كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل السادس عشر ~
قبعت جمان بجوار جدار بيت طيني صغير في جانب تلك القرية متوسطة الحجم والتي تنتشر المزارع في إحدى جهاتها، وإن اقتصرت على زراعة النخيل على الأغلب.. بقيت جمان صامتة مستندة على الجدار بينما غمرتها الشمس بأشعتها الدافئة، وتعلقت عيناها بالساحة التي تقع خلف ذلك البيت والتي أحاطتها بضع شجيرات متوسطة الحجم وانتشرت فيها الأعشاب بشكل متفاوت دالـّة على إهمال الموقع..
تنهدت جمان وهي تشعر بالدموع تترقرق في عينيها جاعلة المنظر أمامها عائماً قبل أن تسيل دمعتان على خدها المتعب دون أن تعبأ بمسحها.. شعرت بمزيج الحزن والقهر لأنها جاءت متأخرة جداً.. جاءت بعد فوات الأوان.. لو أنها سعت للقدوم إليها منذ بدء رحيلها من القصر، لربما تمكنت من رؤيتها لبضع أيام، ولكي لا تشعر بتأنيب الضمير كما تشعر به الآن..
شعرت بالخطوات التي تقترب منها، فأسرعت تمسح الدموع عن خديها وقد أدركت هوية القادم.. فسمعت صوت سلمة وهو يقول بهدوء "لا ضير من إظهار حزنك على موت خديجة قليلاً.."
خفضت جمان بصرها وهي تقول بمرارة "وما الفائدة من ذلك؟ لقد فقدتها دون أن أتمكن من رؤيتها.. دون أن أتمكن من التعبير عن حبي لها، عن شكري لها رعايتها لي طوال تلك السنين.. رحلت خديجة، وتركتني بكل قسوة أعاني من تأنيب الضمير.."
وقف سلمة قريباً مستنداً على الجدار بدوره وتساءل "ولم تأنيب الضمير؟"
أجابت بصوت مرتجف "أشعر أنني نبذتها في أشد أوقاتها حاجة لي.. تركتها ترحل رغم أنها وحيدة لا تملك من تلجأ إليه.. لم يسبق لها أن أهملت رعايتي منذ وعيت هذه الدنيا، خاصة أن أمي كانت ضعيفة الجسد ولم تكن تقدر على رعاية طفلة.. والآن، لم أستطع حتى أن أعيد لها بعض الفضل الذي غمرتني به طوال سني عمري.."
قال سلمة بحزم "أنت لم تتعمدي التقصير في رعايتها، بل هي من رحلت بإرادتها الحرة.. إنها ليست طفلة، وهي تدرك عواقب عملها هذا جيداً.."
دفنت جمان وجهها في ذراعيها وهي تهمس باكية "لكنني أحببتها كثيراً، ولم أكن أرغب بأن أفقدها بهذه الطريقة"
نظر لها سلمة بعطف، ثم قال بخفوت "وهي أحبتك كثيراً، ولذلك فضّلت الرحيل.. خوفها عليك جعلها تحرم نفسها من البقاء قربك وهي مدركة أنها لم يبق لها إلا القليل.. عليك أن تدركي ما ضحّت به لأجلك"
بدأت جمان بالبكاء بصوت خافت وسلمة ينظر لها بشفقة وحزن.. ما كانت جمان بحاجة لمزيد من الحزن والألم، وربما كان عليه إخفاء معرفته بموقع خديجة عنها.. لكن لم يستطع رفض طلبها وهو يرى الرجاء في عينيها الجميلتين.. طوال عمره لم يستطع أن يرفض لها طلباً، ولا يكاد يستطيع ذلك حتى الآن.. تنهد وهو يراقب الساحة أمامهما والتي يستخدمها أهل القرية كمقبرة لأمواتهم، ثم همس "فليرحمها الله تعالى.. كانت نِعْمَ الأم لكل من عرفها، ولا يذكرها أحدنا إلا بخير.."
لم يخفت حزن جمان وهي تذرف الدموع محاولة إخفاء بكائها عن سلمة، بعد أن اعتادت ذلك في الآونة الأخيرة.. يتزايد حزنها، الذي لم يكد يخفت على موت أبيها، كلما تذكرت رحيل خديجة دون أن تتمكن من وداعها للمرة الأخيرة.. لا تذكر أنها بكت على وفاة أمها الحقيقية، فلم تكن تعرفها لصغر سنها في ذلك الوقت وهي التي لم تتجاوز الثلاث سنوات، لكن لا تظن أن حزنها على وفاة خديجة سيهدأ أبداً.. همست لنفسها بحزن مرير "فليرحمها الله.. وليغفر لي تقصيري معها.. ليتني بقيت معها في أيامها الأخيرة.. ليتني اعتنيت بها بنفسي.. لكن، فات الأوان لكل هذا.."
***********************
مع قرب المغيب، قبلت جمان باضطرار دعوة إحدى جارات خديجة لبيتها الطيني، حيث أوت زهراء وجنان إليه منذ قدومهم للقرية.. سارت بها المرأة للبيت وهي تقول بطيبة واضحة "ستهلكين لكثرة بقائك خارجاً دون أن تتناولي شيئاً منذ الصباح.. كما أن الفتاتان تسألان عنك بإلحاح.."
لم تدرِ جمان بم تعلق وهي فاقدة للشهية تماماً.. لكنها شعرت أنها بالفعل ستفقد وعيها لطول مكثها في الخارج، ولشدة الانفعال الذي شعرت به مع مرأى قبر خديجة.. وقبل أن تدخل البيت، استوقفهما سلمة الذي كان يسير معهما قائلاً للمرأة "هل يمكنك العناية بها وبالفتاتين هذه الليلة؟.. إنها منهكة وبحاجة للراحة.. وأنا لديّ أمر عليّ القيام به وقد لا أعود قبل الغد.."
نظرت له جمان بشيء من القلق بينما سارعت المرأة لتقول "بالطبع.. لطالما سمعت خديجة تتحدث عنها، وأشعر أنها بمقام ابنتي تماماً.."
ونظرت لجمان مبتسمة وهي تضيف "فلتبقوا ما يحلو لكم يا ابنتي.."
