نظرت بعدم اكتراث إلى طعام عشائها المهيأ باتقان على جانب المائدة الواسعة النظيفة. شئ ما ذهب بشهيتها هذا المساء و لا يميل إلى تناول السلطة و الفاكهة. قطبت جبينها بتعاسة و حدقت إلى سلطة الخس الداوية.
هذا الأسبوع تناولت السلطة مع كل واجبة. خس من الحديقة, بعض الفجل ولا لحم على الإطلاق. هذا ما قصدته أمها عندما تذمرت غلاء الأسعار, لكن هل وصل بهما الضيق إلى هذا الحد؟ هزت كتفيها مستسلمة و اشعلت ابريق القهوة الكهربائى.
جلست إلى الطاولة لتستريح فى انتظار غليان القهوة, ثيابها المبللة بالعرق تلتصق بجسدها و تتمنى أن تستحم فى المغطس لكن فتور الماء فى الآونة الأخيرة يضطرها إلى استعمال الدش فقط. لا مياه ساخنة بسبب قطع التدفئة المركزية فى فصل الصيف, و ميزانية ضئيلة لوجبات طعام بسيطة, كلها خطوات يميلها الاقتصاد. يجب أن تضاعف مساهمتخا المادية أو أن تصر على انتقالهما إلى شقة أصغر سيما أن سيمون سيأتى بأناس آخرين لحراسة البيت. كيف يمكنهما أن تستمرا فى العيش هنا و أن تحتفظا بالسيارة الصغيرة و هما عاجزتان عن تسديد النفقات؟ قسا قلبها فجأة فقررت أن تحدث أمها لدى رجوعها كى تجريا تقييماً صادقاً لوضعهما المادى قبل أن تتورطا فى أزمة مالية محتملة.
و سرعان ما عادت مونيكا فغرها ارتياح كبير حين رأت أمها تنزع معطفها الصيفى و هتفت:
ـ أوهـ, كم أنا مسرورة لعودتك.
استدارت مونيكا بسرعة و أخذت تتفحص ابنتها فلاحظت وجهها الشاحب و عينيها المتستعتين من شدة التوتر, سألتها نافذة الصبر:
ـ ما كان يجب أن تقلقى. لقد اضطررت إلى الخروج فى مهمة ملحة و لا أرى ما يستوجب رعبك.
ـ لم أقلق يا ماما.
ثم حاولت ليزا أن تلجم ضيقها لبينما نزعت أمها قبعتها و وضعت المفاتيح فى حقيبتها, أحست أن مونيكا مضطربة المزاج فاعترفت قائلة:
ـ عندما جئت البيت كنت أتلهف إلى التباحث معك فى بعض الأخبار الجديدة لكنى لم أجدك هنا.
أجابت أمها بجمود :
ـ لدى أيضاً بعض الأخبار و ليس فيها ما يسر القلب, لذا انصحك بالاصغاء إليها قبل أن تطلعينى على ما لديك. أنه شئ لم أستطيع التكهن به فلا موجب لأن تظهرى كل هذا الانصدام, مع أنك ستلومينى لأنى لم أصغ إلى تحذيرك.
ـ هل أصنع القهوة أولاً؟
سألت أمها بصوت باهت و هى تحدق إليها و تفكر أن لا شئ يمكنه أن يبرر الشعور الرهيب الذى احتاج قلبها, لذا حاولت كسب الوقت لعدم استطاعتها تحمل المزيد من الأنباء المثبطة لعزيمتها. لكن لابد أن شيئاً مرعباً قد حدث لأمها حتى جعلها تتصرف هكذا.
ردت مونيكا بنزق:
ـ بالطبع لا! سأحتاج إلى شئ أقوى من القهوة أن كنت تصرين على التصرف بهذا الشكل.
