المراوغة مستحيلة و قد اكتشف أمرها! قالت على مضض:
ـ آسفة, كان من المفترض ربما أن أخبرك قبل اليوم إلا أننى لم أجد لذلك جدوى.
ـ لا أفهم.....لدى أبنة خال بعيدة, إنما لا ترى من المناسب أن تطلعنى على هذه الحقيقة! كان يجب أن تخبرينى لدى وصولى أو عندما ارجعتك مساء إلى البيت, حيث جلسنا بانسجام فى غرفة الاستقبال الحميمية – أم أنى لم أوح لك بالثقة؟
ـ كنت أنوى ذلك......
فقاطعها بصوت بارد:
ـ لديك نزعة درماتيكية على ما يبدو, فى الواقع أشعر بشفقة كبيرة على أمك. لقد عرضتها للقلق كما فعلت معى, إنما بطريقة أخرى.
فاتسعت عيناها غضباً و هتفت:
ـ أنت تظلمنى, فالقضية أعمق جذوراً مما تظن!
ـ أنها تبدو لىّ واضحة تماماً.
شحب وجهها و احتارت فى إيجاد طريق محدد تتصرف على ضوئه. لقد حانت لحظة المواجهة و ليس من السهل أن تعارض رغبات أمها. ربما ليس من الأهمية بمكان سواء كانت ابنة خاله الحقيقية أم لم تكن؟ قالت مراوغة لتكسب وقت:
ـ قلما تكون الحقائق مطابقة لظواهراها.
ـ هذا ما بدأت أدركه لتوى.
ـ يمكننى أن أفسر......
ـ و أنا لست مستعد الآن للإصغاء أو لمناقشة الموضوع مناقشة صحيحة بت آنسة لوسون.
توردت لكونه قصد أن لا يخاطبها باسمها الأول فلمس خدها بلطف و قال:
ـ أجل, أنك تستحقين بعض العقاب يا عزيزتى ليزا لوسون, لا عجب أن أنااساً كثيرين كانوا يحدقون إلىّ باستغراب عندما أخاطبك هكذا. كل ما أرجوه ألا يكونوا فسروا كلماتى حرفياً.
ابعدت وجهها عن ملمس يده و قلبها يخفق مضطرباً, حيرها جفاف صوته فقالت بإيجاز:
ـ آسفة يت سيد ردفورد.
ـ من الطبيعى أن تأسفى, فمن النادر أن يتعرف المرء فجأة على أبن عمة مفقود. هذه المناسبة تستدعى احتفالاً فى نظرى. يمكننا أن نتناول العشاء معاً أن شئت, قبل ذهابك إلى البيت.
لم تكن دعوة بالمعتى الحقيقى بل نوعاً ما أمر, لأن نظرته القاسية كانت تكذب تظاهره بالحماسة و الانشراح.
ردت بيأس متزايد:
ـ لا أدرى أن كنت أستطيع الخروج هذا المساء فأمى ستتوقع عودتى .
ـ كم عمرك يا ليزا؟
عزز سؤاله بنظرة متفحصة و عادت أصابعه إلى خدها ثم أضاف بالحاح و هو يرفع ذقنها نحوه:
ـ تبدين فى السادسة عشر لكن أمك العزيزة أكدت لىّ أنك تناهزين العشرين. إذن عليك أن تفكرى بعذر أفضل من ذلك. هاك الهاتف و لك كامل الأذن أن تخابرى أمك.
أفاقت من ذهولها و أزاحت رأسها ثانية لتهرب من ملمس يده. شئ فى صوته أزعجها, و لمسته أشعلت أعصابها بلهب غريب. قالت بهزة من رأسها:
ـ لا أرى فى الواقع أى جدوى من خروجنا معاً. لا تضع وقتك فى محاولة إقناعى, يمكننا أن ناقش الموضوع هنا, قبل عودتى إلى البيت.
تفحصها فى صمت غامض ثم قال:
ـ أفضل أن أتعرف على أقاربى بالطريقة الصحيحة يا ليزا, و فى أجواء تتيح الألفة و الانسجام. ما زلت مندهشاً من أكتشافى لوجود أقارب لىّ فى بيرمنغام و لذا عليك أن تعذرينى و تسايرنى بعض الشئ.
ـ لابد أنك توقعت أن يكون لك أقارب فى مكان ما؟ من النادر أن يكون المرء مقطوع من شجرة.
ـ الأقارب, يا عزيزتى ليزا, ملحقات يمكننى الاستغناء عنها.
لم يرقها كلامه فحدقت إليه بغضب. كانت تدرك غريزياً أنه يتضايق من كل أنواع القيود إلا أنها عجزت عن التعاطف معه. فكم من المرات تاقت هى إلى رفقة شقيق أو شقيقة؟
أجابته بنظرة براقة:
ـ أوليس لك شقيق؟ بوسع الأقارب أن يبهجوا الحياة.
