كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: على جناح تنين..
الفصل الثاني: واقعٌ قد دحر كل خيال
بعد احتفال بهيج أقامته المملكة لوداع الأميرة رنيم، وابتهاجاً بزواجها الوشيك من ولي عهد مملكة بني فارس، استيقظت رنيم في وقت مبكر بعد عدة أيام وأكملت استعداداتها للرحلة الطويلة.. ارتدت ثوباً بسيطاً مناسباً للترحال ولفّت شعرها الطويل في جديلة تتدلى على صدرها، ولم تنسَ قبل مغادرتها أن تمر على الإسطبلات والحظائر تودع الحيوانات التي عرفتها واعتنت بها منذ وقت طويل.. ورغم كل شيء، فإن جلّ ما كانت ستشتاق له في قصر أبيها هي هذه الحيوانات والمكتبة الكبيرة التي قضت فيها أغلب أيامها منذ تعلمت القراءة في صغرها..
وفي القاعة الخارجية للقصر، وجدت رنيم عائلتها الكبيرة تنتظرها لوداعها، مكونة من أشقائها وشقيقاتها وزوجتي الملك بالإضافة لعدد من الخدم والخادمات ممن اصطفوا باحترام وأحنوا رؤوسهم لها عند مرورها.. وبعد أن عانقنها شقيقاتها دامعات آملات أن تحظى بحياة سعيدة، وعانقها أشقاؤها آملين منها أن تكف عن التصرف بخرق ورعونة، ودعتها أمها بدموع فرح وسعادة للمكانة التي حصلت عليها، بينما ودعتها زوجة أبيها بابتسامة جانبية تعجبت لها رنيم ولم تفهم مغزاها.. وكأن الملكة الأولى تسخر من فشلها قبل أن يتحقق ذلك بالفعل.. لكن رنيم لم تحمّل الأمور أكثر من طاقتها وتجاوزت الأمر..
بعد ذلك، سارت مع الملك الذي قال لها "عليك أن تحسني التصرف ولا تحرجينني أمام ملك مملكة بني فارس.. تصرفاتك الخرقاء ستنعكس سلباً على علاقتنا بهم، لذلك كوني حذرة.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك يا مولاي.. لقد أعدت عليّ هذا الحديث مئة مرة في الأيام الماضية"
نظر لها الملك بشيء من الحنق، ثم أضاف "رحلتك الطويلة ستبدأ الآن، وستغادرين أراضي المملكة خلال يوم أو يومين نحو مملكة بني فارس.. لكن لا تقلقي، لقد أرسل الملك شخصاً أميناً وموثوقاً به لحمايتك طوال الرحلة.. إنه رئيس الحرس الملكي، ولا يمكن لشخص مثله أن يسمح بأن يصيبك أي سوء في تلك الرحلة.."
لم تعلق رنيم على قوله.. في الواقع كانت تشعر بحماس كبير لمغادرة المملكة للمرة الأولى في حياتها البالغة تسعة عشر عاماً.. لذلك لا تشعر بأي قلق من هذه الرحلة وتتوق لبدئها في الحال.. على الأقل، ستستمتع ببعض الحرية قبل أن تنزوي في قصر آخر من تلك القصور الخانقة..
بعد أن هبطوا عدة درجات تؤدي بهم لساحة القصر الواسعة، والتي تحفها أشجار زاهرة زرعت في أماكن مدروسة ومكونة منظراً هندسياً بديعاً، اتجهت رنيم برفقة الملك للموكب الذي يليق بزوجة ولي العهد، وإلى العربة التي تفوق البقية حجماً والتي هُيّئت لرحلتها الطويلة.. وقرب العربة، رأت رنيم رجلاً بثياب جنود ينحني واضعاً ركبته أرضاً ورافعاً الأخرى وهو يضع يده عليها واليد الثانية بقبضة مضمومة جوار ركبته.. ولما وصلت أمامه قال بلهجة احترام "لي الشرف بأن أكون حارسك الشخصي طوال هذه الرحلة يا مولاتي.. وتأكدي أن الرحلة ستكون سهلة وآمنة حتى تصلي بأمان للزهراء.."
علق الملك قائلاً "هذا هو مجد.. وهو من سيقود الموكب حتى تصلوا لقصر الملك عبّاد.."
رفع الرجل رأسه وانتصب واقفاً أمامها فوجدته يبزها طولاً رغم ارتدائها لحذاء بكعب عالٍ.. كان الرجل يبدو في منتصف الأربعين من عمره، بسمرة خفيفة ولحية سوداء مشذبة بعناية، وشعر فاحم تخللته شعيرات بيضاء لم تزده إلا هيبة ووقاراً.. عيناه رماديتان بلون باهت تتناقض مع سواد شعره، بزاويتان حادتان تمنحانها صارمة واضحة.. أنفه طويل ومستقيم وملامحه تشي بأنه شخصية شديدة الجدية..
ابتسمت رنيم ابتسامة خفيفة متجاوزة مشاعرها لرؤيته وهي تقول "شكراً لك يا سيدي.. سأعتمد عليك في هذه الرحلة.."
ابتعد مجد من طريقها سامحاً لها التقدم من العربة الملكية.. ولما وصلت إليها مد يده لها باحترام ليعينها على صعود العربة.. ورغم أن رنيم شعرت بضيق لهذه المعاملة، وهي لا تحتاج لمعونة عادة، إلا أنها لم تتردد في قبول يده شاكرة إياه بابتسامة.. عليها أن تحسن التصرف، وتعوّد نفسها على التصرف برقة وأناقة أمام أي شخص ينتمي لمملكة بني فارس.. على الأقل، هذه هي النصائح التي صبّتها أمها الملكة في أذنيها في الأيام والليالي الماضية دون ملل..
وفي العربة، والتي كانت واسعة بشكل لم تره من قبل ويمكنها أن تضمّ سبع أفراد دون تزاحم، وجدت رنيم أن جدرانها الداخلية مبهرجة بشكل مثير للدهشة.. جدرانها الخشبية قد بطّنت ببطائن حريرية مطرزة بخيوط ذهبية، وعلى نافذتها الجانبية ستائر رقيقة بلون سكري، ومقاعدها وثيرة بلون أخضر زاهٍ عليه تطريزات منمنمة لفراشات بيضاء وأشجار ذهبية.. وعلى الأرضية سجادة سميكة سكرية اللون كاد كعب حذائها يغوص فيها لسمكها..
جذبت رنيم ثوبها الطويل واستقرت في جانب العربة وهي تتلفت حولها بحبور.. هي حقاً من العائلة المالكة في هذه المملكة، لكن مملكة بني فارس تتفوق على مملكتهم الصغيرة في كل شيء.. لطالما سمعت عن مدنها العظيمة وقصورها الضخمة ذات الأبراج العالية وجسورها البديعة التي تعبر فوق الأنهار التي تقطع المدينة من عدة جهات.. وهذه العربة، وهذا الموكب الفخم، أكبر دليل على ما ستراه عند انتهاء رحلتها ووصولها لهدفها.. ورغم أنها تعلم أنها بوصولها لهدفها ستصبح سجينة تلك القصور الفاخرة، إلا أن هذا لا يمنعها من الاستمتاع بما تراه والتلهف على ما تتوقع رؤيته.. ظلت تقنع نفسها أنها في رحلة لاستكشاف عوالم لم ترها من قبل، وهي التي لم تغادر قصر أبيها بتاتاً في سنوات عمرها الماضية.. لذلك فإنها تناست التفكير في مستقبلها في ذلك القصر وفي مملكة زوجها المستقبلي، واقتنعت بالاستمتاع بحاضرها وبما ينتظرها في هذه الرحلة..