لم تعلق جمان وهي تنظر لسلمة بتوتر، فالتفت سلمة إليها قائلاً "هل تسمحين لي بالرحيل لفترة من الوقت يا جمان؟ هناك موضع عليّ الذهاب إليه ولا أستطيع تأجيل ذلك.."
رأت جمان المرأة تبتعد نحو البيت بصمت، فالتفتت جمان نحو سلمة وهي تسأله بقلق "إلى أين أنت ذاهب؟ ولم عليك الذهاب بمفردك؟"
قال سلمة "أريد العودة للقصر.. لن يرتاح بالي إلا برؤية ما حدث فيه منذ غادرناه.. فهل ترغبين بالمجيء معي؟"
خفضت جمان بصرها بارتباك لم يخطئه، فغمغم "ظننت ذلك، فهذا سيكون قاسياً عليك.. سأذهب وأعود قبل مغيب شمس الغد بإذن الله.."
تمسكت جمان بذراعه وهي تسأل بقلق أكبر "هل ستعود؟"
لمح الخوف في عينيها واضحاً، فغمغم وهو يمسك يدها ويشدّ عليها "وهل يمكنني ألا أفعل؟"
أطلقته بعد أن هدأت نفسها قليلاً، ثم قالت قبل أن يرحل "سأنتظرك يا سلمة.."
ابتسم ابتسامة صغيرة وقال "اهتمي بنفسك حتى عودتي.. ولا تقلقي.."
واستدار مغادراً بصمت وجمان تراقبه دون أن يخفت قلقها.. لا تدري لم ينتابها الذعر من فكرة رحيله وغيابه عنها.. لكن هل سيفعل ذلك حقاً؟.. أكثر ما يقلقها أنها مدركة لعدم وجود ما يربط سلمة بها.. ماذا لو سئم من حمايتها في كل مرة؟ ماذا لو فضّل الرحيل بعد أن أوصلها لمأمنها؟.. لا تبدو تلك الأفكار بعيدة عن واقعها بتاتاً..
وبعد أن غاب عن بصرها، تبعت جمان المرأة داخلة بيتها مشغولة الفكر.. فتلقتها جنان راكضة وارتمت في حضنها وهي تقول بلهفة "أين ذهبت يا جمان؟ لقد انتظرتك طوال النهار.."
ابتسمت جمان شيئاً ما وزهراء تقترب بدورها مغمغمة "ظننتكما قد غادرتما وتركتمانا هنا.."
قالت جمان بتأنيب "أتظنين أننا قد نغادر دون علمكما؟ لن نتخلى عنكما بسهولة.. إنما كنت أزور قبر أمي التي دفنت في جانب هذه القرية.. ولم يكن من الملائم قدومكما معي.."
غمغمت زهراء "لماذا؟ أتخشين أن يفزعنا منظر كومة من التراب؟"
نظرت لها جمان بدهشة قبل أن يغلبها الأسى وهي تمسح بيدها على رأس الفتاة.. لقد شاهدت الفتاتان خلال يوم واحد كمية من القتل والجثث الغارقة بدمائها والتي تم التمثيل بها وتقطيعها أكثر مما قد تشاهده أي فتاة أخرى في أي مكان آخر طوال حياتها.. فما الذي قد يفزعهما من مرأى قبر عادي؟..
ضمّت جمان الفتاتين إليها وهي تهمس "انسيا كل ما رأيتماه يا فتاتيّ.. انسيا كل شيء وعيشا حياتيكما بسعادة.. وليرحم الله كل من تركناه خلفنا في بغداد البائسة.."
***********************
مع شروق الشمس، وبعد رحلة طويلة على ظهر الحصان، بدا الدمار في القصر واضحاً أكثر لعيني سلمة الذي خفف من سرعة حصانه عندما وصل قريباً من البوابة.. تأمل سلمة القصر الذي شهد صباه وعاش فيه حياته كلها منذ غادر عائلته في القوقاز.. تأمل جوانبه التي تفحمت وتهدمت أجزاء منها وغدا باهتاً مقارنة ببهائه القديم.. ورأى الأشجار في الحدائق التي أكلت النيران جزءاً كبيراً منها وتركتها سوداء عجفاء بعدما كانت زاهرة بالأوراق والورود والثمار وبهجة للناظر إليها.. وفي جانب الحدائق، كان مبنى العبيد قد أصبح مجرد حطام أسود لم يبق من شكله القديم أي ذكرى..
تنهد سلمة وهو يجوب الحدائق بحصانه باتجاه القصر.. لم يكن يعلم ما الذي يبحث عنه، لكنه شعر برغبة شديدة في العودة ورؤية ما حل بالقصر وبمن كان فيه.. رغم أنه لم يكن يملك أملاً بالعثور على أحدهم هنا، فمَن استطاع النجاة لن يعود لهذا القصر بحال، لكنه لم يستطع تجاهل رغبته تلك..
لاحظ أن الجثث التي كانت منتشرة في أرجاء الحدائق قد اختفت، ولاحظ في جانب منها موقعاً قد تم حفره ثم ردمه وتسويته بعناية، وإن كانت الحشائش لم تَنـْـمُ عليه بعد.. تلفت سلمة حوله بدهشة، فما رآه يثبت له وجود شخص هنا، ربما من سكان القصر السابقين.. فمن يكون؟..
سمع جلبة خلفه، فنظر بسرعة للقصر ليرى الواقف قرب بابه المتفحم ينظر له بذهول بدوره.. فترجل سلمة عن الحصان بقفزة واحدة واتجه للواقف قرب الباب بخطوات سريعة وهو يهتف "إمام؟...."
ظل إمام واقفاً ينظر له بدهشة، ولما وصل سلمة إليه سارع لاعتناقه وهو يقول بلهفة "أنت حيّ يا صاحبي.. الحمدلله.. لشدّ ما تسعدني رؤيتك بخير.."
ربت إمام على كتف سلمة بيده اليمنى وهو يقول "وأنا سعيد برؤيتك حياً أيضاً يا سلمة.. لم أتوقع نجاتك فضلاً عن عودتك لهذا المكان.."
قال سلمة وهو ينظر لإمام "كانت بي رغبة شديدة في العودة ورؤية ما جرى بالقصر.. ربما كنت أتمنى رؤيتك هنا.."
