كاتب الموضوع :
مشاعِر
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
6/ لقاءٌ و وِد .
تابع / النبض السادس
لقاءٌ و وِدْ
-98-
الغرفة مُظلمة إلا من ضوء الأبجورة الخافت اللي أرغم الظلمة على فرض نوره ، يتوسط الغرفة سرير واسع يعكس فخامة وذوق فاخر ، يتوسط السرير جسد مُفتح عيون جافاها النوم وسيطر عليها الحزن .
انقلبت و أعطَت النور ظهرها وإلتفتت للظلام ، الظلام اللي سيطر عليها وسلب كل جميل منها ، رجعت و إنقلبت من جديد للجهة الآخرى جهة النور وتفكيرها ياخذها ويجيبها وما يرسى له على بر ، رفعت جفونها للضوء وكأنها تستمد منه معاني مفقودة ، أخذت نَفس و إستجمعت قواها ، لملمت عزيمتها ، شدّت من نفسها ثمّ استقامت .
قبل ما تخطو خطواتها خارج الغرفة ، رشَّت من عِطرها اللي يحبه ، صلّحت شعرها المُموج بأطرافه اللي تداعب خصرها ، لوّنت شفاهها بلون الزهر ثمَّ حاولت رسم ابتسامة لكنها تلاشت تدريجياً لمّا طاحت عيونها على شنطة سَفــرُه ، وفذيك اللحظة قواها تراخت ، عزيمتها انهدّت و حصونها انهارَت .
رَجعت و جلست على طَرَف السرير و هي تعاتب نفسها والدمعة على رموشها تعلّقت .
أحلام ، أحلام إنتِ إيش تسوي ؟؟ ، إنتِ مستوعبة اللي تسويه ؟؟ أو بتعبير أصح إنتِ عارفة أصلاً إيش اللي تسويه ؟؟ ، عارفة فداحة اللي تسويه ؟؟ ، متخيلة نذالة اللي تسويه ؟؟
وعلى ضوء أسئلة ضميرها ، تَعَب قلبها فـ نزلت دموعها اللي أمسَت رفيقتها !
وعلى النقيض من صوت ضميرها ، هناك صوت آخر في داخلها يقول لها بأنها لازم تسوي كذا ، لازم تكون قوية وتشد من نفسها ، لازم تسوي كذا .... لمصلحته ، لمصلحته بغض النظر عن مصلحتها هي أو حتى رغبتها .
أخذَت نَفس عميق ، مسحت دموعها ، صلّحت شكلها مرة ثانية و خَرجت ، ولمّا طاحت عينها على غرفة المكتب توترَت ، لكنها شدّت من نفسها وطرقت الباب ، لمّا ما جاها جواب دَخلت بهدوء .
نظرت للشخص القابع ورا المكتب ويطالع النافذة وما باين منه شيء ، اقتربت من كرسي المكتب الجلدي بخطوات قصيرة ، اقتربت من حبيبها والتوتر تمكّن منها ، وانفطر قلبها لمّا شافته نايم وهو مسند راسه على الكرسي ، واضح أنه ما هو مرتاح حتى في نومه .
اقتربت منه ، نادت إسمه بصوت خافت ، و صحى من نومه على نداءها الثالث ، مسح وجهه بتعب ، رفع جفونه ونظر لها باستغراب لتواجدها في هالمكان وفي هالزمان !
سأل بخفوت وبصوت مبحوح خشن وهو يدور بالكرسي عشان يقابل طاولة المكتب : الساعة كم الحين ؟
برقة ردّت : الساعة وحدة
استقام ومشى ناحية الكنبة الطويلة بدون ما يلتفت صوبها ، انسدح وحط ذراعه على عيونه : طفي النور إنتي وطالعة
من شهرين وبرغبة منها ، ما قام يجمعهم فِراش ، هو في مكتبه وهي في غرفة النوم و هالبُعد المُقيت المرفوض من قلوبهم سار بعلاقتهم لطريق شائِك ، موجع لكِلا الطرفين !
