، اذهب إلى بغداد لو تطلب منك ذلك.. المهم أن تجد من يعالج خديجة من مرضها هذا بأي ثمن"
فقطب سلمة لعنادها وقال بحزم "أنت تعلمين أن مرضها هذا لا علاج له.. كاذب من يخبرك غير ذلك.."
احتقن وجه جمان وهي تتطلع في وجه سلمة بغير تصديق، ثم ضمّت قبضتيها بقوة وهي تقول بحنق "حتى أنت يا سلمة؟"
تنهد سلمة وهو يقول "تمالكي نفسك وفكري بهدوء.. لو كنتِ مقتنعة حقاً بأن هناك من يملك لها علاجاً، فسأذهب لإحضاره أينما كان.. لكن لا تندفعي خلف رغبة تتمنين تحقيقها دون تعقـّل.."
أشاحت جمان بوجهها وهي تنظر لما حولها بصمت وإن كانت لا ترى شيئاً حقاً.. للمرة الأولى تجد أنها مطالبة بتحديد مصير شخص مهم بالنسبة لها.. لكن كيف لها ذلك؟.. لو عاد أبوها من رحلته تلك فلن يتردد في إبعاد خديجة عنها لئلا تصاب بالمرض ذاته.. لكن هل ذلك هو الحل الأفضل للجميع؟..
استدارت جمان مغادرة بصمت دون أن تهتم بسلمة الذي وقف ينتظر ردها، ولما رحلت لم يعلق سلمة وهو يجذب جواده المنهك نحو الإسطبل.. هو يعلم أن جمان، رغم مكابرتها، مدركة لعدم جدوى كل ما تفعله.. وستقتنع بذلك مع مرور الوقت.. لذلك لا يملكون إلا الصمت والانتظار..
في جانب آخر، وقفت الجارية التي تبعت جمان بعد أن أبلغتها بعودة سلمة، وهي تستمع لكل ما قيل باهتمام.. ولما رأت جمان تترك سلمة عائدة للقصر وملامحها ناضحة بالتوتر، سارعت الجارية لمغادرة الموقع بدورها وهي تتجه لغرفة خديجة.. لابد أن تعلم خديجة بما قاله سلمة، وبما قرره الطبيب الذي ذهب لإحضاره.. من حقها أن تعرف ذلك، وتقرر مصيرها بنفسها قبل أن يقرره الآخرون عنها..
***********************
في وقت متأخر من تلك الليلة، ركض سلمة عابراً الحدائق باتجاه زاوية مظلمة منها والقلق واضح على وجهه.. ولما اقترب من أحد الكراسي الرخامية المتناثرة في الحديقة ورأى الشبح الأسود المنطوي عليه قال بقلق "ما الذي تفعلينه هنا في هذا الوقت؟ هل تريدين قتل نفسك؟"
التفت الشبح مزيلاً الغطاء الذي يغطي وجهه، فتمكن سلمة من رؤية وجه خديجة الذي بدأ يتشوه بسبب البثور المتناثرة فيه، والذي يبدو الإنهاك عليه جلياً أشد ما يكون.. فاقترب منها قائلاً وقلقه يزداد "عودي لغرفتك الآن.. لا يجب أن تغادريها حتى تصبحي أفضل حالاً.."
قالت خديجة بحدة "لا تقترب كثيراً.."
توقف سلمة على بعد خطوات منها وهو يلاحظ ارتجاف جسدها، فيما غمغمت خديجة بصوت متعب "من قال إن حالي قد يصبح أفضل؟.. يبدو أنني لن أنجو من هذا المرض أبداً"
لم يعلق سلمة وهو مدرك أنها تعرف حقيقة مرضها وتعرف نسبة نجاتها منه، لكنه مع ذلك تساءل "أتريدين مني أن آخذك لبيمارستان الكوفة؟ قد يملكون ما يعالجون مرضك به"
هزت خديجة رأسها نفياً وهي تقول "لا.. بل طلبتك لأمر آخر.."