تساءل إمام "وكيف هي جمان؟ هل نجحت في إنقاذها؟ ألم تبحث عن مولاي؟ إنه لم يعد للقصر أبداً منذ رحيله"
غمغم سلمة "أمازلت تنتظره؟"
نظر له إمام باستفهام وقلق، فأخبره سلمة بما حدث لهم منذ هروبهم من القصر، وما جرى مع هجوم التتر على بغداد وموت ربيعة.. ومع ذلك الخبر، تبدّت الصدمة على وجه إمام وهو يقول بأسى "تباً لأولئك التتار.. أذاهم قد غمر البلاد كلها بمآسٍ لا تحصى.. لقد سمعت عن الهجوم على بغداد ولم أكد أصدق ما سمعته.. لكن من كان يظن أنكم كنتم تشهدون ذلك بأنفسكم؟.. تباً لهم.. متى نرى نهاية كل هذا؟.."
تساءل سلمة "وماذا عن البقية؟.. ما الذي جرى بعد أن غادرنا القصر؟.."
تنهد إمام وهو ينظر للقصر خلفه وغمغم "لم يعد أحد هنا.. لم يبقَ أحد حيّاً بعد تلك الليلة سواي وذاك الفتى زهران.. زهران قد رحل من القصر بعد أن أيسَ من عودة مولاي، لكني لم أستطع.. بقيت في القلعة أياماً، ثم عدت للقصر أملاً في عودة مولاي وخشية ألا يعثر علينا عندما يفعل.."
ونظر للحدائق مضيفاً "ولم أستطع أن أترك من مات ملقىً على الأرض دون أن يوارَى في التراب.."
نظر سلمة للموقع الذي ضمّ جثث سكان القصر وغمغم "أنت فعلت كل ذلك بمفردك؟"
ابتسم إمام بسخرية ورفع يده اليسرى قائلاً "وكيف يمكنني ذلك؟ لا يمكنني حتى حفر حفرة صغيرة بمثل هذه اليد.. استعنت ببعض الرجال ممن عادوا للقلعة بعد دمارها فعاونوني على دفنهم.."
نظر سلمة ليد إمام المقطوعة، والتي ربط عليها طرف قميصه ليخفيها، وتبدّت على ملامحه صدمة شديدة وهو يغمغم "أهم التتار من فعلوا بك ذلك؟"
قال إمام "أجل.. ومن غيرهم؟.. رغم أنني حاولت التصدي لهم مع من شدّ عزمه من الرجال، لكنهم تخلصوا منا بسهولة تامة.. ولم أنجُ إلا بمعجزة كبيرة.."
بدا التأثر واضحاً على وجه سلمة، ثم خفض وجهه وإمام يرى دموعه تسيل على خديه، قبل أن يسمعه يقول بهمس "سامحني يا إمام.. ما كان عليّ أن أتخلى عنك وعن البقية.. سامحني يا صاحبي.."
ابتسم إمام رغماً عنه، وربت على كتف سلمة قائلاً "بل سامحني لأني نعتك بتلك النعوت القاسية.. أنت لست جباناً، وأنا أعلم الناس بذلك.. كيف يمكنني أن ألومك وقلبك العاشق لا يفكر إلا بها هي؟.."
ثم نظر للسماء مغمغماً "أتعرف سبب هزيمتنا أمام أولئك التتر؟ لأن قلوبهم لا تعرف خوفاً.. لا يخشون على أرواحهم ولا على رفاقهم وليس لديهم ما يخسرونه.. بينما نحن نخشى من أي جرح يصيبنا.. لذلك تجدهم مندفعون في القتال لا يتراجعون لأي سبب، بينما رفاقنا يقاتلون وفي قلوبهم حب الدنيا وخشية الموت.. لن نتغلب على التتار ما لم نتغلب على خوفنا من الموت.. ولا سبيل آخر.."
ظل سلمة مطرقاً بضيق وحزن ظاهر، فقال له إمام بهدوء "لا تحزن يا صاحبي.. لم يكن لك ذنب في كل ما جرى لمن في القصر.. فلا يأكلك الندم على ما فعلته.."
ثم تساءل "وأين هي جمان؟.. مع من بقيت؟"
أجاب سلمة وهو يتنهد محاولاً التغلب على ضيق صدره "تركتها في القرية التي رحلت إليها خديجة"
سأله إمام باهتمام "وكيف هي خديجة؟"
خفض سلمة رأسه وأجاب "ماتت بعد أيام قليلة من رحيلها.."
تبدّى الحزن على وجه إمام، قبل أن يغمغم "فليرحمها الله.. كانت امرأة رحومة.."
لاحظ أن الضيق لم يغادر وجه سلمة، فابتسم وهو يسأله مغيراً دفة الحديث "وما الذي ستفعله الآن؟ أين ستبقى جمان ومع من؟"
قلب سلمة كفيه قائلاً "لا أعلم.. لم أفكر في ذلك بعد.. فهي منقطعة ولا تملك أي أقارب بعد وفاة أبيها.. وذاك الوغد عامر قد تخلى عنها.."
فاتسعت ابتسامة إمام وهو يقول "إذن تزوجها..."
رفع سلمة بصره إليه مصعوقاً وقال "ماذا؟.. كيف يمكنني ذلك؟!.."
قال إمام "وما المانع؟.. ألست حراً الآن كما أخبرتني؟.. أن تكون جوارها خير لها من أن تبقى وحيدة في هذا الزمن المضطرب.. ولا أظنها ستجد خيراً منك زوجاً.."
خفض سلمة بصره باضطراب، فأضاف إمام بابتسامة "أليس هذا ما تمنيتَه منذ زمن طويل؟"
لم يجب سلمة والفكرة تدور في عقله كنحلة نشطة.. حقاً لم يَدُر هذا بخلده أبداً.. كان يكفيه قربه منها.. وظن أن هذا سيدوم زمناً طويلاً.. لكنه الآن يدرك أنها بحاجة لزوج يحميها في هذا الزمن.. بحاجة لتشعر بالأمان أخيراً بعد كل تلك المآسي.. فهل يقدر أن يرى شخصاً غيره يمتلكها كزوجة؟.. هل يطيق ذلك؟..