ـ و احيانا يضايقوننا إلى حد القرف!
ـ أن كنت تنظر إليهم من هذه الزاوية فلا عجب أن تظن فيهم الجحود!
ـ أرجوك يا ليزا. كفى عن الجدال, هيا سرحى شعرك و كونى جاهزة فى السادسة.
ـ شعرى فى حالة مزرية....
ـ هكذا لاحظت, أذهبى و سرحيه عند أحد المزينين أظنه قابلاً جداً لأن يصبح رائع و أنا أحب نسائى مرتبات انيقات. خذى أجازة ساعة بعد الظهر أن شئت, و لا أريد مزيداً من الاعذار.
فى قت لاحق أطل بيل برأسه من الباب و عرض إيصالها إلى البيت فأخبرته عن موعدها مع سيمون وأضافت مفسرة:
ـ لم استطع الاعتذار عنه, أنه موعد عمل فى أى حال لتعويض الوقت الذى أمضاه اليوم خارج المكتب.
أجابها بيل بطريقة اخافتها قليلاً:
ـ أعتقد أن ابن عمتك و قد اندهش هذا الصباح حين ذكرت له ذلك. أدركت أن بيل يجس نبضها, فأسدلت اهدابها هرباً من فضوله و غمغمت تراوغه:
ـ لابد أنه كان شارد الذهن. أنه يعرف كل شئ و يسبق الآخرين دائماً بمعرفته.
نجحت فى جر بيل إلى موضوع آخر فقال و هو يمرر أصابعه بعصبية فى شعره الأشقر الكث:
ـ أوافقك تماماً على كلامك! لقد أملت أن ينظم أوضاع الشركة أنما ليس إلى الحد الذى ذهب إليه, فهو يدقق فى كل صغيرة و كبيرة و ما عدت أعرف فى أى اتجاه أسير! لقد وضع عينيه أيضاً على الأراضى حول بيتكم كى يستثمرها فى أقول هذا لاحذرك منه, و سواء كان أبن عمتك أم لم يكن فهو قادر على أيقاع أية فتاة, و قد أعذر من أنذر.
هذا النبأ الجديد أوقعها فى الكآبة فخفت فرحتها بتزين شعرها. فى أى حال لم تكن تنوى فعلاً أن تفعل ذلك, و تذرعت بمشكلة شعرها لتتملص من دعةته, ثم أخذت موعداً لتصفيفه فى لحظة تمرد و حنق, فى صالون لم تزره من قبل معروف بأسعاره المرتفعة و مما زاد من امتعاضها أن صاحب الصالون هذا اهتم بها أشد الاهتمام و كأنه متحالف مع سيمون فراحيثرثر و يهتف و يعلق و هو ينظف شعرها و يقصه و يسرحه حتى أحست بالدوار. كانت تنوى أن تستفيد من الوقت فى التفكير العميق البناء لكن هذا المزين لم يتح لها الفرصة. و ها قد انسدل شعرها المصفف بجمال على كتفيها و لكن أفكارها المشوشة ظلت على حالها.
فى طريق عودتها إلى المكتب استمرت الصدمة تهزها كلما تذكرت ما ينوى سيمون فعله بحدائق البيت. لابد أن بيل مخطئ فى تصوره؟
اصمت اذنيها عن سماع الصوت الخافت الذى همس لها أن بيل على صواب...أن كان سيمون لا يعتزم السكن فى هولوز أند فهناك احتمال كبير أن يفكر فى استغلال المكان تجارياً. أن عينه الساهرة لا تفوتها رؤية أى شئ, و هو مستقل فى قراراته و مشاريعه الخاصة مع أنه اعترف تقريباً بأنه يحب الجنس الآخر, و لابد أنه عرف العديد من النساء و بات على عتبة الأربعين.
اجتاحتها رعشة تحذير لم تدر لها سبباً. أن حيويته الجبارة شئ جديد بالنسبة إليها, و لكنها لم تدعها تسحقها. يجب أن تبحث داخل نفسها و تجد حل لمشكلة أمها المستعصية. لابد أن تكون هناك طريقة تتوصل بها إلى انسانية سيمون ردفورد دون أن تضحى بكرامتها الأنثوية. عادت بعد إلسادسة لتجد الشركة خالية إلا من سيمون ردفورد, نزلا معاً إلى الباحة حيث توجد سيارته و فى الطريق رمق شعرها باستحسان و قال:
ـ تبدين جميلة تماماً يا أبنى خالى العزيزة, ألم أقل لك هذا؟
ـ لا أذكر كلامك بالتحديد. أظنك أبديت رأيك بعدم جذبيتى.....
