كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رحلة ضياع
~ الفصل الثاني عشر ~
"هُزِم...؟!"
وقف جنيد متوتراً أمام ربيعة الذي بدا مصعوقاً بينما جلست جمان جانباً بقلق كبير محاولة تمالك خوفها مما تسمعه.. فقال جنيد باضطراب ظاهر "يبدو ذلك يا مولاي.. الجيش الذي يقوده مجاهد الدين أيبك الدفتردار قد هزم أمام التتار وأبيد أغلب جنده، وفر مجاهد الدين أيبك بفرقة صغيرة من الجيش عائداً لبغداد.."
صاح ربيعة "كيف يهزم جيش من المسلمين أمام أولئك الهمج؟.. كيف حدث ذلك بهذه السرعة؟"
زفر جنيد قائلاً "المدينة كلها تتحدث عن هذه المأساة.. لقد انطلق الجيش لقتال جيش هولاكو، لكنه سمع بجيش آخر للتتر قادم من الشمال لتطويق بغداد من الشمال والغرب، فغيّر وجهته لمقابلة ذلك الجيش.. وتقابل الجيشان فعلاً في الأنبار.. لكن قائد التتار كان أذكى من مجاهد الدين، فقد استدرج المسلمين مظهراً الانسحاب حتى وصل بهم لمنطقة مستنقعات قرب الفرات.. وبعد ذلك قطع السدود المقامة على النهر في تلك المنطقة ليُغرق ما وراء جيش المسلمين.. فحاصر التتار جيش المسلمين بإحكام، وبدأوا بإبادة الجيش كاملاً، ولم ينجُ منهم إلا نفر قليل.."
ظل ربيعة ينظر له مصعوقاً وجنيد يقول "هزيمة جيش الخليفة قد يسّرت للتتار التقدم نحو بغداد وتنفيذ مأربه بسهولة تامة.."
وخفض وجهه مضيفاً بأسى "والآن.. الجيش التتري يتقدم من المدينة ويهددها بحصار محكم من جميع الجهات.."
هبّ ربيعة واقفاً وهو يدور في صحن الدار بقلق كبير وجنيد يراقبه.. أما جمان، فقد أحاطت رأسها بيديها مطرقة بصمت وارتجافة وهي تتذكر كل ما شهدته في لقائها بالتتار سابقاً.. وهمست بصوت مرتجف "رباه.. لِمَ عليّ أن أشهد هذا مرة أخرى؟.."
لم يعلق ربيعة وهم يسمعون جلبة خارج البيت، فوقف ربيعة ينظر من النافذة ليرى جمعاً من أهالي الحي ينطلقون بذعر في الطرقات وقد حملوا ما خفّ وزنه وغلا ثمنه.. وقد خرجوا هم وأهليهم وأبنائهم وعبيدهم دون استثناء لا يلوون على شيء.. فخرج جنيد على الفور لاستطلاع الأمر، بينما وقفت جمان بتوتر تراقب أباها بحثاً عن جواب يطمئنها.. لكن القلق العارم في وجهه لم يكن مبشراً بخير.. ولم يلبث جنيد أن عاد إليهم وهو يقول "مولاي.. أهالي بغداد الغربية قد شدّوا الخطى نحو دجلة أملاً في العبور إلى الأسوار الحصينة من بغداد الشرقية.. فمع جيش التتار المشارف لبغداد، يغدو هذا الجزء منها دون حماية حقيقية مع وجود الجيش في بغداد الشرقية لحماية الخليفة وحريمه وقصوره.."
لم يعلق ربيعة وهو يهرع لغرفته، فرأته جمان من فرجة الباب يحمل سيفه ويتناول ما يملكه من مال فيخبئه في ثيابه، ثم عاد إليهم قائلاً بحسم "نحن راحلون أيضاً.."
قال جنيد بقلق "هذا هو الصواب.. لكن مع الجموع التي يمّمت وجهها شطر دجلة سيغدو تنفيذ ذلك صعباً جداً.."
قال ربيعة وهو يجذب جمان من ذراعها "لا مفر لنا من ذلك مهما بذلنا في سبيله.."
قالت جمان بقلق "وأين سلمة؟"
أجاب جنيد الذي يتبعها "لقد خرج منذ الصباح ولم يعد بعد.. ولا أعلم موقعه الآن.."
