كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: على جناح تنين..
الفصل العاشر: سهول دموية
كان المنظر الذي شهدته رنيم أمامها يماثل ما قد تراه مرسوماً في لوحات في القصر الملكي أو مطبوعاً في إحدى صفحات الكتب.. الفرسان المقاتلون بسيوفهم اللامعة والجثث التي ارتمت أرضاً والدماء التي لطخت كل شيء.. لكن اللوحات التي كانت تتأملها بشيء من الشغف كانت تختلف تمام الاختلاف عن ذلك الواقع الذي تراه الآن.. فمشهد الجثث بالأطراف المقطوعة والرأس المفصول تبدو أكثر قسوة من رؤيتها مرسومة، وما يزيد الأمر واقعية هو تلك الأصوات العالية والصليل الذي يصمّ الآذان والرائحة الكريهة التي تنبعث من كل شيء أمامها.. ولكل ذلك، فقد قبعت في موقعها تراقب ما يجري ذاهلة ومصدومة بشكل يفوق التصور.. ولم تدرِ أنها كانت تئن بألم لما تراه حتى شعرت بآرجان يخفض رأسها بيده وهو يهمس "كفي عن هذا الانفعال واصمتي.. نحن في وضع حرج جداً.."
سمع صوتاً في تلك اللحظة من خلفه يقول "حسناً.. من هذان الفأران المختبئان هنا؟"
استدار آرجان بسرعة نحو الرجل الذي وقف خلفهما بضحكة ساخرة على وجهه، ومن ملابسه وهيئته بدا لرنيم أنه من الأكاشي بالذات، فطوّح آرجان سيفه نحو الرجل محاولاً التخلص منه والهرب قبل قدوم الآخرين.. تصدى الرجل للضربة بسهولة لكن آرجان عاجله بضربة جانبية ثم أخرى، وفي كل مرة يصد الرجل الضربة بسيفه بشكل سريع.. وفي غفلة من غريمه، استخرج آرجان خنجراً من طيّات ثيابه وطوّح يده اليسرى به في ضربة سريعة للجانب الآخر.. انتبه الرجل للضربة في اللحظة الأخيرة فصدّها بدرعه الخشبي وهو يقول بابتسامة وحشية "رائع.. أنت قادر على الصمود أمامي لدقائق.."
وطوّح درعه بقوة هاتفاً "سنرى كم سيدوم ذلك.."
أصاب الدرع سيف آرجان الذي طار بعيداً بعد أن أفلته لقوة الضربة، بينما أدار سيفه بحركة خاطفة جردت آرجان من خنجره.. عندها اتسعت ابتسامة الرجل وهو يقول بهزء "والآن، أنت عارٍ تماماً.."
تراجع آرجان خطوة مغطياً رنيم بجسده وهو يراقب غريمه، فرآه يرفع السيف عالياً بينما تأهب آرجان لتفادي الضربة والهجوم على الرجل بجسده.. لكن قبل أن يهوي السيف بقوة، فوجئ الإثنان برنيم تقفز أمام آرجان مادة ذراعيها وهي تصيح بصوت مرتجف "لا تفعل هذا.."
تجمدت يد الرجل في الهواء وهو ينظر لرنيم بتعجب لهذه الجرأة المفاجئة، بينما قالت رنيم بإلحاح "لا تقتله أرجوك.. سنعطيك كل ما نملك.. لكن لا تؤذنا.."
هتف آرجان بحنق وهو يزيحها "ما الذي تفعلينه يا حمقاء؟"
لكن رنيم مدت يدها وانتزعت قلادة ذهبية احتفظت بها مما كانت تملكه سابقاً وخبأتها بين طيات ثيابها، فمدت يداً مرتجفة بها للرجل القريب قائلة "هذه قلادة من ذهب خالص.. هي غالية الثمن وستعود عليك بفائدة كبيرة.."
اختطف الرجل القلادة وتأملها بتفحص بينما سمعا صوت رجل آخر يقول من خلفهما "ما الذي يجري هنا يا باكين؟"
لوّح الرجل بيده قائلاً "هذه الفتاة تمتلك بعض الذهب.."
اعترضت رنيم بارتجافة "لا.. هذا كل ما أملك.."
لكن الرجل لم يعبأ بقولها وهو يجذبها خلفه عنوة نحو البقية، بينما دفع سيفه في ظهر آرجان ليجبره على السير أمامه.. وعند تجاوز تلك التلة انتبهت رنيم أن المعركة التي كانت دائرة قد حسمت بشكل سريع وواضح لصالح الأكاشي، بينما تساقطت جثث سكان الجبال أرضاً وبركة من الدماء تسيل من أجسادهم فتشربها الأرض بشراهة.. ووسط جماعة الأكاشي المنتصرة، وقف زعيمهم الضخم بعضلاته الواضحة وشكله الشرس وبالجرح الذي يزين ما ظهر من ذراعه اليمنى.. بلحية شقراء وشعر أشقر يصل لكتفيه وعينين زرقاوين غريبتين في سواد وجهه الواضح..
ولما اقتربا منه قال موجهاً حديثه لآرجان "من أنت يا رجل؟.. لقد صمدت أمام باكين للحظاتٍ معدودة، وهذا يحسب لك بالتأكيد.."
قال آرجان مقطباً وهو يدور ببصره بين البقية "أنا آرجان.. رجل من الهوت.."
رفع الزعيم حاجبيه بدهشة كما تبدّت الدهشة في الرجال القريبين، ثم قال "سمعت أن الهوت لا يجولون في هذه المناطق، ولا يرتحلون إلا على ظهور تنانينهم.. فأين تنينك؟"
قال آرجان بضيق "لست أملك واحداً.."
نظر له الزعيم بصمت لوقت طويل، بينما دارت رنيم ببصرها في الرجال من حولهما بارتباك وقلق شديدين.. لو لم يعجب رد آرجان الزعيم فسيتخلصون منهما في لحظات معدودة.. لا يمكنهما بتاتاً الهرب من بين هؤلاء الرجال الأشداء دون كاجا..
سمعت الزعيم يقول وهو يحدق في وجه آرجان "أنت بارع بما فيه الكفاية لكيلا تستحق القتل.. لكنك لو لم تكن ذكياً كفاية وحاولت الهرب، فلن يختلف مصيرك عن هؤلاء.."
وأشار للجثث المرتمية عند قدميه.. فقال آرجان مقطباً "ما الذي ستفعلونه بنا إذاً؟"
ابتسم الزعيم بجانب فمه قائلاً "سنرى أيها الغريب.."
رأياه يتقدم من جثة قائد سكان الجبال والذي قاتل ببسالة حتى النهاية.. فانحنى عليها واستخرج خنجراً من جراب مربوط حول فخذه، ودون تردد بدأ يقطع جزءاً من ملابس الجثة ليكشف صدرها قبل أن يبدأ بتمزيق الجلد واللحم دون ذرة تردد.. استغرق في عمله لحظات معدودة كانت كافية ليستخرج القلب الدامي من موضعه ويرفعه عالياً.. ودون تردد، وسط صيحات بقية الرجال الحماسية، دفع تلك القطعة الدامية لفمه واقتطع منها قطعة كبيرة بشكل وحشي.. ظل آرجان ينظر لما يجري بصمت ودون انفعال ظاهر رغم صدمته لما يراه.. الكل يعلم أن (الأكاشي) الملقبين (ذوي القرون) بسبب خوذاتهم ذات القرون العالية، هم أكلة لحوم بشر، وإن كان أكلهم لا يتعدى اقتطاع أجزاء من جثث ضحاياهم وأكلها نيئة مؤمنين بأن هذا يمنحهم قوة أكبر ويضمن لهم هزيمة أي عدو يواجههم..
وكأن ما فعله الزعيم كان إشارة البدء، إذ اندفع بقية الرجال نحو الجثث الباقية وبدؤوا يقتطعون أجزاء منها باستمتاع واضح، دون أن يحاول أحدهم انتزاع قلب الجثة تاركين هذه الميزة للزعيم فقط.. ظل آرجان يراقبهم وهو يفكر بالخطوة التالية، ولما حانت منه نظرة إلى رنيم رآها شاحبة شيئاً ما وإن بقي جسدها يرتجف بقوة رغم محاولتها للتماسك.. إنها لم ترَ، ولم تسمع قط، عن قسوة كهذه.. عن وحشية كهذه.. عن متعة يتخذها المرء من تشويه جثة والعبث بأحشائها.. أي حياة تحياها هذه القبائل؟..