حاول إبعاد تلك الأفكار وهو يلتفت إلى إمام الذي يراقبه قائلاً "ما الذي ستفعله أنت الآن؟ ألن تأتي معي؟"
هز إمام رأسه نفياً وقال "بل سأبقى في القلعة.. لا أريد أن أكون عالة على أحد.."
قال سلمة باعتراض "لست عالة عليّ.. بل وجودك يسعدني حتماً"
ابتسم إمام وربت على كتفه قائلاً "لا تقلق.. لقد عثرت أثناء بقائي في القلعة على عمل بسيط في الخان.. فصاحبه قد عاد بعد رحيل التتر وهو يبحث عمن يعاونه في عمله بأي ثمن.. بقائي هناك خير لي من الرحيل فلم تعد بي طاقة لذلك.."
فقال سلمة وهو يربت على كتف إمام بدوره "سأزورك متى ما جئت إلى هذه الأنحاء يا إمام.. فكن بخير أرجوك.."
قال إمام "عد إلى جمان يا سلمة ولا تجعلها تقلق.. فليحفظكما الله وليحفظنا من أي مآسٍ أخرى.."
***********************
طوال طريق عودته، كان سلمة لا يكاد يرى ما أمامه وهو مقطب يحاول إبعاد الفكرة التي زرعها إمام في عقله.. شعر أنه لا يجرؤ على التفكير بها.. فقد عاش زمناً وهو يرى جمان أمامه ويغالب لهفته عليها مقتنعاً بالبقاء قربها ورؤيتها كل يوم.. كيف له أن يطمع بأكثر من هذا مع التفاوت الكبير في مكانتيهما؟.. وحتى بعد أن أصبح حراً، لا يزال يشعر بها في موقع عالٍ لا يكاد يصل إليه ببصره وهو الذي اعتاد على النظر لموقعه هو بمهانة.. فكيف يطمع بأكثر من هذا؟..
لكن........... أن تكون جمان زوجته؟.... أن تكون مُلكَه هو بعد تلك السنوات الطوال؟.. أن يتمكن من التصريح لها بمشاعره التي حبسها عمراً بأكمله دون حرج؟.. كيف لا يمكن أن يخفق قلبه لمثل تلك الفكرة؟.. كيف لا يشتعل صدره انفعالاً لمثل تلك الأمنية التي ما جرؤ على التصريح بها حتى لنفسه؟..
خفتت مشاعره قليلاً وهو يفكر بردة فعل جمان على هذا.. هل ستستنكر ذلك وتستقبحه؟ لو فعلت ذلك، فلا يمكنه لومها بتاتاً، فهي ما عرفته إلا كعبد لأبيها ولا يمكن أن تراه غير ذلك.. لكن لو رأى الاستنكار في عينيها فذلك سيحطمه تماماً.. من الأفضل له الإبقاء على مثل تلك الأمنية حبيسة صدره، أليس كذلك؟..
لكن، ماذا لو...... ماذا لو أنها سعدت برغبته تلك؟.. لقد أظهرت له بوضوح سعادتها بمشاعره عندما صرح لها بها.. أليس هذا قبولاً منها لتلك المشاعر؟.. كيف له أن يخنق أملاً ولو كان ضعيفاً بتحقيق أمنية غالية عليه؟..
ظل طوال طريقه الطويل وتلك الرغبتان تتناهبانه حتى بدأ يشعر بضيق ويأس من وضعه.. يخشى على نفسه من الصدّ، ويخشى أن يخسر سعادته بهذا التردد.. فلأي جانب يجب أن يستسلم؟..
لم يكن قد وصل لقرار عندما شارف القرية، فتنهد وهو يحاول إرجاء التفكير في هذه الخيارات قبل اختيار أحدها، ولم يكن ذلك سهلاً عليه البتة.. لكن قراره ذلك تحطم كليّة عندما رأى قرب البيوت التي وصل إليها فتاة تنهض واقفة بسرعة لدى اقترابه.. ولما التفت إليها أدرك أنها لم تكن إلا جمان..
خفف سرعة الحصان وهو يقترب منها ثم ترجل واقترب ماشياً يجر الحصان خلفه متسائلاً "ما الذي جاء بك إلى هذا الموضع وحيدة؟.."
وتلفت حوله مضيفاً "أين زهراء وجنان؟"
وقفت جمان تفرك يديها بصمت وبانفعال لم يخطئه، ثم قالت "كنت أنتظرك.. لقد تأخرت كثيراً.."
وخفضت بصرها وهي تهمس "حمداً لله على سلامتك.."
أدار سلمة بصره بعيداً دون أن يجد ما يجيب به عليها.. كان يحاول إبعاد تلك الفكرة من ذهنه وهو يشعر أنه غير قادر على النظر لوجهها دون أن تبدو انفعالاته بوضوح.. فغمغم لنفسه "تباً لك يا إمام.. لِمَ كان عليك قول ذلك؟"
بعد أن طال الصمت بينهما، سمعها تقول بصوت به رعشة خفيفة "ظننتك لن تعود أبداً.. لم أستطع أن أستسلم للراحة وأنا أخشى من تلك الفكرة.."
نظر لوجهها الذي امتزج فيه القلق بالرجاء وهي تهمس "لا ترحل مرة أخرى يا سلمة.. أرجوك.."
لا يدري سلمة ما الذي دفعه لما فعله... أهو قول إمام؟.. أهو طول تفكيره في الأمر؟.. أم أنها نبرة الرجاء في صوتها ولمعة القلق في عينيها؟.. لكنه لم يستطع أن يقاوم نفسه وهو يتقدم منها خطوة ويمسك يديها الاثنتان بيديه وينظر لعينيها المتسعتين ووجهها الذي احمرّ بشدة وهي ترى لهفته واضحة في عينيه.. بحث سلمة في عينيها طويلاً عن أي رفض أو استقباح لفعله، لكنه لم يرَ أياً من ذلك.. كل ما رآه هو خجل واضح ومشاعر جياشة.. عندها قال سلمة بهمس وصوت لم يملك تهدجه ولهفته "جمان....... أتقبلين الزواج بي؟"
***********************
في اليوم التالي، امتطى سلمة ظهر حصانه وأمسك بلجامه وهو ينظر للمرأة التي وقفت قريباً منه.. فبادرته قائلة "أأنت واثق من عزمك على الرحيل؟"
قال سلمة "أجل.. لا أملك إلا أن أفعل.."
