و ذات مساء و بعد مرور أسبوع أجفلت حين رأته يقف على عتبة بيتها. كانت أمها خارج البيت و الساعة تنهز العاشرة و قد عادت هى لتوها من نزهة فى الحقل. كان طقساً رائعاً يتميز به حيزيران/ يونيو, و قد تأخرت فى نزهتها إذ وعدت أمها بأن تنجز عدة أعمال منزلية بما فيها غسل الأطباق بعد العشاء.
لقد غطت قدميها فى مياه الجدول و عادت حافية تحمل صندلها بيدها.
كانت تحس بنعاس لذيذ و لم تر سيمون إلا حين انعطفت حول زاوية البيت, لم تصدق عينيها بادئ الأمر و ظنت لوهلة أن خيالها الخصب يصور لها وجوده. جمدت تحدق إليه من بعيد ثم وعت أن حقه زيارة البيت ساعة يشاء. أليس هو مالكه أولاً و أخيراً و أنهما لا يدفعان أى أجر؟ و مع ذلك انتابها الفضول, فلأى غرض جاء فى هذه الساعة المتأخرة؟ رمقته بنظرات حائرة فى أنتظار أن يلمحها. ترددت فى الإعلان عن وجودها لكنه سرعان ما استدار صوبها بحركة حسية تلقائية قال ببرود:
ـ مساء الخير يا ليزا.
شخصت إلى الرجل كالمسحورة و تلكأت نظرأتها على ذراعيه السمراوين اللتين تكشفهما قميص قصيرة الأكمام يعلو سروالاً صيفياً واضح أنه لم يأت فى زيارة رسمية. ردت له التحية و ركزت بصرها على ساعة يده الذهبية, و هى لا تددرى أن تركيزها يوحى بانزعاجها من زيارته المتأخرة.
لحظ سيمون ملامح الرهبة على وجها فقال مبتسماً بتهكم:
ـ تقدمى ايتها الطفلة السخيفة فأنا لن التهمك. لدى مبرر شرعى للزيارة و وجود أمك سيضمن لنا الحراسة المطلوبة.
ـ سيمون!
تقدمت صوبه بثوبها الطويل الفضفاض ثم توقفت حين تذكرت قدميها الحافيتين كذلك ذكرها بهما الحصى تحتهما فتوردت من الألم و الحرج معاً عندما انغرزت الاحجار الحادة فى جلدها الطرى.
عضت شفتيها لتخفى و رطتها و ادارت رأسها تبحث بعينيها عن صندلها و قد نسيت أنها أسقطته من يدها لدى رؤيتها المفاجئة لـ سيمون. وقبل أن تتحرك إلى الوراء تقدم إليها خطوتين و رفعها عن الأرض حاملاً إياها بين ذراعيه و ساخراً من من احتجاجاتها المختنقة.
لم ينتظر حتى يدق الباب أو يطلب الأذن بالدخول. عبر بها بسهولة تامة و خيل إليها للحظة مجنونة أنه سيبقيها بين ذراعيه إلا أنه أنزلها بلطف على أرض الردهة و قال:
ـ حملتك عبر العتبة كى تتعزى بذلك فى حال حرمانك من هذه المتعة فى المستقبل.
اعاد رأسه إلى الوراء و ضحك لنكته , أما هى فالتهبت عروقها لأنها رغبت فى البقاء بين ذراعيه و لأن تعليقه الساخر أوجعها فى الصميم.
ـ هذه سخافة!
أخذ يراقبها بعينيه الرماديتين و فمه يختلج ببسمة خفيفة ثم هبط بصره إلى قدميها و قال مظهراً دهشة:
ـ لم تخبرينى بعد لماذا عدت حافية؟ لا تقولى أنك كنت تلعبين فى الماء كالأطفال؟
هذا بالضبط ما كانت تفعله لكنها تفضل الموت على الاعتراف بذلك.
أنه لن يتفهم حبها لهذه المتعة الحياتية البسيطة لاعتياده على رفقة النساء الأكثر تطوراً و دلالاً. هزت رأسها بسرعة فاهتز معه شعرها الذهبى و انسدل على وجهها, قالت متهربة من جواب مباشر:
ـ أحب السير على العشب و أنا حافية القدمين.
اكتشف كذبتها البيضاء و قال ليفهمها ذلك:
ـ تقصدين بعد أن تلعبى بالماء!
ـ و أنت لا تحبذ ها التصرف؟
ـ أوهـ, نعم. انا أحب الماء ايضاً و لكنى أفضل النهر أو البحر على هذا الجودل الضحل فى أسفل الحقل, هل تسبحين يا ليزا؟
ـ بالطبع, أقصد أنى.......
و هنا ساورها شك خنق بقية عبارتها. كيف عرف أن هناك جدولاً؟ أنه مخفى تماماً عن البيت, و هو عندما جاء فى المرة الماضية لم يخرج إلى الحقل؟
منتديات ليلاس
فى أى حال ليس من شأنها أن تسأله. قالت لتغير الموضوع:
ـ تفضل إلى غرفة الاستقبال. أمى خارج البيت.
تذكرت قوله السابق بأن أمها ستكون بمثابة الحارسة لهما, إنما لم يظهر أى ضيق أو اهتمام و أكتفى بالقول:
ـ يؤسفنى ذلك.
ـ ذهبت لتلعب البريدج مع صديقاتها. أنها تلعب عادة مرة أو مرتين فى الأسبوع لكنها تتأخر مساء الجمعة.
ـ و تتركك هنا بمفردك؟
ـ و لِمَ لا؟ أننا لا نذهب معاً إلى كل مكان, كما أنى أجهل لعبة البريدج من أساسها.