انتبه آرجان لجثة شاب لا يكبر رنيم بكثير ترمى عند قدميه، والزعيم يرمي بخنجره عند قدميه بصمت.. نظر آرجان للزعيم الذي وقف بابتسامة جانبية، بينما توقف الرجال عما كانوا يفعلونه وهم يرقبون ما يجري بدهشة ممتزجة بصدمة.. ثم قال الزعيم بوجه تقطر الدماء منه "حسناً.. ألن تشاركنا هذه المتعة؟"
بدت الدهشة على وجه آرجان لهذا الطلب، بينما تقدم أحد رجال الأكاشي قائلاً باعتراض "كيف تفعل ذلك يا كابور؟.. إنه ليس من الأكاشي.. أنت تعلم ما يعنيه فعل ذلك.."
قال كابور بجفاء "أعلم ذلك.. لكن لا شيء يمنعني من ذلك.."
ثم نظر لآرجان قائلاً بابتسامة "هذه فرصة لا يمكن تعويضها بالنسبة لك.. لو نفذت ما أطلبه منك، ستكون منا، وستحظى بحمايتنا طوال بقائك بيننا.. ألن يكون ذلك رائعاً؟"
قال الرجل باستنكار "لماذا تفعل ذلك أيها الزعيم؟"
واجهه كابور قائلاً بصرامة "يحق لي فعل ما أريده.. أم أن لديك اعتراضاً على ذلك يا قالان؟"
ظل المدعو قالان يحدق في وجه كابور باعتراض صريح، لكنه خفض بصره بعدها وتراجع بصمت.. لم يعلق آرجان بكلمة على ما قيل وهو يوازن خياراته.. الرفض معناه إهانة كابور وإعلان رفضه التعاون معهم، وهذا يعني قتله دون هوادة، وقتل رنيم بالتبعية.. فهل يملك إلا القبول؟.. كيف له أن يتنصل من الأمر دون أن يثير غضبهم منه؟..
شعر آرجان بيد رنيم تمسك يده بقوة وكأنها تحاول منعه من ذلك، لكنه جذب يده من يدها وجثا قرب الجثة بهدوء متناولاً الخنجر القريب.. ودون تردد، متجنباً النظر لوجه الفتى، مزق الملابس من العنق حتى السرّة، ثم أحدث شقاً في جسد الفتى قبل أن يستخرج الكبد بحركة سريعة.. شعر بنظرات الرجال من حوله تتركز عليه وهم ينظرون له، ولرنيم الشاحبة، باستمتاع..
سمع آرجان همس رنيم الضعيف وهي تقول برجاء "لا تفعل.."
لكنه تجاهلها للمرة الثانية وهو يدفع الكبد إلى فمه ويقتطع قطعة كبيرة رغم طعم الدماء الصدئ الذي ثار في حلقه.. ثم ابتلع تلك القطعة دون أن يبدو على وجهه أي انفعال، ونظر للزعيم الذي عقد ذراعيه على صدره ينظر له بحدة.. عندها قال كابور بابتسامة جانبية "عليك أن تنهي ما بدأته.. لا تُهِن غريمك برمي بقاياه في التراب.."
نظر آرجان لما بقي من الكبد في يده، والدماء تسيل من بين أصابعه لزجة غزيرة، ثم استمر في قضم قطعٍ منها وبلعها بصمت ودون تذمر.. لا يدري كيف تجمدت مشاعره في تلك اللحظات وهو يرتكب ما لم يفكر يوماً بأنه سيقدم عليه.. لكن عقله الآن لم يكن يعي إلا أمراً واحداً.. عليه مسايرتهم حتى ينجو مع رنيم من هذه الجماعة.. عليه الانتظار بصبر، وألا يستثير غضبهم بأي شكل من الأشكال..
بعد أن انتهى، وقف في موقعه دون أن يمسح الدماء التي تصببت من فكه وغمرت يده وذراعه اليمنى.. لكن بدل أن يغادر كابور أو أحد رجاله، سمعه آرجان يتساءل بلهجة استمتاع واضحة "وماذا عن الفتاة؟.. ألن تنال نصيبها من هذا؟"
ارتجفت رنيم بوضوح دون أن تتحرك من موقعها حيث اختبأت خلف آرجان وكأنها تتمنى أن لا يلاحظ وجودها أحد، فقال آرجان "لكنها فتاة.. فما شأنها بعمل كهذا؟.."
قال كابور مزمجراً "الأكاشي يمارسون الطقوس نفسها، رجالاً ونساءً، دون أن يشذّ أحدهم عن القاعدة.. لا تعاملها بخنوع مادمت ستنضمّ إلينا.."
خفضت رنيم وجهها محاولة تجنب النظر لمن حولها وهي تهمس لنفسها "أريد الرحيل.. أريد الرحيل.."
لكنها أمنية لم تجد حظها من التحقيق، بل وجدت يد آرجان تمتدّ إليها بالخنجر الدامي في دعوة واضحة.. لكنها أبعدت يديها عن الخنجر ودارتهما خلف جسدها وهي تنظر لآرجان بعينين متسعتين.. كان وجهه يحمل الجدية ذاتها التي رأتها عليه في أول يوم التقيا فيه، وأثارت رعبها في ذلك اليوم بلا حدود.. أحقاً يطلب منها القيام بشيء كهذا؟..
ولما طال صمتها، وجدته يسحب الخنجر فيعود للجثة موسّعاً الشق السابق وسط ارتعاب رنيم.. ثم وجدته يستخرج إحدى كليتيه ويمد يده بها نحو فمها.. هزت رنيم رأسها بعنف وهي تتراجع خطوة، لكن مع نظرة كابور غير الراضية، قام آرجان بإمساك رنيم وجذبها نحوه.. ارتعبت رنيم وهي تشعر بقبضة آرجان القاسية على ذراعها وبلزوجة الدماء التي غطت يده تلك وهي تلامس جلدها.. ثم وجدته يمسك فكها بأصابعه القوية ليجبرها على أن تفتح فمها بينما جزّت رنيم أسنانها بقوة محاولة الخلاص من قبضته وهي تغرز أظافرها في ذراعه.. ورغم استماتتها، لم تتمكن رنيم من الخلاص منه وهي مرتعبة لقسوته في التعامل معها.. ولما أفلح بإجبارها على فتح فمها، وضع القطعة الدامية بقوة في فمها وأجبرها على إغلاقه بيده.. لكن الأمر لم يدُم طويلاً ورنيم تقذف ما بفمها وتتقيأ كل ما حوته معدتها أرضاً..
أطلق الرجال من حولهما ضحكات سخرية بينما قال كابور ضاحكاً "كان هذا عرضاً مذهلاً.. يبدو أنكما ثنائي ممتع، ولست نادماً على إبقائي على حياتيكما.."
وابتعد قائلاً لرفاقه "هيا.. سنعود للمخيّم بعد قليل.."
تفرق الرجال في الموقع منهم من يعدّ العدة للرحيل على ظهور الخيول القريبة، ومنهم من يستولي على الأسلحة التي خلفتها الجثث ويقوم بتنظيفها مما لوثها من الدماء..
بقي آرجان جاثياً قرب رنيم التي انتهت من نوبة القيء لتنخرط في نوبة بكاء قوية.. ثم سمع صوت أحد الرجال يقول له من موقع قريب "حسناً فعلت بعدم إثارة غضب كابور.. فهذا سينعكس علينا كلنا بالتأكيد.."
التفت آرجان خلفه ليجد رجلاً من الأكاشي يرمي بقربة ماء إليه، وأضاف "سنذهب بعد قليل للمخيم الذي لا يبعد عنا الكثير.. لكن أشك أن يمنحكما أحد الرجال حصاناً لتركبا عليه.. عليكما أن تسيرا إليه مع البقية على الأقدام.. لكن لا تفكرا للحظة واحدة بالهرب، إذ الرجال مخوّلون بقتلكما في أي لحظة دون إبداء أي سبب مقبول.."