قال و عيناه تتقدان بسخرية مفاجئة:
ـ لم أكن بالطبع فجاً إلى هذا الحد و لربما كنت أحمى نفسى من الوقوع بسحر قرابتك.
ـ لم تكن قد وجدت الوقت آنذاك لتعرفنى من هذه الزاوية.
ضحك و هو يساعدها على صعود السيارة ثم أخذ مكانه وراء المقود و قال:
ـ كنت أدرسك من كل زاويا فى الأسابيع الثلاثة الماضية, و لم أجد فيك ما يدعو إلى الانتقاد. شعر المرأة تاج جمالها كما يقال و شعرك كان يشكو فقط من الأهمال, ألا ترين الآن أنى كنت مصيباً؟
وافقته بإيماءة صامتة فأدار بصره عنها و قاد السيارة على مهل. استرخت على مقعدها و سرها أنه اضطر إلى التركيز على الطريق.
خفق قلبها لسبب مجهول ز لم يرقها ذلك. ربما لأنه ألمح إلى اهتمامه بها و هذا دلالة على أنه يعتبرها مجرد قطعة من أثاث المنزل المكتب. كان يشق طريقه بسرعة وسط زحام السير المتزايد فسألته فى الأخير:
ـ أين نذهب؟
ـ أنتظرى لتى. أن بيرمنغام مددينة كبيرة.
أى جواب هذا؟ لجمت فضولها و لكنها لاحظت معرفته الجيدة بالشوارع فغمغمت مستوضحة:
ـ هل تعرف المدينة من قبل؟ أقصد قبل مجيئك هذه المرة؟
رد على استفسارها بسؤال من عنده كما لو أنه يجد لذة فى مناورتها:
ـ ما الذى يحدوك إلى هذا الظن؟
منتديات ليلاس
ـ لأنك لا تقود السيارة بتردد كما يفعل معظم الغرباء. تبدو تقريباً و كأنك تحفظ خريطة الشوارع عن ظهر قلب.
ـ ربما كنت أقضى سهراتى فى التعرف على الطرقات. لكنى غريب تماماً عن مدينتكم يا آنسة الفضول. منذ مدة طويلة و أنا أركز اهتمامى على احداث تطويرات عصرية فى بيرمنغام و ذلك بصفتى مهندساً استشارياً.
ـ أقصد أنك لم تكن تملك شركتك الخاصة منذ البداية؟
ـ أبى كان مالك الشركة آنذاكـ. أن العمل مع الشركات الأخرى يتيح للمهندس بعض الفرص ليمارس موهبته الابداعية و هذا يختلف عن التطبيق التقنى للمشاريع.
ـ و هل وجدت المجال الكافئ فى مشاريع ضخمة كالتى لدينا هنا- اقامة أبنية و طرقات و جسور جديدة؟
ـ لم اشترك شخصياً فى مشاريع بيرمنغام لكنى خبير فى مشاريع مماثلة.
نظرت عبر النافذة إلى الانشاءات العصرية حولها و حاولت استيعاب كلامه ثم قالت بتأمل:
ـ الهندسة علم على ما أظن لكن الذى صمم بيرمنغام الجديدة كان فناناً فى الوقت نفسه.
التفت سيمون إلى وجهها الرصين و قال:
ـ أن المهندس الذى يفتقر إلى الموهبة الفنية لا يصل إلى القمة, و فى رأيى أن البناء الفنى التصميم يزودنا بمتعة جمالية.
قالت بتردد و هى تفكر فى ناطحات السحاب الضخمة التى مرا بها فى شارع كوينزداى:
ـ كل الأبنية مصممة بفخامة و إلى حد يشعرنى أحياناً بأننى قزمة بالمقارنة.
قال مبتسماً:
ـ لا تبدين شديدة الحماسة للابنية العصرية.
ـ بل أنى من انصارها لأنها تحوى كل ما يحتاجه المرء و يرغب فيه إلا أنى أفكر أحياناً أنه لمن المؤسف أن تنمو المدن إلى هذا الحد. لقد أخبرنى سيلاس مرة أن سجل مسح الأراضى و المالكين الذى صدر فى القرن الحادى عشر فى عهد وليم الفاتح وصف بيرمنغام أنها مستوطنة صغيرة تساوى عشرون شاناً فقط. أما اليوم فهى ثانى أكبر مدينة فى انكلترا.
ـ يخيل إلى أن الصناعة لا تثير اهتمامك فما رأيك بالملاهى الليلة؟
ـ أجل ا أهتم كثيراً بالمصانع و لا الملاهى الليلة بالرغم من كثرتها. أنى أفضل المسارح و الحفلات الموسيقية, ثم هناك نوادى جاز و الديسكوتيك.........
