انتقل ذهنها إلى سؤاله الأخير الذى دل على جهله هوايتها. لا يجب أن يعلم أن أمها كانت متزوجة من أبن خال والده. خطر لها أن تذكر فقط وجود قرابة بعيدة بينهما, إذ أن معظم الناس لا يعرفون انها لم تكن أبنة جون لوسون الحقيقية, لو قالت هذا لاستطاعت أن تنقذ الموقف و تمهد الطريق لنفسها إلا أنها شكت فى مفعول هذا الخبر على سيمون ردفورد. تأملت الخطوط على جبهته و حول فمه فحدست أنه يعانى ارهاقاً مع أن فكرة كهذه تناقض لياقة جسمه القوى المتين.
أحسته ينتظر جوابها على مضض فدعت الله أن يشد من أزرها .
قالت بعد أن أخذت نفساً عميقاً:
ـ اسمى لوسون, ايزا لوسون, أمى كانت المشرفة على بيت عمك, لكنك تعرف هذا بالطبع.
اضافت العبارة الأخيرة لتزعزع هجومه و لتثير حنقه كما أثار حنقها, فهو بطبيعة الحال لا يعلم شيئاً عن أوضاع عمه البيتية و سيفاجئه الخبر حتماً. رمقته بنظرة جانبية سريعة لتستطلع ردود فعله, فسارع إلى القول بنظرة ساخرة:
ـ يا لدماثتك, يا آنسة لوسون, هل تراك تسحبين السجادة من تحت قدمى؟
ارخت رموشها لشعورها بالذنب و اجابت بجدية:
ـ بالطبع لا يا سيد ردفورد.
ـ لا؟
برقت عيناه بارتياب ثم سحب كرسياً جلس عليه بطريقة معكوسة و كتف ذراعيه على ظهره, قال و هو يتأملها واجماً:
ـ لم أجد وقتاً لاقف على أوضاع عمى المنزلية مع أنه خطر لىّ أن تكون لديه مدبرة منزل لكونه عاش عازباً. كذلك لا يدهشنى أنه أمن عملاً فى الشركة لأبنة مدبرة بيته, و الآن هل تودين أتحافى بخبر آخر قبل أن نبدأ العمل؟
هزت رأسها و هى تشعر بكره تجاهه. لن يكون سهلاً أن تتغلب على هذا الرجل الذى يفوقها دهاءاً. لكنها ما تزال تحتفظ بورقة رابحة ستؤجل كشفها إلى وقت أنسب. التقطت دفتر الملحوظات و غمغمت بنعومة :
ـ ليس لدى ما أضيفه يا سيد ردفورد, هل تنوى استعمال مكتب عمك؟
بدا أنه ما يزال يشك فى قدراتها و قال متفحصاً اياها بإمعان:
ـ منذ متى تعملين هنا يا آنسة؟
ـ منذ أن تخرجت من الكلية المهنية.
ـ متى كان ذلك؟
ـ منذ سنة أو سنتين.
تقبل جوابها المبهم دونما فضول و تابع يستوضحها :
ـ إذن يمكنك القول أنك عرفت عمى جيداً فى محيط العمل اضافة إلى محيط البيت؟
ردت و هى تركز عليه نظرة حذره:
ـ اعتقد ذلك يا سيد ردفورد.
ـ لكن يبدو أن لديك بعض التحفظات؟ بأى من الجانبين تتعلق يا ترى؟ البيتى أم العملى؟ إن تعاونك قد يفيدنى يا آنسة لوسون, مع العلم أن لدى أيضاً بعض التحفظات, لقد عرفته فى المحيطين معاً – أن كنت عشت مع أمك فى بيته – إنما من الجائز أن تكون شهادتك مجروحة, أنك تدركين على الأرجح أنى أتخبط فى الظلام إلى حد ما – و هذا لا يعنى بالطبع أنى أنوى التخبط طويلاً, أنا لم أعرف عمى لسوء الحظ و كان من الجائز لو عرفته أن لا نميل إلى بعضنا البعض.
ـ لكنه ترك لك أملاكه و هذا دليل محبته.
ـ هل قلت هذا من باب التطمين يا عزيزتى ليزا أم قصدت به شيئاً آخر بالمرة؟ لقد استشفيت بعض التأنيب فى عبارتك و قد أكون مخطئاً بالطبع.