بللت شفتها السفلية بتوتر ، ما متعودة يعاملها بهالشكل و بهالبرود ، بس هي تدري أنه هالشيء بسبب اقتراحها له بالزواج ، تنهدت وجلست على ركبها على جانبه الأيسر .
كان ينتظر – بفارغ الصبر - النور ينطفي والباب ينغلق وهي تطلع ، شوفتها ، شوفتها بس كفيلة لإستنفار كل خلية في جسده ، لكن لا النور انطفى ولا الباب انغلق ولا هي طلعت ، فتح عيونه لمّا حَس أنها قريبة ، عطرها العَبِق دليله ، قابَلُه وجهها الحبيب ، وقرا في عيونها الدامعة كلام ودها تقوله ، فاعتدل في جلسته ينتظر لؤلؤ كلامها ينتـثر !
جلست بجانبه ، التفتت له : طارق
بدون ما يطالعها : نعم
بهمس باكي : ممكن تشوفني !
نبرة البكا في صوتها تعذبه ، تذبحه ، تدمي قلبه ، و لو قالت له بذات النبرة أنه يرمي روحه في البحر ما تردد لحظة ، إلتفت ناحيتها ومع شوفة وجهها توقدت مشاعره أكثر ، هدوءه الظاهري كان يعاكس تماماً الضجيج الحاصل داخله .
سحبت نفس عالي مسموع : أنا آسفة
ضيَّق عيونه وميّل راسه بتساؤل : على ؟
رفعت جفونها له : على الكلام اللي قلته اليوم الصبح وعلى ... وعلى " و اختنق صوتها وعجز يطلع "
رُغماً عنها بكت ، وعلى إثر بكائها إقترب منها أكثر ، أحاط وجهها بكفوفه وأخفض وجهه لمستواها : لا تصيحي ، خلاص اهدي
ياكثر بكاش يا أحلام ، و يا شدّة وجع طارق منه ، ما تدري هالفاتنة اللي أمامه أنه على الرُغم من وجع صدها و وجع بُعدها و وجع الحرمان اللي يذوقه على يدها إلا أن كل هالأوجاع ما تجي رُبع الوجع اللي يعتريه لمّا تبكي وينفضح حزنها ... الكاوي لقلبه ، الحارق لروحه ، المُميت لكل شيء فيه .
أسندت رأسها على صدره و بنبرة حزينة ، باكِية ، موجوعة همست : أدري فيك تتعذب كل اليوم بسببي و أعرف زين إني سبب كل أوجاعك وإنك ما مرتاح من هالحال
رفعت راسها له ، أكمَلت : لكن أدري بعد أنك ممكن ترتاح لا ... " شهقت " لا صار عندك ولد .
انتفض بغضب من هالسيرة ، وقف ، واجهها ، و زمجر : إسكتي ، إسكتي ، عنبو دارش يا أحلام ما انتي واثقة إني أحبش وحدش ، راحتي وفرحي وحزني وكل شيء معش إنتي " بحدة " إنتي !
أغمضت عيونها سامحة لدموعها بالجريان والتدفق أكثر وبوجع و حرقة قالت : بس أنا ما أجيب عِيال
فتحت عيونها ، والحقيقة المُنطلِقة من فمها تحوّل قلبها لـ رماد : طارق إفهم دخيلك أنا.... " شهقت بوجع " أنا عقيم
رجع وجلس بجانبها ، حضنها وهو يحتوي حزنها ، يدري كيف هالكلام اللي قالته ذبحها مليون مرة قبل ما يخرج من فمها ، هي في النهاية أنثى وأي أنثى تحب يكون عندها أطفال ، و إذا انحرمت منهم حسّت بالنقص فـ أنوثتها .
