كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل الخامس عشر ~
مرت عدة أيام والقتل الوحشي مستمر..
مرت عدة أيام والسلب والنهب مستمر..
مرت عدة أيام والحرق والتدمير مستمر..
لم يتوقف تشويه المدينة ومعالمها لحظة ليلاً أو نهاراً..
ولم يرتدع مرتكبوا تلك الجرائم بسماع توسل أو رؤية دمعة على وجه متغضن..
ولم تردعهم نظرة بريئة ولا شفاه مرتجفة عن فعل ما يشتهونه..
ولأنهم همج، عاشوا على ظهور خيولهم، لم يهتموا بأكثر مما يملأ بطونهم..
ولأنهم أمة لا تقرأ ولا تكتب، فلا يُعرف للتتار حتى تلك اللحظة لغة مكتوبة، لم يعبأ أحدهم بملايين ملايين الكتب التي ضمّتها مكتبة بغداد في قلبها..
ولو كانت بهم أي رغبة بالعلم، لسرقوا الكتب تلك وحملوها لعاصمتهم (قراقورم) للاستفادة منها.. ولينهلوا من علومها التي لا تنضب..
لكنها أمة همجية، عاشت تبغض من يفوقها علماً، وكرهت أن يسود هذا النور الذي سيهذب من همجيتهم قليلاً..
لذلك كان الخيار الوحيد لديهم هو في إحراق تلك المكتبة الضخمة، ورمي الكتب في نهر دجلة ليصطبغ بحبرها ويسْوَدّ حزناً على ذاك العلم الذي بذلت أجيال وأجيال من العلماء أيامها ولياليها في جمعه بين دفتي كتاب..
وبعد أن أحرقت مكتبة بغداد، لم يزل التتار يعيثون الفساد في أحياء المدينة..
ينهبون قصورها، ويحرقون حدائقها..
لم يزل التتار يرتكبون جرائمهم.. والأحياء تردد أصوات ضحكاتهم وشماتتهم بما حلّ بعاصمة الخلافة التي كانت منبراً منيراً بين المدائن..
وأمست خراباً لا هناء لساكن فيه..
ومع طلوع شمس ذلك النهار، بعد أيام وأيام طويلة، تعالى صوت في أحياء مدينة بغداد وطرقاتها وأزقتها..
تعالى النداء في المدينة التي بدت خاوية لا حياة فيها، وتكرر كثيراً حاملاً وعداً عصيّاً على التصديق..
وعد بمنح الأمان لمن بقي حياً من أهل المدينة، إن بقي منهم أحد، وبتراجع قوات التتار خارجة من بغداد لتعسكر في الشمال..
وعد بوقف القتل الهمجي وكل أعمال العنف التي مورست خلال أيام وأيام وأيام بدت لمن عاشها أبدية..
ورغم أن وعداً كهذا عصيٌّ على التصديق بعد كل ما جرى، فإن النفوس كانت تتوق لتصديقه وتتعلق بأهداب الأمل ولو كان زائفاً..
لذلك، مع تردد ذلك النداء الذي استمر فترة طويلة، بدأ أشخاص أشبه بالأشباح يخرجون من مخابئ المدينة وأزقتها..
من خنادقها، ومن قنواتها، ومن كل مخبأ منح أماناً مؤقتاً لنفس خشيت على نفسها قتلاً وحشياً..
ورغم أنها بدت كالأشباح، إلا أنها كانت تتنفس وقلوبها تضطرب في أعماقها وهي تتلفت حولها بحذر وذعر دائمين..
تجابه الضوء الذي غاب عنها أياماً وأياماً بأعين ضيقة محمرة من البكاء..
تتعرف المدينة التي غدت مشوهة سوداء متداعية لا حياة فيها..
وعندما قابلت تلك الأشباح بعضها البعض، كان خوفها مما رأته في تلك الوجوه ربما يفوق خوفها من أولئك التتر الذين تراجعوا بالفعل وتركوا المدينة خراباً..
فما رآه أولئك الأشخاص كانت وجوهاً كالحة مغبرة تنطق بالرعب والذعر العارم، وبحال رثة يصعب على من يراها تصديق أنها لكائن بشري..
أما المدينة المكلومة، فقد احتضنت الجثث في رحمها وسال دمعها قانياً في طرقاتها وأزقتها وهي تنعى كل من فارق الحياة في تلك الأيام..
أربعون يوماً فقط..
أربعون يوماً أزهقت فيها مائة مائة ألف (مليون) نفس أو يزيد..
أربعون يوماً أحرقت فيها المدينة وطمست فيها ملايين الكتب وخسرت فيها البشرية علماً لم يكن تعويضه هيناً أبداً..
أربعون يوماً ما عادت حياة بغداد بعدها كما كانت أبداً..
وما نسيت بغداد اللطمة التي تلقتها على خدها أبداً..
***********************
عندما سمع سلمة ذلك النداء، نهض بسرعة من موقعه في جانب المخبأ وهو يقترب من النافذة الصغيرة وينصت جيداً.. في البدء غالط نفسه، وظن ذلك مجرد صراخ بعض البغداديين الذين وقعوا في قبضة التتار كالعادة.. ثم عندما تبيّن كلمات ذلك النداء، جزم في نفسه أن تلك خدعة.. لا يمكن أن يتم ذلك بهذه البساطة.. هل ينوي التتار حقاً التوقف عن القتل والتخريب الذي استمر أربعون يوماً؟.. هل ينوون إطلاق سراح من بقي من أهل بغداد، لو بقي منهم أحد؟..
لاحظ حركة قربه، فالتفت ليرى جمان تنهض جالسة وقد انتبهت من نومها على صوت النداء.. فهمست "ما الذي يجري هنا؟"
نظر سلمة عبر النافذة الصغيرة دون أن يتمكن من رؤية شيء، ثم قال لها "الجيش التتري يَعِدُ سكان بغداد بمنحهم الأمان ويطلب منهم الخروج.."
اتسعت عينا جمان بدهشة وغير تصديق، فقال سلمة "الأمر مشكوك به.. لذلك عليّ أن أذهب للتأكد من الأمر.. من الخطر خروجنا جميعاً فقد تكون خدعة من التتار.."
