لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-02-16, 07:03 AM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2014
العضوية: 271387
المشاركات: 11,112
الجنس أنثى
معدل التقييم: bluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميع
نقاط التقييم: 13814

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
bluemay غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 
دعوه لزيارة موضوعي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


يا هلا ومرحبا



عودا حميدا عزيزتي خيال ..


بداية جميلة جدا ... ومتشوقة لمعرفة ما سيأتي لاحقا ..


عامر اخشى ان يكون زيادا آخر بشكل او بآخر


سلمة اتوقع بأنه المجهول الذي ظهر في الغلاف .. وعلى ما يبدوا فإن مآسي ما ستواجه قلعة سنداد



تقبلي مروري وخالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

 
 

 

عرض البوم صور bluemay   رد مع اقتباس
قديم 06-02-16, 01:10 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أهلاً بك يا مايا
سعيدة بتواجدك مع روايتي هذه
والحمدلله أن البداية قد أعجبتك
توقعاتك هذه لن أقول إن كانت صحيحة أم لا لكي لا أحرق أحداث الفصول القادمة
لكنك ستعرفين الأجوبة قريباً جداً..

سأنشر الفصلين القادمين الآن بإذن الله

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 06-02-16, 01:41 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

~ الفصل الثاني ~


في الأسابيع التالية، انشغلت جمان بالتحضير لزفافها القريب، بعد أن أصرّ عبدالله بن جعفر أن يقام بعد عودته من بغداد في أمر عاجل استدعى رحيله.. وقد تزايدت سعادة جمان وهي تجد اهتمام القصر منصباً عليها، وإن كانت حريتها قد قيّدت أكثر من السابق.. فغدا ممنوعاً عليها التجوال لأوقات طويلة في حدائق القصر، أو الانضمام للتجمعات النسائية التي تقام في قصر والي قلعة سنداد بين فترة وأخرى وتحضره نساء من عليّة القوم في القلعة.. لا تعلم سبب هذا، لكن خديجة كانت تحكم قبضتها عليها بشدة وتحرسها أفضل من أي حارس بالقصر.. تأففت جمان ذات مساء وهي تراقب الجواري يرتبّن ملابسها الحريرية المطرزة بعناية والمزدانة باللآلئ والجواهر مختلفة الأحجام بالإضافة لخيوط الذهب التي تخللت القماش بتطريزات منمنمة زادتها لمعة وجمالاً.. فتقوم الجواري بوضع الملابس في صناديق خشبية مزخرفة ومزينة بأشكال صدفية، ويقمن برشّها بعطر الورد الذي تضوع رائحته في الجناح الواسع.. ولما ازداد تأفف جمان، قالت إحدى الجواري ممن يماثلنها بالسن وكانت تلعب معها مرات عديدة في صغرها رغم العقاب الذي ينالها من ذلك "ما بالك يا مولاتي مستاءة؟ إن هي أيام وتنتقلي لقصر زوجك، فما الذي يحزنك؟"
قالت جمان بضيق "خديجة أضحت لا تطاق.. لقد بتّ مختنقة بحراستها لي طوال اليوم.. لا أدري بمَ سيفيدني إطاعة طلباتها العسيرة هذه"
ابتسمت الجارية قائلة "إنها تتمنى رؤيتك تولين عناية أكبر بنفسك استعداداً لزفافك.. فلم لا تطيعينها وتهتمي بنفسك كما قد تفعل أي عروس؟"
تأففت جمان من جديد وهي تنظر عبر النافذة للحدائق التي أصبحت نادراً ما تستطيع الوصول إليها، ثم تلفتت حولها متسائلة "أين خديجة؟.. لم أرها منذ الصباح.. ليس من عادتها التغيب كل هذا الوقت عن جناحي"
نظرت الجواري لبعضهن البعض بنظرة خاطفة، ثم قالت إحداهن "أبلغتني أنها متعبة قليلاً، وأوصتني أن أعتني بك حتى تخلدي للنوم"
اعترى القلق جمان وهي تقول "ما بها؟ أهناك ما يتعبها؟"
أسرعت الجارية تنفي الأمر قائلة "لا تقلقي يا مولاتي.. إنما هو صداع عارض، وهي امرأة كبيرة في العمر لا تقوى على تحمّل التعب كثيراً"
ثم ابتسمت مضيفة "أم أن قلقك من حلولي محلها في العناية بك؟ لا تحملي هماً يا مولاتي، فلن أغادر إلا بعد أن ألبي طلباتك كلها.."
ظل القلق بادياً على وجه جمان، لكنها نبذته مع دخول ربيعة الجناح، فسارعت الجواري للابتعاد فيما اعتدلت جمان في مجلسها وهي ترى الابتسامة الواسعة على وجهه قبل أن يقول "كيف حال العروس الجميلة؟"
احمرّ خدا جمان وهي تقول بابتسامة محرجة "لا داعي لهذه الأوصاف يا أبي.."
جلس قربها معلقاً "وهل جانبت الصواب؟"
نظر حوله للمعمعة التي صنعتها الجواري في جناحها أثناء عملهن، ثم قال بشيء من الضيق "ألم يكن من الأفضل البقاء بعد زواجك مع زوجك في هذا القصر؟ سيغدو خالياً بعد رحيلك، ولا أظنني سأطيق ذلك"
ابتسمت جمان معلقة "أما آن لك أن تتزوج وتأتي بمن تؤنس وحدتك في هذا القصر؟"
ضحك ربيعة قائلاً "الآن بعد أن وَخَطَ الشيب؟ لا أظن أن امرأة قد ترضى بمجالسة رجل في مثل عمري لما بقي له من العمر"
فقالت "كان عليك المبادرة بذلك منذ زمن طويل.. لكنك ماطلت طويلاً.."
تنهد ربيعة وهو يلمح القلادة في عنق جمان ذات الزمردة الخضراء، والتي نادراً ما تتخلى عنها.. فمد يده وأمسكها يتأملها معلقاً "لم يكن حزني على والدتك بعد موتها يسمح لي بالتفكير في أخرى.. بل إن مجرد رؤية هذه القلادة التي أوصت قبل موتها بأن تكون لك كان يزيدني ألماً فوق ألمي.. وبعد أن مرت السنوات انشغلت بتجارتي وبك انشغالاً تاماً أغناني عن التفكير في أي أمر آخر"
تساءلت جمان وهي تراقب ملامح أبيها "أنت كنت تحب أمي.. أليس كذلك؟"
قال ربيعة مبتسماً "أمك كانت أجمل من عرفته بين النساء، وقد أحببتها حباً كبيراً ملك عليّ جوارحي.. لكني الآن نادم.. ربما لو تزوجت لأنجبت زوجتي لك بعض الإخوة والأخوات.."
ربتت جمان على كتفه قائلة "ربما لو تزوجتَ امرأة أخرى وغدا لك أبناء آخرون لكرهتُ ذلك في صغري، لكني الآن أشعر أنك قد ظلمت نفسك بذلك"
وقف ربيعة يراقب حدائق القصر للحظات قبل أن يلتفت إلى جمان قائلاً "ربما أترك هذا القصر وأعود للسكنى في قصري الواقع في قلعة سنداد"
غمغمت جمان "لكنك تركت ذاك القصر منذ أمد بعيد"
عاد ربيعة ببصره للحدائق مجيباً "أجل.. اشتريت هذا القصر بناء على رغبة والدتك، فهي تحب الحدائق الفسيحة المحيطة به.. والسكنى في القلعة كان يتعبها فجسدها الضعيف بحاجة لمثل هذا المكان المتطرف البعيد عن البشر.. وقد راق لي هذا القصر بدوري ولم أرغب بالرحيل عنه بعد موتها.. لكن الآن، بعد أن تغادريه أنت أيضاً، سيغدو من المستحيل عليّ العيش فيه وحيداً"
لم تعلق جمان وهي تقف جواره تراقب الأشجار التي اهتزت أفرعها بفعل الريح فتتطاير بعض أوراقها التي اصفرت لتسقط صابغة الأرض بلونها الباهت.. تنهدت جمان وهي تفكر في هذا القصر الذي شهد سنين عمرها كلها.. هي متأكدة أنها ستشتاق لهذا القصر ولحدائقه الواسعة الفسيحة، لكنها لا تلوم أباها على رغبته بمغادرة القصر.. فكلما كان المكان أكبر وأكثر اتساعاً، كلما كان أكثر وحشة في صدر ساكنيه إن افتقدوا عزيزاً عليهم.. التفتت جمان إلى أبيها قائلة برجاء "أبي.. أرجو ألا تبيع هذا القصر مهما كان.. أبقِه كما هو.. فمن يدري متى نعود إليه، وهو غالٍ عليّ كما هو عليك بالتأكيد، فاحتفظ به أرجوك.."
ربت ربيعة على رأسها مجيباً "لا تقلقي يا فتاتي.. لا يمكنني التخلص من هذا القصر ففيه ذكريات لا تعوّض بالنسبة لي.. أظنني سأحتفظ به وأزوره في كل صيف.. فصيف القلعة خانق حتماً.."
فقالت جمان بحماس "إذن سآتي أنا أيضاً.. لا أعتقد أن هناك من سيمانع بذلك.."
ابتسم ربيعة معلقاً "أتعنين عامراً؟ أتمنى ألا يكون متسلطاً ويجبرك على البقاء في قصره ما بقي لك من العمر.."
نظرت له جمان وقد اعتراها القلق لهذا الخاطر، فضحك ربيعة مضيفاً "لا تقلقي.. سيحسن معاملتك بالتأكيد فهو شاب طيب، وقد أوصيته مراراً بك وقد وعدني بأنه لن يخذلني.."
ابتسمت جمان وهي تتأمل الحدائق من جديد مغمغمة "قد لا يكون التغيير سيئاً كما قد نخشى.."