لم يعلق آرجان على هذا، بينما حمل الرجل بضع خناجر وسيوفاً من الأرض مضيفاً بابتسامة "لا أصدق أنك أجبرت الفتاة حقاً على تناول اللحم النيئ.. يبدو أنك عازم على نيل رضى كابور، وهذا يعجبه بكل تأكيد.."
تساءل آرجان مقطباً "ألم يطلب مني ذلك بنفسه؟.. قال إن الأكاشي يفعلون ذلك بالجميع.."
ضحك الرجل معلقاً "بل كان يمزح بطلبه هذا.. رجال الأكاشي لا يجبرون النسوة على فعل هذا، فهن لسن بحاجة للقوة ولا الشجاعة التي نكتسبها بما نفعله.. ربما كان هذا اختباراً لك، وأنت قد نجحت فيه بكل تأكيد.."
ورحل حاملاً غنيمته، بينما قطب آرجان بشدة وهو ينظر لرنيم المنهارة قريباً وهي لا تكاد ترى ما حولها بسبب دموعها الغزيرة.. عندها مسح آرجان على رأسها وهمس "سامحيني يا فتاة.. لكن ثقي أن ذاك الرجل الذي عبث بأعصابك بهذه الصورة هو أول من سأقطع رأسه قبل أن نغادر هذا المكان.."
لكن لم يكن قوله يثير أي هدوء أو سعادة في نفس رنيم التي بكت بحرقة..
*********************
مضت عدة ساعات وآرجان جالس مع رنيم في جانب المخيم وحيدين صامتين دون أن يتبادلا أي حديث.. كان المخيم الذي وصلاه بعد سير طويل ومرهق عبارة عن عشر خيم متفاوتة الأحجام تضمّ تلك الجماعة من الأكاشي لسبب لا يعلمانه.. فهو يخلو من النسوة ومن الأطفال ومن أي ماشية عدا الخيول التي ربطت في جانبه.. وبعد بعض الوقت، أحضر أحد الرجال بعض الطعام والماء لهما قائلاً "كونا شاكرين للزعيم.. لقد أعجب بك حقاً، لذلك قرر أنه لا داعي لأن تقضيا نحبيكما جوعاً.."
لم يعلق آرجان وهو يتناول الطعام، الذي لم يكن يتجاوز بضع أرغفة خبز وقطعة صغيرة من لحم مشوي، وقرّبه من رنيم التي جلست صامتة على صخرة قريبة.. لكنها أشاحت بوجهها وهي تنطوي على نفسها.. بعد وقت قصير قضته باكية، فإنها التزمت الصمت التام وانطوت على نفسها.. لم يكن تصرفها غريباً مع الصدمة بما جرى لها، لكنها كما لاحظها ترفض الحديث معه أو النظر إليه.. بعد أن تجاهلته مرة أخرى، قرّب آرجان الطعام منها قائلاً "أعرف أنك تشعرين بالاشمئزاز، لكن يجب أن تتناولي القليل من الطعام.. أنت لم تذوقي شيئاً يذكر منذ عدة ساعات.."
لم تجبه وهي تدير وجهها بعيداً، فقال بشيء من التقطيب "أتتجاهلينني؟"
ساد الصمت من جديد للحظات بينهما، فوضع آرجان الطعام جانباً وهو يتنهد قبل أن يقول "لا ألومك على ذلك، لكن أريدك أن تتأكدي أنني لم أتعمد القسوة معك.. لم أفعل ما فعلته إلا خوفاً عليك.."
سمعها أخيراً تقول بشيء من الهزء "حقاً؟.."
فقال بحدة "كانوا سيقتلونك بعد أن يقتلوني لو رفضت طلبهم.. أظننتني سعيد بما فعلته؟.. عليك أن تكوني شاكرة لأنك حية حتى هذه اللحظة"
قالت بصوت مرتجف "وما المقابل؟.. لو كان المقابل أن أصبح في مرتبة أقرب للحيوانات، فأنا كنت أفضل الموت.."
علق آرجان مقطباً "هل تتمنين الموت حقاً لسبب كهذا؟"
قالت رنيم بعصبية "لكن ما جرى أكبر من طاقتي على الاحتمال.."
غمغم آرجان وهو يستلقي جانباً "يا لك من جاحدة.. أليس هذا ما سعيتِ إليه بهذه الرحلة؟.."
وبينما حاول الاستغراق في النوم دون أن يمسّ الطعام بدوره، فإن رنيم التزمت الصمت بمرارة.. كان هذا ما سعت إليه بالفعل، لكن لم تكن تهدف للمرور بتجربة قاسية ومؤلمة كهذه.. لم تكن تسعى لرؤية قبح هذه القبائل والمشاركة في أعمالها الوحشية.. من أين لها، وهي حبيسة القصور، أن تدرك أي قسوة يحويه هذا العالم؟..
بعد بعض الصمت، قاطعتهما خطوات اقتربت منهما، ففتح آرجان عينيه ليجد رجلاً يقترب منه قائلاً "الزعيم يريدك حالاً.."
نهض آرجان دون اعتراض، ولما التفت إلى رنيم سمع الرجل يقول "لا داعي لاصطحاب الفتاة، كابور يريدك وحدك.."
قطب آرجان شيئاً ما وهو يغادر بصمت وإن لاحظ نظرات رنيم القلقة التي لاحقته.. رغم أن كابور منحهما أماناً مؤقتاً، لكنه لا يشعر بالراحة لترك رنيم وحيدة وبعيدة عن بصره في هذا المخيم المعادي.. سار آرجان خلف الرجل إلى خيمة كابور التي لا يجهل شخص في المخيم هوية صاحبها.. كانت أكبر خيمة وأكثرها زخرفة، ورجلان من أشد الرجال قوة يحرسان مدخلها.. دخل آرجان الخيمة بدعوة من الرجل، وأزاح الستار الذي غطى المدخل ليهبّ عليه هواء دافئ مقارنة بالبرودة خارجها.. كانت الخيمة واسعة، بنار وسطها تدفئ أصحابها، وفراش في جانبها عبارة عن بضع بطائن من صوف الخراف الوثيرة ووسائد محشوة ومطرزة بأشكال وألوان متزاحمة يغلب عليها اللونان الأحمر والأسود.. ووسط الخيمة وضع كرسي خشبي زانته نقوش عديدة وقرنان ضخمان برزا من جانبي ظهره، وقد تم تبطينه بقماش أحمر زاهي اللون..
ورغم فخامة الخيمة ومحتوياتها، إلا أن الهواء فيها كان قاتماً مثيراً للانقباض ورائحته تثير الغثيان..
رأى آرجان كابور يجلس على الكرسي وفي يده كأس خمر مترعة.. ابتسم كابور فور رؤيته ابتسامة أثارت توجساً في نفس الأخير، ثم قال له "والآن أيها الغريب، ألن تخبرني بالذي جاء بك مع هذه الفتاة لهذه البقاع التي يخشاها الجميع؟"
لم يجب آرجان السؤال إنما علق قائلاً "لماذا تناديني بالغريب بعد أن نفذت كل ما طلبته مني؟.. ألستُ واحداً منكم الآن؟.. اسمي آرجان ولا أحب أن أُنادى بغيره.."
ضحك كابور بسخرية واضحة قبل أن يقول "اعذرني.. فلم أعتد بعد على مناداتك إلا بهذا اللقب.. إذن، يا آرجان، ألن تخبرني بوجهتك الحقيقية؟"
لم يكن آرجان ليخسر شيئاً بإخباره بالحقيقة، فقال "أبحث عن فتاة من الهوت اختفت منذ بضع أسابيع، وعلمت أنها شوهدت في ميناء (مارِج).. لذلك أتيت سعياً للبحث عنها.."
مسّد كابور لحيته الشقراء قائلاً "لكن لمَ ترتحل على الأقدام؟.. ألا تملك تنيناً كما بقية الهوت؟"
بدا شغف واضح في عيني كابور وهو يتحدث عن التنين، فقال آرجان "لقد أصيب بسهم مسموم عند عبورنا الجبال.. وقد مات من فوره بعد أن كاد يسقطنا من علوٍ كبير.."