أسرعت جمان تقول بقلق "لا تذهب.. ماذا لو أخذوك غيلة؟"
غمغم سلمة "لن تكون هذه هي المرة الأولى التي أخرج فيها.."
هزت رأسها باعتراض وهي تقول "لكني لم أكن مرتاحة لخروجك في كل مرة.. كنت أقضي أوقاتي في ذعر هائل خشية أن يقتلك التتار.. ما الذي سأفعله عندها؟"
صمت سلمة للحظة، ثم قال "مهما جرى لي، فأنتم بحفظ الله ورعايته.. لست أنا من تدينين له بحياتك حتى الآن.."
نهضت واقفة وقالت بشيء من العصبية "ليس هذا ما يهمني.."
نظر لها بصمت ودهشة وهي تضيف بضيق "حقاً أنا أخشى من سقوطي وسقوط الفتاتين في أيدي التتار.. لكني أدرك أن هذا لو حدث فسيكون بأمر الله تعالى، ووجودك عندها لن ينفعني بشيء.. لكن......"
وواجهت نظراته الصامتة وهي تقول بحزن "أظننت أنني لا أهتم بك إلا لحمايتي؟.. أبهذا السوء تراني؟.. أنا أخشى عليك، ولا أريد أن أرى أي أذىً يصيبك.."
أدار سلمة وجهه جانباً بصمت وهي تضيف "فلنصبر قليلاً.. سيتكشف الأمر بالتأكيد.."
فاجأها بقوله "بل يجب أن أذهب.. هذه المرة سأصدق ما يقولونه، لكني سأكون حذراً فلا تخشي شيئاً.. وسأعود بالخبر اليقين.."
نظرت له بقلق شديد، لكن لم تملك إلا أن تقول "حافظ على حياتك أرجوك.."
هز رأسه إيجاباً، ونظر للفتاتين النائمتين على فراش في جانب المخبأ، ثم حمل سيفه الموضوع جانباً، قبل أن يتجه إلى مدخل المخبأ.. ولما ارتقى الدرجات وقبل أن يفتح باب المخبأ نظر خلفه، فرأى جمان ترقبه بنظرات قلقة.. فقال بصوت خافت "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.."
وخرج بسرعة إنما بحذر مغلقاً الباب خلفه.. فخفضت جمان بصرها وهي بضيق شديد تفكر في أمره.. لقد دأب على قول جملته تلك في كل مرة يغادر فيها منذ التجؤوا للسرداب.. وفي كل مرة كانت جمان تعيش أوقاتاً مؤلمة بانتظار عودته والقلق ينهشها، حتى تسمع صوت الباب الخافت وتراه يهبط الدرجات بصمت ووجوم كعادته..
لقد مر عليهم أربعون يوماً كانت من أصعب الأيام التي عاشوها.. بين خوف وقلق وذعر، وضيق في هذا السرداب الصغير.. يصيبهم العطش فلا يجدون ما يشربونه، ويقرصهم الجوع فلا يجدون ما يأكلونه إلا القليل مما وجدوه في صناديق السرداب.. حتى قرر سلمة بعد أيام قليلة أن يغامر بالخروج لمعرفة أحوال المدينة وأملاً بالعثور على ثغرة تبيح لهم الهرب.. لكن بعد فترة من الغياب عاد واجماً وهو يقول إن القتل والتخريب لم يتوقف.. وأن الجثث تزداد تكوّماً ونتانة.. لكنه أفلح بإحضار بعض الماء والطعام لهم مما يكفيهم لأيام قليلة..
وقد تكرر هذا عدة مرات طوال فترة مكثهما في السرداب، لكن ذلك لم يجعلهم أسعد حالاً أبداً.. والآن، بعد تلك الأيام والأسابيع الطويلة، من العصيّ على جمان أن تقتنع أن كل شيء قد انتهى حقاً.. لابد أنها خدعة.. لابد أنهم يكيدون لمن بقي من أهل المدينة..
تباً للتتار.. وتباً لمن عاونهم على المسلمين..
***********************
بعد خروجه من السرداب، لم يلجأ سلمة للخروج من البيت مباشرة، بل توجه للسلم المؤدي للسطح وارتقاه بسرعة ثم خرج للسطح حاملاً سيفه بتوجس وحذر شديدين.. لكن بالفعل كان الهدوء يعمّ المدينة بشكل كامل استغربه بعد الضجيج الذي استمر أربعون يوماً.. فنظر من فوق السطح للطرقات حول البيت والبيوت القريبة بحثاً عن التتار.. لكن الطرقات كانت خالية تماماً من أي أثر لتتري أو لشخص آخر.. أو بالأحرى شبه خالية، مع مرأى بعض البشر الذين غادروا مخابئهم في البيوت والقنوات والآبار المهجورة والذعر واضح على وجوههم..
كان مرأى أولئك البشر أشبه برؤية أشباح لا أحياء.. فقد بدت التعاسة واضحة على الوجوه الكالحة والأجساد ناحلة بادية الضعف والملابس مغبرة بغير عناية.. وكلما تقابل بعضهم ببعض لم يبدُ على أحدهم الرغبة بتبادل الحديث أو التفوه بكلمة.. وما الذي يتحدثون عنه وهذه المأساة بادية أمام أعينهم بقوة وعنف؟..
تأمل سلمة الموقع بحذر شديد لوقت طال، ورأى بعض أهالي المدينة يبدأ في البحث بين أكوام الجثث عن أخ أو أب أو زوج أو ابن لدفنه.. فهمس سلمة لنفسه "لابد أن هذا هو السبب الذي دعا التتار للتراجع.. لو بقيت هذه الجثث على حالها أكثر من ذلك، فسيغدو من الصعوبة بمكان منع انتشار الأمراض في المدينة، وقد تقضي هذه الأمراض على التتار أنفسهم.."
بعد أن اطمأن لخلو الجزء القريب من الحي من أثر للتتار، هبط سلمة من السطح وخرج من البيت دون أن يتخلى عن سلاحه.. تلفت حوله ملاحظاً الجو الخانق في الحيّ، رغم كونهم في بداية النهار الذي يعبق بأنسام لطيفة عادة.. فلفّ أنفه وفمه بعمامته وتطلع حوله وقد رأى أن أحداً لا يعبأ بمن هو حيّ، وجلّ اهتمامهم البحث عمن يعرفونه بين الأموات ونقلهم بعيداً حيث يمكن دفنهم.. لكن كم من الوقت سيستغرق دفن مئات الآلاف هؤلاء؟..