فقال ربيعة بسرعة "لا نملك الوقت الكافي للبحث عنه وانتظاره.. هو رجل وسيعرف كيف يحمي نفسه جيداً"
لم تعلق جمان وهي متناهبة بين القلق للسبب الذي دعاهم للرحيل بتلك الطريقة الفجة، وبين غياب سلمة الذي سيفاجأ بالبيت الخالي عند عودته حتماً.. فكيف سيهتدي إليهم عندها؟..
أسرعوا للانضمام للحشد الذي خرج من البيوت والأزقة القريبة وهو لا يلوي على شيء.. فجذب ربيعة ابنته معه حارصاً على ألا تضيع في الزحام، وقال لجنيد الذي يسير قريباً منه "أسرع إلى دجلة وابحث لنا عمن ينقلنا للشاطئ الشرقي.. ابذل في سبيل ذلك أي شيء حتى نتمكن من اللجوء لأسوار بغداد الشرقية الآمنة.."
أسرع جنيد لتنفيذ أمره، بينما قالت جمان بقلق "ماذا لو لم يتمكن سلمة من الانتقال للشاطئ الشرقي مثلنا؟ سيبقى هنا مع خطر قدوم التتار"
قال ربيعة مقطباً "لا تهتمي لأمره.. ما يهمني الآن أن نأوي أنا وأنت لموضع آمن.."
غمغمت جمان بشيء من الضيق "ألا تهتم لأمره بعد كل ما فعله لي؟"
لم يعلق ربيعة وهو رافض للتفكير في الأمر.. فلم تملك جمان إلا الصمت وهي ترجو أن يلاقوا سلمة قبل مغادرتهم هذا الجانب من المدينة.. وإلا كيف سيهتدي إليهم بعد أن يغادروا؟ بل كيف سيتمكن من اللحاق بهم مع كل المعمعة التي تحدث في المدينة؟..
عندما وصلت الجموع للضفة الغربية لدجلة، كان الزحام شديداً قربها والكل يحاول استمالة أصحاب القوارب لنقلهم للضفة الشرقية، بينما وجدوا الجسر المؤدي للجهة الشرقية، وهو مكون من سفن صفّت مع بعضها البعض وربطت بسلاسل حديدية، قد تم فكها لمنع التتار القادمين من استغلالها.. نظر ربيعة حوله بتوتر، حتى رأى جنيد يشير له من بين الجموع بيده.. فدفع ربيعة نفسه بين مجموعة من الناس وهو يجذب جمان خلفه حتى اقترب من جنيد الذي قال "أسرعا بركوب هذا القارب قبل أن يملأه العامة.."
نظرا لقارب متوسط عليه رجل أسمر مشدود العضلات بملابس بسيطة، فرمى ربيعة بصرة تحوي عشرات الدنانير الذهبية عند قدميه، وصاح به من فوق الضوضاء في المكان "خذنا إلى الضفة الشرقية الآن، ولك مثلها بعد أن نصل.."
ودفع جمان لتركب القارب بعد أن أبدى الرجل موافقته، وركب خلفها رغم اعتراض العديدين ممن كانوا قريبين محاولين استمالة الرجل لحملهم أيضاً.. وبالفعل بدأ البعض بالركوب معهما والرجل يصيح بهم "توقفوا.. لا تتزاحموا لئلا يغرق القارب.."
وبعد أن امتلأ القارب، بدأ الرجل بدفعه عن الضفة بطرف مجدافه، بينما نظر ربيعة لجنيد الذي وقف على الضفة وصاح به "ما الذي دهاك يا جنيد؟.. لِمَ لمْ تركب معنا؟"
صاح جنيد ليصل صوته لربيعة من بين الضجيج "سأبحث عن سلمة ثم نلحق بكما.. لا يمكنني الرحيل وتركه هنا.."
لم يعلق ربيعة وهو ينظر للضفة المقابلة والتي بدأ الرجل بالتجديف إليها بشيء من البطء مع ثقل القارب.. ثم سمع جمان تهمس "لمَ أنت غير مهتم بما يجري لسلمة أو جنيد؟.. لم أعهدك أنانياً يا أبي.."