تبعها إلى غرفة الاستقبال و قال بصوت صارم:
ـ لا يُخيفك بالطبع انكما تعيشان فى بقعة منعزلة و غير محروسة مما يعرض البيت لخطر مزدوج. لم يخطر لىّ هذه الحقيقة عندما وافقت على بقائكما هنا.
دعته إلى الجلوس و هى تحاول الاحتفاظ بالتوازن, من الأفضل ألا تخبره بأنها وعت هذا الخطر أيضاً بعد وفاة سيلاس و رحيل الخادمة مارى, لكن أمها كانت تسخر من فكرة كهذه إذ من الطبيعى أن تتجاهل احتمال الخطر لفرط تعلقها بالبيت.....قالت له و هى تتقصد البلادة:
ـ أتراك تخشى على الأثاث من السرقة؟
ـ أعلمى أن هذا ليس ما أتحدث عنه يا عزيزتى ليزا, أن الأثاث آخر شئ أفكر فيه.
ـ لكنه يحتوى عدة أشياء قيمة من تحف نادرة و خلافه.
نقلت بصرها إلى ساعة الحائط الثمينة التى يعود تاريخها إلى عهد الملكة آن و المحفوظة داخل صندوق مستطيل مصقول, فإلى لوحة الحركة للرسام اللندنى صامويل تاونسون فإلى مقعد من طراز جورج الأول مصنوع من خشب الجوز ذى قوائم محفورة تنتهى على شكل براثن. كان سيلاس مدمناً على جميع التحف و خصوصاً قبل أن ترتفع الأسعار الحالية. و مع ذلك حتى اواخر ايامه, ماهراً فى إيجاد التحف و فى اجراء الصفقات المربحة. هبط بصرها الواجم إلى الموقد الخالى...لطالما تساءلت بالرغم من تقدير سيلاس لكل أنواع الفنون و للوحات أمها لِمَ لم يتعاطف مع طموحاتها السابقة إلى امتهان رقص البالية؟
لاحق سيمون جولتها البصرية, و مع أنه قدر قيمة التحف إلا أنه هز رأسه و قال متذمراً:
ـ لست مهتماً بالناحية المادية, لكن ما دمنا فتحنا سيرتها فأرجو تذكيرى بأن اراجع شركة التأمين حولها. لا ريب أنها مؤمنة بشكل جيد مثل معظم شؤون عمى.
و قبل أن تفكر فى صياغة سؤال لاسع قال سيمون قاطعاً الصمت القصير:
ـ لنأخذ الأثاث مثالاً على اجتذاب الخطر, هناك أناس قد يهتمون كثيراً بسرقة التحف أو بفعل أشياء أخرى. أفترضى أنى كنت لصاً أو نذلاً فكيف كنت ستدافعين عن نفسك هذا المساء و ليس لديك أى شئ ليحميك؟
ـ سترى ما يمكننا فعله.
كانت تقف قابلته و أصابع قدميها تغوص متلملمة فى السجادة فتنهد قائلاً:
ـ أنك تراوغين يا ليزا, و إيججاد حل جذرى للمشكلة.
قررت أن تغلق ذهنها على هذه القضية, فالوضع ككل يشكل نظرها مشكلة واحدة كبيرة, و الطريقة الوحيدة التى تمكنها من العيش معها بدون أن تفقد عقلها, هى أن تكف عن التفكير فيها. أضافة إلى ذلك لا تريد أى تدخل من سيمون مع أنه مالك البيت الشرعى. سألته بسرعة:
ـ أ لأجل هذا جئت لزيارتى هذا المساء؟
ـ لم آت لهذا الغرض و لنترك هذا الموضوع فى الوقت الحاضر, جئت لأحدثك فى قضية أخرى لكنى سأرحب بكوب شراب أو بقهوة قبل الشروع فى الكلام. على الرجل أن يكون متيقظ الذهن و الحواس لدى اجتماعه بك يا عزيزتى ليزا.
ـ أوهـ, طبعاً, الشراب هناك فرجاء أن تسكبه لنفسك.
هربت منه محمرة الوجه. شكت فى أن يمزح لكنها قصرت فى واجب الضيافة. ناداها و هى تخرج من الباب:
ـ سأذهب للبحث عن صندلك لبينما تعدين القهوة.
فور دخولها المطبخ أشعلت ابريق القهوة الكهربائى, ثم بحثت عن صندل آخر لتنتعله.
و فى أنتظار غليان القهوة, غسلت يديها و وجهها الساخن تحت حنفية المطبخ و سحبت مشطاً من أحد الأدراج و سرحت شعرها الحريرى. نظرت فى المرأة فلاحظت شحوب وجهها و ذبوله, فتناولت احمر الشفاه الموجودة فى الدرج و لونت به شفتيها إلا أن لونه الباهت أضفى عليهما بريقاً لؤلؤياً لم يحسن مظهرها قيد شعرة.
هزت كتفيها احتقاراً لسخافتها و اشاحت عن المرآة. لا ريب أن سيمون لن يلاحظ أى تغير فيها إلا إذا كان شيئاً عادياً جداً كسيرها حافية, خير لها أن تذهب لتكتشف الغرض من زيارته, هذه الأيام لاتجد فرصة للتحدث معه فى المكتب و ربما بسبب المراقبة الدقيقة التى تفرضها الآنسة براون. هيأت طبقاً من البسكوت و التقطت الصينية و هى تتنهد, إذا أزعجها موضوع حديثه فسيكون لديها وقت للتفاهم معه لأن أمها لن تعود قبل منتصف الليل على الأرجح.
نهاية الفصل الرابع
قراءة ممتعة