جال سلمة في أرجاء الحي كله فلم يعثر على أثر للتتار إلا ما قل.. ومن كان موجوداً منهم كان يكتفي بالمراقبة والشماتة واضحة على الوجوه.. إنما لم يحاول أحدهم مد يده على شيء من المتاع أو الإساءة لشخص من أهل المدينة.. وبعد جولة استغرقت منه بعض الوقت، تأكد سلمة أن الأمان الذي وعدوا به حقيقي، وإن كان لا يثير في نفوس أهل المدينة أي سعادة أو هناء بال..
عاد سلمة بعد جولته إلى بيت الفتاتين، وبعد تفحص سريع لأرجائه اتجه إلى السرداب ودلفه ليجد جمان تجول فيه بقلق.. ولما رأته تنهدت بشيء من الراحة وقد زال القلق من ملامحها، وبادرته "إذاً؟.. ما الذي وجدته؟"
اقترب منها قائلاً "يبدو أن التتار عازمون فعلاً على ترك المدينة وشأنها منذ اليوم.. وإن كنت أظنهم قد فعلوا ذلك ليقوم أهل المدينة بدفن الموتى بعد أن أنتنت جثثهم.."
بدا الاضطراب على وجه جمان لذكر الموتى، ونظرت نحو الفتاتين اللتين جلستا جانباً بصمت وشيء من التوتر.. فقال سلمة "يمكنكنّ الخروج من السرداب، لكن لا تغادرن البيت مهما كانت الأسباب.. ولا تفتحن الباب لأحد.. سأغيب لمدة من الوقت ثم أعود.."
تساءلت جمان "ما الذي سنفعله بعد الآن؟"
قال سلمة "يجب أن نغادر بغداد.. فالبقاء هنا خطر علينا.. لا أتوقع أن يدوم الأمان طويلاً، ولا أضمن غدر التتار.. ثم إن الجو السيئ قد ينشر الأمراض في المدينة وهذا خطر عظيم لا يمكن إغفاله.."
وغادر بينما نظرت جمان نحو الفتاتين بصمت، ثم قالت لهما مبتسمة شيئاً ما "هيا بنا.. لنغادر هذا المكان.."
اقتربتا منها وزهراء تقول "ألن يهاجمنا التتار بعد الآن؟"
قالت جمان وهي تسير أمامهما نحو المخرج "لا تخشيا شيئاً.. لقد وعدونا بأمان تام.. ثم إن سلمة سيعمل على إخراجنا من المدينة بأسرع ما يمكن"
تساءلت جنان "هل ستأخذانا معكما؟"
تطلعت جمان في وجهيهما ولمحت الرجاء واضحاً في أعينهما، فقالت وهي تمسح على رأس جنان "بالطبع يا صغيرتي.. وهل يمكن أن أتخلى عنكما الآن؟"
قادتهما خارج السرداب حيث وقفوا في صحن البيت يتأملون الخراب الذي حلّ بالمكان بعد أن عبث به التتار عدة مرات.. تلفتت جمان حولها بصمت، ثم التفتت إلى الفتاتين قائلة "هيا بنا.. يجب أن تغتسلا وتستبدلا هذه الثياب التي غدت بالية.."
حاولت جمان أن تلهي تفكير الفتاتين عن المأساة التي تعيشها المدينة.. حتى يتسنى لهم الفرار منها ونسيانها، ويعلم الله إن كان ذلك ممكناً أم مستحيلاً بعد كل ما رأوه وشهدوه..
***********************
بعد مضي أغلب ساعات النهار وهي وحيدة مع الفتاتين، رأت جمان سلمة يعود للبيت بعد طول غياب بصمت تام.. كان واجماً بشكل ظاهر، ولم يتحدث بكلمة بعد أن ألقى عليهم السلام، ثم انزوى في جانب المكان وهو ينظر للمدينة عبر إحدى نوافذ البيت.. اقتربت منه جمان بقلق وسألته "ما بك يا سلمة؟ ما الذي أصابك بهذا الوجوم؟"
لم يجبها سلمة مباشرة، ثم قال بصوت عادي لا انفعال فيه "لقد جُبْتُ أنحاء المدينة بحثاً عن أثر للتتار، فتيقنت أن كل ما قيل عنهم صحيح.. لقد غادر جيش التتار المدينة وانتقل شمالي بغداد هرباً من الجو الملوث فيها.."
قالت جمان بدهشة "أليس هذا خبراً جيداً؟.. إذن يمكننا الرحيل دون أن يعترضنا شيء.."
هز سلمة رأسه نفياً وقال "لقد ترك التتار حامية من الجنود لتؤكد سلطة التتار على المدينة.. وهم يعسكرون خارج بغداد.. أخشى أن يمنعوا أهالي بغداد من مغادرتها حتي يتم دفن القتلى فيها كلهم.."
غمغمت جمان "ألهذا السبب أنت متغير الوجه؟ لا تقلق، لابد أن نعثر على سبيل للمغادرة بإذن الله.."
خفض سلمة وجهه بصمت للحظات وهي تراقبه، ثم قال بخفوت "لقد ذهبت لدفن جثة مولاي وجثة جنيد هذا النهار.."
وصمت دون أن يضيف كلمة أخرى، فشعرت جمان بقبضة قاسية في قلبها وهي تدير وجهها جانباً.. شعرت بالحزن المرير وهي تفكر في بقاء جسد أبيها في العراء لأربعين يوماً دون أن يجد من يصلي عليه ويدفنه بشكل لائق.. نظرت نحو سلمة الذي بدا الحزن والألم واضحاً في ملامحه، فلم تدرِ أتشفق عليه لما رآه في هذا اليوم، أم تكون ممتنة له لأنه وارى جسد أبيها التراب؟..
أدارت وجهها بعيداً مرة أخرى وهي تهمس "شكراً لك يا سلمة.."