غمغمت المرأة بضيق "من الخطر رحيلك بعد كل ما جرى.."
صمت سلمة وهو ينظر من باب البيت المفتوح والذي لا يبدو ما بداخله بسبب الظلام، فقالت المرأة متنهدة "لا تخشَ شيئاً.. سأعتني بهن كعنايتي ببناتي.. فأنا وحيدة كما ترى ولم أسعد منذ زمن كما سعدت بصحبتهن.."
فغمغم سلمة "يحفظكم الله تعالى.."
وانطلق مجدداً مغادراً القرية الصغيرة، ثم وجه حصانه نحو الكوفة وحيداً في تلك السهول الشاسعة.. وبعد أن غاب عن بصر المرأة، تنهدت وهي تعود لبيتها الذي كان مظلماً والشمس لم تشرق في الأفق بعد.. فرأت جنان وزهراء نائمتين في جانب المكان على السرير الوحيد في البيت، ورأت جمان تجلس منطوية على نفسها قرب الفتاتين على السرير وهي صامتة واضعة رأسها على ذراعيها ومستندة بهما على ركبتيها، فابتسمت المرأة قائلة "لماذا تركته يرحل دون وداع؟ لابد أنه استاء لذلك.."
أدارت جمان وجهها جانباً بصمت، فجلست المرأة قربها ومسحت على شعرها مغمغمة "أأنت مرتاحة لقرارك هذا؟"
صمتت جمان وحمرة خفيفة تغزو خديها وهي تتذكر ملامح سلمة عندما طلب الزواج منها.. تلك الملامح التي غلبتها اللهفة ونظراته التي فاضت بحب عارم لم تشهده فيهما من قبل.. ولهذا السبب بالذات شعرت أنها غير قادرة على مواجهته هذا اليوم.. غير قادرة على السماح لعينيها بلقاء عينيه..
تذكرت في تلك اللحظة قول أبيها، والذي لم تفهمه في ذلك الوقت..
"سلمة عبد يا جمان.. حتى لو نال حريته، فسيظل عبدا..”
فالتفتت للمرأة التي ترتقب جوابها متسائلة "لقد أخبرني أبي أن سلمة سيظل عبداً حتى لو نال حريته.. فما الذي كان يعنيه بذلك؟"
قالت المرأة مربتة على كتفها "لابد أنه قصد أن سلمة سيظل يشعر بذلة وهوانٍ أمامك حتى لو حصل على حريته... فهو قد عاش حياته كعبد، وسيبقى هذا في طباعه مدى الحياة..”
ظلت جمان تفكر في قولها للحظات، ثم غمغمت "لا.. في الواقع أنا من يشعر بهوان أمامه بعد كل ما فعله سلمة لأجلي.. أشعر أنني لا أستحقه حقاً، وأنني مهما فعلت فسأظل مدينة له بحياتي لما بقي لي من العمر..”
فابتسمت المرأة وهي تقول "أنا أرى أنك لم تجانبي الصواب في قرارك بتاتاً.. ولا أظن خديجة كانت ستعارض قرارك هذا أيضاً"
تنهدت جمان وهي تغمغم "رحمها الله.. تمنيت لو أنني تمكنت من رؤيتها ليوم واحد على الأقل"
لم تعلق المرأة وهي ترى الحزن جلياً على وجه جمان.. ثم قالت مغيرة الموضوع "ما الذي سيحدث للفتاتين الآن؟.."
مسحت جمان على رأس جنان القريبة منها وهي تفكر في أمرهما، فشعرت بيد جنان الصغيرة تتسلل فتمسك بيدها قبل أن تفتح عينيها هامسة "هل يمكنني البقاء معك يا جمان؟"
نظرت لها جمان بتأثر، عندما علا صوت زهراء وهي تقول بحزم "سنبقى معك يا جمان.. إن لم يكن لديك مانع من ذلك"
فقالت جنان بصوت خافت "أرجوك يا جمان.. لا تتخلي عنا.."
تدافعت دموع جمان رغماً عنها وهي تحتضن جنان بقوة، وشعرت بزهراء تحتضنها بدورها بصمت.. فغمغمت جمان "لن أتخلى عنكما يا فتاتيّ.. كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ بل إنني سأكون حزينة جداً لو فكرتما بتركي.."
ساد الصمت المكان والمرأة تشيح بوجهها ماسحة دمعة من عينها.. بينما ضمت جمان الفتاتين بين ذراعيها وهي تفكر فيما شهدتاه في الأيام القليلة التي عرفتهما فيها.. كيف لها ألا تقلق لأمرهما بعد أن أدركت أنهما مقطوعتان عن العالم تماماً، ولا تعرفان أقرباء لهما في غير بغداد؟..
همست جنان قاطعة الصمت "أين سلمة؟.. هل سيعود؟"
صمتت جمان دون أن تفلت الفتاتين، بينما قالت المرأة "هلا نهضتنّ يا فتياتي العزيزات؟ سأحضر لكنّ الفطور، فاغتسلن وكفاكن كسلاً.. يومنا سيكون طويلاً، وأنا عليّ المغادرة للحقل خلف المنزل والعمل فيه.."
أسرعت جنان تنهض بنشاط وهي تهتف "هل أستطيع معاونتك؟"
لوحت المرأة بإصبعها قائلة "ليس قبل أن تتناولي فطورك كله.."
دب النشاط في ذلك البيت والمرأة تعد الفطور وابتسامة تعتلي شفتيها.. منذ توفي زوجها قبل سنوات، عاشت في وحدة شبه تامة وهي التي لم تنجب وليس لها أي أولاد من قبل.. أما الآن، فلتستأنس بوجود الفتيات معها ما دام ذلك.. فمن يدري متى ستعود لوحدتها التامة ويفتقد هذا البيت صدى ضحكاتهن؟..