تبعت أمها إلى غرفة الاستقبال و سألتها بصوت منخفض:
ـ بأى شكل؟
سكبت مونيكا لنفسها بعض الشراب و سارت إلى النافذة ثم ردت بصوت جاف:
ـ تتصرفين و كأنك يوم الحساب, لقد أتضح لىّ أنى واقعة تحت دين, لكن المبلغ لا يستحق هذه الجلبة, وجدت من واجبى أن أعلمك بالأمر, هذا كل شئ.
تلاحقت أنفاس ليزا و هتفت منذهلة:
ـ هذا كل شئ! تقولينها ببساطة مع أنك تطمأنتنى قبل قليل أن الخبر لا يدعو إلى الخوف و القلق.
لاذت مونيكا بالصمت فأردفت ليزا تسألها بيأس:
ـ كم المبلغ بالضبط؟
ـ مئتا جنيه تقريباً.
ـ أوهـ, كلا!
انطرحت ليزا على أحد المقاعد بعدما عجزت ساقاها عن حملها. أنهما لا مئتى بنس فى ما بينهما, أو بالاحرى هى لا تملك هذا المبلغ.
عادت تقول بتعاسة و وجهها الفتى يتقلص خيبة:
منتديات ليلاس
ـ أواهـ يا ماما, كيف أوصلتنا إلى هذا الأمر؟
ـ أرجوك يا ليزا, وفرى عليّ مواعظك, أنت تبدين كوالدك.
ـ لكن بابا لم يكن يفعل ذلك!
ـ أنى أتحدث عن والدك الحقيقى.
لا جدوى من القول أنها لم تعرف والدها مطلقاً, فعندما تقع مونيكا فى ورطة فأن نقمتها تجعلها تجرح مشاعر الآخرين. لكن هذه أول مرة تقع فى ورطة من هذا النوع.....لابد أن هناك خطأ ما؟ يجب أن تستوضحها التفاصيل و ان ا تدينها قبل أن تسمع الاثبات, و قد تكون مونيكا معذورة على شعورها بالمرارة البالغة. ترددت ليزا قليلاً ثم قالت برقة:
ـ قد يكون من الخير أن تطلعينى على التفاصيل.
تحدثتا ساعة كاملة و اتضح أن قصة مونيكا عادية نسبياً, قالت أن فاتورة ثيابها تضخمت على مر السنين إذا كانت معتادة على ارتداء ملابس انيقة لأن سيلاس أرادها أن تبدو هكذا, و قد ظنت وقتها ان الشركة سوف تسدد الفاتورة, و عندما اكتشفت إن الشركة لن تسدد هذة الفاتورة بالذات بدأت تراهن على مبالغ كبيرة فى لعبة البريدج مع نساء لاتعرف عنهن إلا القليل و كن يجنين من تلك المقامرات مبالغ مربحة. و لسوء الحظ لم تصل حذاقة مونيكا إلى مستوى مهارتهن, الأمر الذى جعلها تخسر باستمرار,و بدل أن تسدد دينها القديم تراكمت عليها الجيون الجديدة بشكل مخيف.
و انهت القصة بقولها :
ـ كنت أحاول تعويض خسائرى هذا العصر و لم أنجح فى ذلك إلا جزئياً.
ـ ماذا قصدت بالقول أنك نجحت جزئياً فى استرداد الخسارة؟
أشرق وجه مونيكا قليلاً أنما قالت بشئ من الخجل:
ـ استطعت أن أبيع أربعاً من لوحاتى الصغيرة إلى رجل أعرفه فى شارع هاغلى, أنه يدير متجراً صغيراً لبيع القطع الفنية و سبق أن تعاملت معه فى الماضى, هكذا استطعت أن أسدد ديون البريدج فقط لكنى استرحت منها على أى حال.
سمعت ليزا نفسها تجيب بصوت هامس و برنة تأنيب عجزت عن كبحها:
ـ لكن فاتورة المخزن تحتاج إلى تسديد.
ثم طرأت على ذهنها خاطرة مرعبة فاستوضحت بعصبية:
ـ سيمون ردفورد لا يعلم شيئاً من هذا, أليس كذلك؟
ـ بالطبع لا يعلم فأنا لم أره لأخبره أى شئ, مع أنه قد يطلع على الحقيقة فى النهاية.