وبعد حديث قصير دار بين مجد والملك، وتلقى فيها رسالة مختومة منه للملك عبّاد، امتطى مجد فرسه البيضاء ذات العرف الذي خالط بياضه لون أشهب، وجذب عنانها وهو يرفع يده ليبدأ الموكب انطلاقه عبر حديقة القصر الشاسعة وعبر أحياء وطرقات المدينة ليغادروها من إحدى بواباتها.. وفور تجاوز الموكب لبوابة القصر المذهبة الضخمة، وسيرهم عبر طرقات المدينة الواسعة، سمعت رنيم صوتاً عالياً يندلع من جانبي الطريق.. نظرت من النافذة مزيحة الستائر، فرأت عشرات وعشرات من سكان المدينة ممن اصطفوا على جانبي الطريق حاملين زهوراً ألقوها على الموكب الذي يمر بينهم بينما هتف الآخرون بسعادة واضحة انعكست على رنيم وهي تراقبهم بسرور.. لا يخفى عليها سبب سعادة سكان مدينتها بزواجها هذا وما يتبعه من تحالف بين المملكتين واستفادة مملكتهم الضعيفة والفقيرة نوعاً بحليف قوي وغنيّ كمملكة بني فارس.. ورغم إدراكها أن سعادة الجميع بزواجها ليست موجهة لها هي بالذات، لكنها رغم ذلك بدت سعيدة وهي تتأمل سكان العاصمة ومنازلها والطرقات التي تمر العربة من خلالها..
وفي مقدمة الموكب، سار مجد بفرسه بخطوات متعجلة محاولاً تخطي الجموع التي أصمّت أذنيه وأثارت توتراً في فرسه شعر بها بوضوح.. وبعد لحظات، اقترب رجل آخر من الموكب بحصانه ليسير قرب مجد قائلاً "بدا الملك سعيداً بشدة لهذه المصاهرة.. كان بإمكانه أن يتصرف بشكل أكثر رقياً وأقل انفعالاً.."
علق مجد قائلاً "من يمكنه أن يلومه؟.. إن هذه المصاهرة ستمنحه حليفاً قوياً وإمداداً كبيراً على جميع الأصعدة.. يكفي وجود ابنته في قلب عاصمة مملكتنا، وفي قصرها الملكي.. وفي المستقبل، لو كانت حسنة الحظ، ستقف جوار زوجها الملك وقد تتمكن من تحريك قراراته بما يصبّ في مصلحة مملكة أبيها.."
ابتسم الرجل قائلاً "أنت أيضاً حسن الحظ بهذه الرحلة.. لو أتممتها وأرضيت الملك، سيرفعك لمنصب أكثر قوة وتأثيراً من منصبك.. لقد وعدك الملك بهذا قبل بدء رحلتنا هذه بالفعل.."
غمغم مجد بضيق "لا يهمني المنصب كثيراً، فيمكنني الحصول عليه بطرق أخرى.. ما أكرهه بشدة هو اضطراري لمرافقة هذه الأميرة في رحلة طويلة كهذه.. هذا أكثر مما أطيق احتماله بالفعل.."
تساءل الرجل "لماذا؟.. هل تخشى من فشلك في حمايتها؟."
أجاب مجد "بل أخشى من تعاملي معها.. لا أمانع من اصطحاب ذوي المناصب العليا والأمراء في مثل هذه الرحلات، لكن الأميرات هن أمر آخر.. إنهن يتصرفن بتعالٍ بغيض ويكثرن من الطلبات التي لا داعي لها ويتذمرن من كل أمر.. يتظاهرن بالرقة، لكنهن لا يعبأن لأمر طفل مشرد أو كلب أجرب.. كل ما يهمهن هو جمالهن وبهرجة ملابسهن.. في الواقع، أفضّل مواجهة عدو من أعداء المملكة في أحد الحروب عن مواجهة تذمر أميرة مدللة.."
ضحك الرجل بقوة وقال "لو سمعتك الأميرة لاشتكت لولي العهد من تصرفاتك واتهمتك بالصلافة.. فكن حذراً.."
غمغم مجد "لا تقلق.. لست مجنوناً لأفعل.."
وأضاف وهو يحث فرسه لتسرع في سيرها "فلنأمل أن تنتهي هذه الرحلة على خير.."
وبينما كتم مجد تأففه بصعوبة لذلك الإزعاج الذي صمّ أذنيه، فإن عينا رنيم تلألأتا وهي ترى الموكب يقترب من أسوار العاصمة، والبوابات الضخمة التي ترفرف فوقها أعلام المملكة قد فتحت بدعوة واضحة لها.. لقد بدأت رحلتها التي تتمنى ألا تقف عند أبواب (الزهراء).. ولا تدري لم خيّل إليها أن عربتها فور مغادرتها أسوار العاصمة ستطير مع الرياح المندفعة وترتفع فوق الغيوم العالية في رحلة خيالية.. رحلة لطالما تاقت نفسها إليها..
*********************
بعد نصف نهار من السير المتواصل، سار فيه الموكب الملكي مغادراً عاصمة المملكة عبر دروب تقطع تلك السلسلة الجبلية، فإنه وصل لموقع يمر بسهول عشبية تغزوها الأزهار البرية من كل جانب بينما تظللها الجبال التي وقفت جانباً كجدار عظيم يلامس عنان السماء.. انتاب رنيم ملل شديد وتعب أشد بعد أن اضطرت للبقاء في عربتها وحيدة إلا برفقة وصيفتها صفيّة والتي ستنتقل للعمل عندها في قصرها الجديد.. لم تكن رنيم معتادة على البقاء في موقع واحد لفترات طويلة دون عمل ودون كتاب تتسلى به، وبدأت تشعر بألم شديد في ساقيها لطول جلوسها دون حراك.. فقالت بتذمر وضيق "رباه.. متى ستقف هذه العربة؟.. أكاد أختنق من الجلوس فيها.."
قالت صفية مبتسمة "ما الداعي للتذمر يا مولاتي؟.. العربة واسعة ومريحة جداً.. ورحلتنا ستكون طويلة لذلك عليك أن تتحلي ببعض الصبر.."
قالت رنيم وهي تنظر لسقف العربة بملل "كيف تتوقعين مني ذلك؟.. كان عليهم الوقوف للراحة في وقت أبكر.."
علقت الوصيفة "هذا سيبطئ سيرنا أكثر.."
غمغمت رنيم وهي تنظر من النافذة "ليتني أحضرت كتاباً معي.. أشعر بملل قاتل.. لو كنت أكثر جرأة لارتحلت على ظهر فرس بدل اللجوء لهذه العربات الخانقة.."
علقت صفية بشك "وهل تتقنين ركوب الخيل يا مولاتي؟"
مطت رنيم شفتيها معلقة "ليتني كنت كذلك.."
ثم نظرت لصفيّة قائلة "استدعِ مجد.."
تساءلت صفية بدهشة "لمَ يا مولاتي؟"
قالت رنيم "يجب أن نتوقف قليلاً قبل أن أقضي نحبي اختناقاً من هذه العربة.. استدعيه حالاً.."
ورغم اعتراض صفية، إلا أنها استسلمت للأمر في النهاية وفتحت النافذة التي تعلو باب العربة مستدعية سائقها وطالبة الحديث مع مجد.. وخلال لحظات، توقف الموكب بأكمله عن الحركة وسمعت رنيم تململ الأحصنة وصهيلها وتساؤلات بعض الرجال الذين يرافقون الموكب لحمايتها..
اعتدلت رنيم في جلوسها وهي تعدّل هيئتها عندما سمعت طرقاً على باب العربة.. ولما سمحت للطارق بالدخول، وجدت الباب يفتح ويظهر من خلفه مجد الذي قال "ما الأمر يا مولاتي؟.. أهناك خطب ما؟"
قالت رنيم "ألن يتوقف الموكب للراحة قليلاً؟.. لقد أمضينا عدة ساعات في السير دون توقف.."
قال مجد باعتراض "عذراً يا مولاتي.. وقوفنا للراحة الآن ليس في صالحنا.. لم نقطع إلا مسافة ضئيلة من رحلتنا.."
شعرت رنيم بضيق لفكرة أن تبقى حبيسة هذه العربة، فقالت باندفاع "لكنني أريد أخذ قسط من الراحة.. ساعة واحدة لن تعطل سيرنا بشكل كبير.."
لمحت نظرة استياء في عيني مجد، لكنه لم يعلق وهو يحني رأسه لها، ثم ابتعد عن الباب، فنهضت رنيم وغادرت العربة متجاهلة يده الممدودة وتلفتت حولها في الموقع.. كانوا يقفون عند أطراف غابة كثيفة الأشجار يقطعها طريق على شيء من الاتساع، مخلّفين السهول العشبية التي كانت الأكبر في الجزيرة بأكملها.. فغمغمت رنيم "يا له من مكان بديع.."