غمغم كابور "هذه خسارة كبرى.. لطالما تمنيت أن أمتلك حيواناً يتفوق على بقية ما يملكه زعماء القبائل.. لو امتلكت تنيناً، فلا شك أنني أستطيع التغلب على بقية القبائل وأصبح زعيم الأكاشي بلا منازع.."
غمغم آرجان لنفسه (هذا مربط الفرس).. بدا له واضحاً أن كابور مهتم بأمر التنين أكثر من اهتمامه بآرجان أو حتى برنيم.. وربما لهذا السبب حافظ على حياته بعد أن علم هويته.. ولهذا السبب حاول ضمّه للأكاشي رغم اعتراض رجاله، سعياً وراء ولائه حتى لو كان مرغماً..
رآه يميل للأمام قائلاً باهتمام "كيف يمكنكم تطويع تلك التنانين بهذه السهولة؟.. وكيف يمكنني الحصول على أحدها؟.."
لم يكن آرجان يقدر على التنصل من إجابة هذا السؤال، فحاول جعل الأمر يبدو عسيراً وهو يقول "هذا طريق طويل.. عليك في البدء الحصول على بيضة تنين وانتظار أن تفقس ويخرج التنين الصغير منها.. عليك رعايته سنوات حتى يصبح قادراً على الطيران وعلى حملك على ظهره، وعليك تدريبه لكي يصبح مطيعاً لك ووفياً لئلا ينقلب عليك وينتقم منك في يوم من الأيام.. هذا وحده قد يستغرق عدة سنوات.."
لم يكن ما قاله آرجان صحيحاً بشكل كامل، لكنه حاول جهده لتثبيط همّة كابور عن هذا الأمر.. فمط كابور شفتيه وغمغم "لكني لا أملك الصبر الكافي لفعل ذلك.."
شعر آرجان بشيء من الراحة لهذا القول، فلوّح كابور بيده قائلاً "لا بأس.. سنكمل حديثنا في الصباح.. لابد من وسيلة أخرى للحصول على تنين بالغ وتدريبه على طاعتي في أقصر وقت ممكن.."
ونظر لآرجان بحدة قائلاً بابتسامة جانبية "أليس كذلك؟"
لم يكن أمام آرجان مناص من الموافقة على قول كهذا، فأجاب "بالطبع.. سأفعل ما تريده بالطبع.."
اتسعت ابتسامة كابور بينما تبدّت في عينيه نظرة تدلّ على انعدام ثقته بما يسمعه.. لكنه لم يعلق وهو يصرف آرجان الذي خرج بصمت بدوره.. وقد تيقن لحظتها أن بقاءهما مع الأكاشي يتعسر في كل لحظة تمضي..
*********************
ظلت رنيم قلقة وهي تحدق في ظهر آرجان وهو يبتعد خلف ذلك الرجل.. لم يكن وجودهما في العراء في مثل ذلك الوقت بأكثر خطراً من بقائهما في هذا المخيم، حيث الأعين تترصد لهما في كل حين ولحظة، وحيث تخشى اللحظة التي يبتعد فيها آرجان فلا يعود إليها مرة أخرى.. انتفضت لمثل تلك الفكرة وهي تندس في موقعها بحثاً عن بعض الدفء، وتعد اللحظات بانتظار عودة آرجان وعودة الأمان معه.. لقد مرّت بتجربة صادمة بالنسبة لها، ورغم محاولتها التماسك فإنها تشعر بالغثيان من مجرد تذكر طعم الدماء الصدئ ورائحتها على يد آرجان وهو يجبرها على وضع تلك القطعة الدامية في حلقها.. كان شيئاً تودّ لو يمحى من ذاكرتها بكل ما أوتيت من قوة.. وما يسبب لها الألم أكثر تخيّل ما كان عليه الشاب قبل موته ووقوع جسده في يد الأكاشي.. لابد أنه كان مفعماً بالنشاط وبأحلام كثيرة.. لابد أنه كان يتلهف للعودة لعائلته المحبة وربما لزوجة تنتظره بلهفة.. وربما...... أخفت رنيم وجهها بين يديها وهي تشعر بالدموع تتجمع في مآقيها ونفضة عارمة تجتاح جسدها.. إنها تحطم نفسها بهذا التفكير.. وعليها تناسي كل ما شهدته في تلك اللحظات بأي صورة كانت..
انتبهت بعد لحظات لحديث خافت في موقع على شيء من المبعدة، وقد حملته الرياح الخفيفة أبعد مما توقع المتحدثان.. في البدء لم تميّز كلمة من حديثهما الخافت، ثم انتبهت عندما سمعت كلمة (الهوت) تتردد عدة مرات على لسانيهما.. نظرت رنيم من موقعها بحثاً عن المتحدثيْن فلحِظت تلك النار التي اشتعلت في موقع متطرف من المخيم ولم يجلس حولها إلا اثنان، أحدهما هو ذلك الذي قبض عليهما عند لقائهما بالأكاشي في ساحة المعركة تلك..
تلفتت رنيم ملاحظة خلو الموقع من حولها، ثم تقدمت متسللة من ذلك الجزء محاذرة أن يراها الرجلان.. وربضت خلف خيمة قريبة وظلت تستمع لما يقال بصمت.. فسمعت الرجل الذي يدعى باكين يقول "ما الذي سنفعله إذاً؟.."
قال الآخر قالباً كفيه "وما الذي يمكننا فعله حقاً؟.."
اعترض الأول قائلاً "إنه من الهوت.. الهوت يا قالان.. أتفهم معني ذلك؟"
أجاب قالان بضيق "طبعاً أدرك ذلك.. لكن يداي مكتوفتان بوجود كابور.. فهو لن يسمح بحدوث شيء دون أن يكون له نصيب فيه.. وهذا سيجعل موقفنا أضعف بمراحل.."
غمغم باكين "بودّي لو نتمكن من التخلص من كابور.. إنه متجبر وطاغية.. ربما لو كنتَ أنت الزعيم لكانت الأمور أفضل بالنسبة لنا.."
تنهد قالان قائلاً "علينا أن ننتظر ونرى.. من يدري ما سيحدث في الأيام القادمة؟.."
لم تفهم رنيم ما يخططه هؤلاء الإثنان، ولم تفهم ما دخل آرجان بكل هذا.. كل ما لاحظته أن الأكاشي يكنون كراهية لزعيمهم رغم طاعتهم العمياء له، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن علاقة الهوت بزعيمهم التي يسودها الاحترام والطاعة المصحوبة برفق المعاملة.. وشتان بين الإثنين..
سمعت في تلك اللحظة صوت آرجان يناديها بقلق، فتراجعت بسرعة قبل أن يفطن الرجلان لموقعها وعادت لآرجان الذي هتف فور أن رآها "أين كنتِ...؟"
وضعت يدها على فمه ليصمت وهي تلتفت للخلف، ثم همست "لا ترفع صوتك.. هناك بضع رجال من الأكاشي وهم....."
قاطعهما صوت من خلفهما يقول "هل كل شيء على ما يرام؟"
التفتا ليريا قالان يتقدم منهما وهو يحدجهما بنظرة مقطبة، فقال آرجان "لم يحدث شيء.. كنت أبحث عن الفتاة بعد أن غابت عن موقعها وأقلقتني.."
خفضت رنيم بصرها وهي تشعر بالارتباك والعرق البارد يسيل على ظهرها، ثم قالت "لقد كنت أبحث عنك.. استبطأت عودتك وذهبت للاطمئنان عليك.."
وضغطت بيدها على ذراع آرجان لكي لا يطيل الحديث في هذا الموضوع، بينما قال قالان "يستحسن أن تخفضا أصواتكما في المخيم.. كابور لا يحب الضجيج في وقت راحته، والرجال كذلك.. لو غضب كابور منكما، فلن يمنع الرجال عنكما أبداً.."
هز آرجان رأسه موافقاً بصمت، فابتعد قالان تاركاً رنيم خافضة البصر وآرجان يراقبه.. ولما أصبحا وحيدين، أمسك كتفي رنيم سائلاً بقلق "ما الذي جرى يا رنيم؟.. هل فعل ذلك الرجل بك شيئاً؟"
هزت رنيم رأسها نفياً وقالت بصوت خافت "لا.. لكني سمعت طرفاً من محادثة بين هذا الرجل ورجل آخر.. كانا يتحدثان عنك، لكني لم أفهم شيئاً مما قالاه.."