أما سلمة، فلم يبطئ من سيره ما استطاع حتى وصل للكوفة دون أن يعترضه أي خطر حقيقي.. كانت الأمور أهدأ قليلاً الآن، بعد أن علم أن جيش التتار مستقر شمال بغداد وقد توقف عن الهجوم على القلاع والمدن الصغيرة حولها والاستيلاء على القوافل.. ويبدو أن هدف التتار من نشر الذعر في النفوس بمثل تلك العمليات قد تمّ بعد نصرهم الكاسح على بغداد وبعد أن قضوا على الخلافة الإسلامية فيها مع ما يقارب من مليون نفس ونيف..
ورغم ذلك، كان حذر سلمة من قطاع الطرق كبيراً فما زال أذاهم مسيطراً على هذه المناطق.. فظل طوال الرحلة بأعصاب مشدودة يخشى من أي هجوم عليه حتى وصل للكوفة واستقر في خان بها.. وبعد أيام قليلة، كان قد استعاد أموال ربيعة التي لدى بعض التجار ذوي الشأن في المدينة.. والذين كان أغلبهم لحسن حظ سلمة أميناً فلم ينكر هذه الأموال ولم يستولي عليها.. ومن ماطل في تسليم الأموال فإن سلمة كان يلجأ لبعض التجار من ذوي السطوة في المدينة لاسترداد ما لديهم.. ورغم بعض المتاعب، فلم يستغرق سلمة أكثر من أسبوع واحد لاسترداد جميع أموال ربيعة قبل أن يتوجه للحِلـّة لإنجاز ما بقي من عمله فيها.. من حسن حظه أن ربيعة قد أفصح له عن أسماء كل التجار والمبالغ التي كانوا يدينون له بها، وإلا ما استطاع معرفة أمواله الكثيرة التي توزعت في عدة مدن قريبة وبعيدة.. وما استطاع استردادها وإعادتها لجمان بدل تركها بعوز وفاقة ما بقي لها من العمر..
تذكر جمان التي تركها في قرية خديجة، فتنهد وهو يتأمل أرجاء مدينة الحِلـّة وحصانه يعبر طرقاتها مع مغيب الشمس.. كم مرة كاد يفقدها منذ بدأت محنتهم بهجوم التتار على قصر ربيعة؟.. كم مرة كاد ذعره يعصف برأسه وهو يرى المأزق الذي وقعوا فيه، ويخشى أن يصيبه مكروه فتضيع جمان للأبد من بين يديه؟.. كم مرة يئس من نجاتهما وكاد يجزم أنهما هالكان لا محالة؟.. لكنه في كل مرة كان يغصب نفسه على التحلى بالأمل ويدفع جمان لعدم الشعور باليأس والاستمرار قدماً.. فهل سيجد الجزاء الذي يتمناه بعد كل ما مرّا به؟.. هل ستقرّ عينه ويهدأ وجيب قلبه حقاً بعد أن يئس من رجاء ذلك؟..
***********************
"جمان.. جمان...."
التفتت جمان نحو الصغيرة جنان التي كانت تقف قربها بنفاذ صبر، فمسحت عرقاً خفيفاً عن جبينها وهي تقول "ما الأمر يا صغيرتي؟"
قالت جنان بضيق ظاهر "أين اختفى سلمة؟ ألم تعديني أنه سيعود؟"
غالبت جمان قلقها وهي تبتسم قائلة "بلى.. سيعود قريباً بإذن الله.."
ضربت جنان الأرض بقدمها وهي تدمدم "أنت تقولين ذلك منذ زمن طويل.. لقد مضى شهر منذ غادر وتركنا هنا وحدنا.. فهل سيعود حقاً؟"
نظرت جمان حولها وهي عاجزة عن مواجهة عيني الفتاة بصراحة، وغمغمت "سيعود بإذن الله يا فتاتي.."
لم يبد التصديق على جنان لكنها غادرت مسرعة تجاه زهراء لتغمرها بأسئلتها بدورها، بينما تأملت جمان الحقل الصغير الذي تعلمت العناية به من المرأة التي آوتهم في بيتها ولم تمانع في إطعامهم طوال فترة غياب سلمة.. فلم تجد جمان بداً من معاونتها في هذا الحقل ما استطاعت لترد بعضاً من جميلها ولئلا تشعر أنها عالة عليها..
رأت في تلك اللحظة جنان تعود إليها راكضة، فقالت عند اقترابها منها "لن أجيب على أي تساؤل آخر يا جنان.. تحلي بالصبر قليلاً بعد.."
لكن جنان لم تتوقف عندها بل تجاوزتها وهي تهتف "سلمة..."
استدارت جمان خلفها بسرعة ودهشة لترى جنان ترتمي على سلمة الذي وقف قريباً من البيت، فتلقفها بسرعة بذراعيه وابتسامة متسعة تشيع على شفتيه.. وقفت جمان بصمت وقد أخذتها المفاجأة، بينما ضمّ سلمة جنان التي عانقته بفرح قائلة "حمداً لله على سلامتك يا سلمة.. لقد اشتقت لك كثيراً.."
وجد أن زهراء قد اقتربت منه بسعادة وعانقته بدورها.. بينما تجمدت جمان في موقعها، وظلت تنظر إليه وهي غير مصدقة أنه عاد حقاً بعد تلك الغيبة.. رغم كل وعوده، إلا أنها نوعاً ما كانت واثقة أنه سيرحل يوماً ولن يلتفت إليها مجدداً.. سيسأم من حمايتها ككل مرة وسيفضل العيش بعيداً عن تحمل مسؤوليتها وهي التي لا تملك سواه لتعتمد عليه.. لذلك، لم تكن تطمئن كلما غادر حتى تهنأ برؤيته من جديد..
خفضت جمان بصرها بانفعال ظاهر وهي تراه يترك الفتاتين ويقترب منها بصمت.. ظلت جمان تنظر أرضاً وهي تفرك يديها بتوتر بينما وقف سلمة قربها صامتاً وهي تشعر بعيناه تحدقان بها.. ثم، بصوته الهادئ عادة، ألقى عليها السلام.. فردت عليه السلام بصوت مرتبك، وعادت للصمت وهي حائرة مما عليها قوله.. ولم يكن سلمة بأقل حيرة منها.. هل يخبرها بمدى شوقه إليها؟.. قد يحرجها ذلك.. وأي كلمات تستطيع أن تترجم شوقه وتنقله إليها كما يشعر به بالضبط؟..