همت ليزا بالاحتجاج إلا أن امها تابعت بحدة:
ـ إذا عرف سيتمكن من مساعدتنا بسهولة تامة و قد يفعل ذلك برضاء تام. على أى حال, سيفضل أن يسدد الفواتير على أن يعرض سمعة العائلة لفضيحة محتملة, إذا نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية فقد يحتم علىّ الواجب أن أخبره, إذ لا أعلم من أين سآتى بالمال لأسدد حساب المخزن.
فهتفت ليزا باحتجاج يائس:
ـ مهما تكن الأسباب فلا يجب أن تخبريه لئلا نقع كلياً تحت رحمته, لابد من إيجاد طريقة أخرى....ماما, هل بعت كل لوحاتك؟
ـ بقيت لوحتان على ما أظن, تعلمين أنى لا أرسم كثيراً فى موسم الشتاء بسبب البرد فى الخارج كذلك لم أنتج شيئاً فى الربيع. لكن ماذا سنجنى من بيع لوحتين؟ و حتى لو رضى هذا التاجر أن يبتاعهما فسنظل مدينتين بما يزيد عن مئتى جنيهاً.
على حين غرة, بدت ليزا شديدة الحماسة و هى تقول:
ـ ألا ترين ما أراه يا ماما؟ إن كان هذا التاجر مقتنعاً بجودة لوحاتك فلماذا لا يقتنع بذلك أيضاً أصحاب المخزن الذى ابتعت منه ثيابك؟ من المحتمل أن يأخذوا اللوحتين مقابل سداد جزء من الدين. المخازن ترضى بهذا التبادل احياناً بشرط أن تكون البضاعة المعروضة ذات مستوى جيد و أنا واثقة من جودة رسمك, احدى زميلاتى فى المكتب لها شقيقة تبيع نتاجها بهذه الطرية. أنها ترسم على الكتان و تصنع منه فوطاً للشاى و أغطية للطاولات و للصوانى و تبيعها بأسرع مما تصنعها.
لم تظهر مونيكا أى تجاوب و قالت محدقة إلى ابنتها بقنوط:
ـ أعرف يا حبيبتى, لكن المدينة تعج بالفنانين الهواة.
ـ صحيح, لكنك ذات مستوى فنى أفضل, و قد تحسن رسمك كثيراً منذ أن رسمت اللوحة المعلقة هناك.
اشارت بقلب موجوع إلى اللوحة التى انتقص سيمون من قدرها ليلة أوصلها إلى البيت لأول مرة.
سارت مونيكا إلى مكانها و وقفت أمامها تتأملها قائلة:
ـ رسمتها لدى مجيئى إلى هنا و أصر سيلاس على الاحتفاظ بها, ربما لأنه أُعجب بمشهد الجدول بشكل خاص و ليس بسبب تقديره الفائق لمواهبى الفنية آنذاك.
فقالت ليزا محاولة اقناعها بنظريتها الجديدة:
ـ لكنه كان يستشف موهبك دائماً, ماما, ما رأيك أن تذهبى إلى المخزن و تقابلى المسؤول فى قسم مبيعات الثياب الجاهزة؟ لا موجب أن تشرحى لها التفاصيل. أريها فقط لوحتيك لتأخذى رأسها فيهما, أنا واثقة من أنهم سيرحبون باجراء التبادل و قد يطلبون إليك تزويدهم بلوحات أخر. يبدو أن الطقس الجيد سيحافظ على استقراره و يمكنك أن ترسمى يومياً. و حتى بعد أن تسددى الدين يمكنك الاستمرار فى الرسم و الحصول على مورد جيد من أنتاجك.
هنا زالت كل مظاهر الخوف عن وجه مونيكا و قالت بلهفة:
ـ سأذهب فوراً لأتأكد من عدد اللوحات المتبقية لدى.
منتديات ليلاســــــــــــــــــــــ