زفر آرجان معلقاً "لقد أفزعتني بتصرفاتك تلك.."
وجلس جانباً بتعب بينما جلست رنيم قربه متسائلة "ألا يقلقك ما جرى؟"
لوح بيده قائلاً "كما أخبرتك، الشعوب الأخرى تكره الهوت.. لابد أن هذين الاثنين يكرهان وجودي ويتمنيا الخلاص مني.. لكن لا يقدران على عصيان أوامر زعيمهم.."
صمتت رنيم بغير اقتناع محاولة إيجاد تفسير آخر لتلك المحادثة، ولما عجزت عن ذلك التفتت إلى آرجان قائلة بتوسل "لنهرب هذه الليلة يا آرجان.."
قطب آرجان قائلاً "كيف؟.."
قالت وهي تتلفت حولها "لنأخذ أحد خيولهم ونهرب به لأقرب مدينة.."
غمغم آرجان بغير اقتناع "أتشجعينني على السرقة؟"
اعترضت قائلة "لا.. سنطلق الحصان عند اقترابنا من المدينة، وهو سيعود لصاحبه بعدها بالتأكيد.. لكن لا نضمن سلامتنا في هذا المكان أبداً مهما حاول زعيمهم إقناعنا بذلك.."
هز آرجان رأسه قائلاً "ليس أبغض للأكاشي من هزيمتهم إلا سرقة خيولهم.. سنجد جحافلهم تتبعنا وسيقتلوننا بلا شفقة ولا رحمة، وهم لا يعرفون الرحمة أصلاً.."
قالت بصوت ينتفض "إذن هل نستسلم لوضعنا هذا؟"
زفر قائلاً "لو أنك لم تتسرعي في منح ذلك الرجل قلادتك الذهبية، لتمكنا من شراء أحد الأحصنة بها من الأكاشي.. لكنك ضيّعت فرصتنا الأخيرة.."
خفضت رنيم بصرها وقالت بشيء من المرارة لانتقاده الصريح "كان همّي أن أنقذ حياتك.."
شعر آرجان أنه قسى في انتقاده لها، فاعتدل قائلاً وهو يربت على رأسها "أدرك ذلك.. وأنا مدين لك بحياتي.."
ثم قال متطلعاً للسماء السوداء "كل ما يمكننا فعله الآن هو انتظار عودة كاجا ليخرجنا من هذا الجحيم.."
تساءلت رنيم بدهشة "كيف تثق أنه سيعود؟.. ربما قتله السمّ حقاً.."
هز رأسه قائلاً "لا.. لو كان سيموت لما بذل جهداً للطيران بحثاً عن علاج.. لابد أنه سيعود عندما يصبح قادراً على الطيران من جديد.."
تمتمت رنيم وهي تسند رأسها لذراعيها "أتمنى ذلك.. فلقد اشتقت إليه حقاً.."
لم يعلق آرجان وهو يستلقي بحثاً عن بعض الراحة.. رغم أن قلقه وتوتره من البقاء في معسكر الأكاشي، ووجود رنيم معه بالذات، يجعل النعاس يهرب من عينيه بمثابرة كبيرة.. وزاده حديث كابور عن التنين توتراً وتوجساً كبيراً..
*********************
في اليوم التالي، وقف آرجان في جانب المخيّم يدور ببصره في رجال الأكاشي من حوله.. كان يبحث عن وسيلة لمغادرة المخيّم دون أن يثير غضب البقية ودون أن يدفعهم لملاحقته بلا هوادة.. جال ببصره في المكان وهو يفكر بالوسيلة الأنسب لذلك دون فائدة، حتى رأى قالان يجلس منفرداً في أحد المواقع منشغلاً بشحذ سيفه.. وبعد تردد، تقدم آرجان منه وهو يفكر في وسيلة للاستفادة منه.. ربما شعر أن قالان لا يبغضه حقاً بعد أن وجّه له النصيحة في الليلة السابقة، وربما يمكنه الحصول على معلومات أكثر ببعض الحديث..
اقترب من قالان وقال "هل تريد بعض المساعدة؟"
نظر له قالان قبل أن يقول بسخرية "الأكاشي لا يحتاجون عوناً للعناية بأسلحتهم"
وطوّح سيفه في الهواء مضيفاً "ولا في قتل أعدائهم.."
صمت آرجان دون تعليق وهو يراقب الرجل في عمله.. ثم تساءل "أتعلم ما ينويه زعيمكم لنا؟.. هل ينوي إطلاق سراحنا في وقت ما؟"
حدجه قالان بنظرة صامتة، فأضاف آرجان "لقد أتيت لسهول الأكاشي بحثاً عن أختي التي اختطفت.. وعليّ الرحيل بأسرع ما يمكنني للبحث عنها في (مارِج).. وجودي هنا سيعطلني كثيراً.."
قال قالان بعدم اهتمام "لا يمكنك إجبار الزعيم على إطلاق سراحك.. ولا يمكنك الهرب طبعاً لأن الرجال سيمزقونك.."
زفر آرجان معلقاً "أدرك ذلك.."
ثم تساءل بشيء من الاهتمام "أما من وسيلة للحصول على موافقة الزعيم على رحيلنا؟.. ولشراء حصان من أحد الرجال هنا فالترحال على الأقدام سيكون صعباً؟.."
قال قالان بسرعة "شراء حصان مستحيل تماماً.. فهي أغلى من أرواحنا في سهول الأكاشي.. ولا يمكننا بيعها ولا مقايضتها بأي شكل من الأشكال.. أما الحصول على موافقة الزعيم فهذا أمر آخر، لكنه ليس أقل صعوبة.."
ثم أضاف ضاحكاً "في الواقع، قتل الزعيم والتهام قلبه، وبالتالي الوصول لزعامة هذه الجماعة من الأكاشي سيكون أسهل بالنسبة لك من الحصول على موافقة الزعيم على إطلاقكما دون قيد أو شرط.."
قال آرجان بضيق"أهذا وقت المزاح؟.."
ابتسم قالان وهو يتأمل سيفه معلقاً "لا تتحلّ بالأمل كثيراً هنا يا رجل.. اخضع لما يقوله لك الزعيم بصمت ودون اعتراض.. فهذا خير لك من أن تفقد حياتك بكل وحشية.."
نظر له آرجان بتقطيب، ثم غادر بصمت.. حديثه مع قالان لم يسهّل له الأمور بل جعلها أسوأ بالتأكيد.. وبينما دار آرجان ببصره في السماء ببعض الأمل، فإنه أدرك أن هربهما من جماعة الأكاشي لن تصبح أكثر سهولة ويسراً في أي يوم يمضي..
*********************
مضى يومان منذ تلك المحادثة انشغل فيهما الزعيم بإرسال رجاله لملاحقة بضع فلولٍ من أعدائهم والتخلص منهم، فظن آرجان أن ذلك الحديث عن التنين قد مُحي من ذاكرة كابور، وهذا بعث في نفسه شيئاً من الراحة.. وبينما بقيت رنيم منطوية في جانب المخيم محاولة ألا تلفت الانتباه إليها وهي تشعر بجلدها يقشعرّ من النظرات التي يلقيها عليها الأكاشي كلما عبروا قريباً منها.. فإن بصر آرجان بقي معلقاً في السماء على أمل أن يرى رفيقه الدائم يقترب منهما مرفرفاً بجناحيه العريضين.. لكن السماء الصافية والتي تخلو من أي سحب عابرة قد ظلت كما هي دون تغيير..
لذلك كانت دهشة آرجان عظيمة عندما استدعاه كابور في نهاية اليوم الثاني، قبل مغيب الشمس بقليل.. نظر آرجان لرنيم التي جلست في موقعها تراقبه بقلق، فقال لها "سأعود سريعاً.. فلا تقلقي.."
لكن هذا كان أبعد من أن يسبب لها أي هدوء أو راحة بال.. توجه آرجان لموقع كابور الذي جلس على كرسي وضع وسط الساحة حيث يلتقي برجاله ويعرف آخر أخبار مطارداتهم، وحوله عدد من رجاله لا يتجاوز عشرة رجال.. ولما رأى آرجان قال له بابتسامة "أتمنى أن تكون مستمتعاً ببقائك في مخيمنا هذا.. وأن تكون شاكراً لي حمايتك وتغذيتك طوال اليومين السابقين.."