حاول أن يتجاوز ذلك وهو يخبرها بما أنجزه خلال الشهر الماضي، وبالأموال التي تمكن من جمعها من التجار بعد عناء وأودعها لدى أحد تجار الحِلـّة ممن كانوا محل ثقة ربيعة للمتاجرة بهذه الأموال لأجل جمان.. وأخبرها أنه اشترى لها داراً في الحِلـّة ملكاً لها، لتكون مقراً لها عوضاً عن القصر الذي فقدته، خاصة وقد نجت الحِلـّة من هجوم التتار ومنحها هولاكو أماناً أكيداً.. لم تعلق جمان وهي تستمع لما يقوله دون أن تنظر إليه.. ولما فرغ من حديثه ووجدها صامتة لفترة طالت، غمغم سلمة برفق "ألن تقولي (حمداً لله على سلامتك يا سلمة)؟"
غمغمت بارتباك "حمداً لله على سلامتك..."
فابتسم وهو يضيف "ألن تقولي (اشتقت لك يا سلمة)؟"
غلبها الحرج والاحمرار يغزو وجهها وهي تديره جانباً، بينما اتسعت ابتسامة سلمة وهو يهمس "يعلم الله كم اشتقت إليك يا جمان.."
ازداد احمرار وجهها بخجل ظاهر رغم السعادة التي تبدت في عينيها.. ودّت لو تبثه شوقها بدورها، وهي التي ما برحت تفكر فيه في كل يوم غاب عنها.. لكن الكلمات كانت عصيّة عليها وهي تخفض وجهها أكثر مدارية انفعالها.. لاحظا في تلك اللحظة الأعين التي تحدق بهما من موقع قريب، ولما التفتا رأيا زهراء وجنان تراقبانهما بابتسامة متسعة من موقع قريب، فقال سلمة مقطباً متظاهراً بالحنق "ما بالكما أيتها المتلصصتان؟ ألم أطلب منكما العودة للبيت؟"
ضحكت جنان بينما قالت زهراء بابتسامة "ولماذا تحتفظان بهذا الأمر سراً؟.. نحن نعلم بالأمر كله.."
نظرا لها بدهشة، فصاحت جنان بأعلى صوتها "سلمة سيتزوج جمـــــان.. سلمة يحب جـمــــــــان......"
احمر خدا جمان بشدة، بينما تركها سلمة وركض خلف جنان التي صرخت وهي تستدير هاربة، فهربت زهراء بدورها ضاحكة وهما تتراكضان في الحقل الصغير.. أحاطت جمان وجهها الذي غزته الدماء الحارة بيديها، وراقبت سلمة الذي رغم حنقه الظاهر بدا لها سعيداً.. ربما لم يبدُ بهذه السعادة منذ عرفته، وبدا لها هذا غريباً.. بعد كل ما جرى، وبعد كل ما واجهاه، تغمر سلمة السعادة لأمر كهذا؟!.. أحقاً يحبها لهذه الدرجة؟.. أحقاً يتمناها زوجة له؟.. أحقاً يريد تمضية ما بقي من عمره معها ولا يستثقل وجودها معه؟.. ليته كان حقاً كذلك..
***********************
بعد أقل من أسبوع، دلف سلمة بيت خديجة الصغير وهو يبحث ببصره عن جمان في أرجاء البيت الذي لا يحوي إلا غرفتين ويكاد يكون عارياً من الأثاث.. كانت جارة خديجة قد أعدت هذا البيت لسكنى سلمة في هذا الأسبوع، بينما بقيت جمان والفتاتين في بيتها الذي لا يسكنه إلا هي.. والآن، بعد طول انتظار، تم زواج سلمة من جمان بمباركة أهل القرية الصغيرة وبوليمة محدودة ضمّت الجميع بسعادة افتقدوها بعد القلق والذعر الذي ساد مع أخبار التتار المتتالية..
وبعد أن فرغ أهالي القرية من التهام الوليمة والاحتفال بهذه المناسبة، وبعد أن تملص سلمة من جنان بصعوبة وتركها تأوي مع زهراء عند المرأة الطيبة، انطلق من فوره بحثاً عن جمان التي كانت في بيت خديجة بعد أن تركنها النسوة في القرية.. فوجدها قرب نافذة إحدى الغرفتين تتطلع للأفق بصمت ساهمة.. وقف سلمة للحظة يتأملها، وقد ارتدت بعض الملابس التي أحضرها لها من الكوفة بلون كهرماني ولآلئ تزين أطراف يديها وفتحة عنقها، وقد لمّت نساء القرية شعرها وقمن بتعطيره وتزيينه ببعض الأزهار البرية البيضاء.. رغم أن هذه الملابس لم تكن ببهاء وجمال ملابسها السابقة، إلا أن جمان بدت لعيني سلمة أكثر جمالاً من أي وقت مضى..
ابتسم وهو يتذكر انفعالها بعد أن عرض عليها الزواج منه في ذلك اليوم منذ شهر مضى.. في تلك اللحظة، فوجئ بدموعها تسيل على خديها وهي تنظر له محمرة الوجه بصمت مما أفزعه.. رغم أنه كان يتوقع الصدّ منها، لكن أن تسيل دموعها بسبب ذلك؟.. كان واثقاً في تلك اللحظة أنها تكرهه، أنها تبغض استغلاله لضعفها، وإلا ما بكت بهذه الطريقة.. في ذلك الوقت ندم سلمة على ما فعله أشد الندم، فتخلى عن يديها محاولاً بارتباك أن يتراجع عن قوله واعتذر لها بشدة.. لكنها تمسكت بيديه بقوة وخفضت رأسها وقد تهدج صوتها قائلة..
"ما ظننت أن لي عندك أي حبٍ باقٍ بعد كل ما جرى.."
بقدر ما تعجب لقولها ذلك، بقدر ما تداعت مشاعره مع مغزاه.. كيف يساورك الشك بذلك يا جمان؟.. وأنا قد حاولت انتزاع هذا الحب من صدري مرات ومرات دون فائدة.. فكيف يصيبك العجب مما أحمله لك في قلبي؟..