***********************

في اليوم التالي، لاحظت جمان أن خديجة لم تأتِ لإيقاظها والاعتناء بها كالعادة، فتوجهت بالسؤال للجارية التي باشرت أمورها في هذا الصباح "ما بالها خديجة؟ أما زالت متعبة؟"
قالت الجارية بابتسامة وهي تتقدم من جمان حاملة ثوباً لتساعدها على ارتدائه "لا يا مولاتي.. إنها بخير حالٍ هذا اليوم.. لكنها انشغلت بترتيبات نقل متاعك ونقل الخدم الذين سيسبقونك لقصرك الجديد.. لا تقلقي لغيابها فهي في هذه الأيام لا تكاد تجد وقتاً لشرب الماء.."
صمتت جمان مقطبة، فهي غير معتادة على غياب خديجة لأكثر من عدة ساعات في اليوم.. فهذه المرأة قد لازمتها منذ مولدها، ولا تكاد تذكر يوماً مرّ عليها دون أن تبدأه برؤية وجهها وسماع صوتها الحاني..
بعد أن تناولت إفطارها، وبعد أن جالت في الحدائق لوقت طويل دون أن تسمع صوت خديجة الحانق كالعادة في الفترة الأخيرة، اتجهت لإحدى الجاريات متسائلة "أين خديجة؟ أريد أن أراها.."
قالت الجارية "لا أعلم أين هي يا مولاتي.. ربما كانت منشغلة في....."
قاطعتها جمان مقطبة "استدعيها إليّ حالاً.. أخبريها أن تترك كل ما تفعله وتأتِ إليّ.."
خفضت الجارية رأسها موافقة وأسرعت لتلبية طلبها.. بينما جلست جمان على أحد الكراسي الرخامية في الحديقة بنفاذ صبر.. ماذا دها خديجة هذا اليوم؟ أهي غاضبة منها لشيء فعلته؟.. غيابها غير معتاد أبداً، وحجة انشغالها هذه لا تقنعها.. لابد أن تواجهها وتفهم منها حقيقة ما تفعله..
بعد فترة قصيرة، عادت الجارية مرتبكة وقالت دون أن تواجه جمان بعينيها "أخبرتني خديجة أنها ستأتي لرؤيتك بعد انتصاف النهار.. فهي منشغلة حقاً ولا تستطيع الحضور.."
نهضت جمان بعصبية وقالت "أين هي؟"
قالت الجارية بتلعثم "إنها منشغلة جداً يا مولاتي.."
قالت جمان بحدة "خذيني إليها.."
نظرت الجارية حولها بقلق، ثم تنهدت قبل أن تقول "مولاتي.. لا أعتقد أن من المناسب ذهابك إليها في هذا الوقت بالذات.. وسيعاقبني مولاي بشدة لو أخذتك إليها"
تساءلت جمان بقلق "لماذا؟ ما الذي يجري هنا؟"
قالت الجارية وهي تتلفت حولها "في الحقيقة، خديجة مريضة قليلاً.. وعندما علم مولاي بذلك أمرنا أن نمنعك من الاقتراب منها.. لا يريدك أن تمرضي أنت أيضاً ولم يبقَ على زفافك الكثير.."
ازداد القلق على وجه جمان وهي تدرك أن سبب اختفاء خديجة ليس انشغالها كما يدّعون.. لابد أن يكون مرضها شديداً فلم يكن المرض العادي بقادر على منعها من مزاولة أعمالها المعتادة.. تجاهلت جمان طلب الجارية وهي تسرع الخطى نحو القصر والجارية تتبعها.. وعوضاً عن التوجه للأقسام العلوية منه، اتخذت جمان طريقها نحو قسمه الخلفي حيث يقع المطبخ الكبير وجناح جانبي خاص بالجواري.. اعترضت الجارية عندما أدركت مراد جمان قائلة "لا تذهبي إليها يا مولاتي.. سيغضب مولاي بشدة لذلك.."
فقالت جمان بسرعة "ارحلي واتركيني وشأني.. لن يعرف أبي أنك أنت من أخبرني بمرض خديجة.."
وأسرعت تجتاز الممرات الضيقة التي تؤدي للغرف الصغيرة الخاصة ببعض الجواري ممن كن ذوات شأن أعلى من البقية، واجتازت بعض الغرف الكبيرة التي تضمّ عدداً أكبر من الجواري الأصغر سناً وشأناً.. وفي نهاية أحد الممرات باب وحيد، كانت تعرف يقيناً أنها غرفة خديجة فلطالما اختبأت فيها عندما كانت صغيرة.. وقبل أن تصل للغرفة، وجدت بعض الجواري ممن أدركن قدومها يقفن في وجهها وإحداهن تقول "مولاتي.. ابتعدي عن هذا المكان فهو ليس آمناً.."
سألتهن جمان مقطبة "ما بها خديجة حقاً؟.. لمَ يمنعني أبي من القدوم إليها لمجرد كونها مريضة؟"
قالت الجارية مبتسمة "مولاتي.. إن هي أيام ويحل موعد زفافك.. لا يرغب مولاي بتأجيله بسبب مرضك، ولا يتمنى رؤيتك مريضة بأي حال"
قالت جمان بإلحاح "أنت تكذبين.. لم يمنعني أبي من زيارة خديجة في السابق مهما كان مرضها.. هذا ليس عذراً.."
وتقدمت آمرة "ابتعدن عن طريقي.."
حاولن منعها، لكنها أصرّت على دخول الغرفة وأبعدتهن عنها بحدة.. ولما فتحت الباب ودلفت للغرفة المظلمة إلا من نور ضعيف يتسلل من نافذتها الصغيرة، كانت تستطيع أن ترى أن خديجة بأسوأ حال.. منهكة شاحبة بشفتين جافتين ووجه ملتهب حرارة وجسد يرجف بوضوح، وإلى جوار سريرها وضع إناء للقيء، ولم تكن رائحة المكان سارّة أبداً.. اتسعت عينا خديجة وهي ترى جمان تقف عند رأسها، فنهضت بعسر شديد وهي تقول "ما الذي جاء بك هنا يا فتاتي.. غادري الغرفة أرجوك"
تلمست جمان جبين خديجة لتجده مشتعلاً بحرارة لم تشعر بمثلها من قبل، فقالت بقلق "ما بك يا خديجة؟ أهي حمى؟"
دفعت خديجة يد جمان بعيداً وهي تقطب قائلة "أرجوك ارحلي.. لا تجعلي مولاي يغضب لمجيئك إلى هنا.."
قالت جمان باعتراض "لن أرحل بالطبع.. هل تناولت ما يقيم أودك؟ علينا بإخراجك من هذه الغرفة الخانقة.."
فقالت خديجة بحدة "أخبرتك أن تغادري.. لا تجعلي الأمور أكثر سوءاً من هذا يا جمان.."
ونادت إحدى الجواري بعصبية قائلة "أخرجوها من هنا.. لا أريدها أن تبقى في هذه الغرفة.."
نظرت لها جمان باستنكار وعدم فهم، بينما جذبنها بعض الجواري بقوة لإخراجها من الغرفة وإغلاق الباب خلفها.. فوقفت جمان خارج الغرفة وهي تصيح بحدة "لم تفعلين هذا يا خديجة؟ أنا لا أفهم شيئاً.."
قالت لها إحدى الجواري بتوتر "مولاتي، لا تتعبي خديجة فهي بأسوأ حال.. مولاي أمرنا أن نبعدك عنها مهما كان الأمر، ومخالفة أمره سيوقعنا، ويوقع خديجة، في العقاب.. فهل هذا ما تريدينه؟"
نظرت لهن جمان بحيرة شديدة وقلق أشد، ثم استدارت بخطوات سريعة خارجة من جناح الجواري.. بينما تنهدت خديجة وهي تعود للاستلقاء على سريرها بأنين للآلام الحادة المنتشرة في أنحاء جسمها.. وغمغمت "يا إلهي.. أرجو أن تمرّ هذه الأزمة على خير.."

***********************

اتجهت جمان من فورها لمجلس أبيها الذي هشّ فور رؤيتها وهو يقول "مرحباً بابنتي الجميلة"
قالت جمان بحدة لم تملكها وهي تقترب منه"لماذا أمرت الجواري بمنعي من دخول غرفة خديجة والاطمئنان عليها؟"
تنهد ربيعة وهو يغلق كتاباً بيده ويضعه جانباً، وقال "لأنها مريضة جداً، وأخشى أن تنتقل لك العدوى في هذا الوقت.. أنت على مشارف زفاف لا يمكننا تأجيله.. وليس الوقت ملائماً لمثل هذا المرض.."
قالت بحنق "هذه حجة لا أساس لها من الصحة.. أنت تحاول إبعادي عن خديجة بأي طريقة.. لماذا؟ إن هي إلا حمّى ستزول بسرعة.. فلمَ تمنعني من الاطمئنان عليها ولو قليلاً؟.."
قال ربيعة بهدوء "ليست مجرد حمّى يا جمان.. إنها تقيء طوال الوقت.. هذا لا يحدث من مجرد حمّى.."
قالت جمان باعتراض "بل الحمّى الشديدة قد تفعل ذلك.."
فقال ربيعة "وما سبب هذه الحمّى الشديدة؟.. أتعرفين ذلك؟"
فتحت جمان فمها لتجيب، لكنه قاطعها قائلاً "ليست مصابة بالزكام، ومع ذلك الحمّى عالية جداً.. هي مريضة بمرض ما، وأخشى من هذا المرض الذي لا نعرفه حتى الآن.."
قالت جمان بضيق "لكن من المحزن ترك خديجة بهذه الحال.."
قال ربيعة "لا تقلقي.. الجواري سيعتنين بها بأفضل مما قد تفعلين أنت.. لنأمل أن تصبح أفضل في وقت قريب.."
صمتت جمان بمضض.. هناك الكثير مما عليها فعله هذه الأيام بسبب زفافها القريب، لكن ما حدث لخديجة صرف تفكيرها عن كل هذا وهي تنشغل بالتفكير بها..
بعد يوم، وبينما كانت جمان جالسة مع ربيعة في جانب من الحديقة وهو يحدثها عن بعض ما سمعه من أخبار القلعة، رأيا إحدى الجواري تقترب منهما راكضة والقلق يبدو جليّاً على وجهها.. ولما وصلت إليهما أحنت رأسها وهي تقول "مولاي.. لقد ذهبت للاطمئنان على خديجة، وفوجئت برؤية طفح جلدي ينتشر في وجهها ويديها.."
نظرت جمان لأبيها بقلق وهو يسأل الجارية "أمازالت حرارة جسدها مرتفعة؟"
أجابت الجارية "بل هي أفضل حالاً اليوم.. لكن الطفح انتشر في وجهها بسرعة لم نتوقعها"
تساءلت جمان "ما الذي يعنيه هذا؟"
تنهد ربيعة وهو يقول "لا أعلم حقاً.. لكني سأستدعي أحد المعالجين من القلعة.. قد يعرف ما بها.."
ونظر إلى الجارية قائلاً "استدعِ لي مَيْسَرَة.."
أسرعت الجارية لتنفيذ أمره بينما تساءلت جمان بقلق "لم لا ترسل سلمة؟ سيكون أسرع بتنفيذ أمرك"
قال ربيعة "سلمة أرسلته بالفعل لإنجاز أمر لي في القلعة.. لا تقلقي، لن يتأخر ميسرة طويلاً"
غمغمت جمان بتوتر "أتظن أن هذا المعالج قد يفلح في علاجها؟"
غمغم ربيعة "لنأمل ذلك يا ابنتي.."
صمتت جمان رغم أنها تودّ طرح الكثير من الأسئلة لعلها تعثر على جواب يخفف من قلقها.. لكن لم يبدُ أن أباها يملك الأجوبة التي تطمح إليها..