رمشت ليزا اهدابها ازاء نظرته المتفحصة و لم تفتها نبرة السخرية الخفيفة فى صوته الحريرى . احتارت لكونها هى نفسها غير واثقة من قصدها, هل هى تدين لـ سيلاس دفورد بشئ من الولاء؟ ربما الأمر كذلك, فهذه السخرية المبطنة فى صوت سيمون حركت فى نفسها شعوراً دخيلاً و مرفوضاً فـ سيلاس ردفورد, و الحق يقال, كان صادقاً مثابراً على عمله, و لم يتغير إلا فى الأشهر القليلة الفائتة. ومع ذلك حافظت الشركة على ازدهارها فى هذه المناطق, و من المفترض أن تشكل ارثاً ثميناً! أنها موظفة عادية, و هى إذا صارحت سيمون ردفورد برأيها هذا, فسوف يظن فيها الواقاحة! لذا اجابته بحيرة و تلعثم:
ـ أظننى قصدت أنه لا شك وثق فى فطنتك, إذ أعلم أنه لم يتعرف إليك شخصياً لكن معرفتى الوثيقة به تحملنى على الاعتقاد بانه ما كان ليترك هذه الشركة, التى كدح فيه طويلاً, إلا لشخص قادر على النهوض باعبائها و تعزيز اودهارها.
فقاطعها بقسوة:
ـ و ما الذى يضطرنى إلى ذلك؟ فأنا أملك شركة ناجحة فى الجنوب و لا أحب تسليم شؤونها لأخى البليد الطيب القلب لبينما أجد حلاً لمشاكل شركة عمى الصغيرة.
غضبت لسبب ما. هذا الغضب جعلها تقول بجرأة:
ـ أن قمت ببيع الشركة فستناقض بذلك رغبة عمك.
ـ لكنى لا أنوى بيعها. إن كان الفضول يثيرك إلى هذا الحد فدعينى اطمئنك يا آنسة لوسون! أنا لا أتخلى عن شئ ينال أعجابى, و هذه الشركة تعجبينى اضافة إلى أمور أخرى.
ـ لا ريب أن الموظفين سيسرون بهذا النبأ.
أجابها:
ـ خاصة أن أسعاد الموظفين صعب جداً هذه الأيام!
عضت شفتها بحنق و استغربت حدة نفورها منه, كذلك اذعرتها ثقته الشديدة بنفسه. حسبت أنها ستجد صعوبة فى العمل معه و ها هى تكتشف أنه طاغية! حاولت إخفاء عدائها المتزايد لع فيما أخذت تفكر فى تلميحاته الغامضة.
فإذا كان يعتزم إدارة الشركة فان ذلك سيزيد الدوافع الموجبة لتركها لها. أنها مقتنعة باستحالة الانسجام العملى بينهما, فهى تفضل الرجال الدمثين اللطفاء فى تعاملتهم على الرجال المماثلين له, إنه يعرض مشاعرها للأذى و يحرجها بكل كلمة كزدوجة المعنى يقذفها صوبها! عندما تعود الآنسة براون سوف تنفذ خطة الرحيل مهما حصل. حدجته بنظرة جليدية و قالت بجرأة:
ـ أن كنت لا تنوى البقاء فلا ريب أنك ستعيش فى بيت عمك.
ـ قد أفعل ذلك فى النهاية. بالطبع سألقى نظرة على البيت و قد أذهب معك بعد أن ننهى العمل. محامى العائلة عرض أن يرافقنى إليه إلا أنى لم أجد داعياً لازعاجه. لم يبد سعيداً بالذهتب لسبب ما, و لذا أنا متأكد أنه لن يمانع. و خلال الأسبوع المقبل اعتزم الاقامة فى فندق رونسون. لقد حجزت جناحاً فيه, أو بالاحرى حجزته سكرتيرتى من لندن.
رمقته ليزا بحيرة, من الواضح أنه يحرص على عدم التورط و يدرك مغبة القرارات السريعة. أن تصرف المحامى لفته و لا شك إلى أن الأوضاع هنا ليست تماماً كما تبدو. التمعت عيناها و ركزت اهتمامها على محياه القاسى الوسيم, أن خبرته الطويلة علمته أن لا يتدخل فى الأوضاع قبل أن يوازن بين فوائده و خساراتها, عقله يحسب كل شئ و يستعمل دهاءه بسهولة.
و المرء لا يقدر أن يحارب شخصاً مثله إلا بسلاحه نفسه و من المستبعد أن تنجح أمها فى مواجهته.
أحست فجأة بامتداد الصمت و أنه ينتظر جوابهاز أكتفت بايماءة إيجابية, فتغير مزاجه و قال مبتسماً:
ـ إذا نحن متفقان على زيارة البيت إلا إذا كان لديك موعد مع صديقك الشاب.
ـ بيل برايت ليس صديقى بالمعنى الذى تقصده.
منتديات ليلاس
ـ عظيم. من المفيد لىّ أن اعرف أشياء مهمة عن نفسيات الموظفين المقربين منى. هذا كل ما فى الأمر. أما الآن فلننتصرف إلى العمل.