علق مجد القريب "هذا هو الموقع الأجمل الذي رأيته منذ وصولي لمملكة بني غياث.."
ثم أضاف "سيهيئ الرجال لك موقعاً ملائماً لترتاحي فيه حتى نعاود السير.."
قالت رنيم بابتسامة متسعة "لا حاجة بكم لذلك.. يمكنني تدبر أموري كالبقية.."
ثم رفعت طرف ثوبها وتقدمت من الغابة القريبة قائلة "سأقوم بجولة صغيرة في المكان.."
استوقفها مجد قائلاً بشيء من القلق "بقاؤك في هذه السهول أفضل من دخولك الغابة.. لا نعلم ما قد يعترضك فيها.."
كان فضول رنيم يتزايد حول الغابة رغم جمال السهول القريبة، فقالت "أرجوك ألا تقلق لأمري.. ستصحبني وصيفتي.."
وأكملت سيرها غير عابئة بالضيق المتزايد في وجه مجد، بينما لحقتها صفية حاملة مظلة بيضاء من الدانتيلا وهي تقول "مهلاً يا مولاتي.. عليك أن تبقي في الظل ولا تتعرضي لأشعة الشمس القوية.."
علقت رنيم بابتسامة جانبية "لماذا؟.. هل سيرفع هذا من حظي أمام ولي العهد؟.."
غمغمت صفية بضيق "لماذا أنت مختلفة عن الأخريات يا مولاتي؟.. أنت لا تتصرفين كأميرة بتاتاً.."
قالت رنيم "ألا يكفي أنني أعفيك من طلباتي الكثيرة والتذمر الذي يلاحقكن من بقية الأميرات؟.."
قالت صفية "لكنني أركض بشكل دائم بحثاً عنك في أرجاء القصر.. وهذا منهك تماماً.."
التفتت إليها رنيم قائلة "يؤسفني أنني أجبرك على ذلك.. سأحاول ألا أفعل هذا.. والآن عودي للبقية وخذي بعض الراحة.."
قالت صفية باعتراض "لكن يا مولاتي...."
لوحت رنيم بيدها قائلة "لا تخشي شيئاً.. سأكون بخير.."
وقفت صفية تنظر لها بحيرة مما عليها فعله، بينما سارت رنيم بابتسامة متسعة وهي تأخذ نفساً قوياً مستمتعة برائحة الغابة.. تلك الرائحة التي تختلف عن رائحة القصر والحدائق المحيطة به..
لم يكن إصرارها على التخلص من وصيفتها لسبب معين، إلا لتشعر أنها طليقة حقاً دون رقيب ودون عين تلاحقها وتتبعها بإصرار.. فرغم أن صفية خادمتها ووصيفتها الوفية، إلا أنها تجبرها على التقيّد بقوانين القصر وعدم تجاوز ما يقتضيه منها كونها أميرة وابنة ملك هذه المملكة.. وتلاحقها بشكل دائم بالوصايا والتعليمات التي تصيب رنيم بالضجر.. لذلك كان هذا أنسب وقت للتخفف من هذه القيود والتمتع ببعض الحرية..
سارت في أرجاء الغابة التي بدأت أشجارها بالتكاثف والتقارب مع كل خطوة تخطوها رنيم في قلبها.. كان الموقع ساحراً، والهدوء الممتزج بأصوات العصافير المتنوعة يجعله خيالياً أكثر من اللازم.. تلفتت رنيم حولها وهي تحفر هذه المناظر في عقلها بشغف واضح، وسارت حتى انتبهت لخفوت الأصوات من خلفها وابتعادها عن موقع الموكب أكثر من اللازم.. ولو أنها كانت تفضّل الاستمرار في استكشاف الغابة، لكنها نوعاً ما خشيت من غضب وصيفتها أو مجد لو ضاعت ولم تتمكن من العودة.. لذلك استعاضت عن رحلتها بالتجوال في موقع قريب من طرف الغابة حيث الموكب قريب منها وحيث لن تثير قلق أحد عليها..
وبعد أن استكملت جولتها، فإن رنيم عادت مرغمة لموقع الموكب وهي تتنهد كمن يستيقظ من حلمٍ طالما اشتاق لرؤيته.. ولما خرجت من الغابة رأت المعسكر البسيط الذي أقيم في ذلك الموقع، وفي وسطه، نصبت مظلة كبيرة انتصبت على أربع أعمدة خشبية مدّ فوقها قماش أبيض اللون حمل زخارف وصور جميلة.. وتحت المظلة رأت رنيم كرسياً مريحاً أبيض اللون وقربه طاولة خشبية عليها بعض الفطائر وكوب عصير طازج..
لكن رنيم تجاهلت الموضع المهيأ لراحتها، وتجاهلت توسلات وصيفتها صفية، وسارت للموقع الذي ربطت عنده الأحصنة في جانب الغابة.. كان الجنود يجلسون للراحة في جانب المكان، بينما ربطت الأحصنة بالأشجار القريبة، فتقدمت رنيم منها ماسحة على عنق أقربها وهي تتأملها بابتسامة جانبية.. لفتت انتباهها تلك الفرس البيضاء ذات العرف الأشهب الجميل والذي ربط بضفيرة صغيرة، فتقدمت رنيم منها ومسحت على عنقها ووجهها وهي تتمتم "يا لك من فرس جميلة.."
سمعت من خلفها صوت مجد يقول "يبدو أن الشهباء قد أعجبتك.."
التفتت إليه قائلة "إنها جميلة جداً.. أهي ملكك؟"
هز مجد رأسه إيجاباً، وتقدم مربتاً على عنق الفرس وقال "هي معي منذ عدة سنوات، وهي فرس جميلة ومطيعة ومثابرة بشكل لا يصدق.. هي الوحيدة التي ارتحت لرفقتها طوال هذه السنوات.."
غمغمت رنيم وهي تتأمل عيني الفرس السوداوين "تمنيت لو كنت أعرف ركوب الخيل.. أحب هذه الكائنات الجميلة، وأود لو أنطلق على ظهرها بأقصى سرعة وبكل حرية.."
تساءل مجد "وما الذي يمنعك من ذلك؟"
تنهدت قائلة "لا يسمح لنا الملك بذلك.. يظن أن تعلم ركوب الفرس يجعلني أفقد أنوثتي وبهذا تقل فرصي في الزواج.."
رفع مجد حاجبيه بتعجب قائلاً "هذا غير مقنع.. لمَ عليك أن تكوني كالأخريات وتنزوي في جانب القصر بانتظار زواجك؟.."
انتبهت رنيم لنفسها وأدركت ما سيوحي به هذا الحديث لمجد، وما قد يتصوره عنها.. لكن، ما الذي سينقله لولي العهد وللملك عبّاد في (الزهراء)؟.. ألن يؤثر ما سيقوله لهما على مستقبلها الذي تسعى لنجاحه مرغمة؟.. بقدر ما كان ذلك مناقضاً لها، إلا أنها كانت ساعية بالفعل لإنجاح هذا الزواج، لتنال رضى أبويها،و لتزيح همّهما من عقلها بعدها..
اعتذرت رنيم من مجد وابتعدت عائدة نحو المظلة المهيئة لها بشيء من الكآبة.. أبعد ذلك الوقت الذي قضته جالسة في العربة يتوقعون منها أن تظل جالسة تحت هذه المظلة التي تمنع دفء الشمس من الوصول إليها وتملأ معدتها بالطعام والشراب دون هدف؟.. لكن، كما علقت صفية سابقاً، فإن رنيم تتساءل أيضاً عن السبب الذي يجعلها مختلفة عن بقية الأميرات، ولا تسعد بأشكال الراحة والبهرجة هذه كما تفعل الأخريات..
*********************
بعد راحة قصيرة، استأنف الموكب سيره قاطعاً تلك الغابة عبر طريق ممهد يمتد بطولها ولا ينتهي حتى يصل للبحر الواقع خلفها.. لم يكن السير عبر أراضي الجزيرة يمتد لأكثر من يومين، وبعدها سيرحل الموكب على سفينة ملكية تقطع به بحر السلام الواسع حتى تصل لأقرب ميناء من العاصمة (الزهراء) وهو ميناء (ذات المخالب) الذي يقع على الجانب الغربي من القارة العظمى.. وبعدها يسير الموكب عبر تضاريس سهلة حتى يصل العاصمة التي تبعد أربعة أيام عن الميناء..