ـ توجد أنواع كثيرة غيرها مما تحويه مدينة كهذه من وسائل التسلية لكننا سنسهر خارج بيرمنغام هذه الليلة وقد حجزت طاولة فى مكان اعرفه فى سترانفورد – اون – آيفون, مسقط رأس وليم شكسبير! أشرق محياها و قالت بلهفة:
ـ آهـ, نعم, أنه يعجبنى. لم أزره منذ مدة طويلة و كدت انساه فى الواقع.
ـ سنذهب فى ليلة أخرى إلى مسرح ميموريال ثياتر لنحضر احدى مسرحيات شكسبير, أخذت أبى إليه مرة – كان شديد الاعجاب به.
ـ و أنت؟
ـ ليس إلى هذا الحد.
شجعها الجو الودى على الاسترسال فسألته بتلقائية:
ـ هل عرفت يوماً السبب الحقيقى لخلاف والدك مع عائلته؟
عاد إلى الوراء بذاكرته و قال مقطباً"
ـ لست متأكداً. ففى سنوات حداثتى كان والدى ينعم بالنجاح و الرخاء و لم يخطر لىّ فى الواقع أن أتساءل عن ماضيه. ثم انهمكت فى دراستى و كنت راضياً عن حياتى و حاضرى. كل ما أتذكره أن والده و عمى سيلاس اتخذا موقفاً موحداً ضده عندما نشب ذلك الشجا, فرحل عنهم. كان والدى ذكياً أنما لم يكن رجلاً متسامحاً يا ليزا.
ودت لو تقول كذلك الحال مع سيلاس, فهو لم يغفر لها أبداً كونها متبنأة و لا يجرى دم آل ردفورد فى عروقها أنما قد يكون من الأفضل أن لا تطلع سيمون على هذه الحقيقة قبل أن تعرف ما تريد معرفته عنه, تظاهرت بالبراءة و سألته بصوت مرح:
ـ هل ورثت عن أبيك نزعة الحقد؟
أطلق ضحكة قصيرة و قال:
ـ أظن أن هذه النزعة عامة بين الناس و ليست وراثية بالضرورة. إنما أقر بأنى لا أتنازل بسهولة عن ما اعتبره مهماً بالنسبة لىّ.
ـ مثلاً؟
ـ الصفقات التجارية, أليست هى ما نتحدث عنه؟
ـ لكنها ليست فى أهمية العلاقات الشخصية التى يصعب التنازل عنها احياناً.
ـ أرتاك تحاولين أن تجسى النبض ثانية يا ليزا؟
كانا قد اقتربا من سترانفورد حيث اشجار الصفصاف تحف بنهر آفون المتدفق وسط أو أودية شاسعة و هادئة هنا فى الريف وادع الاخضرار و ذو سحر آخاذ ينطبع فى الذاكرة.
أجابته بارتباك و ذعر:
ـ بعض المعرفة تساعد المرء احياناً
ـ ليست المعرفة ضرورية إلا إذا كنا نتكلم عن الشئ ذاته و أظننا نتحدث عن أمرين مختلفين. قد أطلعك فى يوم ما على قصة ولد صغير كان يحب اصطياد السمك فى نهر الثيمس و لم يكن يحص إلا على قدمين مبتلتين.....النساء يعطفن عادة على الصبيان الصغار- أم أنك تعرفى هذا يا ليزا لوسون؟
ـ هل توقفن عن حبك عندما كبرت؟
التمعت عيناه بتحذير فاتها أن تراخ و قال:
ـ ما الذى يدعوك إلى طرح سؤال كهذا يا ترى؟
رد ثانية بلا تفكير:
ـ لأنك....غير متزوج.....
ـ أجل, انا ليست متزوجاً.
وافقها بدماثة انما أبقى وجهه مقنعاً جامداً حتى دخل سوق البلدة القديمة و حيث خرجت تستقبلهما لمحات من الماضى.
نظرت إليه بفضول ثم احست قلبها يخفق ن جديد. تفحصت تقاسيمه السمراء من بين اهدابها الكثيفة بدل أن تركز على اهتمامها على ابنية سترانفورد كما بدا أنه يفعل. تململت فى جلستها و تساءلت لماذا تخونها حواسها و تضطرب منه إلى هذا الحد؟ أن فيه اعتدتدتً و قوة و يرغمانها على الاستجابة له بحدة مخيفة, و يبعثان فيها اثارة غامضة تحاول اخضاعها انما قد لا تسطيع الاستمرار فى تجاهلها.....حتى تموجات صوته العميق تؤثر عليها فى العمق....إذن ليس أمامها الإ أن تسعى إلى الهرب سريعاً.
منتديات ليلاســــــــــــــــ