***********************

سار سلمة عبر طريق من طرقات القلعة في حي من أحيائها بصمت وهو يتلفت حوله.. كان ذلك الحيّ ذا طرقات أضيق من المعتاد ووجوه ساكنيه كالحة ذات نظرات حادة وعبوس ظاهر.. لكنه لم يعبأ بذلك وهو يتقدم نحو بيت متوسط الحجم ذو عدد من النوافذ ينبعث منها صخب ظاهر رغم أن الوقت لم يزل في منتصف النهار.. عبر سلمة من الباب المزخرف رغم أنه بدا قديماً مهترئاً، ونظر عبره لصحن البيت الواسع الذي صفّت فيه طاولات دائرية في عدد من جهاته وحولها أرائك يتكئ عليها عدد من الرجال بعضهم بدا منعّماً بملابس فاخرة، والبعض الآخر بدا غريباً عن هذه البلاد بملابسه المختلفة وملامحه التي كانت مزيجاً من أعراق شتى.. لم يعبأ سلمة برائحة الخمر التي تخنق الأنفاس، ولا بالضحكات العالية والصخب الدائر بين الرجال ويحيط بهم مجموعة من النسوة اللواتي كان أغلبهن من الجواري، وقد تنافسن على ارتداء ما يلفت الأنظار من الملابس المطرزة والقلنسوات ذات اللآلئ.. بينما جلست إحداهن في جانب المكان ضامّة عوداً لصدرها وهي تعبث بأوتاره وتتغنى بأبيات تتغزل في الخمر وعشق ذوات القد المياس..
سار سلمة متجاوز عدداً من الطاولات نحو رجل يبدو من ملابسه وملامحه أنه يهودي.. فقد تم فرض ملابس معينة على أهل الذمة في العالم الإسلامي من يهود ونصارى، ومنعهم من التشبه بلباس العرب.. لذلك التزم اليهود بملابس لونها رمادي يتوسطها زنار ضعيف وطيلسان عسلي على الرأس بدل العمامة التي يتخذها العرب.. كان الرجل يجلس قرب إحدى الطاولات وقد فرد مجموعة من الأوراق أمامه وهو يدقق البصر فيها، وخلافاً للآخرين، لم تكن هناك أي أوانٍ للخمر ولا أي نسوة قربه أو أي ندماء من الرجال.. بقي وحيداً يدفن عيناه في الأوراق أمامه حتى لاحظ ظل سلمة الذي سقط على الأوراق، ولما رفع رأسه حياه سلمة وهو يستخرج من ثيابه صرة من المال.. فوضعها أمامه على الطاولة قائلاً "مولاي ربيعة بن حباب يرسل لك تحياته.. بعثني بهذا المال كدفعة أولية للدين الذي لك عليه.. وهو يعدك بمثله بعد أسبوعان أو ثلاثة..”
استخرج الرجل الأموال وبدأ عدها بدقة وتأنٍ بينما ظل سلمة واقفاً بانتظاره دون تذمر بعد أن تجاهله الرجل ولم يدعه للجلوس.. سمع سلمة الصخب يتزايد من خلفه وضحكات رجل عالية تغطي على ما سواها من أصوات بحيث التفت سلمة للصوت تلقائياً.. وعند طاولة بعيدة، جلس حولها عدد من الرجال وعدد أكبر من الغانيات، رأى سلمة بينهم عامر ابن قائد جيوش القلعة وقد تخلى عن وقاره المعهود وأخذ يضحك ملء شدقيه بينما التصقت به إحدى الغانيات وهي تضحك بدورها بسرور ظاهر..
عبس سلمة وهو يراقب هذا المنظر رغماً عنه، وتراءت له ابتسامة جمان الخجول عندما كان عامر يحدثها...... شتان بين المنظرين.. وشتان بين هذا العالم وذاك..
بقي سلمة وقتاً طويلاً يراقب ما يجري حتى سمع الرجل القريب يناديه بحدة، فاستدار سلمة ليجد الرجل يقول له بحنق "ألم تسمع ما أقوله لك أيها العبد؟ أتظنني أملك اليوم بطوله؟"
غمغم سلمة معتذراً والرجل يزفر بحدة، ثم قال له "قل لمولاك إن هذا المال لا يكفي.. أريد فوق هذا المبلغ مائة دينار، وإلا ضاعفت الدين ضعفاً كل أسبوع يمر.. أفهمت؟"
رغم ضيق سلمة من هذا اليهودي، إلا أنه لم يعترض وهو يعده بأن يبلغ مولاه تلك الرسالة، ثم استدار مغادراً وهو يلقي بنظرة طويلة على طاولة عامر اللاهي قبل أن يزفر ويغادر المكان بصمت..
وبعد ساعة أو ساعتين، خرج عامر من باب الحانة وهو يتغنى ببعض الأشعار الماجنة ويلوح بصرة مليئة بالدنانير في يده.. لكنه توقف فجأة مع مرأى سلمة الذي كان يقف في جانب المكان بصمت وإن ظهر العبوس جلياً على ملامحه.. تعرف عليه عامر على الفور فقد رآه عدة مرات مع ربيعة أو بمفرده مُرسلاً من سيده إلى عبدالله بن جعفر.. فقال بشيء من السخرية "هل أرسلك مولاك تتجسس عليّ لتشهد على حسن سلوكي أيها العبد؟"
اقترب سلمة من عامر بخطوات ثابتة وهو يقول بهدوء ظاهر "لست بحاجة لأن يرسلني أحد، فالمجون ظاهر على وجهك منذ رأيتك للمرة الأولى.."
فقال عامر باستخفاف "إذاً؟.. هل ستبلغه بما رأيت؟"
استمر سلمة في اقترابه حتى وقف في مواجهة عامر وقال "ألا تخشى أن أفعل؟"
ضحك عامر بسخرية وقال "إن كان مولاك سيستمع لمقولة عبد ويكذب قولي فهو لا يستحق أن أصاهره حقاً.. فقل ما بدا لك..”
شعر سلمة برغبة ملحّة في لكم وجه عامر ليزيل تلك البسمة الساخرة من شفتيه، لكن مثل ذلك الفعل سيغضب مولاه منه بشدة وهو لا يطيق ذلك.. فقال سلمة مقطباً "ما الذي يحملك على التردد على هذه الأماكن وعرسك قريب؟ لِمَ ترغب بالزواج بابنة مولاي حقاً؟"
مال عامر نحوه وقال بهزء "لا شأن لك أيها العبد..”
اختنق سلمة برائحة الخمر الكريهة من أنفاس عامر الذي استدار بعدها مضيفاً بضحكة "لم لا تعود لمولاك بسرعة قبل أن يغضب منك؟.. فليس للعبد أن يتسكع في مثل هذه الأماكن..”
ظل سلمة واقفاً وهو يشد قبضة يديه بقوة ويضغط على أسنانه بغضب ظاهر، ثم غمغم لنفسه بحنق "تباً لك ولأمثالك..”
لكنه لم يكن يجرؤ على مخاطبة مولاه في هذا الأمر، فلن يعيره أي اهتمام بتاتاً مقابل قول عامر.. ففي هذا العصر الغريب، لم يكن شرب الخمر جهاراً والتردد على مثل تلك الحانات يقابل بأي استنكار من العامة.. تنهد سلمة وهو يغادر بدوره بصمت.. ترى، ما الذي ستحمله لك الأيام في كنف عامر يا جمان؟..

***********************

جلست جمان بتوتر وهي تهز قدمها في مجلس أبيها بانتظار ما سيسفر عنه فحص الرجل الذي أحضره ميسرة لخديجة.. فقال ربيعة وهو يتصفح أحد كتبه "أنت تصيبينني بالتوتر بكل هذا القلق الذي تبدينه.."
قالت جمان "كيف يمكنك أن تكون هادئاً هكذا؟ أشعر أنني سألتهم أصابعي لشدة التوتر.."
ابتسم ربيعة مجيباً "لا تلتهمي أصابعك يا عزيزتي فزفافك قريب.. لا نريد أن نفسده لأي سبب.."
لم تعلق جمان وهي تشعر أن أباها يعلق أهمية كبرى على زفافها، بينما ما عادت هي تراه بهذه الأهمية.. سمعت في تلك اللحظة طرقات على الباب فأسرعت تلفّ وشاحها على رأسها مخفية خصلات شعرها.. وبعد أن سمح ربيعة للطارق بالدخول، فتح الباب ودخل منه ميسرة، وهو شاب مملوك لأبيها ضئيل الجسد نحيف الوجه لا يتجاوز العشرين من العمر بكثير.. فقال ميسرة فور دخوله "مولاي.. الرجل الذي أحضرته معي من القلعة يريد الحديث معك.."
فأشار له ربيعة بإحضاره، ثم التفت إلى جمان قائلاً "عودي لجناحك يا ابنتي، وسأخبرك بما أعلمه عن خديجة"
نهضت جمان واقفة وقالت برجاء "بل سأبقى في الغرفة المجاورة.. أريد أن أسمع ما يقوله هذا المعالج بنفسي.."
لم يظهر ربيعة اعتراضه على الأمر، فأسرعت جمان تدلف لغرفة ملحقة بمجلس أبيها، وأبقت الباب موارباً وهي تقف قربه بتوتر.. وبعد قليل، سمعت صوت رجل يلقي السلام على أبيها والذي ردّ عليه السلام بأحسن منه وطلب منه الجلوس.. فجلس الرجل قريباً وقال "لقد عاينت المريضة وساءني ما رأيته.. لا أدري لمَ أبقيتموها هنا طوال هذا الوقت.."
تساءل ربيعة بدهشة "ماذا تعني؟ ولم لا نبقيها هنا؟"
قال الرجل بأسف "لأن مرضها هذا معدٍ وقاتل.. قد يصيب من حولها بالعدوى لو لم تكونوا حذرين.."
سأله ربيعة بقلق "هل عرفت بأي مرض أصيبت؟"
مسّد الرجل لحيته الرفيعة وهو يقول "لست متأكداً بعد، لكن أغلب الظن أنها مصابة بالجدري.."
نظر له ربيعة بصدمة بينما صعقت جمان لما تسمعه وتوترها يزداد بشدة.. ولما سمعت أباها يقول باستنكار "أأنت متأكد؟ ألا يمكن أن يكون مرضاً آخر؟ الحصبة مثلاً؟"
قال الرجل هازاً كتفيه "لا نعلم بعد.. ربما بعد يوم أو اثنان سنتأكد من الأمر.. لو أصبح الطفح على جلدها أكثر قسوة ونبتت لها رؤوس فهذا بلا شك هو الجدري.."
ظلت جمان تستمع له بصدمة، فهي تعلم أن هذا المرض خطير وقد يكون قاتلاً.. ومن نجا منه أصيب بعاهات لا تحصى.. بينما أضاف الرجل "لقد نصحت الجواري بعدد من العلاجات الملائمة، وإن كنت أرى أن إبقاءها في هذا القصر وسط هذا العدد الكبير من الناس خطير.. ربما من الأفضل عزلها خارج القصر لكيلا تصيب العدوى شخصاً آخر.. عليكم بتكحيلها بالأثمد والكافور لئلا يثور الطفح في عينيها فيعميها.. وإذا ازداد الطفح ونضج دخّنوها بورق الآس أو ورق الزيتون فإنه يجففه.. واسقوها عدساً مقشراً و..........."
لم تستمع جمان لكلمة مما يقوله الرجل وهي تشعر بدوار في رأسها.. لم تكن تظن أن مرضها خطير يجب الحذر منه.. كانت تعتقد أنه مرض عارض سيزول وتعود خديجة كما كانت من قبل.. لكن الآن، ما الذي سيحدث لها؟.. بدأت الدموع تترقرق في عينيها وهي تحاول ألا تظهر بكاءها.. لكن الألم الذي اعتصر قلبها لم يكن شيئاً قليلاً..
بعد أن غادر الرجل، نادى ربيعة جمان بصوت هادئ.. حاولت جمان تمالك رجفتها وهي تخرج لرؤية أبيها الذي كان مطرقاً بصمت.. ولما رفع بصره إليها بنظرة فهمتها على الفور، قالت متوسلة "أرجوك يا أبي.. لا تبعد خديجة.. دعني أبقَ عندها وأطمئن عليها.. أنا قلقة كثيراً من مرضها هذا.."
فقال ربيعة بحزم "لا، وهذا أمر قاطع"
قالت جمان متضرعة "ولكنها......"
قاطعها ربيعة بحدة "أنت تدركين الآن أنها مصابة بمرض خطير.. لا أريد أن تصيبك عدوى مرض لا علاج له، ولا أريد خسرانك أبداً يا جمان"
خفضت جمان وجهها بحزن وهي تقول "وماذا عن خديجة؟ هل نتركها تلقى حتفها دون علاج؟"
تنهد ربيعة مجيباً "أدرك مدى خوفك عليها، ولست بأقل قلقاً منك.. لكن هذا قضاء الله، ولا نملك له رداً.. فما الذي بيدنا فعله؟"
قالت جمان باعتراض "لكن كيف أصيبت بهذا المرض من بيننا جميعاً؟"
وأضافت بصوت مرتجف "لماذا هي دون البقية؟"
قال ربيعة متنهداً "أنت تعلمين أن خديجة تذهب للقلعة بين يوم وآخر للعناية بأخت لها هناك.. أخبرتني إحدى الجواري أن تلك الأخت كانت مريضة، لكن خديجة قد أخفت عني ذلك لكي تتمكن من العناية بأختها متى ما سنحت لها الفرصة.. كانت تخشى أن أمنعها من الذهاب إليها، وهو ما كنت سأفعله لو علمتُ أن مرضها خطير.. وهذا ما جَنَته من خداعنا.."
صمتت جمان بحزن شديد وهي تشعر أنها ستفقد الأم التي لم تعرف غيرها، فربت ربيعة على كتفها قائلاً "جمان.. أنا راحل غداً في إحدى القوافل المتجهة إلى بغداد ولن أعود قبل مضيّ أسبوعين.. أطيعي ما طلبته منك ولا تقتربي من خديجة.. لا أريد أن تهلكي بمثل هذا المرض.. أنت صغيرة وأريد أن أشهد زواجك وأرى أحفادي بإذن الله"
حاولت جمان ألا تظهر اعتراضها وهي تهز رأسها إيجاباً، فأضاف ربيعة بصرامة "مَن في القصر جميعاً يعلمون بأنك محظورة من الاقتراب من غرفتها.. إن خالفت أمري فسيصلني خبر ذلك، وستلقين عقاباً على هذا.. أفهمت؟"
عادت تهز رأسها إيجاباً.. لكن عقلها لم يزل مشغولاً بخديجة وما أضحت عليه.. فأين السبيل لعلاجها وإنقاذها من براثن مرض مميت كهذا؟..