هذه باختصار هي الرحلة التي سيقطعها الموكب في الأيام العشرة القادمة، كما شرحها لها مجد أثناء راحتها في ذلك الموقع.. وبدا لها بوضوح أنه أخبرها بكل هذه التفاصيل كي تكفّ عن قطع سيرهم بين لحظة وأخرى لتتجول في الأرجاء دون هدف واضح..
وخلال عدة ساعات، قضتها رنيم تتأمل الغابة من نافذة عربتها بصمت، توقف الموكب بعدها وسط الغابة في موضع منبسط تقلّ فيه الأشجار ليعسكر هذه الليلة.. وخلال وقت قصير، وقبل أن تغرب الشمس بشكل كامل، كان الجنود قد أقاموا المعسكر بسرعة وخبرة ونصبوا خيمة فخمة لرنيم وعدة خيام أخرى للوصيفات والخدم وبقية الجنود..
بدا المكان موحشاً بعد غروب الشمس، مع شحّة النور التي تغلغلت من بين الغيوم تلك الليلة، لكن رنيم لم تشعر بأي خوف وهي تجول في أرجاء المعسكر مهتدية بضوء النار التي أشعلت في عدة أجزاء منه..
وفي وقت متأخر من تلك الليلة، بعد أن أوى أغلب الجنود والخدم للنوم بينما بقيت فرقة صغيرة لحراسة المعسكر.. خرجت رنيم من الخيمة الفخمة التي نُصِبَتْ لها وسط الموقع، ووقفت تتأمل القمر المنير وسط السماء.. كان ضوء القمر قوياً وواضحاً بعد زوال أغلب الغيوم التي كانت تحجب نوره، وهو يلقي بلمعة فضية على كل ما يطاله نوره على سطح الأرض.. وبدت تلك الليلة لعيني رنيم مسالمة هادئة بشكل كبير..
تلفتت حولها مدركة أن وصيفتها صفية قد نامت منذ أمد طويل، بينما بقيت فرقة صغيرة من الجنود موزّعين في مواقع حددها مجد في وقت سابق لحراسة المعسكر الصغير.. تسللت رنيم دون أن يلاحظها أحدهم بخطوات خافتة نحو الغابة القريبة.. كان تعلم تمام العلم أن تصرفها خطير في ذلك الوقت، ولن تسلم من تأنيب صفية ومجد لو علما بذلك.. لكنها كانت تريد التجوال بحرية في الموقع دون رقيب بعد أن جافاها النوم لوقت طويل..
نوعاً ما، شعرت أن هذه الرحلة التي تستمر لعشرة أيام هي المتنفس الوحيد الذي قد تحصل عليه قبل أن تضمّها أسوار قصور (الزهراء) في قلبها وتحجب عنها نور الشمس بشكل كليّ.. قد يكون هذا التعبير مبالغاً فيه بشدة، فقصور (الزهراء) تملك أكبر وأجمل حدائق يمكن للمرء أن يرى في حياته، لكن رنيم تشعر أن مثل تلك القصور تغطيها غمامة سوداء تجعل كل ما تطاله كئيباً باهتاً لا روح فيه ولا يزهى بأي لون.. وربما كان هذا راجعاً لنظرتها المتشائمة والتي لا تحمل أي تفاؤل لأيامها القادمة..
كانت الغابة أشد ظلمة مما تخيلت، ونور القمر يتخللها بصعوبة بحيث بدت لها جذوع الأشجار المحيطة بها كأشباح أو ظلال متحركة جعلت قشعريرة قوية تسري في جسدها.. لكنها لم تتراجع وهي مستمتعة نوعاً ما بهذا الشعور.. شعرت بأنها تخوض رحلة خيالية كما قرأت مراراً في بعض الكتب الروائية.. لابد أن بطلة الرواية، لو كانت في موقعها، ستستلّ سيفها وتسير بحذر في هذا الطريق متلفتة حولها خشية أن يباغتها بعض اللصوص أو من هم أسوأ.. لابد أنها ستحاذر في سيرها وستتجنب وطء هذا الفرع اليابس الذي سيصدر صوتاً يوحي بموقعها في هذه الليلة الهادئة.. تماماً كهذا الصوت الذي سمعته من خلفها..
قبل أن تستفيق رنيم من خيالاتها، فوجئت في تلك اللحظة بيد تكمم فمها بقوة وبأداة حادة باردة الملمس تضغط على عنقها وصوت خافت يقول "لا تأتِ بأي حركة إن كنت تريدين النجاة.."
ارتجفت رنيم بشيء من الرعب لتلك المفاجأة.. لم تتوقع أن الخيالات التي دارت في عقلها كان لها جانبٌ من الصحة، ولم تظن أن شخصاً ما يمكن أن يختبئ في هذه الغابة الموحشة.. أهذا الرجل لصٌّ يطمح للاستيلاء على ما ترتديه من حليّ؟.. هل دفعه الفقر لمغافلتها بهذه الطريقة؟.. لاحظت ظهور شخصين آخرين من خلف أشجار قريبة، ثم قال أحدهما بهمس "لنسرع قبل أن يداهمنا بعض الجنود.."
شعرت بالرجل الذي يمسكها يجذبها مبتعداً عن المعسكر غير عابئ بمقاومتها، ثم قال لها بصرامة "اخلعي ما تملكينه من حليّ بسرعة.."
لم تتردد رنيم في تنفيذ طلبه بصمت وهي ترى الخنجر الذي لمس طرفه عنقها.. إذن فهم فقراء دفعهم الجوع للسرقة دون أن يعلموا هويتها حقاً.. وأغلب الظن أنهم لن يسيؤوا لها بعد أن يحصلوا على مبتغاهم..
سمعت أحد الرجال يقول بعصبية "أهذا وقته؟.. لم نتفق على هذا.."
نظرت له رنيم بدهشة بينما قال صاحب الخنجر "نحن لصوص.. لن نقنع أحداً بذلك إن لم نفعل هذا.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة، وهي تحاول التعرف على ملامح هؤلاء اللصوص المزعومين.. فقال الرجل القريب بحدة "أسرعي.. ألم تسمعي ما........."
فوجئت به رنيم يسقط أرضاً بعنف بعد ضربة قوية أصابت رأسه من الخلف.. تجمد الآخران للحظة مع رؤية ما حدث لرفيقهم، بينما نظرت رنيم لمجد الذي وقف خلفها ضامّاً قبضته وقال بحدة "استسلما ولا داعي للمقاومة.."
لكن الرجلين قررا استغلال وجود مجد وحيداً فهجما عليه وهما يطلقان صيحة حانقة لتدخله قبل أن ينجحوا بالفعل.. لكن مجد دار حول نفسه متفادياً ضربة من أحدهم قبل أن يمسك ذراعه الممتدة بخنجر ويوجه له ضربة قوية ألقته للخلف، ثم وجه ركلة لساق الثاني قبل أن يصل إليه أتبعها بضربة قوية بقبضتيه المضمومتين على مؤخرة رأسه أسقطته فاقد الوعي على الفور..
تنهدت رنيم بشيء من الارتياح لرؤية انتصار مجد على الثلاثة بهذه السهولة رغم أنه امتنع من استخدام سيفه المعلق في حزامه، بينما تقدم مجد من الثاني الذي لم يفقد وعيه قائلاً بصرامة "من أنتم؟.. وما الذي دفعكم لمهاجمة الأميرة؟.."
لاحظت رنيم التوتر في وجه الرجل إنما لم يبدُ عليه أي دهشة لمعرفة هويتها وهو يقول بسرعة وارتباك "نحن لصوص.. كنا في موقع قريب ورأينا الموكب الفخم يعسكر قرب الغابة، ففكرنا أننا قد نتمكن من سرقة ما يمكننا بيعه بثمنٍ غالٍ والاستفادة من المال في إعالة عوائلنا.."
ثم أضاف ملوحاً بيديه "لم نكن نعلم أنها أميرة ولم نعلم هوية هذا الموكب.. ظننا أنه ملك لأحد التجار الأغنياء.."