نظر لها بعدم فهم، فقالت "أريد أن تأخذني بعيداً عن هذا القصر.. لا أريد البقاء هنا ليوم آخر"
ارتفع حاجبا سلمة بتعجب وقال "أتريدين الذهاب لأختك التي تعيش في القلعة؟"
هزت خديجة رأسها نفياً وقالت "لا.. كانت مريضة عندما تركتها آخر مرة، ولا أعلم ما حالها.. أتمنى أن تكون بخير، لكني لا أريد أن أزيدها عبئاً.. أريد الذهاب إلى قرية بعيدة نوعاً ما.. أملك منزلاً فيها، وبعض معارفي يعيشون في تلك القرية وسيعتنون بي.."
فقال سلمة باعتراض "لكن لا يمكنك تحمّل الترحال بحالتك هذه.. أتريدين القضاء على نفسك؟"
ابتسمت خديجة ابتسامة شاحبة وهي تنظر لإحدى نوافذ القصر مغمغمة "هذا خير لي من إيذاء صغيرتي التي ربيتها منذ كانت في المهد.. لو أصابها هذا المرض، فلن تتحمله طويلاً.. لا يمكن أن أدع ذلك يحدث أبداً.."
ونظرت إلى سلمة مضيفة "أنا أثق بك أكثر من أي شخص آخر.. أريدك أن تعاونني على الرحيل، وتخفي الأمر عن جمان تماماً.. أبلغ الحراس أنك ذاهب للقلعة، ولا تجعل أحداً يعلم أنني رحلت معك.. هل ستجيب طلبي هذا؟"
نظر سلمة بدوره للنافذة التي تسلل النور من عوارضها الخشبية وقال "ذلك سيحزنها كثيراً.."
خفضت خديجة رأسها بصمت وسلمة يضيف "أأنت واثقة من عزمك على هذا رغم كل الألم الذي ستسببينه لها؟"
تنهدت خديجة مجيبة "ستحزن لأيام قليلة ثم تنسى كل هذا.. لا تزال صغيرة، وأمامها حياة طويلة تعيشها بإذن الله.."
ثم رفعت بصرها إلى سلمة قائلة برجاء "أنت ستبقى معها دائماً.. أليس كذلك؟"
نظر لها سلمة بصمت وهي تضيف "ولن تقوم بأي فعل أحمق.. أليس كذلك؟"
غمغم سلمة بابتسامة مريرة "أنت شديدة القسوة أحياناً، ولا تعبئين بمن حولك يا خديجة.."
قالت خديجة "صدقني أنا أبحث عما هو خير لك ولها.. لا أملك من أثق به أكثر منك، ومع غياب مولاي المتكرر سيغزوني القلق على جمان وأنا بعيدة عنها.. لكن بوجودك، سأغادر وأنا مطمئنة أنها ستكون بأمان"
خفض سلمة وجهه والمرارة تنضح من ملامحه، فأضافت خديجة "لا يساورك الظن أني سعيدة بحالك مع علمي بالألم الذي تشعر به.. لكن هذا قـَدَرُك، فكيف نعترض عليه؟.."
تنهد سلمة وهو يعود ببصره للنافذة بصمت، فغمغمت خديجة "عسى الله أن يبدل حالك ويرزقك على حُسْن صبرك.. من يدري ما تحمله الأيام لك؟"
ابتعد سلمة مغمغماً "سأذهب للحديث مع الحراس.."
راقبت خديجة ابتعاده وهي تزفر هامسة "لك الله يا سلمة..."
***********************
~ بعيدا عن الخيال (٢) ~
اضطرابات العالم الإسلامي
ظهر الأمير “جلال الدين بن محمد بن خوارزم” والذي كان قد هرب إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة٦١٧ هجرية) بعد مواجهة عنيفة مع التتار.. وعند عودته وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، في سنة٦٢١ هجرية..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم واستعادة ملكه، ولكنه تجاهل وجود التتار في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي.. لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى “سعد الدين بن دكلا” وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!..
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. فدخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولم يكتف بذلك بل ارتكب فعًلا شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!..
***********************
|