***********************

لم تكن الشمس قد أشرقت في اليوم التالي عندما كان ربيعة يمتطي جواده القوي ذو اللون الأشهب مرتدياً رداءً صوفياً غليظاً تحسباً للبرد، وخلفه عدد من العبيد المدربين على القتال لحماية مولاهم متى احتاج لذلك.. وفور أن استقر ربيعة على السرج التفت لسلمة الذي كان يقف قريباً منه ممسكاً بلجام جواده، فتناول ربيعة اللجام وقال "أوصيك بقصري يا سلمة.. قد كـَـثـُرَ قطاع الطرق في هذه الأنحاء، وأخشى أن يستغلوا غيابنا للهجوم على القصر وسلب ما فيه.."
فقال سلمة "لا تخشَ شيئاً يا مولاي.. أنا ومن بقي من الحراس سنبقى ساهرين حتى عودتك إلينا سالماً بإذن الله.."
هز ربيعة رأسه، ثم قال مقطباً "هناك أمر آخر.. لقد منعت جمان من الاقتراب من غرفة خديجة.. عليك أن تتأكد من أنها لن تخالف أمري هذا.. أبلغ جميع الجواري بذلك وليراقبنها جيداً.."
قال سلمة "لا تقلق يا مولاي.. لن يحدث ذلك أبداً.."
فجذب ربيعة اللجام ولكز الجواد ليبدأ مسيره والنور قد صبغ الأفق بلون باهت لا يكاد ينير الأرض تحته.. بينما بقي سلمة يراقب القافلة الصغيرة التي انطلقت نحو القلعة لتنضمّ للقافلة الكبيرة والتي تحمل بضائع خاصة بمولاه، ومن ثم تبدأ سيرها بعد طلوع الشمس مباشرة نحو بغداد مروراً بالكوفة والحِلـّة.. في رحلة قد تستغرق أسبوعين أو أكثر ذهاباً وإياباً..
تنهد سلمة وهو يستدير ويتجه نحو القصر القريب.. ولما رفع بصره للنافذة في الأعلى والمقابلة للساحة، رأى ظلاً يغادر موقعه قربها، فأدرك أن جمان كانت تراقب رحيل أبيها.. لابد أنها تعيسة جداً بسبب مرض خديجة.. ويخشى أنها لن تتردد في مخالفة أمر أبيها مادامت الفرصة سانحة لذلك..
بحث سلمة ببصره عن إحدى جواري القصر، فوجد إحداهن تحمل صناديق في يدها متجهة لجانب آخر منه.. ولما ناداها توقفت والتفتت إليه لتشيع ابتسامة على وجهها فور رؤيته قائلة "كيف حالك يا سلمة؟"
تجاهل سلمة سؤالها وهو يقول "هل رأيتِ خديجة هذا اليوم؟ كيف أصبحت؟"
هزت الجارية كتفيها قائلة "كما هي.. لا يبدو أنها بسبيلها للتحسن قريباً.."
قطب بضيق من عدم اكتراثها الواضح وهو يقول "أريدك أن تجعلي إحدى الجواري تحرس غرفتها طوال الوقت.. تأكدي أن مولاتي لن تقترب منها بأي حال وإلا كان العقاب من نصيبكن.."
قطبت الجارية قائلة "ولم العقاب لنا نحن؟ أليس من المفترض بمدللتكم تلك أن تطيع ما يطلب منها ولو لمرة واحدة؟"
نظر لها سلمة باستنكار وقال "وما شأنك أنت؟ كل ما عليك فعله هو إطاعة الأوامر بصمت.."
هزت كتفيها من جديد قائلة "لست أدري لم تحرصون على إبعادها عن خديجة.. إنها كبيرة بما يكفي لكي تدرك مخاطر ذلك بنفسها"
قطب سلمة وقال بصرامة "احفظي لسانك ونفذي ما طلبته منك.. لو تطاولت بالحديث عنها أمامي لأبلغت مولاي بذلك لكي تنالي من العقاب ما يلزمك حدودك"
ورحل دون أن يلتفت إليها مجدداً بينما راقبته هي بامتعاض، قبل أن تغادر مدمدمة "لا أدري لم يحيطونها بكل هذه الحماية وكأنها طفلة صغيرة.. حتى أنت يا سلمة؟"
وتنهدت مضيفة "مع كل النعيم الذي تعيش فيه، تجد فوق ذلك من الرعاية ما لا نحصل على جزء منه.. هذا غير عادل بالمرة.."
في ذلك اليوم، ورغم أن سلمة قد أمضى أغلب الأوقات قريباً من القصر يسأل عن خديجة وعما جرى لها في مرضها، إلا أنه لم يرَ جمان أبداً.. انتابه شيء من التوتر مع مضيّ النهار وهو يجلس على أحد الكراسي الرخامية ويهز قدمه بشيء من العصبية.. وبعد وقت قصير لم يملك أن ينهض ويعود للقصر مستدعياً إحدى الجاريات ممن يقمن على خدمة جمان، فسأل الجارية "كيف هي مولاتي اليوم؟ هل حاولت الاقتراب من غرفة خديجة؟"
قالت الجارية زافرة "حاولت ذلك عدة مرات، لكننا منعناها من دخول غرفتها وأقفلناها بالمفتاح.. لقد أتعبتنا كثيراً اليوم، وبعد أن تفشل تعود لتنزوي في جناحها وترفض الخروج.. يبدو أنها مصدومة بما جرى لخديجة"
فقال سلمة "اهتمي بها وتأكدي أنها لن تغافلكن وتقترب من غرفة خديجة.."
هزت الجارية رأسها، وغادرت وهي تزفر من جديد مبدية ضيقها بوضوح.. بينما نظر سلمة لنافذة جناح جمان بصمت أملاً برؤيتها قربها، لكن خاب أمله دون أن يلمحها.. فاستدار وعاد لموقعه السابق تتناهبه أفكار عدة.. هل يطلب رؤيتها؟ لكن بأي حجة؟.. لابد أنها حزينة وقلقة، ويتمنى لو يستطيع الحديث معها والتهوين من قلقها قليلاً.. لكنها قد تصاب بالضيق لو حاول الحديث معها عن هذا الأمر.. فما الذي يمكنه أن يفعله؟..

***********************

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، سار سلمة نحو زاوية معينة من حدائق القصر، غير مبالٍ بالضباب المنتشر في ذلك الوقت المبكر من النهار، وبالبرودة التي لم تُزلها الشمس بعد.. تجاوز عدة شجيرات ومن خلفهن ساحة حجرية صغيرة احتلتها أعداد من الحمام سرعان ما طارت مع اقترابه من الموقع، ومن خلف الساحة مظلة خشبية زينت بزخارف جميلة لشجيرات مزهرة.. وتحت المظلة بضع كراسٍ من رخام أبيض بارد الملمس، وعلى أحد تلك الكراسي استطاع أن يرى ذلك الظل الساكن لصاحبته التي ارتدت معطفاً بلون الكهرمان متصلاً بغطاء على رأسها ألقى بظلاله على وجهها.. لم يتمكن من رؤية ملامحها بوضوح وإن كان يدرك أنها ليست إلا جمان، وقد اعتادت الجلوس في هذا الموقع الهادئ منذ فترة لتقضي فيه أغلب ساعات الصباح.. وقد اعتاد هو أن يمرّ بهذا الموقع أيضاً في بعض أوقات الصباح ليراها، ويطمئن عليها..
شعر سلمة بالراحة لرؤيتها، بعد أن غابت عن نظره طوال اليوم السابق، فقد كان يبغي الاطمئنان عليها مباشرة عوضاً عن سؤال الجواري عنها في كل مرة.. اقترب حتى وقف قريباً من موقعها وهو يقول "ما الأمر هذا اليوم؟ أنت هنا أبكر من المعتاد.."
خفضت وجهها أكثر وهو يراها تمسح خديها، فتساءل مقطباً "ما الذي جرى؟ أأنت تبكين؟"
لم ترفع جمان بصرها إليه وهي تهمس بصوت مرتجف "ما الذي جاء بك إلى هنا؟"
أجاب "لقد ذهبتُ للاطمئنان على خديجة فوجدتها قلقة بشأنك وطلبت مني أن أبحث عنك.. يبدو أنها تخشى أن تحاولي الخروج من القصر بعد أن أخبرتكِ الجواري أن الطفح الجلدي في جسمها قد غدا أسوأ من السابق، لكن الحمدلله أنك لم تفعلي.."
تهدج صوت جمان وهي تقول "بم سيفيدني خروجي في هذه الحالة؟ خديجة مريضة جداً، وأنا لا أملك حيلة في الأمر.."
وأخفت وجهها بين يديها هامسة بصوت باكٍ "ما الذي سأفعله لو أصابها مكروه؟.. رباه.. لا يمكنني تصور هذا أبداً.."
فقال سلمة "لكنها ستغدو بخير.. لم هذا القلق؟"
هزت رأسها معلقة بحزن "لا تحاول الكذب عليّ.. لو لم يكن مرضها مميتاً لما أصرّ الجميع على إبعادي عنها، بل إنها مجبرة على ملازمة غرفتها ولا يدخل عليها أحد تقريباً.."
حارَ سلمة فيما قد يقوله لطمأنتها، فلزم الصمت وهو يراها تبكي من جديد هامسة "لو أصابها مكروه سأموت.. حقاً لن أستطيع العيش بعدها أبداً.."
صدمه ما قالته وشعر بالحنق ليأسها ذلك، فقال بشيء من الحدة "إنما هي مربيتك، لا أكثر من ذلك.. والموت قضاء لا يمكن منعه.. فكيف تتمنين الموت بهذه السهولة؟"
رفعت بصرها نحوه متفاجئة لانفعاله، وبالفعل كان ينظر لها بشيء من الغضب كسا وجهه بحمرة خفيفة.. فقالت جمان بألم "أنت قاسٍ.. ألا يهمك أمرها؟.. لكني أهتم، وأدرك أنني ضائعة تماماً بدونها.."
ثم دفنت وجهها بين يديها وهي تقول بغضب "ارحل.. لم أتخيلك قاسياً لهذه الدرجة.. غادر فلا أريد بقاءك هنا أبداً.."
وسالت دموعها بحزن شديد محاولة عدم التفكير فيما قد يجري لخديجة إن اشتدّ عليها المرض.. لا يمكن أن تكون هذه نهايتها حقاً.. حاولت إقناع نفسها بذلك مراراً لكن دموعها تسيل على خديها كلما فكرت بالأمر أكثر.. لم تكن تتوقع أن تحلّ بهم هذه المصيبة في هذا الوقت بالذات.. والأدهى أنها تجد الجميع مستسلمين لهذا الأمر بلا مبالاة كبيرة..
ولما تمالكت نفسها بعد مدة من الوقت ورفعت وجهها وهي تمسحه بيديها، لاحظت أن سلمة كان جالساً في جانب المكان بصمت وهو يراقبها.. عندها قالت بحدة "لمَ لمْ ترحل عندما طلبت منك ذلك؟"
علت شفتيه ابتسامة خافتة وهو يقول "أنتِ لم ترحلي كلما طلبت منك ذلك عندما كنت أنزوي وحيداً لأبكي.. أنسيتِ؟"
قالت وهي تشيح بوجهها "كنتُ طفلة في ذلك الوقت.. لكنك لستَ كذلك الآن.."
نهض سلمة قائلاً "هناك طبيب ماهر سمعت به يسكن الكوفة.. لن أستغرق وقتاً طويلاً في الذهاب إليه، وأرجو أن يوافق على الحضور معي.. ربما يتمكن هذا الطبيب من علاجها فيما فشل المعالجون في القلعة بذلك.."
نظرت له بأمل قائلة "أتظن ذلك؟"
هز كتفيه قائلاً "سأحاول.. المهم الآن أن تكفـّي عن البكاء كالأطفال، ولا تقتربي من غرفة خديجة مهما كان الأمر.. لا أريد أن تصابي بالعدوى أنت أيضاً.."
فقالت جمان بلهفة "حاول الإسراع بالعودة.. لا أريد أن يشتدّ عليها المرض أكثر من ذلك.."
هز رأسه بوعد صامت، ثم استدار مغادراً وهي تنظر له بأمل.. أيمكن أن يفلح في إنقاذ حياة خديجة؟ ستكون ممتنة له أبد الدهر لو فعل ذلك.. فهي لا تتخيل حياتها بدون تلك المرأة التي استحقت عرش الأمومة بنجاح تام.. كيف لها أن تهنأ بحياتها دون أن تستيقظ على صوتها الحاني، وتنام قريرة العين دون أن تشعر بيدها تمسح على شعرها بعطف بالغ؟..