نظر له مجد مقطباً بغير اقتناع، بينما وقفت رنيم قربه تنظر لما يجري بتردد.. ولما سمعت مجد يسأله "ألست كاذباً يا هذا؟.. لن أرحمك لو كنت كذلك.."
هتف الرجل "لست أكذب.. صدقني.."
سمع مجد رنيم تقول "ولكن......."
التفت إليها مجد باهتمام دون أن يغفل عن ذلك اللص، فقالت رنيم بعد تردد "لقد قال رفيقك أنكم لن تُقنِعوا أحداً بكونكم لصوصاً إن لم تسرقوا الحليّ التي ألبسها.. فماذا عنى بذلك؟"
التفت مجد إلى الرجل الممتقع قائلاً بغضب "إذن كان ذلك كذباً بالفعل.. أخبرني.. من أنتم حقاً ومن أرسلكم إلينا؟"
صاح الرجل ملوحاً بيديه "نحن لصوص بالفعل.. ما الذي علينا فعله لتصدق قولي؟"
تقدم منه مجد خطوة مدمدماً "لن تخدعني بهذا يا رجل.."
ودفع نصل سيفه في كفّ يد الرجل اليمنى بقوة صرخ لها الرجل متألماً.. ولما أبعد مجد سيفه تراجع الرجل خطوة وهو منثنٍ على نفسه وقد قبض على يده الجريحة التي تصببت الدماء منها بيده الأخرى.. وفي الآن ذاته اقترب عدد من الجنود بعد أن جذبتهم الأصوات العالية محيطين بالرجال الثلاثة.. ظلت رنيم تنظر لما يجري مشفقة على الرجل للألم الظاهر على وجهه، وراودها خاطر أن تكون قد جَنَت عليه بتعليقها ذاك.. فتقدمت محاولة التراجع عما قالته كي تجنّب الرجل استجواب مجد له، لكن مجد كان قد اقترب من الرجل من جديد قائلاً بصرامة "من أرسلك؟.. أخبرني لتوفر على نفسك المزيد من الألم.."
صاح الرجل وهو يقبض على يده الجريحة بعد أن خلّف فيها سيف مجد جرحاً بليغاً "إنها الملكة.. الملكة هي من أرسلنا.."
اتسعت عينا رنيم بصدمة بينما نظر له مجد بدهشة قائلاً "الملكة؟.. أتعني زوجة الملك قصيّ؟"
هز الرجل رأسه إيجاباً بقلق قائلاً "أجل.. هي من أرسلنا.."
زمجر مجد قائلاً "لا تكذب.. ما الذي أرادت الملكة تحقيقه بهذا التصرف؟"
قال الرجل وهو يتراجع خطوتين بقلق "لا أدري.. كل ما طلبته منا أن نباغت الفتاة بعيداً عن الجنود ونصيبها بجرح في وجهها.. لا أكثر من ذلك.. هذا كل ما طلبته منا وقد دفعت لنا مالاً لتنفيذه.."
نظر مجد لرنيم مقطباً ملاحظاً نظراتها الزائغة، ثم تساءل بحنق "ما معنى هذا؟"
أخيراً، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "أي ملكة تعني بالضبط؟"
أجاب الرجل بسرعة "الملكة الأولى بالطبع.. مولاتي مريام هي من طلب منا ذلك قبل خروج موكبكم من العاصمة.. وطلبت منا تتبع الموكب من مبعدة وانتظار الفرصة الملائمة دون أن نلفت الأنظار إلينا أو إليها.. صدقني.. هذا كل ما هنالك.."
*********************
ظلت رنيم شاحبة وهي تجلس في جانب المعسكر غارقة في أفكارها، بينما تحدث مجد مع رجاله وأرسل عدداً منهم لاستطلاع الموقع حولهم بحثاً عن أي متسللين آخرين.. ثم توجه للفتاة الصامتة واقترب منها متسائلاً "ما الذي تطلبين منا فعله؟.. هل نقتلهم؟"
هزت رنيم رأسها نفياً بشدة، فعلق مجد "قد يكررون المحاولة مرة أخرى في وقت آخر طمعاً في النقود التي وعدتهم بها الملكة.."
ألقت رنيم نظرة على الرجال المقيدين في جانب المكان والبؤس واضح في ملامحهم، ثم خفضت بصرها وهي تهز رأسها نفياً من جديد.. فزفر مجد وهو يتطلع للموقع حولهم، ثم قال "ربما من الخير لنا اصطحابهم معنا مقيدين حتى نصل للميناء.. يمكننا عندها أن نطلقهم قبل رحيلنا على السفينة التي جئنا بها.. بهذا نضمن ألا يعودوا للملكة ويبلغوها بما جرى قبل رحيلنا بالفعل.."
ظلت رنيم على شحوبها وصمتها وهي تفرك يديها باستمرار.. عندها سألها مجد "أتعلمين لمَ فعلت أمك ذلك؟"
همست رنيم بصوت مبحوح "ليست أمي.. بل زوجة أبي.. إنها الزوجة الأولى للملك.."
فقال مجد "هذا ليس سبباً يدعوها لما فعلته!.."
صمتت رنيم وهي تتذكر سخرية أمها من الملكة الأولى لأن هذه الزيجة جاءت من نصيب رنيم عوضاً عن سهى وهي الوحيدة التي لم تتزوج من بنات الملكة الأولى.. عندها قالت رنيم بخفوت "لطالما أعربت أمي عن الحقد الذي ستشعر به الملكة الأولى تجاهي لأن هذه الزيجة لم تكن من نصيب ابنتها الصغرى.. ربما كانت هذه هي وسيلتها لاستبدالي بابنتها قبل وصولنا للزهراء، خاصة أن زواجاً كهذا لن يتكرر لمملكتنا الصغيرة.. فبجرح في وجهي، لن يتردد ولي العهد في رفضي دون أن يثير غضب أبي الملك ويسيء العلاقات بين المملكتين.."
نظر لها مجد بشيء من التعجب للهدوء الذي تتحدث به رغم شحوبها الواضح، ثم تساءل "ألستِ غاضبة لما جرى؟"
تطلعت رنيم لجانب الموقع وهي تكبت دموعها بصعوبة، ثم قالت بصوت مرتجف "لو كنت أعلم بما تنتويه الملكة، لتنازلت عن هذا الزواج منذ البدء.. لست سعيدة بارتباطي بولي العهد، ولن يهمني لو حظِيَتْ أختي سهى بهذا الشرف.. لماذا تلجأ الملكة لهذه الأساليب الرخيصة لتنحيتي من المستقبل الذي خططته لابنتها؟"
صمت مجد وهو بين مشفق على رنيم من الصدمة التي حاقت بها، وبين متعجب لخنوعها الظاهر.. لو كان الأمر يخصّ أميرة أخرى لملأت الدنيا صراخاً غاضباً لما جرى.. لكن ردة الفعل الهادئة هذه قد فاجأته.. فجلس قربها قائلاً "أتسمحين لي بأن أنصحك بشيء؟.."
نظرت له في استجابة صامتة، فقال "سترين الكثير بين جدران القصر، وستواجهين الكثير بالفعل.. لكن لو تصرفتِ بمثل هذا الخنوع وصُدمتِ لكل خيانة من شخص قريب منك، فلن تعيشي في هذا العالم طويلاً.. كل ما يمكنني أن أنصحك به أن تتجاهلي وتحاذري من الجميع.. المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته.. هذا شأن القصور في كل مكان وزمان.."
خفضت رنيم رأسها وهي تقول بصوت متهدج "أعلم ذلك تمام العلم.. لكني لا أطالب بالكثير.. كل ما أريده هو أن أترك وشأني.. أن أعيش حياتي بهدوء وسكينة.."
فقال مجد متأملاً ملامحها "إذن لمَ لا تتحررين من هذه القيود؟.. لمَ لا تفصحين عن رغباتك بوضوح وحزم؟.."
صمتت للحظات وهي تتذكر مواجهاتها البسيطة مع الملك والملكة في السابق، ثم أدارت وجهها جانباً مغمغمة بمرارة "هذا مستحيل.. هذه ليست أنا، ولا يمكنني أن أكون أكثر حزماً وقوة.. لا يمكنني مجابهة الآخرين دون أن أخضع وأنكسر بسهولة.."