عملا معاً دون توقف حتى السادسة مساءاً. و لو لم يحن موعد عودتها إلى البيت لكانا على الأرجح قد تابعا العمل. كذلك لم ينس اتفاقهما بالرغم من العمل لاضخم الذى انجزه ذلك العصر. جلست إلى جواره فى السيارة القوية المحرك التى قادها إلى لندن و هى تجلس بنشوة غريبة للمسيرة الرائعة التى سارت فيها الأمور فى العمل معه قد اكتسبت ابعاداً جديدة مع أن معظمه اقتصر على الروتينيات الأولية, إذ أنه درس التفاصيل الأساسية لأوضاع الشركة ثم قام بعمليات فرز و اختيار و شطب و تقيم ثم هيأ قاعدة عمل شأملة ليبنى عليها تقويماته المستقلة فى اليوم التالى. أكد لـ ليزا أنه فعل كل ذلك ليكون واثقاً من معلوماته حين يلتقى رؤساء الأقسام و يناقشهم فى التفاصيل.
لم تشك فى مقدرته الفائقة. لكن مشاعرها الشخصية حيتها إذ داخلها أحساس غريب و مقلق بأنهما يتخاطبان نفسياً على موجة واحدة, فعلى الرغم من طلباته البادية الصعوبة, وجدت نفسها تتجاوب معها بسهولة و بشكل تلقائى تقريباً. لقد عمل بسرعة و أجهدها معه و كأنه وثق بقولها أنها سكرتيرة كفوءة. بدا الأمر تقريباً كما لو أنه حركها كدمية و جعل أفكارها تتناغم مع أفكاره فى تآلف ذهنى محض و منفصل تماماً عن أى شعور جسدى مما أبعدها كلياً عن احاسيسها السابقة. أنه وضع جديد لا يجب أن تتجاهله لكنها اصرت على تجاهله إذ لم ترغب فى التعامل مع هذا الرجل و تمنت, لسبب غامض, لو تهرب من مكان وجوده بأسرع ما تستطيع.
أكدت لنفسها بوجوم و هما يخترقان الشوارع بسرعة, إنه لن يجد على الأقل ثمة سبب يدعوه إلى انتقاد كفاءتها.
و هنا علق قائلاً و كأنه قرأ أفكارها :
ـ أنك, تقريباً, لا تقلين كفاءة عن سكرتيرتى فى لندن و إذا دربتك أكثر, فقد تصبحين أفضل منها.
فسمعت نفسها ترد بوقاحة:
ـ إذن لدى أمل بأن أصبح مثلها.
إنه على الأرجح يعتبر السكرتيرة مجرد امتداد للآلة الماتبة , و جزءاً من الأجهزة العامة التى يدفع ثمن صيانتها أسبوعياً كى تستمر فى العمل على أكمل وجه. تذكرت صوت سكرتيرته على الهاتف و فكرت كم هما يليقان ببعضهما بعضاً.
اضاف يقول بغموض القاها فى دوامة جديدة:
ـ أنت شابة قابلة للتكيف و ستصلين إلى أفضل المراتب حتماً عندما أفرغ منك.
ابتلعت ريقها و حاولت استيعاب كلامه أنما لم ترقها نكهته. هل تراه يتوعدها بشئ؟
استدار إليها مرفوع الحاجبين و سألها باسماً:
ـ أليس لديك تعليق؟
ـ أخشى التعليق بشئ يورطنى. إنك تجعلنى ابدو كقطعة أثاث تعتزم صقلها من جهة أخرى قد أُخطى غداً و أسبب لك خيبة كبيرة.
ـ كلا, لن تفعلى. أن الرجل لا ينجح فى دنيا الأعمال يا آنسة لوسون, إلا إذا كانت لديه القدرة على تقييم الرجال و الأوضاع. قد يكتسب هذه القدرة على مر الزمن, لكن بالنسبة إلى شخصاً, فبوسعى أن أقيم الموظف فى خلال عشر دقائق رجلاً كان أم امرأة.
اغضبها اعتداده الكلى فقالت بحنق:
ـ أذن استطعت أن تقرأنى ككتاب مفتوح؟
ـ النساء يا عزيزتى ليزا مجموعة متناقضات و لذا يختلفن كلياً, و الرجل الحكيم لا يدعى قدرته على فهمهن ظاهراً و باطناً.
ـ لأن كنا نحتلف عنكم فلأنكم تصرون دوماً على اجاطتنا بالغموض.
قال و هو ينعطف مسرعاً بالسيارة:
ـ قديماً كانت الزوجة الصغيرة تنتظر فى البيت عودة زوجها أما الآن فتعود إلى البيت معه, و هكذا فقدت هالة الغموض.
ـ و أنت لا تحبذ ذلك؟
ـ لنقل أنى حين أجد متسعاً من الوقت, أشعر بحنين معين إلى عصر غابر كان يعيشه رجالاً كثيرون من قبلى.