لم يعلق آرجان على قوله بعد أن قضى اليومين السابقين نائماً في العراء برفقة رنيم دون أن يجرؤ أحدهما على إشعال النار للتدفئة، ومع الوجبات التي يرسلها لهما كابور والتي لا تكاد تكفي إلا شخصاً واحداً.. فأضاف كابور بعد أن لاحظ صمت آرجان "وأتمنى، بعد كل هذا، ألا تكون قد نسيت وعدك لي.."
غمغم آرجان بتقطيبة "أتعني......"
هز كابور رأسه إيجاباً وقال "بلى.. أنت تدرك ما أعنيه.. وهذه هي فرصتك لإثبات حسن نيتك.."
وركل جراباً جلدياً كان عند قدميه مضيفاً "هذا الجراب يحوي قربة ماء وبعض الطعام اللازم لرحلتك هذه.. وسأمنحك فوق كل هذا حصاناً.. سأمنحك عدة أيام للذهاب والعودة بما طلبته، وسيرافقك سيشاك ليتأكد أنك ستعود بالفعل.."
اقترب آرجان من موقع كابور وتناول الجراب وهو يفكر بصمت.. هل يطلقهما الأكاشي حقاً بعد كل ذلك الوقت؟.. هل تغلّب طمع الزعيم على حسن تفكيره بحيث يسمح له بالرحيل برفقة رجل واحد؟.. لن يكون التخلص من ذلك الرجل صعباً حتى لو كان من الأكاشي.. هذه فرصة عليه ألا يفلتها أبداً..
سمع كابور يضيف وهو يستند على الكرسي بذراعه "طبعاً، من الجليّ أن الفتاة ستبقى هنا حتى عودتك.."
نظر له آرجان بدهشة وصدمة، بينما رفع كابور إصبعه في إشارة لأحد رجاله.. ولم يلبث أحدهم أن انطلق نحو جانب المخيّم ليعود بعد قليل برنيم المذعورة وهي تحاول الإفلات صائحة "أطلقني.. ما الذي تبغيه مني؟"
قطب آرجان وهو يقول للزعيم "لا يمكنني ترك الفتاة هنا.. كيف أضمن أنكم لن تمسّوها بأذى؟"
قال كابور بابتسامة "كلمتي هي الضمان الوحيد.. اذهب وعُد بأسرع ما يمكنك إن كنت تخشى عليها حقاً.."
نظر آرجان لرنيم المرتعبة والتي قالت بصوت يرتجف "سترحل؟.. إلى أين؟.. هل ستتركني؟.."
التزم الصمت وهو يفكر في عواقب رفضه ذلك الأمر، بينما فهمت رنيم من صمته أنه عازم على الرحيل حقاً.. فصاحت بانتفاضة "لا تفعل.. لا تتركني يا آرجان.. أرجوك.."
لوى الرجل الذي يمسك بها ذراعها وهو يقول "لا تتعبي نفسك بهذا الصياح.."
فقال آرجان بغضب "أطلق الفتاة يا هذا.."
لم يستجب له الرجل بينما أسقط في يد آرجان في تلك اللحظة.. فأين المخرج من هذه الورطة؟.. حتى لو حاول اختطاف رنيم من بين أيديهم، فهو يعلم، كما يعلم الجميع في هذه السهول، أن الأكاشي هم الأسرع والأمهر في امتطاء الخيول.. كيف يمكنه أن يهرب منهم بحصان يخصهم دون أن يقع في قبضتهم من جديد ودون أن يقع طائلة أفعاله التي تنطوي على إهانة عميقة لزعيمهم؟.. وأي موضع يمكن أن يؤويهم وهذه السهول ملكٌ لهم ولقبائل أخرى مماثلة من الأكاشي والتي ستكون عوناً عليهم فور أن تدرك هويتهم؟..
سمع رنيم تصيح بارتعاب "آرجان.. لا ترحل.."
ضحك كابور وهو يقول "لا داعي لهذا الغضب يا آرجان.. مادام الأمر صادراً مني، فأنت لا تملك إلا التسليم التام.."
ظل آرجان في موقعه وحديث قالان في ذلك اليوم يعود إليه واضحاً بكل تفاصيله، ثم استدار إلى كابور من موقعه القريب مغمغماً "من قال ذلك؟"
وقبل أن يدرك كابور ما يجري، كان آرجان قد استلّ خنجره المخفيّ في ثيابه والذي لا يتخلى عنه بتاتاً.. فهجم على كابور الذي بوغت بما جرى وأغمد الخنجر في صدره، لكن كابور تصرف بسرعة وهو يقبض على عنق آرجان بقوة ويعتصره بيديه.. لكن آرجان دفع الخنجر عميقاً في صدر غريمه وأداره بقوة شهق لها كابور قبل أن يسقط جثة هامدة من على كرسيّه وهو متشبث بآرجان بشدة.. لم يحاول آرجان التنصل من قبضة كابور التي تيبست على ملابسه بل انشغل بجذب خنجره قبل أن يعود به لجسد كابور فيحدث في صدره شقاً بسرعة وسط النظرات الذاهلة لمن انتبه له من الرجال..
وفور أن تمالك بعضهم نفسه، استلّ كل منهم سلاحه متقدمين من آرجان وأحدهم يقول بغضب "أيها الخائن.."
لكن آرجان كان قد رفع يده ليرى الرجال بوضوح قلب زعيمهم المقتول يستقر في راحة يده.. ثم سرعان ما دفع آرجان القطعة إلى فمه وقضم منها قضمة كبيرة تبعها بأخرى حتى انتهى من التهام القلب كاملاً في وقت قصير.. عندها وقف سانداً قدمه على صدر الجثة الهامدة صائحاً بالرجال "حسب تقاليد الأكاشي التي تعرفونها تمام المعرفة، أنا زعيمكم الآن.. ولا يحق لأحدكم الجدال في الأمر.."
تجمد الموقف في المخيم، فصاح آرجان موجهاً حديثه للرجل الممسك برنيم "اترك الفتاة الآن.."
تخلى الرجل عنها بتلقائية، بينما وقفت رنيم بصدمة لمرأى آرجان الذي لطخ الدم وجهه وملابسه وجزءاً كبيراً من ذراعيه.. لكن بإشارة من رأسه، أسرعت إليه متغاضية عن ذلك حتى اختبأت خلفه متشبثة به بقوة..
أما بقية الرجال، فقد تجمدوا وهم يتطلعون لآرجان الذي أمسك خنجره بقوة قائلاً "حسب القوانين، عليكم إطاعتي دون جدال.. أنا الزعيم، وما أقوله هو القانون.."
قال أحد الرجال بسخط "لكنك لست من الأكاشي.."
قال آرجان مقطباً "بل أصبحت منكم قبل وقت قصير.. أم أنكم نسيتم ذلك؟"
علق رجل آخر وهو يمسك سيفه بقوة "لكننا لم نقبلك بيننا قط.. ذلك قرار اتخذه كابور مخالفاً به كل قوانين الأكاشي.. يمكننا أن نقضي عليك في لحظة واحدة فنحن أكثر منك قوة.."
قال آرجان دون أن يطرف لهذا التهديد "إذن ستجلبون لأنفسكم العار لأنكم تخلصتم من زعيمكم بهذه الوسيلة التي لا يستخدمها إلا جبان رعديد.."
تجمد الرجال في مواقعهم متبادلين النظرات، فقد يقبل الأكاشي الموت لكنه لا يقبل الفضيحة ولا العار.. فصاح آرجان بصوت أعلى "إن أردتم إزاحتي، عليكم مبارزتي واحداً لواحد.. الشخص الذي سيتمكن من قتلي على مرأى من الجميع وينتزع قلبي من موضعه، سيكون جديراً بأن يصبح زعيم الأكاشي.. وحتى ذلك الحين، عليكم التسليم لي دون جدال.."
تقدم قالان، وهو اليد اليمنى للزعيم السابق، قائلاً "إن سلمّنا لك بالرئاسة، عليك أن تكون جديراً بها.. لو أدرت ظهرك للقبيلة، فلن يرضى رجالها بأقل من حياتك، ولن يكون قتلك بالسهولة التي قد تتخيلها.. ستتمنى الموت ألف مرة قبل أن تحصل عليه بالفعل.."