علق مجد بحزم "ربما لم يَفُت الأوان لتغيير ذلك.."
هزت رنيم رأسها بشدة واستنكار، فتنهد مجد وقال "لن تستفيدي أمراً من هذه السلبية.. وأنا أعني ما أقوله.."
وغادرها عائداً للرجال المقيدين بحراسة بضع جنود تابعين له.. بينما زفرت رنيم وهي تنظر للأرض العشبية بصمت.. كيف يطلب منها مجد مثل هذا الطلب؟.. إنه لا يعرفها، ولو عرفها حقاً لأدرك أن حالها ميؤوس منه.. لو كان بإمكانها التغيير لما كانت في هذا الموقع وتخوض مثل هذه التجربة التي خلّفت مرارة في حلقها..
*********************
مضى اليوم التالي على الموكب في سيره نحو ميناء آرطا الحيوي الذي كان أقرب المواقع من القارة العظمى حيث تحتل مملكة بني فارس جزءاً كبيراً منها.. كان الميناء هو الأكبر على الجزيرة التي تحتلها مملكة بني غياث، وهذا الميناء هو ثاني أكبر مدينة في المملكة بعد العاصمة.. لذلك كانت الحركة على أشدها في أرجاء الميناء وفي المدينة المحيطة به حيث تبقى ساهرة أغلب الأحيان لتلبية احتياجات السفن القادمة للمملكة والتي لا تكاد تهدأ ليلاً أو نهاراً..
أمضت رنيم أغلب هذه الرحلة بصمت تام وهي سارحة في أفكارها الخاصة.. بدأ حماسها في هذه الرحلة يخفت وأفكارها تدور حول تلك الحادثة التي تكشف لها ما كانت غافلة عنه من خبايا قصر أبيها.. يمكن، لو صحّ القول، أن نَصِفَ رأس رنيم بأنه كان معلقاً بين الغيوم طوال سني عمرها.. لم تكن تدرك ما يدور في القصر من دسائس وما يخفيه من أسرار وخبايا.. لم تكن تحمّل أي ابتسامة تراها على وجه شخص في القصر أكبر من قدرها، ولم تكن تتساءل عن مغزى أي كلمة أو تصرف يصدر من أي شخص..
قد يصفها البعض بأنها براءة، رغم نباهتها في أمور أخرى.. وقد تكون مجرد سذاجة.. لكنه في الحقيقة كان انفصالاً عن الواقع.. كانت رنيم تعيش في عوالم أخرى وحكايات أخرى.. قد تنتبه لأدنى قدر من الخبث والنوايا السيئة في إحدى شخصيات رواية تقرؤها، لكنها لا تقتنع أن هذا يمكن أن يحدث في الواقع ومن أقرب الأشخاص إليها..
فكيف، بعد كل هذا، يمكنها أن تقتنع أن زوجة أبيها يمكنها أن تقوم بعمل خسيس كهذا؟.. كيف يمكنها أن تتصور حقداً يعتمر صدر تلك المرأة التي تحمل ملامح نبيلة ورثتها من عائلتها العريقة؟.. كيف؟؟!!!.. هذا ما يكاد يخرج رنيم من طورها ويصيبها بشيء من الكآبة.. ورغم محاولات صفية الدائمة للتسرية عنها والتخفيف من وقع هذه الصدمة عليها، إلا أن رنيم كانت تستمع لها بنصف وعي وهي تراقب ما يمر به الموكب الملكي في سيره نحو ميناء آرطا..
وعند وصول الموكب إلى الميناء في وقت متأخر من ذلك اليوم، فإن المكان كان ينبض بالحياة وكأن اليوم لا يزال في بدايته، والمدينة تغصّ بسكانها وبالبحارة والمسافرين الذين وصلوا على ظهر إحدى السفن أو يستعدون للرحيل على ظهر سفينة أخرى..
ظلت رنيم تراقب الأحياء والشوارع التي يمر عبرها الموكب لافتاً أنظار الجميع دون استثناء.. ورغم انشغالها بما تراه، فإنها لم تُبدِ حماسة أو تُظهر شغفاً بما تشاهده للمرة الأولى في حياتها.. وهذا أقلق صفية نوعاً ما وهي تقول مشيرة عبر نافذة العربة "أترين هذا يا مولاتي؟.. هذا هو الميناء الذي تدور حوله هذه المدينة.."
ثم أضافت بابتسامة "لا يمكنك تصديق ما يمر عبر هذا الميناء كل يوم من بضائع نفيسة.. يقال إن من يتمكن من السطو على هذا الميناء ولو لمرة واحدة، سيغدو ثرياً ما بقي له من العمر.. لكن طبعاً هناك حراسة قوية وفرق كاملة من الجنود تحرس الميناء من السرقات ومن أي هجوم متوقع من دولة معادية.."
لم تعلق رنيم بكلمة وهي تحدق من النافذة بصمت كعادتها مؤخراً.. عندها قالت صفية بإشفاق "لا تُتعبي نفسك بالتفكير فيما جرى يا مولاتي.. ما فعلته الملكة الأولى ليس غريباً عليها حقاً، لكنك لم تعرفي شخصيتها الحقيقية من قبل لأنك لا تهتمين لأمور القصور وما يجري فيها.. أنت بريئة التفكير ولا يمكنك تخيّل الدسائس التي تجري من حولك في القصر.."
غمغت رنيم "تقصدين أنني بلهاء لأنني ظننت أن الملكة الأولى سعيدة لزواجي كما هي أمي.."
أسرعت صفية تقول "لستِ بلهاء يا مولاتي.. بل ساذجة.. هناك فرق بين الاثنين.."
ابتسمت رنيم ابتسامة هازئة دون أن تعلق، فأضافت صفية "انسي ما جرى يا مولاتي.. لا نعلم متى سترين الملكة الأولى من جديد.. ثم إن مجد قد تمكن من حمايتك بنجاح حتى الآن، ولن يعجز عن فعل ذلك فيما بقي لنا من الرحلة.."
تنهدت رنيم وهي تعود بأفكارها لمجد.. وكلماته التي اختتم بها تلك الليلة المشؤومة لا تزال تتردد في ذهنها طوال الوقت.. (المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته).. أحقاً ستعيش في (الزهراء) حياة مشابهة للحياة التي عاشتها في قصر أبيها؟.. ما فائدة زواجها إذن؟.. أهي مجرد قطعة في رقعة شطرنج يحركها أبوها كيفما يشاء دون إرادة؟.. يبدو أنها فعلاً كذلك.. إنها تدرك ذلك منذ مدة، لكن لا تملك تغيير واقعها بشيء بتاتاً..
لاحظت أن الموكب قد توقف عن سيره، ولما نظرت من النافذة رأت ملامح الميناء واضحة لعينيها.. رغم أنها لم ترَ ميناء من قبل في حياتها، وهي التي لم تغادر العاصمة قبلاً، إلا أنه لم يكن من الصعب عليها إدراك مدى ضخامته.. وتبدّت لعينيها أعداد لا تحصى من السفن مختلفة الأحجام وقد توزعت في جوانبه بينما رسى بعضها في موقع أبعد قليلاً وسط الخليج بانتظار فراغ موقع قريب من رصيف الميناء.. ومع الحركة الشديدة في أرجاء الموقع، فإن الجنود فور وصولهم قد شكلوا طوقاً حول عربتها لمنع المتطفلين من الاقتراب منها حتى صعودها على السفينة القريبة..
هبطت رنيم من العربة متلفتة حولها وقد لاحظت كثرة الأعين الفضولية التي ترمقها من بين المتحلقين حول الموقع.. لكنها لم تعلق وهي تتقدم برفقة مجد ووصيفتها خلفها نحو السفينة القريبة.. غنيّ عن القول أن رنيم انبهرت بضخامة السفينة وحجمها وبهائها وهي تصعد إلى سطحها.. وخلال وقت قصير، كانت العربات الملكية قد حملت إلى قلب السفينة عبر معبر خاص، ومعها أغراض رنيم التي جلبتها معها..