***********************

استغرق سلمة في رحلة الذهاب والعودة أطول مما تمنى، فلم يتمكن من العودة إلا بعد أن مالت الشمس لمغيبها في اليوم التالي.. وعندما أبلغتها إحدى الجواري بعودته، أسرعت جمان إلى نافذة جناحها فنظرت عبرها لترى سلمة يقف قرب جواده المنهك قريباً من باب القصر، ولم ترَ أحداً معه.. فقطبت وهي تسرع خارجة من جناحها مدمدمة "ما الذي يقصده سلمة بهذا؟"
وفور أن وصلت لباب القصر ورأت سلمة ينتظر وصولها رغم التعب البادي على وجهه، حتى قالت مقطبة "أين ذاك الطبيب الذي وعدتني بإحضاره؟"
أجاب سلمة بهدوء "رفض المجيء معي.."
نظرت له جمان باستنكار، ثم قالت بحدة "ماذا تعني؟ كيف يرفض هذا الطلب ويمتنع عن معالجة شخص مريض؟ ألم تقل إنه ماهر بعمله؟ ما كان عليه أن يرفض القدوم"
قال سلمة "عندما أخبرته بمرض خديجة وبما أصبح عليه حالها رفض القدوم وأخبرني أن ذلك أمر لا فائدة منه.."
تزايد استنكارها مما تسمعه وسلمة يضيف "وطلب مني إبعادها عن القصر لئلا تنقل العدوى لمن حولها.. فهذا المرض لا شفاء منه متى ما وصل لهذه المرحلة.."
صاحت جمان بحنق "مستحيل.. من هو ليقرر أمراً كهذا؟ إنه أحمق لا يفقه ما يقوله.."
قال سلمة محاولاً تهدئتها "لا داعي لكل هذا الانفعال.. لقد أخبرتك بما أبلغني به، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن ننفذه على الفور.. فلننتظر عودة مولاي وهو سيقرر ما علينا فعله.."
قالت جمان محتدة "هذا لا يكفي.. اذهب وابحث عن طبيب آخر، اذهب إلى بغداد لو تطلب منك ذلك.. المهم أن تجد من يعالج خديجة من مرضها هذا بأي ثمن"
فقطب سلمة لعنادها وقال بحزم "أنت تعلمين أن مرضها هذا لا علاج له.. كاذب من يخبرك غير ذلك.."
احتقن وجه جمان وهي تتطلع في وجه سلمة بغير تصديق، ثم ضمّت قبضتيها بقوة وهي تقول بحنق "حتى أنت يا سلمة؟"
تنهد سلمة وهو يقول "تمالكي نفسك وفكري بهدوء.. لو كنتِ مقتنعة حقاً بأن هناك من يملك لها علاجاً، فسأذهب لإحضاره أينما كان.. لكن لا تندفعي خلف رغبة تتمنين تحقيقها دون تعقـّل.."
أشاحت جمان بوجهها وهي تنظر لما حولها بصمت وإن كانت لا ترى شيئاً حقاً.. للمرة الأولى تجد أنها مطالبة بتحديد مصير شخص مهم بالنسبة لها.. لكن كيف لها ذلك؟.. لو عاد أبوها من رحلته تلك فلن يتردد في إبعاد خديجة عنها لئلا تصاب بالمرض ذاته.. لكن هل ذلك هو الحل الأفضل للجميع؟..
استدارت جمان مغادرة بصمت دون أن تهتم بسلمة الذي وقف ينتظر ردها، ولما رحلت لم يعلق سلمة وهو يجذب جواده المنهك نحو الإسطبل.. هو يعلم أن جمان، رغم مكابرتها، مدركة لعدم جدوى كل ما تفعله.. وستقتنع بذلك مع مرور الوقت.. لذلك لا يملكون إلا الصمت والانتظار..
في جانب آخر، وقفت الجارية التي تبعت جمان بعد أن أبلغتها بعودة سلمة، وهي تستمع لكل ما قيل باهتمام.. ولما رأت جمان تترك سلمة عائدة للقصر وملامحها ناضحة بالتوتر، سارعت الجارية لمغادرة الموقع بدورها وهي تتجه لغرفة خديجة.. لابد أن تعلم خديجة بما قاله سلمة، وبما قرره الطبيب الذي ذهب لإحضاره.. من حقها أن تعرف ذلك، وتقرر مصيرها بنفسها قبل أن يقرره الآخرون عنها..

***********************

في وقت متأخر من تلك الليلة، ركض سلمة عابراً الحدائق باتجاه زاوية مظلمة منها والقلق واضح على وجهه.. ولما اقترب من أحد الكراسي الرخامية المتناثرة في الحديقة ورأى الشبح الأسود المنطوي عليه قال بقلق "ما الذي تفعلينه هنا في هذا الوقت؟ هل تريدين قتل نفسك؟"
التفت الشبح مزيلاً الغطاء الذي يغطي وجهه، فتمكن سلمة من رؤية وجه خديجة الذي بدأ يتشوه بسبب البثور المتناثرة فيه، والذي يبدو الإنهاك عليه جلياً أشد ما يكون.. فاقترب منها قائلاً وقلقه يزداد "عودي لغرفتك الآن.. لا يجب أن تغادريها حتى تصبحي أفضل حالاً.."
قالت خديجة بحدة "لا تقترب كثيراً.."
توقف سلمة على بعد خطوات منها وهو يلاحظ ارتجاف جسدها، فيما غمغمت خديجة بصوت متعب "من قال إن حالي قد يصبح أفضل؟.. يبدو أنني لن أنجو من هذا المرض أبداً"
لم يعلق سلمة وهو مدرك أنها تعرف حقيقة مرضها وتعرف نسبة نجاتها منه، لكنه مع ذلك تساءل "أتريدين مني أن آخذك لبيمارستان الكوفة؟ قد يملكون ما يعالجون مرضك به"
هزت خديجة رأسها نفياً وهي تقول "لا.. بل طلبتك لأمر آخر.."
نظر لها بعدم فهم، فقالت "أريد أن تأخذني بعيداً عن هذا القصر.. لا أريد البقاء هنا ليوم آخر"
ارتفع حاجبا سلمة بتعجب وقال "أتريدين الذهاب لأختك التي تعيش في القلعة؟"
هزت خديجة رأسها نفياً وقالت "لا.. كانت مريضة عندما تركتها آخر مرة، ولا أعلم ما حالها.. أتمنى أن تكون بخير، لكني لا أريد أن أزيدها عبئاً.. أريد الذهاب إلى قرية بعيدة نوعاً ما.. أملك منزلاً فيها، وبعض معارفي يعيشون في تلك القرية وسيعتنون بي.."
فقال سلمة باعتراض "لكن لا يمكنك تحمّل الترحال بحالتك هذه.. أتريدين القضاء على نفسك؟"
ابتسمت خديجة ابتسامة شاحبة وهي تنظر لإحدى نوافذ القصر مغمغمة "هذا خير لي من إيذاء صغيرتي التي ربيتها منذ كانت في المهد.. لو أصابها هذا المرض، فلن تتحمله طويلاً.. لا يمكن أن أدع ذلك يحدث أبداً.."
ونظرت إلى سلمة مضيفة "أنا أثق بك أكثر من أي شخص آخر.. أريدك أن تعاونني على الرحيل، وتخفي الأمر عن جمان تماماً.. أبلغ الحراس أنك ذاهب للقلعة، ولا تجعل أحداً يعلم أنني رحلت معك.. هل ستجيب طلبي هذا؟"
نظر سلمة بدوره للنافذة التي تسلل النور من عوارضها الخشبية وقال "ذلك سيحزنها كثيراً.."
خفضت خديجة رأسها بصمت وسلمة يضيف "أأنت واثقة من عزمك على هذا رغم كل الألم الذي ستسببينه لها؟"
تنهدت خديجة مجيبة "ستحزن لأيام قليلة ثم تنسى كل هذا.. لا تزال صغيرة، وأمامها حياة طويلة تعيشها بإذن الله.."
ثم رفعت بصرها إلى سلمة قائلة برجاء "أنت ستبقى معها دائماً.. أليس كذلك؟"
نظر لها سلمة بصمت وهي تضيف "ولن تقوم بأي فعل أحمق.. أليس كذلك؟"
غمغم سلمة بابتسامة مريرة "أنت شديدة القسوة أحياناً، ولا تعبئين بمن حولك يا خديجة.."
قالت خديجة "صدقني أنا أبحث عما هو خير لك ولها.. لا أملك من أثق به أكثر منك، ومع غياب مولاي المتكرر سيغزوني القلق على جمان وأنا بعيدة عنها.. لكن بوجودك، سأغادر وأنا مطمئنة أنها ستكون بأمان"
خفض سلمة وجهه والمرارة تنضح من ملامحه، فأضافت خديجة "لا يساورك الظن أني سعيدة بحالك مع علمي بالألم الذي تشعر به.. لكن هذا قـَدَرُك، فكيف نعترض عليه؟.."
تنهد سلمة وهو يعود ببصره للنافذة بصمت، فغمغمت خديجة "عسى الله أن يبدل حالك ويرزقك على حُسْن صبرك.. من يدري ما تحمله الأيام لك؟"
ابتعد سلمة مغمغماً "سأذهب للحديث مع الحراس.."
راقبت خديجة ابتعاده وهي تزفر هامسة "لك الله يا سلمة..."

***********************

~ بعيدا عن الخيال (٢) ~
اضطرابات العالم الإسلامي


ظهر الأمير “جلال الدين بن محمد بن خوارزم” والذي كان قد هرب إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة٦١٧ هجرية) بعد مواجهة عنيفة مع التتار.. وعند عودته وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، في سنة٦٢١ هجرية..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم واستعادة ملكه، ولكنه تجاهل وجود التتار في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي.. لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى “سعد الدين بن دكلا” وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!..
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. فدخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولم يكتف بذلك بل ارتكب فعًلا شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!..

***********************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 06-02-16, 01:47 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