"أحقا لا زلت تحبني؟.."
أتسألين هذا السؤال بعد يا جمان؟.. وكأنك تسألين (أما زلت حياً بعد؟..) وهو سؤال لا يحتاج لجواب..
" أحقا تريدني زوجة لك بعد كل الألم الذي نالك مني؟.."
جاش صدره بانفعالات شتى وهو يتذكر قولها، فتقدم منها بصمت حيث وقفت قرب النافذة.. انتبهت له جمان فالتفتت إليه لتلاحظ تعابير وجهه ونظراته التي أحاطت بها وغمرتها.. فخفضت جمان بصرها بخجل بينما مد سلمة يده ولمس خدها بحنو وهو يتأملها بصمت.. من كان يظن أن تزف ابنة التاجر الثري ربيعة والتي كانت ترفل بالنعيم منذ طفولتها بملابس بسيطة وفي بيت قروي بسيط لا يعرف لمحة من الترف؟.. حاول سلمة وأد مشاعر الذنب التي يشعر بها وهو يرى السعادة في عينيها رغم خجلها العارم..
أما جمان فقد تمالكت ارتباكها بصعوبة وهي تجده يفك شعرها لتنسدل خصلاته على ظهرها وكتفيها فيما تلمّسها بأصابعه بصمت طال.. ثم وجدته يجذبها فجأة ويحيطها بذراعيه ليضمها لصدره وهو يهمس بانفعال "أخيراً، أصبحت زوجتي يا جمان.. أصبحت لي يا جمانتي.."
احمر خدا جمان بشدة وهي تراه يغمرها بعواطفه الجياشة.. ثم تمالكت خجلها وهي تهمس "إن كنت تفعل هذا من باب حمايتي والحرص عليّ، فأنت غير مجبر على هذا يا سلمة"
رفع وجهها نحوه قائلاً بشيء من التأنيب "أتظنين أنني أجبرت على ذلك؟"
نظرت له بحيرة ظاهرة.. فلا تزال بحيرة مما يدعوه لربط نفسه بها بعد كل ما جرى.. ولا تزال تقنع نفسها أن حبه قد ذبل مع معاملة أباها السيئة له في الآونة الأخيرة رغم كل ما بذل لأجلها.. فكيف يمكنها أن تأمل بوجود أي حب لها في قلبه؟..
وجدته يحيط وجهها بيديه قائلاً "ألا تعلمين كم تمنيت أن تكوني لي؟ منذ سنين طوال، ومنذ كنتُ فتىً لا يدرك معنى العبودية، تمنيت أن تبقي معي طوال العمر.. منذ رأيت ابتسامتك الجميلة، ومنذ رأيت دموعك تهطل لأجلي، راودتني رغبة بأن تكوني ملكي.. وكم كانت صدمتي كبيرة عندما أدركت موقعي الحقيقي في عالمك، ومعنى أن أكون عبداً مغرماً بابنة مولاي"
وضمها إليه بقوة كبيرة مضيفاً "حاولت وأد مثل ذلك الحب الذي لا خير منه، لكنه كان عصيّاً على إرادتي.. اكتشفت أنه قد تغلغل في عروقي ويصعب على أيٍّ كان انتزاعه منها.."
خفضت جمان وجهها بمزيج الخجل والسعادة وهو يقول بانفعال "لو تعلمين ما شعرت به عندما بلغني نبأ خطبتك، عندما رأيت ذاك الوضيع يحدثك.. لا تعلمين كم من الغضب اعتمر صدري وأنا أرى ابتسامتك موجهة له.. شعرت أنني قد أتهور وأقتله في أي لحظة.. لم يكن بيدي حيلة، وقد عزمت على مغادرة القصر قبل زواجك.. فلم أكن أطيق البقاء وأنا أراهم يزفونك لرجل آخر"
همست جمان "لكنك لم تفصح لي عن مشاعرك بتاتاً في ذلك الوقت!"
تنهد معلقاً "ولمَ قد أفصح لك عن مشاعر ستغدو عبئاً عليك، وقد تستهجني وجودها وتحتقرينني بسببها؟ كرهت نفسي في أوقات كثيرة بسبب حبي لك، ووددت لو أنني قضيت نحبي لأي سبب.."
ورفع وجهها بأصابعه مضيفاً "لكن عندما أراك كل صباح، وأرى ابتسامتك الجميلة، أحمد الله أنني شهدت يوماً آخر لأملأ عينيّ منك.."
غمغمت جمان بخجل "أنت تبالغ.."
ابتسم سلمة قائلاً "بل أنتِ من يستهين بما أكنه لك.."
نظرت جمان من النافذة هرباً من عينيه اللتين تخجلانها، وتطلعت للأفق الأسود بصمت للحظة وهو يتلمس شعرها الناعم بخصلاته الطويلة، ثم غمغمت "الآن أدركت السبب الذي يدعوك للنظر للأفق دائماً.. لم يكن ذلك حنيناً لموطنك أو لعائلتك التي تركتها خلفك.. بل بحثاً عن أمل جديد وفجرٍ أكثر إشراقاً.. أليس كذلك؟"
ابتسم سلمة وهو يضمها من جديد هامساً "من يدري؟!"
***********************
~ الـنـهـــايــة ~
~ بعيدا عن الخيال (16) ~
بعد سقوط بغداد
بعد السيطرة على بغداد، سار بغاتيمور زوج أخت هولاكو إلى واسط فحاصرها بقواته.. ولما قاومته فتحها بالقوة وقتل الكثيرين من أهلها.. وقد بلغ عدد القتلى أربعين ألفاً.. وبعد ذلك استولى على تستر والبصرة وغيرها من البلاد، وعاد في 12 ربيع الأول من نفس السنة لينضم للقواد الذين تركهم هولاكو في بغداد.. بينما سار أرقيو نويان إلى إربل واستولى عليها.. وهكذا في شهور قليلة سيطر التتار على العراق كاملاً..
عندها.. وجه هولاكو اهتمامه نحو الشام ومصر، وسيّر جيوشه بقيادة كتبغا نحوها ليخضعها بدورها وثقته بالنصر أقوى من أي وقت مضى.......
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً}
***********************
|