وغادرت بصمت نحو غرفة أخرى في البيت تاركة سلمة يزفر وهو ينظر للبيوت القريبة التي غلفها صمت شبه تام.. لشد ما أقساها من أيام تلك التي يمرون بها.. فهل له أن يأمل بأن الفرج قريب؟..
أما جمان، فعندما دخلت إحدى غرف الدار حيث كانت زهراء وجنان، لاحظت الوجوم على وجهيهما وهما صامتتان.. فمسحت جمان ما تعلق بأهدابها من دموع، واقتربت منهما قائلة بابتسامة "ما الأمر يا فتاتيّ العزيزتان.. أأنتما متعبتان؟"
ظلت زهراء واجمة، بينما رفعت جنان رأسها لجمان متسائلة بصوت حزين "ألم يعد أبي بعد؟"
لم تدر بم تجيبها على هذا السؤال، بينما انتهرتها زهراء وهي تقول بشيء من الغلظة "أخبرتك أن تكفي عن هذه الأسئلة.. لابد أن أبي قد لحق بأمي.. فلو نجا من هذه المذبحة لعاد للبيت بحثاً عنا.."
بدأت شفتا جنان ترتجفان وهي على وشك البكاء، فسارعت جمان لاحتضانها وهي تقول "لا تبك يا صغيرتي.. ربما هرب أبوكما من بغداد ولم يستطع العودة.. لا داعي لاستباق الأحداث.."
حاولت جنان ألا تبكي وهي تتمسك بملابس جمان، بينما قالت زهراء بحدة "لا تكذبي عليها كي لا تقضي أيامها بانتظاره.."
نظرت جمان لزهراء مقطبة وقالت "لا تعاملي أختك بهذه القسوة.. لا تزال طفلة.. لم أنت مصرّة على إثارة حزنها بهذه الطريقة؟"
صمتت زهراء بينما بقيت جنان متشبثة بملابس جمان مقاومة البكاء، ثم قالت بهمس "ما الذي سنفعله الآن؟"
قالت جمان مؤكدة "سنهرب من بغداد.. ستبقيان معنا وسنغادر هذه المدينة لموقع أكثر أمناً.."
سمعت سلمة من خلفها يعلق "أأنت واثقة من ذلك؟"
نظرت إليه حيث وقف قرب الباب، فسألها "أتريدين أخذهما معنا حقاً؟.."
قالت جمان "أليس هذا أفضل من تركهما في هذه المدينة وحيدتين؟.."
اقترب سلمة من زهراء التي جلست جانباً فركع قربها متسائلاً "أخبريني يا زهراء.. ألا تملكين عمّاً أو خالاً أو جدّاً في هذه المدينة؟.. أليس لكما أي أقارب البتة في أي مدن أخرى؟"
هزت زهراء رأسها نفياً وقالت "لا.. جدي لأمي توفي منذ سنوات وكان يعيش معنا، ولم يكن لأمي أقارب غيره.. أما أقارب أبي فهم في الشام.. ولا أعرف أين هم بالتحديد ولا في أي مدينة يسكنون.."
نظر سلمة لجمان فرأى الرجاء واضحاً في عينيها.. فلم يملك الاعتراض وهو ينهض قائلاً "إذن سترحلان معنا الليلة.. استعدا فسنرحل فور أن أعود بإذن الله تعالى.."
واستدار ليغادر بصمت، بينما نظرت جمان للفتاتين قائلة "لا تخشيا شيئاً يا فتاتيّ.. كل الأمور ستكون على ما يرام.. فلنرَ إن بقي في هذا البيت شيء تودان أخذه معكما، ولنستعد للرحيل بإذن الله.."
***********************
كان الليل قد أرخى سدوله عندما خرج سلمة من البيت تتبعه جمان والفتاتين.. كان الجو خانقاً أكثر مع سكون الهواء في المدينة، والهدوء يبدو أقوى وأكثر وحشة.. وبنظرة من سلمة نحو جمان والفتاتين، عرف من تغيّر وجوههم مدى الصدمة التي يشعرن بها مع ما يرونه في طرقات المدينة.. ورغم أنه تخيّر أخف الطرقات وأقلها عدداً من الجثث، إلا أنه لم يجد طريقاً خالياً تماماً يمكنهم المرور عبره..
همست جمان وهي تتلفت حولها "أأنت واثق من قدرتنا على الهرب الليلة؟ لا أريد تعريض الفتاتين لأي خطر.."
قال سلمة "لا خطر الآن من التتار فهم قد كفّوا عن التعرض للسكان بأي ضرر.. الخوف الوحيد هو من اعتراضهم لنا أثناء الهرب ومنعنا من ذلك.."
سارت جمان خلفه وهي تجذب الفتاتين معها متسللين بين البيوت مختارين الأزقة الأكثر ظلمة وهدوءاً.. رغم أن هذا كان حرصاً مبالغاً فيه فالمدينة هادئة تماماً وقد خلت من الأعين التي قد تراقب من يتسلل بها أو تهتم بما يجري في أزقتها..
وبعد عدة أحياء، دون أن يعترضهم بشري، عربياً كان أم تترياً، وصل الأربعة إلى موقع قريب من السور.. فاستوقفهم سلمة قائلاً بصوت خافت "انتظروني هنا.. لقد شاهدت عدداً من الخيول قد ربطت في موقع قريب وسط البيوت.. سأطمئن أن الموقع خالٍ قبل أن نستولي على أحدها"
سألته جمان بهمس "لمن هذه الخيول؟"
أجابها "للتتار طبعاً.. لقد استولى التتار على كل الخيول بالمدينة فهي أغلى بالنسبة لهم من الذهب.."
فهمست جمان بقلق "إذن كيف........؟"
قاطعها سلمة "لا تقلقي.."
وابتعد بخطوات خافتة، بينما ربضت جمان بموقعها وهي تدير بصرها فيما حولهم بقلق خشية أن يفاجئهم شخص ما فيحبط هروبهم، وقبعت الفتاتان قربها بصمت وتوتر..