بكت بحرقة على صدره ، بكت حنانه اللي يغرّقها فيه بكل كرم ، بكت مشاعره اللي ما يبخل في إظهارها ، بكت حُبه المُوَجَه للشخص الخطأ ، ثمَّ بكت على حالها من عقبه بعد ما تبتعد عنه و تغنّي الموّال اللي في راسها ، والله لـ تموت من غيره ، تموووت .
قبّل قمة راسها وهو يمسح على شعرها : لو بس تعرفي إنه لا وَلد ولا حريم الدنيا كلها يسووش
بكت أكثر بصوت أعلى
رفع راسها ، مسح دموعها وعيونه تبرق بوجع من حالهم : إهدي يا نبض طارق ، إهدي
شبكت ذراعيها حول عنقه ، وأسندت راسها على صدره و بكت ، بكت أكثر ، ولمّا خَلص البكي هدَت هدوء ظاهري لكن قلبها - ما زال - يبكي ، أغمضت عيونها وهي تستشعر هالقُرب الحاني بوجع . للحين ما تدري كيف راح تعيش من غيره ؟ ، كيف راح تتحمّل فراقه ؟
سكون غلّف الأرجاء ، أتلفه صوت طارق : قومي نامي تأخر الوقت
كان يبيها تبعد ؛ لأنه يدري أنه هالقُرب الحامي يجر قُرب أكثر حميمية وهو ما يبي يأذيها بأي شكل من الأشكال !
لكنها أصدَرت صوت رافض لـطلبه ، وشدّت على رقبته أكثر
شعور بالفرح تحرك داخله ، لكنه همس وهو يستنشق أريج شعرها : قومي يلا
وكأنه بالي قاله يريد منها تأكيد على قبولها لـِ هالقُرب ، وحصل اللي يريده لمّا ردّت بصوت هامس وعيون مُغمضة مُثقله بالمشاعِر : ما أريد
سأل وهو يبعد وجهها عن صدره : ما تريدي ؟
هزّت راسها بالرفض وعيونها ترمقه بحُب ووجع وحزن وحنين وإحتياج وبـ مشاعر مختلطة ، هي محتاجة لهالقُرب أكثر منه ، محتاجة تحتفظ بـ ذِكرى أخيرة تجمعهم ، هي تدري أنها باللي راح تسويه هـ تكون نذلة في نظره ، لمّا تبتعد عنه وعن حياته وهو مسافر بدون ما يدري إنها استغفلته راح تصير صورتها في عينه بشعة ، وهذا هو الشيء اللي تريده ، إنه يتزوج غيرها ، يجيب عيال من غيرها ، يرتاح مع غيرها بغض النظر عن راحتها .
انتشى قلب طارق بالقبول اللي لمحه بوضوح فعيونها ، وما كان منه إلا احتواء روحها بكل شوق و رغبة ولهفة ، و كأنه كان تائِه في صحراء قاحلة ولقا نفسه فجأة في جَنّة غنّاء ، كان ميِّت عطش وفجأة ارتوى ، كان غرقان حزن وانتشله الفرح فجأة من العذاب .
-99-
ركب سيارة الأجرة وعلامات القلق بادية في وجهه ، يتصل في أحدهم لكن يبدو أنه الشخص الآخر ما يرد ، همس : رد جون ، دخيلك رد
ولمّا فقد الأمل أعاده جون له لمّا أجاب : نعم عُمر
رد بسرعة : جون هذا فخ ، العملية الحقيقية ليست اليوم ، إنها لعبة
صرخ جون باندهاش و جزع : ماذا تقول ؟
بنفاذ صبر : أقول لك أن كل شيء خططنا له ذهب مع الريح ، أنه فخ ، فخ
سأل بسرعة : متأكد ؟
رد بثقة : متأكد
جاؤه صوت جون وهو ينهي المُكالمة : حسناً سأتصرف
تنهد براحة جُزئية ثمّ أَمَر سائق السيارة أنه يعود أدراجه بعد ما كانت السيارة تشق طريقها للمطار ، يدري أنه اللعبة الحين تشَعَبَت ، تشعبت كثير ، كثييييير ، زفّر بصوت مسموع و إبهامه تنتقل بين أرقام هاتفه ، الحين بس يقدر يتصل على أخوه و يعرف منه سبب إلحاحه في الإتصال ، بعد كم رنة رد طارق بالسّلام ، رد عُمر عليه السَّلام هو الآخر ثم قال بعجلة : خير طارق حد مستوي له شيء ؟
وصله صوت أخوه بارد ، جاف ، غامض تتخلله سخرية : لا الكل بخير ، بس اسمح لنا الشيخ أزعجناك باتصالاتنا " بسلطة أخوية " ليش ما ترد على مُكالماتي ؟
مسح عُمر بيُمناه على شعره و التعجب سلك مساره على وجهه من السخرية الواضحة اللي تخللت نبرة أخوه : الله يهديك طارق، ارتعبت يوم انّي شفت الإتصالات وظنّيت أنه صاير لكم شي ، وبعدين كنت حاط تلفوني ع الصامت وما انتبهت .
: أنا جاي لندن ، حول الظهر تقريباً هوصل وأبا أشوفك
عقد عُمر حواجبه باستغراب من إتصالات أخوه أولا ، و من غرابة نبرة أخوه ، و من مجيء أخوه لـ لندن وحرصه الواضح على مقابلته : على خير ان شاء الله
وانتهت المُكالمة بين الأخوين ، وكل واحد فيهم انشغل بالتفكير في الثاني .
-100-
قبل بضع دقائِق مشى راجع للشقة ، فتح تلفونه و ارتسمت ملامح الريبة والاستغراب على وجهه لمّا شاف إتصال أخوه طارق أو بالأحرى إتصالاته !!! ، ثلاث مُكالمات !!! ، خير اللهم اجعله خير ، ما بالعادة طارق يتصل فأكيد شيء مستوي ، رجع و أغلق تلفونه وحطه في جيبه ، ما هيتصل بأخوه الحين ، ما يريد ينفجع بخبر الحين !!
يكفيه أنه جون اتصل عليه الصباح و أخبره أنه ما هيشارك في العملية ، ولمّا سأله عن السبب كانت إجابة جون : لا نريد المُجازفة بحياتك ، صدّقني عُمر الأمر ليس بالسهولة التي تتخيلها ، كل شخص في الفريق خاض تجارب وعمليات كثيرة مُسبقاً ، و أنت ما زلت تدرس ثم أن العمل الموكل لك هو مراقبة عدنان لا غير .
مشى ناحية شقته بخطوات طويلة ، زفّر بتعب وهو يخرج مفتاح الشقة من جيبه ، ارتفعت يده بالفتاح صوب القفل و اندهش لمّا شاف الباب مفتوح ، دفع الباب بهدوء و وصل لسمعه صوت غريب : أنا كم مرة اتصلت فيك ليش ما ترد ؟؟
وصله صوت عدنان اللي أجاب بخوف واضح يلف نبرة صوته : خلاص خلاص والله راح أكلمك بس إطلع الحين لا تسوا لنا مشاكل والله إن عرفوا جماعتنا اننا إلتقينا راح يطيروا رقابنا ، وبعدين عن يجي عُمر ويشوفك هنا
تعجّب عُمر من اللي يسمعه ، وفضّل أنه يظل مكانه يسمع نهاية الحوار
رد الغريب بغضب : راح أطلع بس مو قبل لا تقول لي ليش إنلغت العملية اللي كانت راح اتّم اليوم ؟
اتسعت محاجر عُمر دهشة ، و زادت المسافة بين شفتيه وهو يتراجع خطوة قصيرة للخلف من الصدمة ، كيف ؟؟ ، العملية انلغت ؟؟ ، مو معقول ؟؟ ، ايش اللي يصير هنا ؟؟ ، ايش اللي يصير ؟؟
أخذ نفس عميق وهو يحاول بصعوبة أنه يسيطر على انفعالاته ، بلل شفته السفلية وهو يسمع رد عدنان : لأنه بنت المعلّم فتّت كل شيء لـ عُمر ذاك اليوم ، خبَّرته عن موعد العملية وعن التفاصيل السرية ، فإذا انوجدت الشرطة اليوم في المطار فهذا يعني أنه عُمر يتعاون معهم ، هذاني خبّرتك بكل شيء والحين قم انقلع لا يرجع ويشوفك هنا .
استوعب عُمر أنه هذا هو نهاية الحوار ، فخرج بهدوء مثل ما دخل وعقله يصول ويجول بصدمة ، لكن في النهاية استوعب أنه الله له حكمته فكل شيء ، الباب ظل مفتوح عشان هو يرجع و يسمع المُخطط اللي يُحاك ضده ، حمد ربه فسره وهو يستل تلفونه من جيبه ويتصل على جون عشان يخبره بالمُستجدات اللي سمعها.
-101-
ارتبك لمّا حس أنه جسدها الصغير يتراخى بين يديه ، سدحها على الأرض المُتربة وحلكة الظلام تلفهم من كل جانِب ، صرير حشرات الليل هو وحده اللي ينسمع فذاك المكان ، والقمر وحده هو الشاهد ع اللي يصير بكل حزن .
وقبل لا يفكر بالخطوة اللي راح يسويها تِجاه الصغيرة الفاقِدة للوعي ، قبل لا يستعيد مفاجأته من إغماءها باغتته يد صلبة أمسكَت عنقه و أبعدته عنها ، تراجع للخلف بضع خطوات وارتمى على الأرض بعنف ، انصدم ؟ ، لأ ..... اللي حس فيه يفوق الصدمة بكثير ، شعور ممزوج بين الصدمة والرعب والمُفاجأة والخوف ، خلطة سحرية من هالمشاعِر كفيلة أنها تسكت قلبه عن النبض وتوقف دقاته ، و هالأحاسيس زادت وهو يشوف ذاك الشخص اللي ما تبينت ملامحه بسبب الظلمة ، زادت لمّا شافه يقترب منه ، خوفه ارتفع لمّا عرف أنه فيه أحد كشف قذارته – غير القمر، و وجعه بدأ يزيد من تخبط يدين ذاك الشخص على وجهه ، ذاك الشخص اللي يضربه بدون رحمة وهو يتلفظ بأشكال وألوان من السب !
ولمّا استطاع إلتقاط أنفاسه ، سأل بصوت متعثر ، خائِف ، جزع : من أنت ؟
وصله الرد بفحيح غاضب ، مجنون ، منتقم : عزرائيل اللي هـ يقبظ روحَك
ترنح بألم بعد ما لكمه لكمة غاضِبة ، سقط بسببها على الأرض ، توسّد التراب وجفونه ترتخي شوي شوي .
بالنسبة للآخر ، أخذ نفس عميق ، عمييييق ، وهو يرمق ذاك الطريح بإنتقام ، صدره يعلو ويهبط بسرعة جنونية ، ولمّا استعاد جُزء من عقله تراجع عن فِكرة قتله ، شَد من قبضة يده وتراجع خطوتين للخلف ثم إلتفت لـ ذيك الصغيرة وحملها بين يديه للمستشفى .
-102-
: يا ربي وين راحت هالبنت ؟
دارت حول البيت أكثر من مرة على أمل أنها مُمكن تلقاها لكن بدون فايدة ، وقفت أمام الباب الخارجي لذاك البيت البسيط ، وقفت في الشارع اللي كان شبه خالي من حركة السيارات ومن الناس ، وقفت تنتظر بصيص أمل يلوح لها و يخبرها أنه مريم بخير ، تنتظر – بفارغ الصبر - علي وهو راجع ويمينه مُمسكه يد أخته لكن كل هالشيء ما صار ، الأمل انطفأ لمّا شافت علي راجع بدونها .
رجولها ما شالتها فخارت قواها وجلست على الأرض لمّا لمحت علي ويده فاضية ، يده ما كانت مُمسكة يد أخته مثل ما كانت تتمنّى .
اقترب من جدته ، وبعيونه خوف وقلق واضح ، وصل لمسمعه تساؤل أمه موزه الخافت ، المُرتعب ، الجَزِع ، الواهِن : ما لقيتها في الدكان ؟
هز علي راسه بنفي : أصلاً الدكان مصكر من زمان ولمّا رحت لـ بيت راعي الدكان قال أنه ما مرّت خير شر اليوم
صرخت موزة بجزع وهي تضرب راسها : يا ويلي عليش يا مريم ، يا ويلي عليش
قال علي بغضب وبصوت عالي : أمّي رجيتش تهدي والله العظيم ماسك عمري غصب
أخذ نفس متوتر وهو يمسح شعره بيديه ، يحاول بصعوبة أنه يركّز ويفكر بهدوء ، سأل بخفوت : هي من متى خارجة من البيت ؟
ما ردّت عليه ، أساساً ما انتبهت إيش قال ، جلس على ركبة واحدة أمام جدته وهو يكرر سؤاله بصوت أعلى ، ردّت بصوت مبحوح و بهم واضح : قلت لها لا تروحي بس هي ما تسمع الكلام ، أيبس من راسها ما شي .
رفعت عيونها الدامعة لعلي و أكملت : ما حسبت أنها هتخالفني وهتروح ، التلفزيون كان شغّال حسبت .... حسبت أنها كانت تطالع التلفزيون
دمعت عيون أمه وانكسر قلبه ، ضمها وقال برجا ونبره واهنة : رجيتش يمه لا تضعفي ، لا ضعفتي أنا أضعف ، راح نلقا مريم ، بعون الله راح نلقاها
ابتعد عنها وكرر سؤاله : من متى وهي خارج ؟
أخذت نفس وهي تستعيد قواها : حول الساعة ، ساعة ونصف كذا
استقام علي وهرول جهة أحد البيوت في الشارع الثاني تارك أمه أمام الباب الخارجي لبيتهم ، جالسة بهم واضح في ذاك الشارع اللي أمسى خالي من الناس .
-103-
وقفت أمام الباب وهي تسترجع كلام أمها بأنها لازم تستسمح من أخوها الكبير ، أخوها اللي صار مجافيها من يوم ما عرف عن عملتها بـ سلطان ولد عمهم ، غاضب منها بشدة وما تستنكر أبداً غضبه ؛ لأنها اللي سوته خطأ ، خطأ عظيم .
طرقت الباب بخفة ، جاها صوته الخشن من ورا الباب : ادخل
دخلت بتردد ، شافته مستلقي على سريره واضع رجله اليُمنى فوق اليُسرى باسترخاء ، بين يديه كتاب مُشغل عيونه ومُشغِل فكرُه .
رفع جفونه ناحية الباب ، رمقها وهو يرفع حاجبه الأيسر : نعم ؟
أغلقت الباب وتقدمت نحوه وبدون أي مُقدمات قالت : أنا أعتذر
التفتت على جانبها الأيمن و أخفضت رأسها وهي تعض شفتها السُفلية وكأنها تواجه فداخلها صراعات و صراعات ، رجعت ورفعت بصرها نحوه و كررت : أنا آسفة
كان يناظرها بعيون حادة ، وضع كتابه على السرير واستقام ، واجهها بذات النظرة و بـ نبرة تساؤل تشوبها سُخرية واضحة : ليش تتأسفي ؟ ، أنتي أخطأتي فحقي بشي ؟ " زادت حدة صوته " أنتي آذيتيني بشي ؟
لمّا ما جاه منها رد ، صرخ بغضب : جاوبي ؟؟
انتفضت برعب على أثر صرخته ثم هزّت رأسها بنفي كـ إجابه لـ تساؤلاته
خطا خطوة للأمام ، باتجاهها ، وذات النظرة الغاضبة في عيونه ، وذات حدة الصوت تغلف نبرته : عَجَب ليش تعتذري مني ؟؟ ، ليش تتأسفي ؟؟
للأسف أسألته ما لها أجوبة عندها ، هي نفسها ما تعرف ليش ودها من أعماقها أنه أخوها يسامحها ، ما تدري ليش ودها سعود يعذرها ، يمكن لأنه هو الوحيد اللي يعرف بفعلتها ، هو الوحيد اللي يحتفظ بسرها ، السر اللي أبعَد سلطان عن أهله و عن مَسقط ، هو الوحيد اللي بيده نعش موتها ، فإذا أخبر سعود أمها - مثلاً - ببساطة هـتذبحها ؛ لأنه اللي سوَّته ما شي هيِّن ، هي أبعدت سلطان عن أهله ، هي الشيطان اللي حاك المؤامرة وابتعد على إثرها سلطان ، هي ظلمته و أهلها – سعود و أمها و الكل – ما يرضوا بالظلم !
لمّا تأكد أنها ما هتعطيه إجابة ، قال بخفوت وهو يتعداها قاصد الدريشة اللي تطل على حوش بيتهم و جزء من حوش عمهم عبد العزيز : إنتي عارفة ليش أنا عصبت عليش ؟ ، وليش زعلان منش للحين ؟؟
( حوش = باحة البيت )
( الدريشة = النافذة )
ما انتظر منها رد وهو يكمل وعيونه تمشط أشجار البيت من خلف الزُجاج : لأني ما أبا أي أحد يقول عن بنات محمد كلمة تمسهن بسوء أو تمس مرباهن ( يقصد أمه و أبوه )
إلتفت ناحيتها : إنتن متربيات ع الزين ، لا تغلطي على أحد عشان لا أحد يغلط عليش .
تأمل تيه نظرتها و شك أنها فهمت ثقل كلامه : فاهمة مها اللي أقصده ؟!!
هزت رأسها بـ " نعم " ، إلتفتت قاصدة باب الغرفة بعد ما لمحت بسمة عيونه ، وكلامه يرن في دماغها تحاول تستوعب كل كلمة فيه .
-104-
ما أعار كلام صاحبه اللي متولي زُمرة القيادة أي إهتمام ، يمشط بهدوء شوارع مسقط المضيئة وهم متجهين للمستشفى ، قال صاحبه بنبرة عالية لمّا لاحظ عدم إهتمام الأخير بالموضوع : أكلمك أنا ؟ ليش ما ترد ، من ذي البنية ؟
رمقه بطرف عينه وبصوت بارد رد : ما لك خص ، سوق و انت ساكت
هز السائق راسه بوعيد : ما عليه ، ما عليه
,
لمّا وصلوا المستشفى حملها بين يديه وهو يحس أنه بينها وبين يديه مسافات ومسافات ، الهواء هو الفاصل بينهم ، ما يحس بثقلها الخفيف كثر ما يحس أنه أضعاف و أضعاف و أضعاف وزنها يسدك على صدره ، تنهّد وهو يحطها على سرير المستشفى تارك للممُرضة والطبيب استلام مهمتهم .
تنحّى جهة الجدار ، أسند ظهره عليه وهو يمشط الوجوه اللي تمر أمامه بحذر ، بعد مرور بضعة دقائق وصل لمسمعه صوت الطبيب اللي اقترب منه : إيش تقرب للطفلة ؟
نظر للطبيب بشر وكأنه بسؤاله ارتكب جريمة ، جريمة بشعة كثير ، وهالشيء بان في وجه الطبيب اللي خاف من هالنظرة المتوعدة ، انتبه لنفسه بسرعة فــ زحزح القناع اللي تلبّس وجهه ، أجاب بشدة وهو يدعك عينه عشان تختفي نظرته : ما أقرب لها ، بس شفتها طايحة في الشارع وأنا مار وما كان حولها أحد ، كأنه عندها ربو أو شي من هالقبيل ؟؟
أكَّد الطبيب وعيونه تنظر للشخص اللي أمامه بشك وبخوف في نفس الوقت ، الخوف اللي أشعلته نظرة الرجل المُرعبة :هي فِعلاً عندها الربو ولو ما جبتها في اللحظة الأخيرة والا البنت هتروح فيها ، نفَسها كان ضعيف ، بس
بتردد سأل : ايش عرّفك أنه عندها ربو ؟
بكذب مُحترف رد وهو يشتت نظرته للمرضى اللي حولهم : لمّا وصلت لها كانت تكح بشدة وبعدها أغمى عليها ، " بذات النظرة المرعبة " بنتي كانت تجيها نفس هالأعراض .
هز الطبيب رأسه وهو يعطيه ظهره بسرعة ، وده يهرب من قبالة هالرجال الغريب ، ناداه و كأنه تذكّر شيء ثمّ هتف بصوت أجش كاذب ، بصوت مظلم ، بصوت عميق : قبل لا يُغمى على البنت سألتها عن اسمها وقالت لي " سكت للحظة وهو يرخي جفونه للأرض "
رفع عيونه للدكتور و حدّة ملامحة تزيد مع كل كلمة تنطلق من لسانه : اسمها مريم ، عبدالله ، سعيد ، بن مر ، الـ .
كان ياخذ زمن بين انطلاق الاسم و الاسم الثاني ، زمن كأنه سنوات ضوئية بالنسبة له .
رمقه الطبيب بريبة بعد ما تأكد أن بين هالرجل و الجنون شعره ، نبرة صوته المريبة أكدت له ، هيئته المغبرة أكدت له ، وتصرفاته أكدت له .
همس بجنون وهو يعطي الطبيب ظهره مُبتعد ناحية الباب الخارجي ، يكرر اسمها وكأنه أغنية يدندن بها :
مريم ، عبدالله ، سعيد ، بن مر ، الـ
مريم ، عبدالله ، سعيد ، بن مر ، الـ
مريم ، عبد الله ، سعيد ، بن مر ، الـ
-104-
هتف بسعادة وهو يركض باتجاه جدته : اماه ، أمي ، أبشرش لقينا مرياام " هز جدته من كتوفها وهو يكرر بسعادة " لقينا مريم يمه .
( اماه = هي أشهر مناداة العُمانيين لأمهاتهم . )
وما كان ضمير المتكلمين "نا" إلا إشارة لوجود شخص آخر ساعد علي في إيجاد مريم ، وهالشخص ما كان غير العم مُبارك اللي اتصل بصفته عسكري وله رتبة كبيرة في شغله بكل مراكز الشرطة القريبة وبكل المستشفيات يسأل فيها عن وجود مريم ، وجاهم الفرح على هيئة خبر من أحد المستشفيات يأكد فيه أنه فيه شخص بنفس هالاسم منوّم عندهم .
انتشى قلب الجدة بالسعادة لهالخبر اللي كانت توّاقة لسماعه ، بدون ما تنتبه أنه حفيدتها منومه في المستشفى ، أهم شيء أنها انوجدت ولقوا أثَرها ، وانطلقت – على طول - هي وعلي والفرح للمستشفى المنشود .
نهاية النبض السادس
بانتظار آرائكم / توقعاتكم / ملاحظاتكم
كونوا بالقُرب .
|