ـ أن بحثت جيداً فبوسعك أن تجد لغاية اليوم تلك الحارسة الأمينة التى تهرع إليك بالخف الدافئ لحظة عودتك.
ـ لكنك لا تطمحين إلى أن تكونى واحدة منهن؟
احست بشئ ينكمش فى داخلها و بدا نفورها واضح فى التجهم الذى كسا وجهها. قالت بر\ فعل سريع متهور:
ـ كلا, فأنا أفضل عملى على أية صفقة من هذا النوع.
ضحك بازدراء و قال بذكاء:
ـ الآن الصفقة تشتمل أيضاً على الرجل؟
تقلصت كل أعصابها ثم غمرها ارتياح عارم حين رأت أنهما وصلا المنعطف المؤدى إلى البيت. و هكذا اتيح لها أن تتجاهل تعليقه الصائب و قالت بسرعة:
ـ خذ يمينك عند التقاطع, فالبيت يبعد بضعة كيلو مترات نزولاً على الطريق.
اشاحت عنه وجهها المتورد و حدقت من النافذة بعيداً. تركا الطريق العام و بدأ السير بتباطأ ثم أنقطع نهائياً حين قاد السيارة على الدرب المسيج بأشجار عالية. قال معلقاً:
ـ مكان أنيس, بل جيد, جيد جداً.
بلغا مدخل البيت المكسو بحصى أحمر. فأضاف:
ـ تصورت أنى سأجد واحداً من تلك الصروح المخيفةالتى يدفن العزاب الكهول أنفسهم فيها أحياناً.
و فى الحال, أوقف السيارة و قفز منها ثم أخذ يجول نظرة فاحصة فى شكل البناء المنخفض الأنيق و يتأمل باعجاب قرميده الأحمر العتيق و الملتمع من خلال عرائش اللبلاب و الياسمين الارجوانى التى كان سيلاس شغوفاً بها.
أشعة شمس أبريل/ نيسان المائلة, عززت تناغم البيت و الحدائق مع الهدوء الشامل, فاستطاعت ليزا أن تتفهم عزوف أمها عن ترك المكان, فهنا ينخفض ضجيج المدينة إلى غمغمة هامسة, و انسياب مياه الجدول الفضية فى وسط المرج يعطى انطباعاً مثالياً بأنهما تعيشان فى عمق الريف. صفق سيمون باب السيارة و تبعها إلى داخل البيت. قالت بشئ من الانزعاج:
ـ اعتذر لكون أمى ستمضى السهرة عند بعض الأصدقاء.
دخلا من الباب الخلفى لظنها بأنه ستوقع تصرفاً كهذا من أبنة مدبرة المنزل, و تابعت تقول:
ـ يسعنى بالطبع أن أريك البيت بدلاً عنها إلا إذا كنت تفضل استكشافه بنفسك. أت تصميمه الداخلى بسيط نسبياً.
ـ تهمنى الآن رؤية الاراضى خارج المنزل, و من السهل أن أقوم بزيارة ثانية فى حضور أمك. اعتقد أنها لن تمانع فى البقاء لبينما أقرر مصير البيت؟
تظاهرت بأنها لم تفكر قبلاً فى هذه النقطة فقالت باحتراس:
ـ لست متأكدة من موقفها.
قادته عبر المطبخ القديم الطراز إلى الردهة الداخلية, ثم ترددت قليلاً قبل أن تفتح باب غرفة الاستقبال, أن مكانتها لا تسمح لها بالطبع أن تستعمل هذه الغرفة لكنه صاحب البيت الجديد و لا يمكنها أن تبقيه فى المطبخ. قالت بسرعة:
ـ كان عمك يقضى معظم أوقاته هنا. توجد غرفةمكتبة كان يلجأ إليها فى الشتاء. لكن هذه الغرفة كانت المفضلة لديه.
ـ حسناً.....
عبر الغرفة و توقف أمام الموقد الحجرى فأمتد بينهما الصمت لبضع لحظات. لقد بدأت تعتاد على نظرته التى تحوم بسرعة و دقة لتتفحص الأشياء. ترى ألا يتوقف أبداً عن إجراءا الحسابات؟ وقفت داخل العتبة قليلاً تراقبه بقلق زائد عن السابق. هل يفترض منها أن تعرض عليه شراباً و هو صاحب البيت, اربكها الوضع فجأة و ندمت لأنها لم تصارحه فى المكتب بأن أمها لن تكون موجودة. لا شئ يجنى من هذه الأساليب الحمقاء و المتهورة.
قال بلطف قاطعاً عليها أفكارها:
ـ قد تسترخى أعصابك أكثر إذا نزعت معطفك و تناولتِ معى شراباً بدل أن تحومى هناك كظبية مذعورة تستعد للفرار.
ـ شكراً لك.
منتديات ليلاســــــــــــــــــــ