لم يعلق ربيعة وهو يوجه بصره نحو الضفة الشرقية وكأنه يستحثها للاقتراب منهم بشكل أسرع.. وقد بدا الوجوم والتوتر واضحاً على الوجوه من حولهما، وصياح الناس المتجمعين على الضفة الغربية لا يزال يصل لسمعهم واضحاً أشد ما يكون..
وفور أن ابتعد القارب، استدار جنيد عائداً للدار التي يملكها مولاه مدافعاً الجموع التي سارت في الاتجاه المعاكس بقوة كادت تطيح به عدة مرات.. وبعد وقت طويل، تمكن من العودة للحي الذي غادروه والذي بدا الآن شبه خالٍ من البشر.. ورأى دار مولاه وبابها مشرع، وفور أن دلفها رأى سلمة واقفاً وسطها يتلفت حوله بحيرة.. فاستدار لما شعر بجنيد خلفه، بينما قال جنيد بتوتر "أين كنت يا رجل؟ ما الذي أخرك عن العودة؟.."
سأله سلمة بقلق عارم "أين مولاي؟ وأين مولاتي؟"
قال جنيد "لا تقلق.. لقد رحلا لبغداد الشرقية قبل قليل مع بقية سكان الحي.."
بدت الراحة على وجهه وهو يغمغم "هذا أفضل قرار.. فلا أشك أن يتمكن الجيش التتري القادم من الغرب من التغلغل في هذا الجزء من المدينة بيسر.. وماذا عنك؟ ما الذي دفعك للعودة؟"
قال جنيد "لم أقدر على الرحيل قبل التأكد من قدومك معي.."
فاقترب منه سلمة مربتاً على كتفه ممتناً، ثم قال "هيا بنا.."
غمغم جنيد "يبدو أن الوضع سيزداد سوءاً منذ الآن.. أتظن أن دار الخلافة ستسقط حقاً؟"
قال سلمة "فليرحمنا الله لو حدث ذلك.. فلا أحد يعلم كم من المآسي ستشهدها هذه المدينة"
وغادرا الدار بسرعة عبر الحي الخالي نحو شاطئ دجلة المزدحم.. بينما حلق الذعر والفزع في السماء مظللاً المدينة التي كانت بالأمس هانئة وادعة..
***********************
فور وصولهم للضفة الشرقية واجتيازهم الأسوار المحيطة بذلك الجزء من المدينة، سار ربيعة جاذباً جمان في طرقات الحي مبتعداً عن الشاطيء وعن الجموع التي توزعت في ذلك الموقع بحثاً لها عن مأوى.. نظرت جمان خلفها للقوارب القادمة من الضفة الغربية أملاً برؤية سلمة، ولما يئست من العثور عليه تنهدت بضيق، ثم التفتت إلى أبيها متسائلة "إلى أين تنوي الذهاب بنا يا أبي؟"
قال ربيعة "هناك صديق لي من كبار تجار بغداد، سنأوي عنده حتى تنجلي هذه الغمة بإذن الله تعالى"
صمتت جمان وهي تتجاوز غصة في حلقها، فمصيبة كهذه التي ظللتهم لن تنجلي بسهولة ويسر كما يأمل الجميع.. وهي تخشى مجرد التفكير في الغد.. بل إن التفكير بالحاضر يورثها ألماً عارماً ويأساً يدفعها لأن تكف عن كل شيء وتلتزم الصمت التام..
بعد سير طويل، وصل الاثنان لقصر متوسط من قصور بغداد الشرقية، والذي كان فخماً مهيباً لم تر مثله في قلعة سنداد من قبل.. وبعد وقت قصير، كان ربيعة يلتقي صاحب القصر التاجر الذي رحّب بربيعة وابنته وأحسن استقبالهما.. ولما أخبره ربيعة برغبته اللجوء لضيافته بعد هربهم من الجزء الغربي من المدينة، قال التاجر بأسف "تلك مصيبة كبيرة حلّت علينا.. ولم تستثني الأقدار أحداً منها أبداً.."
نظر له ربيعة مغمغماً "بالفعل.. يعلم الله ما سيجري لنا بعد الآن.."
نظر التاجر لربيعة لفترة طالت، ثم قال متأسفاً "سامحني يا صاحبي.. وددت استضافتك عندي في الأيام القادمة، لكن الكثير من أقارب زوجتي قد قدموا من بغداد الغربية بدورهم وهم يسكنون معي.. لذلك لا أستطيع إلا أن أبدي أسفي لعجزي عن مساندتك في هذه الغمة"
قال ربيعة بغير تصديق "إنما هي غرفة واحدة سنأوي إليها أنا وابنتي في قصرك الضخم هذا.."