~ الفصل الثالث ~


في صباح اليوم التالي، كانت جمان تسير بخطوات متوترة عبر ممرات القصر باتجاه أجنحة الجواري.. لم تكد تغمض عينها الليلة الماضية وهي تفكر بكل ما يجري لخديجة.. تخشى أن تفقدها، وتتألم لرؤية حالها في هذا المرض.. غمغمت في سرها وهي تسرع بخطوها "يا رب.. اشفها من هذا المرض.."
لم تكد تقترب من أجنحة الجواري حتى لاحظت التوتر البادي عليهن وبعضهن يتراكضن بقلق واضح.. فنادت إحداهن وقالت وقد انتقل قلقهن إليها "ما الذي جرى هذا الصباح؟"
قالت الجارية بتوتر "خديجة يا مولاتي.."
شعرت جمان بوخزة ألم في صدرها مع تزايد قلقها وهي تهتف "ما الذي جرى لها؟"
أجابت الجارية بارتباك "لقد اختفت.."
نظرت لها جمان بعدم فهم، فقد كان هذا آخر ما تتوقع سماعه.. ثم قالت بحيرة "اختفت؟ كيف ذلك؟"
قالت الجارية بتوتر "لا نعلم.. أتيت لها بفطورها هذا الصباح لكني وجدت الغرفة خالية.."
قطبت جمان قائلة بحنق "كيف تسمحن لها بمغادرة غرفتها مع التعب الذي هي به؟ ابحثن عنها في الحدائق وأعدنها بأسرع ما يمكن.."
لم تتحرك الجارية وهي تنظر للجواري القريبات بتوتر متزايد، قبل أن تقول "ليست هي فقط.. متاعها كله قد اختفى.."
ارتفع حاجبا جمان بدهشة والجارية تضيف "لقد بحثنا عنها بالفعل في القصر والحدائق كلها.. ولم نعثر لها على أثر.."
هدرت جمان بغضب "ماذا تعنين؟ كيف غادرت وأنتن قريبات دون أن تدركن ذلك؟"
ازداد توتر الجارية وهي تهتف "لم نعلم متى فعلت ذلك.. لقد ناولتها عشاءها البارحة بنفسي، وتأكدت أنها نامت قبل أن أخلد للنوم بدوري في غرفتي.. وهذا الصباح لم نرها وهي تغادر.. بل كيف غادرت القصر دون أن يعلم بها أحد؟.."
سارت جمان مبتعدة وهي تقول بحدة "استدعي لي الحراس.. يجب أن يخرجوا بحثاً عنها.. ستقتل نفسها بهذه الطريقة"
نادتها الجارية "مهلاً يا مولاتي.."
وقفت جمان تنظر للجارية مقطبة، ففركت الجارية كفيها وهي تقول "ليس هذا فقط يا مولاتي.. هناك أمر آخر.."
فقالت جمان بحدة "تحدثي بسرعة.."
زفرت الجارية قبل أن تقول "إحدى الجواري ممن كن يذهبن مع خديجة للقلعة.. لم تنهض اليوم من فراشها، وهي مريضة بشدة، وتتقيأ بشكل متكرر.."
قالت جمان بصدمة "بهذه السرعة؟.. أهو المرض ذاته؟"
قالت الجارية "أغلب الظن يا مولاتي.."
ظلت جمان واقفة بصدمة وهي تفكر فيما جرى.. أبوها غائب عن القصر ولن يعود قبل وقت طويل، وخديجة قد اختفت.. يقع عليها الآن عبء تسيير الأمور وتقرير أفضل سبيل لمعالجة هذا الأمر.. لكن كيف يمكنها ذلك وفكرها مشغول بخديجة؟..
استدارت مغادرة وهي تقول "سأنظر في أمر الجارية بعد أن أفرغ من خديجة.. ابحثي لي عن سلمة.."
انطلقت الجارية لتنفيذ أمرها، بينما عادت جمان لجناحها وارتدت وشاحاً لتغطية شعرها قبل أن تخرج من القصر للقاء سلمة.. وما إن خرجت رأت الجارية تسرع إليها وتقف لاهثة لتقول "لقد غادر سلمة الليلة الماضية يا مولاتي.. أخبر الحراس أن لديه عملاً ضرورياً في القلعة"
قطبت جمان مغمغمة "ما هذه الصدفة الغريبة؟"
ثم توجهت للجارية قائلة "استدعي إمام بسرعة.."
عادت الجارية تركض نحو الموقع الذي يعمل فيه إمام عادة، بينما ظلت جمان تفكر في الغياب الغريب لسلمة في مثل هذا الوقت بالذات.. عادة لا يكاد يغادر القصر عند غياب أبيها، لكنه اليوم غائب على غير العادة، وفي الليلة التي غابت فيها خديجة.. أهناك رابط ما؟..
رأت إمام يهرع نحوها والجارية خلفه، وقال فور أن وصل إليها "ما الأمر يا مولاتي؟.. سمعت أن خديجة قد اختفت.."
قالت جمان "أين سلمة؟ ما الذي يدفعه لمغادرة القصر في جنح الليل دون أن يخبر أحداً؟"
هز إمام كتفيه بحيرة قائلاً "لا أدري ما الذي دفعه للرحيل.. لقد تركته ساهراً فوق مبنى العبيد كعادته كل ليلة، لكنه لم يأوِ لفراشه بعدها أبداً.. وفي الصباح دهشت لمّا أخبرني أحد الحراس أنه قد غادر إلى القلعة"
زفرت جمان بضيق، فسلمة هو الوحيد الذي تلجأ إليه عادة في أي أمر يهمها.. لكنها لم تعلق وهي تقول لإمام "أريد منك أن تأخذ بعض الرجال معك وتنطلق بحثاً عن خديجة.. لابد أنها رحلت للقلعة فلديها أخت هناك.. خذ معك من يعرف منزل تلك الأخت واذهبوا إليها.. استعيدوا خديجة مهما مانعت، وإلا لا تعودوا أبداً"
فقال إمام "أمرك مولاتي.."
وسارع لتنفيذ أمرها، بينما التفتت جمان إلى الجارية القريبة قائلة "أبلغوني فور عودة سلمة.."
وعادت للقصر لرؤية الجارية المريضة وهي تغمغم "كوني بخير يا خديجة.. وعودي أرجوك.."

***********************

ضيّق سلمة عينيه وهو يراقب سواداً عند الأفق في طريق عودته للقصر.. كان قد قضى الليلة السابقة بطولها مرافقاً لخديجة حتى وصلا للقرية التي وصفتها له.. لم يكن الطريق صعباً، لكن مع تعب خديجة ومرضها شعر سلمة أن الطريق طويل ومرهق بشدة، ولم يرتح جزئياً إلا عندما وصل لتلك القرية وتأكد أن هناك من سيرعاها في مرضها هذا.. عندها قفل راجعاً دون أن يأخذ قسطاً من الراحة وهو قلق من تركه للقصر بغير إذن من مولاه..
عندما رأى سلمة السواد عند الأفق، لم يخفف سرعة جواده وهو يتفحص ما يراه بتدقيق.. لم يكن يريد أي مفاجآت في طريق عودته.. كل ما يريده هو الوصول للقصر والاطمئنان على من فيه..
وبعد سير حثيث، كان قد اقترب من ذلك الموقع واستطاع رؤية تلك القافلة الصغيرة المكونة من بضع جمال تحمل عدداً من البضائع أو هودجاً يخفي من بداخله.. ولما اقترب سلمة أكثر من القافلة رأى أن عدداً من الرجال فيها قد وقفوا في مواجهته، ولاحظ السيوف تلتمع بنور الشمس في أيديهم والتحفز واضح على الوجوه..
لم يدرك سبب قلقهم منه وهو شخص واحد، لكنه توقف على شيء من المبعدة من القافلة وصاح "السلام عليكم.."
نظر الرجال لبعضهم البعض، ثم تقدم أحدهم قائلاً "وعليك السلام.. من أنت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟"
قال سلمة "أنا عائد لقصر مولاي القريب من قلعة سنداد.. لكن ما بالكم أنتم؟ لا يلاقي أصحاب القوافل عابري السبيل بسيوفهم عادة.."
خفض الرجال سيوفهم والأول يقول "اذهب إلى مولاك وانصحه بالرحيل.. لا تبقوا في القلعة، فلم يعد البقاء فيها آمناً.. حتى البقاع القريبة منها لن تكون آمنة عندما يحين الحين.."
تبدّت الحيرة على وجه سلمة وهو يتساءل "هل أنتم قادمون من القلعة؟ ما الذي جرى فيها؟"
غمغم أحد الرجال "يبدو أن الأخبار لم تصلهم بعد.."
قال آخر بنفاذ صبر "لا يهمنا ما يجري للآخرين.. علينا أن نسرع بالرحيل قبل أن نندم على ذلك.."
انبرى آخر يقول "لكن الأخبار تقول إنهم بعيدون، وقد لا يقتربون من هذه الأنحاء.. لا أدري ما دها الجميع للهرب بهذه السرعة"
علق آخر بسخرية "لو كنت تصدق مثل هذا الحديث، فلِمَ أنت هارب معنا؟ كان عليك البقاء في القلعة والتأكد من صحة تلك الأخبار"
ترجل سلمة عن جواده وجذبه من لجامه مقترباً من الرجال وهو يتساءل بقلق "أخبروني ما الذي يجري هنا.. نحن منعزلون عن القلعة تقريباً لذلك لم أعلم بأي شيء من أخبارها مؤخراً.."
سأله أحد الرجال بدهشة "ألم تعلم بقدومهم؟"
نظر له سلمة بدهشة متسائلاً "من هم؟.."
تنهد الرجل مجيباً "اهرب يا فتى.. أخبر مولاك وغادروا هذه البقاع.. فما سيحدث هنا لن يكون سارّاً أبداً.."

***********************

بعد أن ارتفعت الشمس في وسط السماء، أمر ربيعة رجاله بالتوقف وإناخة الجمال في هذا الموقع طلباً للراحة وإراحة الجمال.. فأسرع الرجال لإطاعته وإيقاف القافلة التي تتكون من عشرين جملاً بأحمالهم، وما لا يقل عن ثلاثين رجلاً لحمايتها..
جلس ربيعة بقرب أحد الجمال وهو يشعر بالحر رغم برودة الشتاء.. واستخرج من جراب الجواد قربة صغيرة من الماء وأخذ يعبّ منها عبّاً، عندما اقترب منه أحد الرجال قائلاً "مولاي، أليس من الأفضل لنا الاستمرار بسيرنا حتى نصل أقرب مدينة؟.. مع فترات الراحة هذه نحن نؤخر رحلتنا أكثر فأكثر.."
قال ربيعة "الجـِمال بحاجة للراحة، والرجال كذلك.."
علق الرجل "لكن مع ما سمعناه من أخبار قطاع الطرق، يغدو من الخطر وقوفنا طويلاً في مكان مكشوف كهذا.."
تنهد ربيعة بصمت والرجل ينتظر رده، ثم قال ربيعة "حسناً.. سنبقى ساعة ثم نواصل المسير.."
هز الرجل رأسه موافقاً، وابتعد تاركاً ربيعة يتناول بعض التمر من جراب جواده، ثم جلس قريباً منه وهو يراقب الأفق ويفكر في كل ما سمعه من أخبار في القلعة وأثناء الطريق من القوافل التي يمرون بها.. الوضع في البلاد غدا غير مطمئن أبداً، من هجمات خارجية واضطرابات داخلية وقطع للطريق.. تجارته في خطر كلما قرر إرسال قافلة لإحدى المدن، وقصره في خطر كلما غاب عنه مع رجاله.. يسوؤه أن يترك جمان وحيدة، لكن رحيلها معه مستحيل.. زواجها هذا سيجعله على الأقل مطمئناً أنها في كنف رجل سيحميها، ويكفي أنه ابن قائد جيوش القلعة.. أي أن جنود القلعة كلهم سيكونون في حمايتها.. من يمكنه أن يكون زوجاً خيراً منه لها؟..
انتبه ربيعة لِلـَغط بعض رجاله في جانب القافلة، ثم رأى أحد رجاله، ويدعى جُنَيْد، يقترب منه بسرعة وهو يهتف "مولاي.. هناك جماعة من الرجال قادمون نحونا.. عددهم لا يقل عن خمسة عشر رجلاً.."
فقال ربيعة بهدوء "ألا تعلمون من هم؟"
هز جنيد رأسه قائلاً "لا يبدو عليهم أي علامة توضح هويتهم.. وليست قافلة فهم جميعاً يمتطون الخيول ولا يبدو أنها تحمل أي بضائع.. وهم يتقدمون منا بسرعة كبيرة.."
نهض ربيعة وتقدم من أحد جوانب الموقع الذي أناخوا فيه الجمال.. ومن ذلك الجانب، حيث المساحات المسطحة التي تحيط بهم مانحة إياهم مجالاً واسعاً للرؤية، كان يمكنه رؤية الغبار المتطاير في الأفق والذي يقترب منهم سريعاً دون أن يبدو له راكبي تلك الخيول بشكل واضح.. اقترب منه بعض رجاله وأحدهم يتساءل "ما الذي نفعله الآن؟"
قال ربيعة "تأهبوا واستلوا سيوفكم.. لا نعلم من هم لكن لا يمكننا أن نتجاهل أمرهم.."
تساءل أحد الرجال بقلق "أتظنهم قطاع الطرق حقاً؟"
غمغم ربيعة "من يدري؟.. المهم أن تكونوا مستعدين ولا يأخذونا غيلة.."
أسرع رجاله بالتسلـّح بما يملكونه من سيوف وحراب، بينما وقف ربيعة قابضاً على السيف المعلق بحزامه بقوة وهو يراقب تقدم تلك المجموعة منه.. لا يدري لِمَ يشعر بأنه أخطأ بالرحيل في هذه القافلة في هذا الوقت بالذات.. يشعر بقلق غريب منذ بداية الرحلة، ولا ينفكّ يفكر بجمان بلا انقطاع..