قال آرجان بحزم "أدرك ذلك طبعاً.."
نظر الرجال لبعضهم البعض، بينما أغمضت رنيم عينيها بذعر شديد وهي تتنتظر اللحظة التي سيستلّ الرجال فيها أسلحتهم ويغمدونها في صدر آرجان.. فما الذي سيحلّ بها بعد ذلك؟.. لكنها سمعت الرجال يقولون بصوت واحد "الطاعة والولاء لزعيم الأكاشي آرجان ذا القرن، طاعة وولاءً غير مشروطين ولا متذبذبين.. والموت للخائن منا.."
نظرت رنيم بدهشة لترى الرجال من حولهما راكعين أرضاً وخافضي رؤوسهم بتسليم لآرجان الذي وقف باعتداد ينظر لمن حوله.. ولما ألقى الرجال العهد، ومن عادتهم إطلاق لقب (ذو القرن) على أي زعيم جديد، قال آرجان بصوت عالٍ وواضح "أنا زعيم الأكاشي منذ اللحظة.. والويل لمن يحاول خيانتي.."
لم يعلق الرجال بكلمة وهم ينهضون بصمت، فقال آرجان لقالان "احملوا جثة زعيمكم السابق وادفنوها بشكل لائق.."
غمغم قالان وهو يشير للرجال من حوله "لا يوجد دفن لائق لجثة.. إنه سيوضع في حفرة ويهال عليه التراب كما نفعل بجميع الجثث التي ندفنها.. في الموت الكل يصبح سواءً.. هذا هو مذهب الأكاشي.."
لم يعلق آرجان بكلمة والرجال يتفرقون من حوله بصمت وتسليم، وإن رأى في الوجوه عدم رضىً وسخط واضح، لكنه اكتفى بالصمت دون أن يعلق بكلمة.. وبعد أن خلا الموقع من البقية، جذب آرجان رنيم التي ظلت مختبئة خلفه دون أن يخفت ذعرها.. فوضع آرجان يديه على كتفيها وواجه عينيها متسائلاً "أأنت بخير؟"
تدافعت دموعها وهي تنتفض بشدة قائلة "كيف فعلت ذلك؟.. سيقتلونك يا آرجان.. سيقتلونك.."
أحاط آرجان وجهها بيديه وهو يهمس "لا تخافي يا فتاتي.. كل الأمور ستكون على ما يرام.."
لم تتوقف دموعها عن الانحدار ومشاعرها تتداعى بشدة، فجذبها خلفه عبر المخيم نحو خيمة الزعيم بثقة دون أن يجد اعتراضاً ممن مر به من الرجال، ولما دخل الخيمة شعرت رنيم بدفء لم تشعر بمثله منذ وصلا لهذه السهول، بعد أن قضيا الأيام والليالي السابقة في العراء تلفحهما البرودة التي لا تطاق.. وجدت آرجان يجلسها على الفراش الوثير في الخيمة، فانطوت في موقعها مولية ظهرها له بينما جلس هو على طرف الفراش بصمت.. كانت لا تقدر على النظر في عينيه، فمنذ وصولهما لسهول الأكاشي وهو يتصرف بغرابة تامة.. بدا متوحشاً أكثر من الأكاشي أنفسهم، رغم أنه حاول تبرير أفعاله بأنه يسعى لحمايتها وحماية نفسه من الأكاشي.. والآن مع رائحة الدماء الواضحة التي تزكم أنفاسها والمنبعثة منه، فإن رجفة تصيبها في صميم أعماقها.. ولا يهدؤها المنظر الذي رأته سابقاً حيث وقف مسنداً قدمه لصدر جثة كابور حاملاً قلبه بيد وخنجراً دامياً في اليد الأخرى..
شعرت بلمسة أصابعه الحانية على شعرها، وهمس بخفوت "رنيم.."
لكنها عزفت عن إجابته وهي تغمض عينيها بقوة.. مع كل لحظة تمضي وهي في هذه السهول، تتزايد المشاهد والخبرات التي تودّ لو لم ترها قط.. وتودّ لو تتمكن من نسيانها بلمسة ساحر..
سمعت آرجان يقول زافراً "لا تفزعي مما رأيته يا رنيم.. كان عليّ أن أفعل ذلك لأنقذك.. لو حاولت المقاومة، ولو اكتفيت بقتل زعيمهم دون أن أحصل على منصبه، كان جمع الرجال أولئك سينقضّ عليّ وينهش جسدي في لحظات معدودة.. ولو لم أفعل كل هذا، لكانوا أجبروني على الرحيل، وبقيتِ وحيدة في هذا المخيم حتى أعود.. أظننت أنهم سيحفظون وعدهم لي بعدم لمسك؟.."
قالت رنيم بمرارة "لكنهم سيقتلونك.. لقد أعطيتهم سببباً أكبر ليفعلوا ذلك.."
ربت على كتفها قائلاً "لا تقلقي.. لن يصلوا إليّ بسهولة.. ستكونين بأمان معي.. الآن كل ما علينا فعله هو انتهاز الفرصة الملائمة للرحيل.."
لم تجبه رنيم وهي تشعر بذعرها وتوجسها يتزايدان مع كل لحظة تقضيها في هذا المخيم.. وبعد مضي بعض الوقت، ومع الدفء والفراش الوثير ولمسات آرجان الحانية التي تخللت شعرها، غرقت رنيم في نوم عميق بعد أن قضت لياليها السابقة في المخيم مسهدة تراقب ما حولها وترقب آرجان من طرف خفي خشية أن يصيبه مكروه..
وبعد أن استغرقت رنيم في النوم، شعر آرجان بحركة قرب مدخل الخيمة.. فنهض من موقعه واقترب من المدخل بحذر ويده على الخنجر.. لكنه رأى قالان يدخل الخيمة دون إذن فيلقي نظرة على رنيم النائمة قبل أن يقول لآرجان "والآن، بعد أن أصبحت زعيم الأكاشي، ما الذي تنوي فعله؟"
قال آرجان وهو يتوجه نحو الكرسي الفخم وسط الخيمة "وما الذي تتوقع مني فعله؟"
رآه قالان يجلس على الكرسي بكل هدوء وكأن الكرسي، والمنصب، حق طبيعي له.. فقال قالان محذراً "لا تغترّ بالعهد الذي ألقاه الرجال أمامك.. لا يزالون قادرين على انتزاع هذا المنصب المهم منك.. وولاؤهم لزعيمهم السابق لا ينطبق عليك بحال.."
قال آرجان بهدوء "لا يخيفني ذلك.. المحاولات الفردية لا تثير قلقي بتاتاً.. أما خيانة جماعة منهم لي فهذا أمر آخر.."
ثم تفحص قالان معلقاً "وماذا عنك؟.. ألن تنتهز فرصة كهذه؟"
قال قالان مديراً بصره بعيداً "لست بهذا الحمق.. سأكتفي بما أنا عليه الآن.."
صمت آرجان للحظات، فتقدم قالان ليجلس على كرسي قريب وهو يقول "استمع إليّ.. أنا أعرف السبب الذي دعاك لما فعلته، وأعلم أنك تنوي الرحيل في أقرب فرصة.."
ونظر نحو الفتاة النائمة مضيفاً "لا ألومك على ذلك، ولا أدري ما جاء بكما لهذه الأنحاء، لكنك رجل.. عليك أن تتحمل القرارات التي تتخذها مهما كانت.."
فقال آرجان "لستُ بحاجة لنصائح من أحد.. سأفعل ما أفعله دون حاجة لتوجيه من أحد.."
ونظر لقالان مضيفاً بابتسامة "فأنا الزعيم الآن.. أليس كذلك؟"
بدت نظرات قالان جامدة لا تشي بما يعتمل في صدره، لكنه قال بعد لحظة صمت وهو ينهض واقفاً "عليك أن تأخذ نصائحي بجدية.. فأنا أعلم منك بالأكاشي وبقوانينهم.."
وتوجه نحو مدخل الخيمة مضيفاً "الأفضل أن تغتسل وتستبدل ملابسك الغارقة بالدماء.. رائحتك كفيلة بإطاحة الفتاة مغمىً عليها.. وربما كان من حسن حظها أنها نائمة.."