ومع كل لحظة تمضي، كانت رنيم تتساءل وهي تجول في أرجاء السفينة "ألن تغرق السفينة مع حجمها الهائل هذا؟"
لكن مجد كان يجيب على أسئلتها القلقة بابتسامة جانبية وثقة شديدة.. ولما بدأت السفينة رحلتها الطويلة، تأكد لرنيم أن مخاوفها لم يكن لها أساس من الصحة.. كانت السفينة تقطع البحر وأمواجه بكل سلاسة وقوة والهواء المندفع يقوّس الأشرعة للأمام.. قضت رنيم الساعة الأولى تراقب رحلة السفينة مذهولة لهذه القدرة الخفية على الطفو فوق سطح المياه العميقة رغم وزنها الثقيل.. لكن لم يطُلْ بها الوقت قبل أن يداهمها غثيان شديد ودوار عنيف جعلها تتكوّم في جانب السفينة بتعب..
اقتربت منها صفية بقلق شديد وهي تهتف "مولاتي.. ماذا أصابك؟.. أأنت على ما يرام؟"
لوحت لها رنيم بيدها وهي عاجزة عن الإجابة، ولم تلبث أن أفرغت معدتها من فوق حاجز السفينة رغم مقاومتها لذلك.. فقالت صفية وهي تمسح جبهتها التي بدأ العرق ينضح منها وتناولها منديلاً "يحسن بنا أن نتجه للغرفة المخصصة لك.. هناك يمكنك أن تنالي قسطاً من الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة وتمايلها.."
سمعتا صوت مجد الذي اقترب قائلاً "لا.. على الأميرة أن تلجأ لغرفة أخرى.. سأنقل أمتعتها لغرفة ثانية تتوسط السفينة، وستكون أفضل بدون شك.."
تساءلت صفية بدهشة "أليست الغرفة الأولى هي الرئيسية في هذه السفينة؟.. لماذا تريد نقل الأميرة؟"
أجاب مجد "كما قلت لك، ستكون الأخرى أفضل لها وأكثر راحة.."
قالت صفية بشيء من الحدة لم تملكها "ليس من مقام الأميرة البقاء في غرفة صغيرة.. لقد تفحصت أغلب غرف السفينة وتلك التي تقع في مقدمتها هي الأكبر.. هل تهدف للتقليل من شأن الأميرة؟"
قال مجد وهو يعاون رنيم على النهوض "قطعاً لا.. لمَ أنت محتدة هكذا؟"
لكن رنيم قاطعت جدالهما وهي تجبر نفسها على السير بمعاونة مجد.. لم تكن تقوى على البقاء في موقعها والغثيان يزداد حدة مع كل لحظة تمضي.. بدأت الأرض من حولها تميل بشدة وبدت ساقاها لينتان تكادان لا تقويان على حملها.. ولولا اعتمادها على ساعد مجد القوي، لتهاوت بعد الخطوة الأولى أرضاً..
وعند وصولها للغرفة التي حددها لها مجد، أدركت رنيم أنها أصغر وأكثر ضيقاً من الأولى بكثير.. لكنها لم تقوَ على الجدال وهي تستلقي على السرير البسيط بعد أن غادر مجد متمنياً أن تسترد عافيتها بسرعة.. وبينما أغمضت رنيم عينيها بتعب، فإن صفية أخذت تجول في الغرفة الصغيرة وهي تقول بحنق "ما الذي يعنيه هذا؟.. أهو يتهاون بمقام الأميرة؟.. ألن تكون زوجة مولاه؟.. كيف يمكنه أن يتخذ تصرفاً كهذا دون الرجوع إلينا؟.."
لم تعلق رنيم بكلمة، لكن ما قالته قد دار في ذهنها لوقت طويل.. لقد لاحظت سخرية مجد منها في الأيام الماضية، وهي مبطنة بابتسامته الجانبية دون أن يتخلى عن تهذيبه الدائم.. ولقد بدأ هذا منذ رآها مهتمة بالفرس الخاصة به.. فهل بدأ يتهاون بمقامها حقاً؟.. لم تكن تهتم بتلك المقامات والدرجات الاجتماعية، لكنها لا تريد سخريةً من شخص ينتمي لزوجها المستقبلي مما قد يفسد زواجها لأمر أو لآخر.. فما الذي عناه مجد حقاً بهذا التصرف؟..
*********************
بعد أن ساد الظلام أرجاء السفينة، وخلدت وصيفتها للنوم في غرفة جانبية قريبة من غرفتها، نهضت رنيم بعد أن استردت شيئاً من قواها وراودتها رغبة قوية بالخروج من هذه الغرفة الضيقة.. فتحت بابها متطلعة للممر خارج الغرفة والذي سادته ظلمة موحشة، لكنها لم تعبأ بهذا وهي تغادر بصمت وخطوات خافتة متخلية عن حذائها لئلا يصدر صوتاً يجذب إليها الأنظار.. كان الغثيان قد خفت قليلاً إنما لا تزال تشعر بمعدتها متقلبة وكأنها ستخرج من فمها في أي لحظة.. تجاوزت ذلك الممر بأبوابه المغلقة حتى وصلت للسلم الخشبي الذي يقودها لسطح السفينة، فنظرت عبر الفتحة للحظات خشية وجود شخص على السطح قد يعترض على خروجها في ذلك الوقت المتأخر.. سارت رنيم عبر سطح السفينة الخشبي بخفة وهي تتنفس بقوة والهواء المنعش المشبع برائحة البحر يملأ رئتيها.. وللدهشة، بدأ الغثيان يخفت أكثر فأكثر وشعرت أنها ستغدو على ما يرام خلال لحظات.. لذلك شتمت مجد في سرها بعد أن أجبرها على البقاء في تلك الغرفة الخانقة..
سارت مستطلعة جوانب السفينة الواسعة، حتى وصلت لمقدمتها حيث رأسها المزخرف والذي يحمل علامة مملكة بني فارس المميزة بشكل بارز، بالأسد المزمجر والتاج الملكي على رأسه.. فوقفت قرب الحاجز الخشبي لتنظر للأفق المظلم وتطلّ على المسطحات المائية الشاسعة التي لم ترَ مثلها من قبل.. لم تعرف من قبل، مع كل ما تسمعه عن البحر، أن له سطوة كاسحة تُشعر ركاب السفينة بالضآلة والضعف.. كانت تتوق سابقاً لرؤية البحر وخوض غماره، لكنها الآن مع الضعف الذي تشعر به، فإن سطوة البحر بدت مهيمنة عليها وتثير رجفة في أعماقها بشدة..
ظلت رنيم تراقب الأمواج والهواء البارد يعبث بشعرها، ولما طال وقوفها على السطح الذي تمايل مع تمايل الأمواج تحته، عاد لها الشعور بالغثيان بقوة حتى أجبرها على إفراغ معدتها من فوق ذلك الحاجز.. ظلت رنيم في موقعها وهي تكاد تفقد قواها مع التعب والغثيان القوي، لكنها تشبثت بحد السفينة بإصرار وهي تلهث بقوة عندما فوجئت بضحكة تتعالى من موقع ما خلفها.. أدارت رنيم رأسها عابسة لترى، في موقع مرتفع من السفينة وعلى أحد صواريها، مجد ينظر لها بابتسامة جانبية كما أصبح يفعل في الأيام الأخيرة.. وسمعته يقول "لم أتوقع من أميرة نبيلة أن تفرغ معدتها بهذا الحماس أمام الآخرين.."
قالت بعبوس "ما الذي جاء بك لهذا المكان في مثل هذا الوقت؟"
أجاب رافعاً حاجبيه "للمرء الحق بأن يصاب بالأرق.. أليس كذلك؟.. كان حريّاً بك البقاء في غرفتك وإطاعة ما طلبته منك.."
لم تجبه رنيم وهي تبحث في ثوبها عن منديل تمسح به فمها، ولما لم تعثر على واحد قالت بضيق "تباً لهذه الرحلة المشؤومة.."
شعرت بشيء يسقط على رأسها، ولما مدت يدها إليه وجدت منديلاً سقط عليها بخفة بينما تعالى صوت مجد قائلاً "لا تلقي لعناتك على رحلتنا، فأنا سأكون الملام الوحيد لو لم نصل لوجهتنا سالمين.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح فمها وتشعر بالغثيان يعود لها من جديد، بينما هبط مجد من موقعه المرتفع وهو يغمغم "يا لك من عنيدة.. عودي لغرفتك وخذي قسطاً من الراحة.. ستصبحين أفضل حالاً في الصباح.."