أما سلمة، فقد سار بخطوات خافتة بين البيوت الساكنة سكوناً مقبضاً.. ولما أشرف على تلك الساحة الصغيرة بين البيوت، رأى جمعاً لا يقل عن خمسة عشر خيلاً وقد ربطت في الساحة.. عندما راقب سلمة الوضع في النهار، لم يجد إلا حارساً تترياً واحداً في الموقع.. لكن الآن، فقد رأى اثنان من التتر يجلسان في جانب الموقع يتسامران وقد أشعلا ناراً لتدفئهما.. وغير بعيد عنهما، خارج سور المدينة الذي تهدم في ذلك الموضع كاشفاً عن ثغرة كبيرة فيه، رأى سلمة جماعة من التتر اجتمعوا حول نيرانٍ أشعلوها وعددهم لا يقل عن خمسة عشر تترياً.. ظل سلمة يراقب الوضع مقطباً.. يمكنه أن يباغت التتريين ويتخلص منهما كل على حدة دون صعوبة كبيرة.. لكن أي صوت سيصدر عن ذلك سيجذب أنظار الفرقة القريبة إليه، وهذا يعني فشل خطته وهلاكه الأكيد، خاصة مع ضوء القمر الذي رغم شحوبه يكشف منطقة واسعة حوله..
بقي سلمة في موضعه لوقت طال وهو بانتظار الفرصة الملائمة، عندما سمع صوتاً خافتاً خلفه.. نظر خلفه بتوتر وهو يمسك سيفه بقوة، لكن رأى جمان والفتاتين تقتربان منه.. فهمس سلمة مقطباً "ما الذي دفعكم لتجاهل ما طلبته منكم؟"
همست جمان بقلق عارم "الفتاتان مذعورتان بشدة بعد ابتعادك، وأنا لست أقل منهم ذعراً.."
صمت سلمة وهو يرى الفزع واضحاً في أعين الفتاتين، ثم همس لجمان "ابقي حذرة.. إن أصدرنا صوتاً سيجذب ذلك أنظار الفرقة المرابطة خارج السور، وسيعني ذلك هلاكنا.."
نظرت جمان حيث أشار بقلق، بينما أضاف سلمة "سأحاول القضاء على الجنديين التتريين دون صوت.. وما إن أتخلص من الأخير اقتربي من الحصان الأقرب إليك وامتطيه مع الفتاتين.. أمامنا لحظات قليلة نفرّ فيها قبل أن يعترض الجنود طريقنا.."
لم تعترض جمان وهي تمسك يدي الفتاتين بقوة، بينما عاد سلمة لمراقبة الوضع وهو يدعو الله تعالى أن يتيسر لهم ما أرادوا دون عقبات..
وبعد انتظار طال وتوتر بلغ أشده، رأى سلمة أحد الرجلين يبتعد عن رفيقه لموضع من الساحة ليقضي حاجته.. فأسرع سلمة بين البيوت مستتراً بالظلام والظلال التي تلقيها البيوت على الطرقات، حتى وجد الرجل قريباً منه وهو لاهٍ عنه مطمئن أن المدينة تحت سيطرة جيشه ولن يجرؤ شخص على العصيان.. تسلل سلمة خلفه مستعيضاً بالخنجر الذي احتفظ به سابقاً عن سيفه الأثقل.. وفور أن اقترب من الرجل الذي أولاه ظهره، قفز عليه مكمماً فمه بيد، ثم احتزّ عنقه باليد الأخرى بقوة وسرعة كاتماً أي شهقة أو صوت قد يصدر عن التتري.. ولما سكن جسده وتراخت أعضاؤه، سارع سلمة لجذبه بعيداً عن الأنظار وأخفاه في زقاق مظلم..
ثم نظر للجندي الآخر فوجده غير مدرك لما جرى وهو يجلس في موقعه متثائباً.. وبنظرة لما حوله، أدرك سلمة أن مهاجمة ذلك الجندي بطريقة مباشرة ستجذب له الأنظار.. فاختار طريقة أخرى وهو يدور حول الساحة محاذراً أن يثير الانتباه، ولما وصل لزقاق قريب من موضع الخيول، ربض خلف البيت المواجه للساحة وهو يراقب الوضع للحظات..
ثم، من خلف البيت، حمل حجراً ورماه قرب موضع الخيول جاذباً انتباه التتري الذي رفع وجهه ينظر لذلك الموضع مقطباً وهو يقول شيئاً ما.. ولما عاد سلمة يكرر فعله في موضع قريب، نهض التتري وهو يهتف بشيء ما وكأنه ينادي صاحبه الذي غاب، أو يسأل عن هوية القادم.. ثم تقدم من ذلك الموضع بتحفز وهو يمسك بمقبض سيفه في الغمد المعلق عند وسطه، لكنه لم يستله رغم حذره.. وتقدم من الخيول التي تململت في موقعها، متلفتاً حوله بحثاً عن مصدر الصوت.. ولما مر التتري بسلمة المختبئ وأولاه ظهره، تسلل سلمة نحوه بخطوات خافتة ومد يده نحوه ليكمم فمه.. لكن في اللحظة ذاتها نفرت الفرس القريبة مع اقتراب سلمة منها مصدرة حمحمة مسموعة، فانتبه التتري وهو يستدير بسرعة ملاحظاً وجود سلمة القريب على الفور مع نور القمر الذي يضيء المكان.. جذب التتري سيفه وهو يهم بقول شيء مقطباً، لكن سلمة قفز عليه وألقاه أرضاً وأسرع يكمم فمه.. وفي اللحظة التي رفع فيها التتري سيفه ليدفعه نحو سلمة، كان سلمة يدفع خنجره في عنق خصمه ويغرزه بقوة.. تحشرج صوت التتري ويداه تتراخيان قبل أن يهمد جسده تماماً، فنهض سلمة وهو يجذب خنجره ويمسح الدماء في ثياب القتيل قبل أن يدسه في ملابسه..