قال التاجر بأسف "ليتني أقدر على ذلك.. لا تنسَ أن أولئك الجموع يلزمهم أموال كثيرة لإطعامهم وتأمين ما يلزمهم لمدة الله وحده يعلمها.. سامحني يا صاحبي.."
نظر له ربيعة بصمت وتقطيبة ظاهرة، ثم نهض قائلاً "إذن اسمح لي.. يجب أن أعثر على مكان آوي إليه مع ابنتي قبل أن يغلبني زحام أهل بغداد.."
وغادر دون أن يودع مضيفه بكلمة، بينما بقي التاجر في مجلسه دون أن يحاول إيقافه أو الاعتذار إليه.. ولما غادر ربيعة المجلس، نادى جمان التي كانت تجلس في جانب من حدائق قصر التاجر.. فاقتربت منه جمان متسائلة بقلق "ما الذي جرى؟ تبدو غاضباً"
غمغم ربيعة بحنق "كان يجب أن أعلم أن هذا البخيل يخشى على أمواله من أن يصرفها على غرباء.. تباً له.. وحجته تلك لا يمكن ابتلاعها.."
وغادر القصر بسرعة وجمان تتبعه بصمت مدركة قلق أبيها من بقائها معه دون بيت يأويان إليه.. وبعد سير قصير، وصلا لأحد خانات المدينة والذي كان متوسط الحجم وإن كان يفوق الخان الذي سكنت فيه جمان في الكوفة والحِلـّة حجماً ورفاهية.. وأمامه رأيا جمعاً من الأهالي يقفون بحثاً عن فرصة للسكنى فيه.. فغمغمت جمان "من الأفضل لنا البحث عن غيره.."
قال ربيعة بحزم "لا.. صاحب هذا الخان مدين لي.. سيسعده حتماً أن يسقط دينه مقابل غرفة من غرفه نأوي إليها.."
لم تعلق جمان وهي تتبعه بصمت.. لقد تعبت من هذا التشرد، وهي لم تشعر بالاستقرار في بغداد رغم طول مكثها فيها.. لم تكد تستقر منذ غادرت قصرهم الهانئ الهادئ عادة، والذي لم يبخل عليه التتار بالتدمير وتحويل هنائه إلى بؤس وشقاء..
***********************
قضت جمان ليلتها مسهدة تتقلب في الفراش الضيق في الغرفة التي منحهم إياها صاحب الخان، والتي شاركتها مع أبيها.. وشعرت أن أباها لا يقل عنها قلقاً فقد بقي معظم تلك الليلة جالساً على فراشه يحدق من النافذة الصغيرة في الغرفة.. ولم يكن هذا مستغرباً مع الذعر المسيطر على المدينة التي تنتظر معجزة من السماء لتنجو من هذه المأساة الوشيكة..
وفي اليوم التالي، خرجت جمان من الغرفة لترى عند خروجها في صحن الخان جماعة من السكان أوت إليه بعد أن عجزوا عن العثور على غرف خاصة بهم، ورأت وسطهم جنيد الذي انطوى على نفسه نائماً رغم برودة المكان.. وقربه رأت سلمة الذي جلس مطرقاً ويده تقبض على سيفه الموضوع قربه بقوة.. سرى شعور قوي بالراحة في نفسها وهي تراه سالماً بعد أن كانت بقلق من اختفائه طوال اليوم السابق.. ولما رآها سلمة نهض وتقدم منها بصمت، فابتدرته جمان "أين كنت البارحة؟ لقد قلقت من بقائك في ذلك الجانب من المدينة وحيداً.. لكن الحمدلله أنك تمكنت من الوصول إلينا.. كيف استدللت على هذا الخان؟"
قال سلمة "لقد جُبْت مع جنيد خانات المدينة التي كان مولاي يتردد عليها سابقاً حتى عثرنا عليكما هنا.. أين مولاي؟"
قالت جمان "إنه نائم الآن.. لقد قضى الليلة الماضية مسهداً يفكر فيما سيجري لنا.."