نظر آرجان لملابسه الرثة والتي زادتها الدماء سوءاً، وألقى نظرة على رنيم التي استغرقت في نوم عميق، ثم زفر وهو ينهض ويغادر الخيمة بصمت.. عليه أن يكف عن القلق في الوقت الحالي، فبمنصبه الجديد، لا يجرؤ رجل على إلحاق الأذى برنيم.. أما هو، فأمر آخر بكل تأكيد..
وفي جانب المخيم، حيث يضع الأكاشي مخزون المياه الخاص بهم في بضع جرار تجرها الخيول في إحدى العربات عادة، قام بنزع قميصه الغارق بالدماء محتفظاً ببنطاله.. ورغم البرد الشديد الذي بدأ يتزايد مع بدء تلك الليلة القارسة كعادة كل ليلة في هذه السهول، فإن آرجان مسح وجهه وجسده بالمياه الباردة كالثلج وغسل يديه من الدماء التي صبغت أصابعه بلونٍ أحمر قانٍ.. شرب الكثير من المياه محاولاً أن يغسل طعم الدماء الذي يشعر به يزكم أنفه ويلتصق بجدار حلقه بشكل يسبب له الغثيان..
رغم تفرده في ذلك الموقع وحيداً بوجود بقية الأكاشي حول النار وسط المخيّم، إلا أنه لم يكن يخشى هجوم أي رجل من الأكاشي عليه.. فبدون شهود، لا يمكن لأحدهم انتزاع الزعامة منه فهم لا يتسللون ويقتلون زعيمهم غيلة أبداً، ومن يفعل يُقتل دون هوادة.. لذلك ظل آرجان يغتسل دون حذر حتى سمع تلك الخطوات التي تسللت من خلفه، ولما استدار فوجئ بتلك الضربة التي أصابت رأسه بقوة كانت كافية لتسقطه فاقد الوعي على الفور بينما انبثقت الدماء من رأسه.. بينما غمغم المهاجم بمقت "زعيم؟.. هذه مزحة سخيفة أيها الحقير.."
جاءه صوت رجل من خلفه يقول بقلق "هل مات؟.. لقد نصحتك أن تخفف هجومك وتكتفي بإفقاده توازنه، وبعدها نقيده فلا يقدر على الهرب أبداً.."
قال الأول وهو يرمي وتداً خشبياً ثقيلاً من يده "لا.. لو لم يفقد وعيه، فستكون مقاومته شرسة.. لننتهِ مما نفعله قبل حضور آخرين.."
لم يعترض الثاني وهو يتقدم حاملاً حبلاً غليظاً في يده ويقلب آرجان على وجهه مقيداً يديه خلف ظهره بإحكام شديد..
*********************
انتبهت رنيم من نومها فجأة بتوجس شديد.. لم تدرِ كم ساعة مرت عليها وهي نائمة بإنهاك، لكن بدا واضحاً من النور الخافت الذي أضاء جوانب الخيمة أن النهار في بدايته.. تلفتت حولها في الخيمة الخالية ملاحظة غياب آرجان، وبذعر شديد، وتوجس أشد من معنى غيابه هذا، قفزت واقفة وخرجت من الخيمة لا تلوي على شيء.. وخارجها، كان أول ما لفت انتباهها هو تجمع عدد كبير من الرجال في جانب المخيم والعبوس يبدو بوضوح على وجوههم.. تلفتت رنيم حولها بحثاً عن أثر لآرجان، لكنها لم تعثر له على أثر..
ضمّت يديها لصدرها بقوة وهي تهمس لنفسها "أيكون هذا التجمع لسبب يخص آرجان؟.."
ترددت بين اللجوء للخيمة الآمنة، لو صح القول، وبين التقدم للجمع والبحث عن سبب اختفاء آرجان.. ظلت على ترددها عندما رأت قالان يتقدم من جانب المخيّم، فهرع إليه بعض الرجال وأحدهم يقول "لقد اختفى.. بحثنا عنه في كل مكان، ولم نعثر له على أثر.. من المؤكد أنه لم يغادر المخيم سيراً على الأقدام.."
تساءل قالان "والخيول؟.."
أجابه آخر "كاملة العدد.. لم يسرق أحدها ويهرب بها.. لم يختفِ إلا باكين الذي أرسلته أنت لإحدى القبائل القريبة.."
فقال الأول "ثم إن الفتاة لا تزال هنا.. فكيف يهرب ويتركها وحيدة وقد كان أشد الحرص عليها؟.."
غمر الارتياع رنيم وهي تدرك أن الحديث يدور عن آرجان.. أهو مختفٍ من المخيم؟.. متى؟.. كان موجوداً حتى غابت في نوم عميق قبل ساعات معدودة.. فما الذي جرى في غيابها؟..
حاولت أن تتذكر حديثه قبل نومها لعله لمّح لما ينوي فعله.. لكن كل ما دار بينهما لا يوحي بأنه ينوي الهرب وتركها وحيدة في هذا المكان..
لاحظت أن قالان التفت ينظر إليها بعبوس، بينما قال أحد الرجال "بالحديث عن الفتاة.. ألا تظنون أنها قد تعرف شيئاً عن اختفاء ذلك اللعين؟.."
وافقه الرجال بهز رؤوسهم مطالبين باستجوابها، فهربت رنيم عائدة للخيمة وقلقها يتضاعف بشدة.. تمنّت لو أتى قالان ليسألها عن الأمر وحيداً، لكن تجمهر كل هؤلاء الرجال حولها أشد من أن تطيقه..
لكن أمنيتها لم تتحقق كما أملت رنيم، فسرعان ما رأت قالان يدلف الخيمة يتبعه عدد من الرجال لم تتمكن من إحصائهم.. تراجعت رنيم للجانب البعيد من الخيمة وقالان يسألها "أين آرجان؟.. لقد اختفى من المعسكر دون سبب مفهوم.. فهل تعلمين أين ذهب؟.."
هزت رنيم رأسها بذعر وهي تنكمش بشدة.. فقال قالان عابساً "لا يمكن أن يتبخر بهذه الصورة.. ألم يخبرك بأي شيء في آخر ساعة رأيته بها؟.."
هزت رأسها من جديد بقوة، ثم بصوت يرتجف أخبرته بآخر ساعة رأت آرجان فيها وما دار بينهما من حديث.. وأثناء ذلك، كانت تضمّ ذراعيها لجسدها منكمشة وراودتها رغبة شديدة بالاختباء من عشرات الأعين المتطفلة التي تسللت إليها من كل اتجاه.. لكنها تجنبت أن تلاقي تلك الأعين بعينيها وكأنها بذلك تتناسى وجود الرجال من حولها.. ولما أنهت حديثها، صمت قالان مفكراً بجبين مقطب، بينما قال أحد الرجال بشيء من الاعتراض "ألا ترون أنها تكذب؟.. لابد أنها تخفي أمر آرجان عنا.."
قال آخر بسخرية "وربما هرب ذلك الجبان متخلياً عن امرأته بكل خسة.."
لم ترفع رنيم بصرها فيمن حولها وهي تفكر بذعر.. لا يمكن أن يكون آرجان قد هرب.. لا يمكن أن يكون قد ضاق بوجودها وأتعبه عبء رعايتها فقرر التخلص منها للأبد.. آرجان ليس بهذه الخسة، أليس كذلك؟..
سمعت رجلاً آخر يقول بهزء "لو استجوبنا هذه الفتاة، فلابد أن نحصل على بعض الحقائق.. لابد أنها تخفي ما لم تظهره لنا، أليس كذلك؟.."
اتسعت عينا رنيم بذعر وثالث يقول بضحكة خبيثة "أجل.. لمَ لا نفعل ذلك؟.."
سرت رجفة في جسد رنيم وهي ترفع بصرها فيمن حولها.. ولما رأت الشرر ينبع من الأعين الغريبة، ولما بدأت ابتسامة خبيثة ترتسم على الشفاه، أدركت رنيم في أي مأزق وقعت وهي وحيدة في هذه السهول البعيدة عن أي أراضٍ مأهولة بالسكان.. وحيث الكلمة الأخيرة للأكاشي الذين لا تعرف قلوبهم رحمة أو شفقة..
*********************
|