تلفت حوله خشية أن يكون التتار في الجانب الآخر من السور قد انتبهوا له، ولما اطمأن أن أمره لم يكشف بعد، اقترب من إحدى الخيول وربت على عنقها للحظات مهدئاً.. ثم أشار لجمان لتقترب من موقعه، فتحركت جمان بحذر وهي تهمس للفتاتين "لا تصدرا صوتاً ولا تُفزعا الحصان"
كان الذعر واضحاً على وجه جنان، فيما حاولت زهراء التجلد وهي تشير لأختها لتلتزم الصمت.. ولما وصلوا لموقع سلمة قال لجمان بخفوت "أسرعي.. يجب أن نغادر قبل أن يفطن أحد لأمرنا"
امتطت جمان الحصان، فسارع سلمة لرفع جنان ووضعها أمام جمان، ثم جذب زهراء لحصان آخر فامتطى ظهره ورفع زهراء لتجلس خلفه قائلاً لها "سيكون ركضنا عنيفاً، فتشبثي جيداً"
أطاعته زهراء وهي تحيط وسطه بذراعيها، بينما قال سلمة لجمان "هيا بنا.. لابد أن تلك الفرقة ستلاحظ وجودنا وقد تعترضنا.. فكوني مستعدة"
أومأت جمان برأسها وهي تقبض على اللجام بتوتر كبير.. ولما لكز سلمة حصانه وانطلق به بسرعة نحو الثغرة في السور، تبعته جمان بذات السرعة وهي تحث الحصان على الركض دون إبطاء.. ولما ارتفع صوت سنابك الحصانين على الأرض المرصوفة، جذب ذلك انتباه أفراد الفرقة المرابطة قرب الثغرة.. ورغم الظلام النسبي، أدرك التتر أن راكبي الحصانين يبغيان الفرار من المدينة بعد أن سرقاهما من مربط الخيول.. فبدأ بعضهم باستلال سيوفهم وهم يحاولون اعتراض طريق الهاربين وصياحهم الغاضب يعلو في الموقع.. فاستل سلمة سيفه بدوره وطوحه نحو أقرب تتري ليصد ضربة السيف لئلا تصيب الحصان فتسقطهما معه..
ثم لكز الحصان ليركض متجاوزاً إياه وهو يغادر الثغرة في السور والنار القريبة منها.. ونظر خلفه بقلق ليطمئن على جمان التي حاولت تجاوز من اعترض طريقها من التتار.. فلكزت الحصان وهي تجذب لجامها بقوة لتدفعه للقفز هرباً ممن حاول اعتراض طريقها، لكن الحصان أبى ذلك وهو يقف ويتراجع بفزع وثلاثة تتريّين يقفون أمامه وهم يصرخون بقوة لإخافته.. توترت جمان وهي تلكز الحصان لتدفعه للركض مبتعداً، لكن فزع الحصان من صراخهم كان شديداً وهو يصهل ويتراجع بتوتر ظاهر..
رأت جمان في تلك اللحظة أحد الثلاثة يتقدم من الحصان رافعاً سيفه، وبدأت جنان بدورها بالصراخ بذعر.. لكن التتري فوجئ بقدمي حصان سلمة ترفسه وترميه أرضاً ثم تطأ جسده الساقط بقوة.. بينما لوح سلمة بسيفه ليضرب تترياً آخر على وجهه ويرميه بعيداً.. حاول التتري الثالث أن ينال من سلمة، لكن سلمة عاجله بركلة من قدمه قبل أن يضربه بسيفه وهو يصيح بجمان "أسرعي بالهرب.."
ورغم ترددها، إلا أن جمان دفعت الحصان الذي هدأ قليلاً للركض مبتعداً متجاوزة بقية التتار الذين كانوا في موقع أبعد قليلاً، ثم نظرت خلفها بقلق لتجد سلمة يدير حصانه ويلكزه وهو يضرب تترياً آخر تقدم منه.. وقبل أن يبتعد بالحصان، فوجئ سلمة بأحد التتر يقف أمامها صارخاً وهو يلوح بسيفه وإن بدا غير راغب بإصابتها.. لكن الفزع اعترى الحصان مع حركاته العنيفة وهو يصهل ويرفع قائمتيه الأماميتين، فسارع سلمة للتشبث بلجامه بقوة وهو يصيح بزهراء "تشبثي جيداً.."
حاولت زهراء التشبث به بكل قواها، إلا أن حركة الحصان العنيفة وهو يقف مرة أخرى على قائمتيه الخلفيتين قد جعلت زهراء تفلت سلمة وتسقط أرضاً وهي تصرخ بألم.. وبينما نهضت بسرعة مبتعدة عن الحصان المذعور، وجدت أحد التتر يقبض ذراعها بقوة ليمنعها من الهرب.. فصاحت زهراء بفزع "اتركني.. أطلق يدي.. سلمة.."
لم يكن سلمة بحاجة لندائها فهو مدرك لحجم الخطر الذي تواجهه الفتاة بأيدي بشر لا تعرف الرحمة طريقها لقلوبهم.. حاول سلمة أن يتغلب على التتري أمامه قبل قدوم الآخرين، لكن التتري كان حذراً بما يكفي وهو يحافظ على مسافة ثابتة بينه وبين سلمة، وفي الآن ذاته يصرخ ويلوح بسيفه مثيراً ذعر الحصان..
ازداد صراخ زهراء وهي تنادي سلمة، بينما رأى جمان تقف غير بعيد وهي مترددة في العودة إليهم وقلقها على زهراء يتزايد.. لكن لم يبد التتري عازماً على الإضرار بها حرصاً منه على منع سلمة وجمان من الهرب..