رآها تضغط على فمها بيد، قبل أن تقول بصوت متعب "الغثيان لا يخفت أبداً مهما تقيأت.. كيف تريدني أن أصدق قولك؟"
قال وهو يقف قريباً "لأنك ترفضين اللجوء لبعض الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة.. ثم إن وقوفك في مقدمتها حيث الحركة أشد وضوحاً كفيل بزيادة تعبك وشعورك بالغثيان.. الموقع وسط السفينة أكثر ثباتاً، لذلك أصررت على أن تبقي في إحدى الغرف القريبة من وسط السفينة.."
نظرت له بشيء من الدهشة.. إذن لم يفعل ذلك احتقاراً لها؟.. هل أخطأت الظن به؟.. شعرت بالسوء نوعاً ما، فأدارت وجهها جانباً وغمغمت "لقد شعرت بشيء من الراحة مع هذا الهواء المنعش، وهو أفضل من تلك الغرفة الخانقة بالتأكيد.."
عندها قال مجد "إذن هناك حل آخر أكثر ملاءمة لحالك هذه.."
نظرت له باستفهام، فأشار للأفق قائلاً "ثبتي بصرك على الأفق لبعض الوقت.. رؤيتك لحركة الأمواج القريبة تزيد من شعورك بالغثيان.. الأفق أكثر ثباتاً، وإطالة النظر إليه ستعيد التوازن لجسدك وسيخفت التعب سريعاً بعده.."
ترددت رنيم للحظات، ثم أخذت بنصيحته وهي تتأمل الأفق المظلم إلا من انعكاس نور القمر الخفيف على الأمواج.. ظلت تراقب الأفق بصمت ومجد يقف في موقع قريب يراقب البحر بدوره.. فتساءلت رنيم عن سر ذلك الاهتمام الذي يبديه مجد تجاهها.. أهذا بسبب مرضها؟.. هل يخشى من تأنيب الملك له لو حدث لها شيء في هذه الرحلة؟.. هل يشعر بالشفقة تجاهها؟.. ليس هذا ما تريده بحال..
بعد قليل، شعرت أنها أفضل حالاً.. ومع كل لحظة تمضي، تشعر أن تعبها وغثيانها يخفت أكثر فأكثر.. لكن ألن يعاودها الغثيان حقاً؟..
ويبدو أن مجد قد سمع تساؤلاتها الصامتة، فقال فجأة محطماً ذلك الهدوء "لو زال عنك الغثيان، فستكونين بخير لما تبقى لنا من الرحلة.. عليك أن تتعلمي التحكم بجسدك بصورة أفضل.."
غمغمت رنيم "وهل هذا ممكن حقاً؟"
أجاب مجد "يمكنك ببعض الإرادة لو كنتِ تملكينها حقاً.."
شعرت رنيم أن قوله يحمل بعض التأنيب لها بسبب ما دار بينهما من حديث في ليلة الهجوم عليها، وما تلاه من تهاون رنيم في التصرف بشكل حازم فيما يخصّ حياتها.. لكن مجد الذي لاحظ انقباض ملامحها بضيق، سارع ليقول "أتعلمين؟.. لم يكن رد فعلي في أول رحلة قمت بها على ظهر سفينة يختلف عما جرى لك.. بل ربما كان أسوأ.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال بابتسامة "رغم أنني كنت رجلاً تجاوز العشرين من عمره بعدة سنوات، لكني قضيت أغلب تلك الرحلة أفرغ معدتي من فوق حاجز السفينة بكل حماس.."
ضحكت رنيم لتعليقه، فيما قال بابتسامة "لذلك، أشعر تماماً بما تشعرين به.."
تساءلت رنيم "وإلى أين كنت ذاهباً على ظهر تلك السفينة؟"
أجابها متطلعاً للأفق "كنت متوجهاً للزهراء في رحلتي الأولى.. فأنا لست من سكان (الزهراء) في الحقيقة، بل نشأت في جزيرة صغيرة من (الأرخبيل الأسود) الذي يتوسط بحر السلام.. وعندما بلغت ذلك العمر، قررت أنني أريد التوجه لعاصمة الملك عبّاد والانضمام لجيوشه.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة، ثم تساءلت بشغف "ما اسم الجزيرة التي نشأت عليها؟.. وكيف كانت تبدو؟"
أجاب بابتسامة لفضولها "تلك جزيرة صغيرة نسبياً تقع وسط الأرخبيل، واسمها (جزيرة القمة البيضاء).. وبسبب موقعها المتوسط فإنها قد شهدت بعض المعارك بين جيشي المملكتين المعاديتين كان آخرها قبل أن أرحل من الجزيرة بالفعل........"
علقت رنيم "لم أسمع بهذه الجزيرة من قبل رغم كثرة قراءاتي في مكتبة أبي.."
نظر لها مجد باهتمام قائلاً "حقاً؟.. لا أتوقع أن تتحدث الكتب عن جزيرة بغير أهمية كجزيرتنا، كما لم أتوقع بتاتاً أنك تحبين قراءة الكتب.."
علقت رنيم بشيء من التردد "أحبها بالطبع، لكن......"
خشيت للحظة من أن يسيء هذا لصورتها أمام مجد، لكنها وجدته يبتسم قائلاً "رائع.. هذا يثبت لي أنك بالفعل مختلفة عن بقية الأميرات فارغات العقل ممن لا يستهويهن إلا الجواهر والحلي.."
ابتسمت رنيم مع دهشتها لتعليقه، وقالت "في الواقع، تتذمر أمي باستمرار من كوني مختلفة.. وهذا سبب لضيقها مني منذ نشوئي.."
غمغم مجد "لابد أن الملكة تطمح لأن تكون ابنتها كما هن بقية الأميرات.. رغم أن هذا ليس الخيار الأفضل دائماً.."
ثم التفت إليها مغيراً الموضوع "أتعلمين أن أسطورة معينة تتردد عن الجبل الذي يتوسط جزيرتنا؟.. إنها أسطورة قديمة جداً وعلى جانب من الغرابة يجعلها بعيدة عن الصحة بشكل أكيد، لكن كبار السن يؤمنون بها بشكل مطلق.. إنها تقول إن اليوم الذي سيطلق فيه الجبل حممه ويلتهم نصف الجزيرة، سيكون هو اليوم الذي سيخرج فيه شاب من شبابها يملك مقدرة غير عادية على مواجهة هذا الخطر، وسـ........."
استمعت له رنيم بكل اهتمام وشغف.. كانت تحب قراءة الحكايات التي تحكي عن مناطق لم ترها من قبل في هذا العالم الواسع.. والآن، مع استماعها لمجد، فإن شعوراً مشابهاً قد راودها وهي تنصت له بكل اهتمام.. ورغم التعب الذي نال مجد من الرحلة في هذا اليوم، فإنه لم يتنصل من هذا الحديث مع رؤية اللهفة في عينيها وهي تستمع له.. ومع مرور الدقائق بسرعة كبيرة حتى قارب الفجر على الانبلاج، فإن رنيم لم تترك أي جزء من رحلات مجد في أرجاء مملكة بني فارس لم تسأله عنها.. وعندما طالبها أخيراً بالعودة لغرفتها لنيل بعض الراحة، غادرت رنيم عائدة لغرفتها وقد زال عنها شعور الضيق والكآبة اللذين استعمراها منذ تلك الحادثة.. بدأت تدرك أن مجد، رغم صرامته ورغم تصرفاته التي ضايقتها أحياناً، فإنه شخص طيب ولطيف معها.. والأهم من ذلك يملك الكثير من الحكايا التي أمتعتها وأنستها همومها ولو بشكل مؤقت..
وشيئاً ما، شعرت أن ذلك الرجل الذي يقارب في عمره عمر عمها الثاني، قد أصبح أقرب إليها بحكاياته وبلطفه الذي أظهره بشكل باغتها.. وأصبحت ترى أن رحلتها تلك ستغدو أكثر إمتاعاً وثراء مما ظنت بكثير..
*********************
|