***********************

بعد مضيّ أغلب ساعات النهار، وقد مالت الشمس عن كبد السماء، دلف سلمة من بوابة القصر بجواده وسار به بين أشجار حدائقه نحو الإسطبل.. ولم يكد يقترب منه حتى رأى إمام وثلاثة من العبيد معه يقفون قرب خيولهم يتجادلون بحدة.. فترجل سلمة وجذب الجواد معه مقترباً منهم وتساءل "ما الأمر؟"
نظر له إمام بضيق وقال "أين كنت؟.."
قال سلمة "كان لديّ عمل في القلعة.. ما الذي جرى؟"
فقال إمام "إذن سمعت بما جرى فيها؟"
لم يكن سلمة يدرك عن أي أمر يتحدث إمام، لكنه خمّن أنه نفس الأمر الذي حدثه فيه أفراد تلك القافلة، فقال سلمة "أتقصد رحيل بعض سكان القلعة بسبب ذلك الخبر؟ كيف علمت به؟"
تنهد إمام وهو يقول "لقد أرسلتني مولاتي بحثاً عن خديجة التي اختفت منذ الصباح.. وهناك، صدمنا بما رأيناه من......."
قاطعهم صوت نداء ينادي سلمة، فالتفت ليرى إحدى الجواري تقترب قائلة "مولاتي جمان تريدك الآن.."
فقال سلمة "لا بأس.. أنا آت حالاً.."
ثم نظر إلى إمام قائلاً، رغم معرفته بالجواب "إذاً.. هل وجدتم خديجة في القلعة؟"
هز إمام رأسه نفياً وقال "لا.. لقد توفيت أختها التي كانت مصابة بذات مرضها منذ عدة أيام.. والزوج لا يعلم عن خديجة شيئاً.. لكن هذا لا يهم الآن، فنحن مقبلون على أمر خطير يجب أن نحتاط له جيداً.."
فقال سلمة "انتظروني في مبنى العبيد.. سأعود لكم حالاً وسنرى ما سنفعل بهذه الأخبار"
ابتعد إمام والثلاثة معه بصمت بعدما أعادوا الخيول للإسطبل، بينما سار سلمة عائداً للقصر ليجد جمان تخرج منه وتبحث عنه بعينيها.. ولما لمحته اندفعت نحوه وهي تقول "سلمة.. هل علمت؟ لقد اختفت خديجة.."
لم يبدُ على وجهه أي انفعال وهو يعلق "علمت بذلك فور وصولي.."
فقالت جمان بشيء من الحدة "ولمَ لمْ ترحل بحثاً عنها؟.. أولست مهتماً بمصيرها؟"
هز رأسه مجيباً "مادامت تفضّل الابتعاد فلنتركها تفعل ما ترغب به"
قالت باعتراض "كيف يمكنك أن تقول ذلك؟ لا نعلم ما الذي يجري لها أو أين ذهبت.. فكيف يمكنك أن تتحلـّى بهذا الهدوء؟"
قال بشيء من الضجر "وما المطلوب مني فعله؟"
قالت بسرعة "ابحث عنها.. خذ مجموعة من الحراس وابحث عنها وأعدها للقصر"
فقال بشيء من عدم التصديق "أين تريدين مني البحث عنها؟ بلاد الله واسعة، ولا نعلم في أي اتجاه رحلت"
قطبت جمان قائلة "لديها أخت في القلعة.. لابد أنها ستلجأ إليها..."
قال سلمة "ليست هناك.. أؤكد لك ذلك"
فقالت بحدة "كيف تعرف ذلك؟"
قلب كفيه قائلاً "لقد عاد إمام للتو وأبلغني أنه لم يعثر عليها، ولم يعثر على أختها كذلك لأنها قد توفيت بسبب المرض"
اتسعت عينا جمان بقلق بينما أضاف سلمة "وبسؤال زوجها، فقد أخبرهم أنه لم يسمع عن خديجة شيئاً منذ عدة أيام.. كما أنني لا أظنها ستلجأ لذاك الموقع وهي تعلم أننا سنحاول استعادتها.. وإلا ما فائدة رحيلها أصلاً؟"
نظرت له جمان بشيء من الغضب، ثم قالت "أين كنت اليوم؟ وما الذي استدعى منك أن تغادر في الليل للقلعة دون علم أحد؟"
أجاب سلمة بهدوء "لقد علمت بقدوم إحدى القوافل في وقت متأخر البارحة، فانطلقت لتنفيذ أمر مولاي الذي أوصاني بالانطلاق إليها فور وصولها والحصول على البضائع التي عيّنها لي قبل بقية التجار.. فلم أجد بداً من تنفيذ أمره رغم حلول الظلام..”
أطرقت جمان بكدر وقد استغلق عليها أمر خديجة.. وغمغمت "لِمَ أنت متهاون في البحث عن خديجة؟ ألا يهمك أمرها بتاتاً؟"
قال سلمة "مولاتي.. خديجة تعاني أشد المعاناة من هذا المرض.. وقد تكون أيامها معدودة.. دعينا لا نجبرها على ما قد يسبب لها الضيق.. هي رحلت برغبتها، فلنتركها تفعل ما تريده حقاً"
نظرت له جمان بعينان تدمعان وقالت بصوت مرتجف "أنت قاسٍ حقاً.. كيف تقرر أمراً كهذا بدم بارد؟"
واستدارت مغادرة قبل أن تهطل دموعها على خديها أمامه، فتنهد سلمة مغمغماً "لقد أنذرتكِ يا خديجة.. ها أنت تسببين الألم لجمان، ولا أظنها ستصمت بتاتاً.."
بعد أن غابت جمان عن ناظريه، استدار عائداً لمبنى العبيد وهو يفكر فيما قد تفعله جمان لاستعادة خديجة.. يتمنى فقط ألا تتهور بأي فعل أحمق، فهذا أقل ما يمكنه التفكير فيه الآن.. وعندما دلف إحدى الغرف في المبنى رأى إمام مع الثلاثة الآخرين يجلسون بصمت ووجوم ظاهر بانتظاره.. فوقف أمامهم وهو يتساءل مقطباً "إذن.. أخبروني بما سمعتموه في القلعة.."
تنهد إمام وقال "ما سمعته أنت بالتحديد.. الفوضى عارمة في القلعة.. بالكاد استطعنا الدخول إليها والخروج منها مع الفزع الذي اعترى سكانها.. حتى إن بعض شوارعها لا يمكن السير فيها لكثرة الذين حزموا أمتعتهم وعزموا على الرحيل.."
قال سلمة وهو يجلس "لكن من أين أتتهم تلك الأخبار؟ بل مثل تلك الأخبار لا يمكن تصديقها لشدة جموحها"
قال ميسرة الذي كان يجلس قرب إمام "لكنها الحقيقة.. وعلينا التسليم بها.."
قال سلمة بغير اقتناع "كيف تريد مني التصديق أن القلعة ستتعرض لهجوم؟ نحن لسنا على حدود دولة الخلافة، بل نحن في وسط البلاد.. أين الجيش؟ أين الخليفة؟ أين المسلمون؟"
قال إمام بهزء "نكسوا رؤوسهم رعباً من التتار.. هذه هي الحقيقة"
قطب سلمة بشدة وإمام يضيف "أجل.. التتار قادمون.. رغم هدوئهم النسبي منذ عدة سنوات، لكن يبدو أنهم استعادوا همتهم في غزو بلاد المسلمين.."
قال ميسرة "ماذا لو كان الأمر كذبة؟..”
هز إمام رأسه قائلاً "لا يمكننا تكذيب مثل هذا الخبر لأننا نسمع منذ عدد من السنين كيف تمكن التتار من التوغل في البلاد المسلمة من الهند وحتى القرم، بل إنهم غزو عدة مدن وقلاع في أراضي الخلافة الإسلامية.. أما تذكرون ما حل بديار بكر وما جاورها منذ ست سنين؟.. فكيف يستطيع مثل هذا الخليفة الواهن ردعهم؟.."
فقال سلمة بضيق "قائد جيش القلعة قد غادر إلى بغداد.. فهل سيقدر الجيش على صدّ هجوم شرس بدون قائده؟.. ولو سقطت القلعة فسيكون لهذا تبعاته علينا.."
علق ميسرة "علينا التأكد من ذلك قبل أي تصرف نقوم به"
فقال سلمة "لذلك علينا إرسال شخص غداً لاستطلاع الأمر في القلعة والتأكد من مثل هذا الخبر.. والبقية عليهم التأكد من حراسة القصر جيداً هذه الليلة وفي الليالي القادمة حتى نتبيّن الأمر.. ربما كان ذلك خبراً لا صحة له، وهذا ما أرجوه"
بدا الاضطراب على الوجوه وهم يفكرون في مثل هذه التطورات الخطيرة، وزاد قلقهم مع غياب مولاهم مما يجعلهم بحيرة لما عليهم فعله.. ثم قال إمام "من سيذهب منا لاستطلاع الأمر في القلعة؟"
نظر الرجال لبعضهم البعض في اضطراب واضح، فقال إمام بسخط "أنتم متخاذلون منذ الآن؟ تباً لكم.. سأذهب أنا وابقوا أنتم لرعاية الدجاج في عِشَشِه.."
قال ميسرة "بل سأذهب أنا فأنا أسرع منك.. ولن يستغرقني الذهاب والعودة الكثير"
ربت إمام على كتفه بقوة وهو يقول "إذن غادر مع شروق شمس الغد، وخذ أحد الرجال معك.. كن حذراً يا فتى ولا تعد إلا بالخبر اليقين.."
أضاف سلمة "كن على أهبة الاستعداد.. فمع خبر كهذا، ومع رحيل بعض سكان القلعة، فلابد أن يسعى كثير ممن في نفوسهم ضعف لقطع الطريق والاستفادة من البلبلة التي تسود المنطقة.. حاذر في طريقك وعد إلينا سالماً.."
هز ميسرة رأسه مغمغماً "لا تقلق.. لن يحدث ذلك بإذن الله.."
فأضاف سلمة "وحاذروا من أن تـُبدوا الذعر أمام سكان القصر.. لسنا بحاجة لمزيد من التوتر.."
هز البقية رؤوسهم موافقين، وتفرقوا تاركين سلمة يقف قرب النافذة يحدق بالقصر الذي بدا من بين الأشجار المحيطة بمبنى العبيد.. تعلقت عيناه بنافذة جناح جمان وشيء من القلق يستعمر صدره وهو يفكر بتوتر بما عليه فعله لو كانت تلك الأنباء صحيحة.. ماذا لو تعرضت القلعة حقاً لهجوم من أولئك الهمج؟ ألن يكون لذلك تأثير على هذا القصر؟ رغم بعده عن القلعة، إلا أن القصر ليس بمأمن من هجوم مماثل.. وماذا عن قطاع الطرق الذين نشطوا مستغلين الذعر بين سكان هذه المنطقة؟.. رغم نور الشمس المبهر، إلا أنه يشعر بالظلام يتزايد من حوله ويتكاثف في صدره مع خوفه غير المتعقل.. فغمغم بضيق "تباً لكل هذا.."
سمع صوت إمام من خلفه يتساءل "أأنت خائف عليها؟"
رآه يقف قربه وينظر من النافذة بدوره مضيفاً "ما الذي ستفعله بشأنها لو هاجم التتر القصر حقاً؟.."
قال سلمة بضيق "لا أعلم حقاً.. غياب مولاي جاء في أسوأ الأوقات الممكنة.. لا أستطيع تقرير شيء وأنا أخشى من نتائجه على البقية.. لكني أيضاً لا أريد تعريض جمان لأي خطر، والتتار لا يرحمون أحداً أبداً.."
ابتسم إمام ابتسامة صغيرة وهو يقول "لطالما شعرت أنك تولي اهتماماً أكبر من المعتاد للفتاة.. قل لي، أهناك ما تخفيه عني؟"
قال سلمة مقطباً "ماذا تعني؟ ألن تخشى على مولاك لو كان موجوداً في مثل هذا الوضع؟"
هز إمام كتفيه مجيباً "بالطبع سأفعل.. لكني لاحظت عدة أشياء منذ مدة طويلة، وإن فضّلت عدم سؤالك عنها أملاً في أن تلجأ لي في يوم ما.. لكنك خيّبت ظني، فيبدو أنك لا تثق بي كفاية.."
زفر سلمة بضيق وإمام يضيف مبتسماً "يكفي تحديقك بنافذتها كلما مررت قريباً منها.. وجلوسك فوق مبنى العبيد كل ليلة وأنت تعلم أن نافذتها تواجه المبنى تماماً.. لا تقل لي إنك تحدق بنافذة مولاك بذات الطريقة أيضاً..!"
غمغم سلمة وهو يبعد بصره عن النافذة "أنت تهوّل الأمور.."
ضربه إمام بقوة على كتفه وهو يقول ضاحكاً "قد أبدوا بطيء الفهم بالنسبة لك، لكني لست أحمقاً.. أستطيع أن أؤكد أنك ستموت كمداً لو لم ترها كل يوم.. أتظن أن تسكعك في الأماكن التي اعتادت الجلوس عندها في الحدائق يخفى عليّ؟"
صمت سلمة وهو عاجز عن الاعتراض، فقال إمام بجدية "هل ستستمع لي لو طلبت منك أن تنساها؟.. أنت مدركٌ للفارق المهول بين مكانتيكما، أليس كذلك؟ كما أن تلك الفتاة على وشك الزواج.."
غمغم سلمة بضيق "لا تبدأ يا إمام.."
قال إمام بإلحاح "بل يجب أن أفعل.. ما تتمناه حلم بعيد المنال يا سلمة.. فهل ستأخذ بنصيحتي لو رجوتك أن تبحث عن أخرى؟"
نظر له سلمة بصمت، فتنهد إمام معلقاً "طبعاً لن تفعل ذلك.. فلتمرّ هذه الأيام على خير، وبعد عودة مولاي واستتباب الأمور ستكون لي جلسة طويلة معك حتى أتأكد أنك قد صرفت النظر عنها تماماً.. وصدقني سأتمكن من إقناعك بذلك.."
ابتسم سلمة بصمت وهو مدرك أن إمام قلق بشأنه، لكنه لم يعلق أو ينظر للنافذة مجدداً.. فلتمرّ هذه الأيام على خير، وبعدها لكل حادث حديث..