لم يعلق سلمة وهو يقبض على سلاحه بقوة، فقالت جمان "ما الذي سنفعله الآن يا سلمة؟.. ما فررنا منه قد لحقنا بأسرع مما ظننّا.."
غمغم سلمة مقطباً "فليرحمنا الله تعالى.."
لم تعلق جمان وهي مدركة أن وضعهم قد غدا ميؤساً منه.. ولم يعد لديهم إلا الرجاء والأمل بالله تعالى.. عادت إلى سلمة تسأله "أين ذهبت البارحة؟"
أجابها "ذهبت لأرى أحوال الجيش والحصار حول بغداد.. ولم يكن ما رأيته ساراً أبداً.. التتار غدوا على مشارف بغداد، لكن لا أرى لدى جيش الخليفة أي همّة لصده.. وعدا عن المقاومة الهزيلة التي قام بها الدفتردار الصغير ومُنِيَ فيها بهزيمة ساحقة، فإني لا أرى أي جهد مبذول لصدّ جيش التتار العارم.."
بدا القلق متزايداً في عيني جمان، فندم سلمة لما قاله ولتسببه بالذعر لها.. رغم أن إيهامها بغير ذلك لن يخفف من الواقع شيئاً، إلا أن سلمة لم يطق رؤية القلق في عينيها، فقال "لا تخشي شيئاً يا مولاتي.. كل شيء سيكون على ما يرام"
غمغمت جمان بكدر "كيف يمكنك قول ذلك؟ أتحاول خداعي وأنا أرى انهيار كل شيء بعيني؟"
قال سلمة "{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}"
لم تعترض جمان وهي تخفض وجهها وسلمة يضيف "سأذهب لأرى أحوال المدينة، وهذه المرة أرجو أن أعود بخبر يزيل هذه الغمة بإذن الله.."
وغادر بصمت، بينما عادت جمان للغرفة هامسة "وهل هناك ما يسُرّ في كل ما يجري حولنا؟"
***********************
مضت عدة أيام على المدينة وهي تتوجس مما تسمعه من أخبار وتستنكر ما يبدو عليه الخليفة من هدوء وضعف.. ولم ينقطع سلمة يوماً عن التجوال في الأحياء القريبة منهم ومعرفة ما آل إليه حال المدينة مع الخطر الوشيك.. ورغم الذعر، مع أخبار اقتراب الجيش العارم للتتار، فالأخبار عن استعدادات الخليفة لمواجهة ذلك الجيش لا يكاد شخص يتحدث عنها بتاتاً.. فمن الواضح أن الخليفة كان إما شديد الثقة بمِنْعَة مدينتة وحصانتها، أو كان الذعر قد استولى عليه فلم يعرف كيف يسيّر الجيوش لصدّ ذلك الهجوم..
وبعد تلك الأيام، جلس سلمة في حيّ من الأحياء القريبة من سور المدينة وهو يتنهد وينظر للأسوار العالية المهيبة والتي ترفرف عليها أعلام الخلافة العباسية السوداء.. ثم نظر حوله للحي الهادئ وهو متسائل في نفسه عن مصير مثل هذا الأمان الذي يخيّم على المدينة.. هل ستتغير الأحوال؟.. هل ستغرق المدينة في مآسي جمّة كما غرقت فيها مدن لا تحصى من قبل؟.. هل ستنجو بغداد وتكون سدّاً منيعاً أمام الجيش العارم ذاك؟..
سمع رجلان قريبان يتجادلان عما سيحدث لبغداد، وأحدهما يقول "كان عليه التسليم منذ البداية.. لو لم يعارض الخليفة ما يطلبه منه هولاكو لما وصل حالنا هكذا.."
قال الثاني مستنكراً "كيف تتوقع من الخليفة التسليم بهذه السهولة؟ كيف تريد له أن يتذلل لرجل همجي مثل هولاكو؟.. كان عليه تسيير الجيوش الجرارة وردع هذا المغرور قبل أن يصل بغداد.. لكن لا أدري ما الذي منع الخليفة من ذلك"
أجاب الأول بشيء من السخرية "منعه حرصه الزائد على الدينار والدرهم.. كيف تتوقع منه دفع الأموال للجيوش لتسليحها وتوظيف الجنود فيها؟ كل هذا يكلف أموالاً طائلة، وهذا من أشد الأشياء وقعاً على الخليفة"
زفر الثاني بحسرة بينما قال الأول "ألم ترَ ما آل إليه الجنود في الأيام الأخيرة؟.. لقد رأينا الجنود يستجدون الأموال في الأسواق لفقرهم المدقع، وأغلبهم تم شطبه من ديوان الجند وعاد ليعمل أعمالاً يدوية ليعول عائلته بعد أن امتنع الخليفة عن دفع رواتبهم.. كيف تتوقع من مثل أولئك الجنود الناقمين على الخليفة أن يدافعوا ببسالة عن بغداد؟.."
غمغم الثاني بأسف "هذا هو أكثر ما يحرق الفؤاد.. جيوشنا ضعيفة هزيلة والخليفة يكنز الذهب ويستكثر من الجواري والعبيد.."
أغمض سلمة عينيه وحاول تشتيت تفكيره بما يسمعه عن أفكاره الكئيبة حول مستقبلهم الغامض، عندما لفتت انتباهه شهقة ألم وصرخة صبي مذعور..
فتح سلمة عيناه بعدم فهم وتطلع حوله، فرأى جارية كانت تقف قرب بيت قريب قد سقطت أرضاً وسهم قد انغرز في صدرها، بينما وقف أحد الصبية قربها صارخاً بذعر شاركه فيها بقية الصبية ممن كانوا يلعبون قريباً.. وسرعان ما توقف من كان يسير في هذا الطريق بدهشة متطلعاً لما يجري..
شعر سلمة بتوجس غريب وهو يتلفت حوله بحثاً عن صاحب السهم.. ثم رفع بصره للأفق، نحو سور المدينة القريب.. ولصدمته استطاع أن يرى وابلاً من السهام ينطلق من خلف السور فيعلو في السماء قبل أن تتساقط السهام متفرقة في أجزاء متباعدة من المدينة وبين البيوت تصيب بعضاً من أهلها، بالإضافة لصوت ارتطام قوي تعالى في المكان.. فتأكد لسلمة عندها أن أسوار وأبراج المدينة تتلقى هجوماً ضارياً الآن.. وقف سلمة بعينين متسعتين يراقب ذلك المنظر بينما تعالى صراخ البعض ممن رأى وابل السهام والكل يتراكض بحثاً عن ساتر يحميه من الإصابة.. أما سلمة، فقد تجمد في موقعه وهو يهمس "رباه...... ليس مرة أخرى.."
وجد في تلك اللحظة أن سهماً قد انغرز في الأرض قريباً منه، ولاحظ شيئاً ما معلقاً به.. فنزع السهم وفك الورقة الصغيرة المثبتة فيه، ليجد مكتوباً فيها بلغة عربية واضحة "ليتأكد القضاة والعلماء والشيوخ والشيعة والتجار وكل من لا يحمل سلاحاً ضدنا أننا سنصون حياتهم"
نظر سلمة للورقة باستنكار، ثم غمغم وهو يقبض على الورقة في يده بقوة "تباً لهم.. ومن يصدق وعود جيش غادر لا أمان له؟.."
***********************
بعيداً عن هواجس سلمة وذعر جمان، لو ألقينا نظرة علوية لبغداد وما حولها في ذلك الوقت الحرج، لرأينا أن الجيش التتري بقواته الضخمة التي تقدر بمائتي ألف جندي قد انساب من مختلف الجهات نحو المدينة التي ظنها أهلها حصينة.. وخلال وقت قصير، أحاط ذلك الجيش ببغداد الشرقية بأقسامه المختلفة.. فحاصرها قلب الجيش بقيادة (هولاكو) من الجهة الشرقية، وحاصرها الجناح الأيسر للجيش بقيادة (كتبغا) أفضل قواد هولاكو من الجهة الجنوبية.. وتغلغل الجيش التتري القادم من الأنبار بقيادة الزعيم التتري الكبير (بيجو) في الجزء الغربي من المدينة، بعد أن غادرها معظم أهلها ولجؤوا للجزء الشرقي، ورابط على شواطئ دجلة المقابلة لأسوار المدينة..
ثم فوجئ أهل بغداد في اليوم التالي بما لم يتوقعوه.. فخلال يوم واحد فقط، كان الجيش التتري قد أقام أمام أسوار بغداد أسواراً أخرى من الأتربة، وحفر الخنادق بحيث فصل المدينة عما جاورها.. ومن الأنقاض حول المدينة كوّن الجيش أكواماً عالية اتخذها مقاعد لقاذفات الأحجار المسماة (العرادات) وآلات قذف النفط.. ثم بدأ الهجوم الضاري للتتار على الأسوار الشرقية.. فضربت الأسوار ضرباً شديداً في جميع نقاطها، والأبراج المقامة على هذه الأسوار كانت تبلغ مائة وثلاثة وستين برجاً أهمها برج العجم..
كما أمر هولاكو بأن يقام جسرين من القوارب المسلحة على نهر دجلة شمالي بغداد وجنوبها لمنع هرب أي شخص من بغداد، ولقطع يد العون عنها من الخارج.. كما أمر بإقامة حواجز من الأتربة على شاطئ النهر الغربي ووضع العرادات عليها.. وأيضاً أمر بوضع قوات تشرف على الطرق الموصلة إلى البصرة وعهد إلى القائد بغاتيمور ومعه عشرة آلاف جندي لحراسة الطريق..
ولم يكن هولاكو يبالغ بكل ما فعله، إذ أن الدفتردار الصغير حين رأى الدائرة تضيق على بغداد، والحصار يزداد ويشتد، توجه إلى الخليفة وحاول إقناعه بالفرار عن طريق السفن في قناة دجيل والفرات، حتى يصل إلى البصرة ويقيم في إحدى الجزائر حتى يأتيهم نصر الله..
لكن وزير الخليفة العلقمي بالغ في تحقير تلك الخطة وإبراز أسباب فشلها المحتمل، وبأن هولاكو قد رضي بالتفاوض مع الخليفة وبتسليم المدينة دون قتال.. فلما أخفق الدفتردار الصغير في إقناع الخليفة، عوّل على الهرب وحده مع أتباعه وسار في دجلة نحو الجنوب.. لكن جيش التتار الذي كان محتاطاً لمحاولات مثل هذه، استطاع رده بوابل من الحجارة ومقذوفات النفط المشتعل، واستولى على ثلاثة من القوارب المرافقة له بعد أن أفقده الكثير من أتباعه..
استمر القصف على أسوار بغداد وأبراجها أربعة أيام متتالية من أول صفر إلى الرابع منه سنة ٦٥٦ هجرية.. ولم يكن القصف يهدأ في أي لحظة ليلاً أو نهاراً، فأصبح أهل بغداد وأمسوا على أصوات الضرب القوية والقصف مذعورين يكاد المرء منهم لا يغادر بيته خوفاً وهلعاً.. والألسنة تلهج بدعاء وتضرع نحو الباري أملاً في انكشاف الغمة بمعجزة من المعجزات..
وفي الرابع من صفر بدأت الأسوار الشرقية تنهار.. وتصدع برج العجم أمام الضربات كاشفاً عن ثغرة فيه.. فتشجع الجيش التتري أكثر وهم يهجمون على الثغرة تلك ويقاتلون الحامية التي كانت في ذلك الموقع.. وفي اليوم ذاته، استولت فرقة من الجيش التتري على الثغرة بالقوة..
وفي الجانب الآخر من المدينة، هاجمت القوات المواجهة لباب السلطان السور المواجه لها واستولت عليه بعد قتال ضارٍ.. وبهذا أصبحت الأسوار الشرقية كاملة في أيدي الجيش التتري..
وهكذا تم الحصار الكامل حول بغداد..
وغدت أسوار المدينة على شفير انهيار مخزٍ..
ولم يبق أمام الخليفة إلا سبيل واحد..
التسليم التام دون قيد أو شرط......
***********************
~ بعيدا عن الخيال (١٢) ~
بدء حصار بغداد
بعد حصار بغداد، وبدء المفاوضات بين هولاكو وبين الخليفة العباسي، لجأ هولاكو لإطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، لدفع الخليفة العباسي على سرعة الاستسلام والموافقة على شروط هولاكو.. وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تروع للمرة الأولى تقريبا في تاريخها..
بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة ٦٥٦ هجرية ، واستمر أربعة أيام متصلة.. ولم تكن هناك مقاومة تذكر.. وأحاط التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت “تلعب” بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى “عرفة”، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي “ترقص” بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: “إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم”، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!!..
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني
***********************
|