دار سلمة بحصانه محاولاً العودة لزهراء وإنقاذها وهو يطوّح سيفه نحو أقرب التتر إليه والذي تفادى الضربة بسرعة.. بينما ازداد قلق سلمة مع اقتراب بقية التتر وتضاؤل فرصتهم الوحيدة للهرب، عندما رأى سهماً يخترق صدر التتري الذي يعترض طريقه فيسقطه جانباً بصمت.. تجمد الوضع للحظة في المكان والكل يبحث عن مصدر السهم، فتغلب سلمة على دهشته بسرعة وهو يستدير ويضرب التتري الممسك بزهراء بقوة على وجهه ليمنحه جرحاً غائراً، والتفت لبعض التتار الذين اقتربوا منه فضرب أحدهم في صدره بينما تطايرت السهام في الموقع تحصد التتار واحداً تلو الآخر.. وفي الآن ذاته ركضت زهراء مفزوعة نحو جمان التي أسرعت إليها وجذبتها لترفعها فوق السرج وضمّت جسدها المرتجف بقوة.. وخلال لحظات، كان سلمة قد تنصل ممن بقي من تلك الفرقة ولكز حصانه راكضاً نحو جمان.. فاستدارت جمان بدورها وأسرعت معه مبتعدين قبل أن يلحقهم التتار.. فسمعته يسألها "من أين أتت تلك السهام؟"
أشارت جمان غرباً قرب نهر دجلة، فرأى سلمة رجلاً على خيل يقف بها غير بعيد عن النهر ويصوب سهامه نحو بقية التتار.. لم يتعرفه سلمة، وتعجب من أن يمد لهم يد المساعدة دون أن يعرف هوياتهم.. وبعد أن ابتعدوا بمسافة كافية لاحظوا أن الرجل قد فرّ من الموقع بدوره وهو يتبعهم بشكل حثيث.. ولما اقترب منهم رآه سلمة متلثماً بعمامته، فلم يشك في كونه عربياً مما ظهر من ملامحه ومن ملابسه.. فتلقاه سلمة قائلاً "السلام عليكم.."
أزاح الرجل لثامه قائلاً "وعليكم السلام ورحمة الله.. من أنتم؟ أأنتم من أهل بغداد؟"
كان الرجل يتجاوز الثلاثين من عمره وقد لوحته الشمس وبدا منهكاً من رحلته الطويلة بلا شك، يحمل سيفاً معلقاً في حزامه وقوساً معلقاً على كتفه.. فقال له سلمة "لسنا من أهل بغداد، لكننا حوصرنا فيها مع أهلها.. والآن عزمنا على الهرب من المدينة لولا تلك الفرقة من التتر التي اعترضت طريقنا"
سأله الرجل بقلق "ما الذي جرى في المدينة؟ لم أصدق ما وصلني من أخبار، فكل هذا عصيّ على التصديق"
سأله سلمة بدوره "ومن تكون أنت؟ ظننتك هارب من بغداد أيضاً"
هز الرجل رأسه نفياً وقال "لا.. أنا من الموصل.. بعد أن سمعنا بسقوط بغداد وما تنامى إلينا من مقتل الخليفة، وبعد أن هدأت الحرب قليلاً في هذا الأنحاء، شددت رحالي لبغداد أملاً في الحصول على فرصة لدخولها.. لي أخ وأب فيها، وقد قلقت عليهما وعلى ما آل إليه حالهما"
وأضاف وهو ينظر لسلمة "ولما اقتربت من الأسوار محاولاً تفادي التتار الذين توزعوا في أنحائها، لاحظت ما يجري عند تلك الثغرة من السور.. ولم يكن عسيراً عليّ إدراك الوضع وقد تيقنت أنكم عرب تحاولون الفرار.. فلم أملك أن أمد لكم يد المساعدة"
فقال سلمة "شكراً لك يا أخي.. لقد كدنا نهلك بأيديهم، وأنا واثق أن الله سبحانه وتعالى قد أرسلك لإنقاذنا في تلك اللحظة"
بدأ الرجل يسأل سلمة عن كل ما جرى في المدينة وسلمة يصف له الأيام المؤسية التي شهدتها بغداد.. بينما وقفت جمان بخيلها على مبعدة وهي تضمّ زهراء المرتجفة وتهمس لها "لا تخشي شيئاً يا فتاتي.. لقد جاءتنا النجدة من السماء، واستطعنا الهرب من التتار أخيراً"
لكن زهراء لم تكد تتوقف عن الارتجاف وهي تحبس دموع الفزع بصعوبة، بينما احتضنتها جنان بدورها باكية.. وبعد أن انفصل سلمة عن الرجل الذي فضّل العودة لبغداد ومحاولة دخولها، واقترب من جمان بادرها قائلاً "سأحمل أنا جنان بينما تبقى زهراء عندك.. لا أريد أن نثقل على الحصان فيتعب بسرعة.."
قالت جمان "لكن جنان ليست ثقيلة أبداً.."
لكنها لم تمانع وهي تحمل جنان وتناولها لسلمة الذي أجلسها أمامه، بينما بقيت زهراء جالسة أمام جمان وهي متشبثة بها دون أن يسكن ذعرها، فربت سلمة على رأسها ثم قال لجمان "لننطلق قبل قدوم المزيد منهم.."
انطلقا مسرعين دون إبطاء يقطعون السهول تاركين بغداد خلفهما.. وفور أن بدأ الحصانين بالركض بسرعة حتى أطلقت جمان تنهيدة ارتياح.. حاولت تمالك رجفة شفتيها بقوة وهي تمنع نفسها من النظر خلفها.. لا تريد رؤية بغداد الجريحة.. لا تريد رؤية الموت الذي يظللها.. لا تريد شمّ الدماء التي أغرقتها.. ولا تريد رؤية ما آلت إليه مدينة الخلافة التي كانت كالمنبر المنير وسط المدن.. لكن أطفئ النور وذهب البهاء ولم يبقَ إلا الواقع القاسي المؤلم.. أما سلمة، فقد كان يشعر بشيء من الراحة لمغادرتهم بغداد.. يشعر أنه كان محاصراً، وأصابه يأس شديد في الأيام الماضية حاول نبذه بصعوبة.. أما الآن، فربما تغدو الأمور أفضل حالاً، وربما تصبح أيامهم أقل أسىً من السابق..
سمع جنان تقول بصوت مرتجف "أهذا يعني أننا لن نرَ أبانا أبداً بعد؟"
ربت على رأسها وهو يغمغم "من يدري؟ ربما تمكن من الهرب.. وربما تلتقيان به في يوم ما.."
خفضت جنان وجهها بحزن ظاهر، بينما صمت سلمة وهو مدرك مدى القلق الذي تشعر به الفتاة.. من الصعب أن يجد المرء نفسه في هذا الزمن وقد فقد كل شيء.. تداعى الأمن والسلام وغابت الضحكات من الشفاه.. فكيف يكون الحال مع فتاة صغيرة لم تخبر الحياة بعد؟.. لشد ما يكون هذا قاسياً على الفتاتين ولا شك..
بعد أن دام ركضهما ساعة اطمأنوا فيها أن التتار لا يلحقون بهما، وأنهم قد غدوا في أمان جزئي، خففوا سرعة ركضهم وجمان تلتفت إلى سلمة متسائلة "إلى أين سنذهب الآن بعد أن سقطت بغداد وكل ما حولها بأيدي التتار؟"
نظرت لها زهراء بقلق على ذكر التتار، فربتت جمان على رأسها مطمئنة إياها فيما قال سلمة "الأمر متروك لك يا مولاتي.."
عبست جمان شيئاً ما لما قاله، ثم دفعت حصانه ليتقدم ووقفت به أمام حصان سلمة.. فجذب سلمة اللجام وتوقف بدوره وهو ينظر لوجه جمان العابس بدهشة.. عندها قالت جمان بحزم وحدة "أنت حرٌ يا سلمة.. لم يعد لك مولىً إلا الله تعالى.."
وارتجف صوتها وهي تضيف "وهذه المرة، أنت تعلم أنك لن تعود للعبودية مرة أخرى.."
صمت سلمة دون أن يعلق أو يبتسم.. لم يشعر بسرور لكلماتها تلك كما شعر في المرة الأولى.. فقد وقر في نفسه أن حريته غالية لا يمكنه أن يحصل عليها بسهولة، والوسيلة التي حصل بها عليها مؤلمة جداً.. سمع جمان تضيف "أنت حر في البقاء معي أو في الرحيل متى ما شئت.. لو اخترتَ تركي فلن ألومك أبداً بعد كل ما قدمته لي.. لكن......"
نظر لها سلمة بعتاب واضح، لكنها لم تعلق وهي تكمل "أستحلِفـُكَ بالله يا سلمة.. ألا تعرف أين ذهبت خديجة حقاً؟"
فوجئ سلمة بسؤالها فغمغم "أمازلت تفكرين بها؟"
قالت جمان "بعد كل هذا الوقت، ستكون قد برئت من مرضها ولاشك.. إن كنت تعلم أين هي فخذني إليها أرجوك.. ولن أطلب منك أمراً آخر بعدها.."
قال سلمة "بالفعل أعلم مكانها، وسآخذك إليها فلا أظنك بخطر الآن من الاقتراب منها.."
بدا الارتياح على وجهها وهي تغمغم "ظننت ذلك.."
فأضاف سلمة بتصميم "لكنك لن تتخلصي مني بسهولة يا جمان.. لن أتركك حتى أطمئن أنك في أمان تام.."
ابتسمت جمان شيئاً ما وهي تدير الحصان لتسير وسلمة يتبعها.. ثم سمعها تقول بعد لحظة صمت "اسم (جمان) وقـْعُهُ أجمل على أذنيّ من كلمة (مولاتي).. فلا تنادني بذاك اللقب مرة أخرى.."
نظر لها سلمة بدهشة وصمت، قبل أن يدير وجهه بعيداً لئلا ترى تعابيره.. رغم صغر سنها، وهي التي لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها بكثير، لكنها قادرة على العبث بمشاعره بوضوح بمجرد جملة بسيطة كاللتي قالتها.. أم أنه هو من كان سهلاً ترميه مشاعره الواضحة مع كل همسة منها؟.. كيف له، وهو بهذا العمر، أن يسعده رجاءٌ منها بأن يناديها باسمها؟.. بل إنها لا تعلم بأنه يحاول ألا يبدو انفعاله واضحاً بارتجاف صوته كلما نطق اسمها.. فحتى هذا الاسم يثير لديه انفعالات شتى يكتمها في كل مرة بصعوبة تامة..
لاحظ تلك العينان الواسعتان اللتان تحدقان به من موقع قريب.. فخفض وجهه يحدق بجنان التي تجلس أمامه والتي كانت تنظر له باهتمام وابتسامة تلوح على شفتيها.. لم يملك نفسه أن سألها بشيء من الدهشة "ما بالك تحدقين بي هكذا؟"
اتسعت ابتسامتها وهي تقول بهمس "تبدو لي سعيداً.. ألست كذلك؟"
بدت ابتسامة واضحة على شفتيه وهو يربت على رأسها قبل أن يدير وجهها لتنظر للأمام وهو يغمغم "يا لفضولك يا فتاة..!"
***********************
~ بعيدا عن الخيال (١٥) ~
بعد أربعين يوما من المذابح
بعد أربعين يوماً من القتل والسلب والنهب، خاف هولاكو على جيشه من انتشار الأوبئة نتيجة الجثث المتعفنة (مليون جثة لم تدفن بعد)، فأصدر هولاكو بعض الأوامر لجيشه:
١ـ يخرج الجيش التتري بكامله من بغداد، وينتقل إلى بلد آخر في شمال العراق، لكي لا يصاب الجيش بالأمراض والأوبئة، وتترك حامية تترية صغيرة مكونة من عشرة آلاف جندي حول بغداد، فلم يعد هناك ما يخشى منه في هذه المنطقة..
٢ـ يعلن في بغداد أمان حقيقي، فلا يقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يوماً.. وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم.. وهذا عمل شاق جداً يحتاج إلى فترات طويلة، وإذا لم يتم هذا العمل فقد يتغير الجو- ليس في بغداد فقط - ولكن في كل بلاد العراق والشام، وستنتشر الأمراض القاتلة في كل مكان، ولن تفرق بين مسلم وتتري، ولذلك أراد هولاكو أن يتخلص من هذه الجثث بواسطة المسلمين.. وفعلا خرج المسلمون الذين كانوا يختفون في الخنادق أو في المقابر أو في الآبار المهجورة.. خرجوا وقد تغيرت هيئاتهم، ونحلت أجسادهم، وتبدلت ألوانهم، حتى أنكر بعضهم بعضاً!!.. خرج كل واحد منهم ليفتش في الجثث، وليستخرج من بين التلال المتعفنة ابناً له أو أخاً أو أباً.. وبدأ المسلمون في دفن موتاهم.. ولكن كما توقع هولاكو انتشرت الأوبئة في بغداد بشكل مريع، حتى مات من المسلمين عدد هائل من الأمراض القاتلة!.. وكما يقول ابن كثير رحمه الله “ومن نجا من الطعن، لم ينج من الطاعون!!”..
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني
***********************
|