***********************

عَلـَتْ أصوات مختلف آلات العزف والطبول في تلك القاعة الفسيحة في قصر والي قلعة سنداد، حيث جلس الوالي في صدر المجلس ذاك، بملابسه المصنوعة من الديباج المطرز والعمامة الضخمة على رأسه والخواتم المذهبة في أصابعه.. واجتمع حوله عدد من وجهاء القلعة وتجارها.. وفي وسط القاعة، عدد من القِـيان يعزفن ألحاناً عذبة ويغنين بصوت شجي، وجواري روميّات يرقصن بشكل يفتن الناظر إليهن.. لم تكن هناك أمتع من تلك الجلسة بالنسبة للوالي الذي نظر لكأسه المترعة قائلاً لعبد قريب يمسك بمِروحة من ريش النعام معطرة بماء الورد يلوح بها نحو الوالي لاستجلاب النسمات الباردة "أين الجارية حُسْن؟.. لِمَ لا أراها بين القيان تُسْمع الحاضرين ألحانها العذبة؟"
أجاب العبد خافضاً رأسه "عذراً يا مولاي.. حُسن مريضة قليلاً.. ربما غداً تتمكن من حضور مجلسك والغناء بين يديك بعد أن تصبح أفضل حالاً.."
لم يعلق الوالي وهو يشرب ما بقي في كأسه جرعة واحدة ويرى القيّم على أعماله، والذي كان غائباً عن تلك الجلسة، يقترب منه مهرولاً.. فقطب الوالي وهو يرى القيّم يقول ما إن اقترب منه "مولاي.. هناك أمر مهم وصلني للتو.. ولم أجد بداً من إبلاغك به.."
قال الوالي مقطباً "ما الأمر؟ يستحسن أن يكون مقنعاً لتكدير مجلسي.."
قال القيّم بقلق كبير "وصلتني أنباء أن فرقة من التتار قادمة نحو هذه القلعة بالفعل، وقد وصلت لمشارفها.. لم تكن الأحاديث التي تدور بين سكان القلعة أخباراً لا صحة لها.."
انتفض الوالي واقفاً بشكل أثار انتباه الحاضرين بحيث توقفوا عن الحديث والقيان كففن عن الغناء بينما القيّم يقول "إنهم فرقة تتكون من ألفي تتري، ولم يبقَ الكثير على وصولها إلينا.. ما العمل يا مولاي؟ قائد الجيش بعيد عن القلعة، والجنود لن يقدروا على صدّ هذه الهجمة دون تعليمات قائدهم.."
تعالت شهقات الفزع من بين الجواري وبدا الذعر جلياً في وجوه الرجال في المجلس.. بينما لوّح الوالي بيده بقوة وهو يقول بذعر ظاهر "وهل هذا يحتاج لسؤال؟ لن نكون حمقى كأولئك الذين حاولوا محاربتهم وكانت هزيمتهم نكراء.."
نظر له القيّم بدهشة والوالي يقول بلهفة "أرسلوا لهم رسولاً في الحال.. أخبروهم أننا على استعداد لإعطائهم ما يطلبونه، وأننا سنسلمهم مفاتيح القلعة بدون مقاومة شرط أن يتركونا بسلام.. أعدّوا هدية ملائمة تملأ أعينهم، أكثروا من الذهب والمطايا وأفخر الملابس وأغلى الجواهر.."
قطب القيّم وهو يقول "لكن يا مولاي.. كل المدن التي فعلت المثل في السابق كان مصيرها........."
صاح الوالي بعنف "لا أريد منك أن تتذاكى الآن.. نفذ ما قلته على الفور وإلا قطعت رأسك.."
صمت القيّم والوالي يعود للجلوس على كرسيه قائلاً بنفضة واضحة "لابد أن يقبلوا عطايانا هذه.. لابد أن يطيعوا شرطنا الوحيد ويتركونا نعيش في سلام.. ما الذي نريده أكثر من هذا؟.."
استدار القيّم لينفذ أمره، بينما صفق الوالي بيده بعصبية وهو يقول للقيان "لا داعي لهذه الوجوه البائسة واعزفن أعذب ما تعرفنه من ألحان.. هذا يوم شؤم ولا أريد أن أقضي يومي في همّ وغمّ.."
أسرعن لتنفيذ ما طلبه بتوتر ظاهر، بينما نظر الوالي لكأسه الفارغة القريبة، ثم قال بعصبية "ولتملأ لي جارية هذا الكأس.. حتى متى يجب أن أطلب كل شيء بنفسي؟!.."

***********************

مع نهاية اليوم التالي، سار سلمة في جهة من الحدائق المحيطة بالقصر والشمس الغاربة تصبغ ما حوله بلون أحمر زاهٍ وتلقي ظلالاً طويلة على الأرض.. كان توتره يزداد مع تأخر ميسرة في العودة، وهو قد وعدهم بالعودة قبل حلول الظلام، فشعر سلمة بنذير شؤم والساعات تطوي نفسها دون أن يبدو له أي أثر.. تنهد وهو يتجه إلى القصر ونادى إحدى الجاريات من بين أربع كنّ يحملن الطعام ليناولنه لبعض العبيد.. فوقفت الجارية وهي تراه يقترب منها بسرعة حثيثة.. ثم سألها "كيف هي مولاتي؟ لم أرها تخرج للحدائق هذا النهار.."
قالت الجارية زافرة "إنها حزينة جداً وقلقة بشدة على خديجة.. لا أدري لِمَ غادرت خديجة القصر، لكن هذا سبب ضيقاً شديداً لمولاتي وهي بأسوأ حال"
فقال سلمة "اهتمي بها.. أخشى أن تحاول القيام بفعل أحمق كأن تغادر بحثاً عنها بمفردها.. ولست أملك المزاج الكافي للبحث عنها بدورها"
ابتسمت الجارية معلقة "من النادر أن أراك تبدي ضيقك من مولاتي.. ما الذي استجدّ؟"
غمغم سلمة وهو يغادر "من يدري ما الذي سيستجدّ في الأيام القادمة؟.."
راقبته الجارية بتعجب، قبل أن تسرع للحاق برفيقاتها.. بينما اتجه سلمة لبوابة السور المحيط بالقصر حيث وجد إمام مع عدد من الرجال يجلسون هناك والتوتر واضح على الوجوه.. فبادرهم سلمة فور اقترابه قائلاً "ألم يعد ميسرة بعد؟"
قال أحد الرجال "ليس بعد.. ألا يجب أن نرسل من يبحث عنه؟"
أجاب سلمة "لننتظر قليلاً فربما يعود الآن.. لا ندري ما الذي أخـّره عن العودة، لكن لنأمل خيراً"
اعتدل إمام في جلسته متسائلاً "علينا أن نقرر ما يجب أن نفعله إن كان الخبر صحيحاً وسقطت القلعة بيد التتار.. لا يمكننا البقاء هنا والتظاهر بأن الأمر لا يعنينا.. فسيصيبنا ما أصاب القلعة بالتأكيد.."
قال أحد الرجال "أعتقد أن علينا الرحيل لو كان الخبر صحيحاً.. لا يمكننا البقاء هنا، ومقاتلة جيش من التتار فوق طاقتنا بالتأكيد"
قال سلمة بضيق "ترحيل هذا العدد الكبير يحتاج وقتاً طويلاً، كما أن ما نملكه من الخيول لا يكفي لحمل الجميع.. ولا أظن الوقت ملائم للبحث عن قافلة والانضمام إليها مع الهلع الذي سيصيب من في القلعة"
زفر إمام وهو غارق في أفكاره، بينما تبادل البقية نظرات القلق والتوجس.. تلك ليلة لن تمرّ بسهولة ولاشك..

***********************

لكز ميسرة الجواد بقوة عدة مرات رغم أنه كان يسير بسرعته القصوى بالفعل.. والتفت خلفه ليرى، من بين الغبار المتطاير من سنابك الجواد، منظراً أقلقه وجعل الذعر يستولي عليه.. فعاد ببصره للأمام وهو يغمغم بصوت راجف "رباه.. هذا نذير سيء.."
مد يده وضغط على جرح خاصرته الذي يؤلمه بشدة، وهو يشعر بالدماء تنساب من بين أصابعه، لكنه لم يتوقف أو يخفف سرعته وصوت سنابك الخيول خلفه يتعالى وهي تدكّ الأرض وتتبعه بإصرار.. فلكز جواده من جديد وهو يضغط على أسنانه بقوة ويغمغم "يا إلهي.. ما الذي سأفعله الآن؟.."

***********************



~ بعيدا عن الخيال (٣) ~
استسلام بعض المدن المسلمة للتتار



وصل جنكيز خان في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة الإمام الجليل “البخاري” رحمه الله، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة ٦١٦ هجرية، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان “محمد بن خوارزم شاه” بعيداً عن بخارى في ذلك الوقت.. فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟..
ثم ظهر رأيان: أما الرأي الأول فقال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا، وأما الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.. وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها.. وفريق آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!..
وفتحت المدينةً المسلمة أبوابها للتتار.. ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة.. وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.. وفعًلا بدأ جنكيز خان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!!! وحاصر القلعة عشرة أيام.. ثم فتحها قسًرا.. ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعاً!!.. ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون..
وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها.. ثم اصطفى كل ذلك لنفسه.. ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل!..وأتُرك ابن كثير ـ رحمه الله ـ يصور لكم هذا الموقف كما جاء في (البداية والنهاية) فيقول: “فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن..!! فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أُسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها..”!!!
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني


***********************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 07-02-16, 08:37 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2014
العضوية: 271387
المشاركات: 11,112
الجنس أنثى
معدل التقييم: bluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميع
نقاط التقييم: 13814

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
bluemay غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 
دعوه لزيارة موضوعي

يا الله لطفك ورحمتك ...

شي مخيف .. نسأل الله السلامة والعافية ..


هل سيتعرضون للهجوم ؟! اتوقع سلمة رح ياخد جمان ويهربها من القصر ..

وابوها اتوقع اتعرضوا لهم التتار وممكن يكون مات .


متخوفة من القادم >_<


لك ودي


★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

 
 

 

عرض البوم صور bluemay   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رحلت, ضياع
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 02:02 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية