تجمدت فى مكانها فترة طويلة فيما أخذت الأحاسيس تتجمع فيها حتى اهتز جسمها النحيل برعشة صامتة. لسعت الدموع جفنيها فاغمضت عينيها و تركت العبرات تسيل على خديها. مدت يدها تبحث عن منديل فى جيبها و لما لم تجد مسحت دموعها بقبضتيها و عادت تنظر إلى اللوحات العديدة المصفوفة على الجدار.
إذن لقد وجدها, و كل وواحدة تحكى قصة و تصور مرحلة من تاريخ حياتها. فى اوستراليا, لوحة لوالدها الحقيقى يحملها طفلة رضيعة, فى الثانية يلاعبها و هى تحبو, و الثالثة و الأخيرة تمثلها سابحة فى حزن عميق كما لو أنها تفكر فى الموت الذى جرحها حتى فى طفولتها....ثم لوحتان رسمتا فى لندن و أخرى مذيلة بعبارة (يوم التقينا, جون). بعد ذلك لوحات عديدة لحياتهم فى القرية, كلها تحمل الأسلوب نفسه و تصور زوجين سعيدين لديهما طفلة تنمو بفرح و جمال.
كانت مستغرقة فى ذكرياتها الحزينة إلى حد أنها لم تسمع معه اقتراب الخطوات و طقطقة السلم الخشبى العتيق. لقد صعد بهدوء شديد و حالما سمعت صوته استدارت بعنف و قد قفز الخوف فى عروقها كألسنة النار.
ســـيــــمـــــون !
تراجعت صوب الباب المفتوح باحتراس شديد.....توجد طريق أخرى للنزول إذا اسرعت بما فيه الكفاية.....يجب أن تتهرب منه بشكل ما و ليس لديها ما ترد بع على عباراته.
لكنه قطع المسافة بينهما فى خطوتين و أسر خصرها بذراعه القوية....
و فكرن بمرارة, هكذا فعل ليلة أمس...عادت المذلة تمزقها فرفعت يدها و أخذت تضرب صدره بجنون.
ـ ليزا, ليزا, ما هذا الذى تفعلينه. كنت أحاول المجئ إلى هنا من حين عرفت أنك لم تذهبى إلى المكتب. أبهذه الطريقة تستقبلينى؟
ـ أواهـ منك يا سيمون!
حاولت يائسة أن توقف انبثاق الدموع من عينيها لكنها سالت على خديها و ذهلت حين احنى رأسه و محا الدموع عنها, و قال هامساً:
ـ لا تبكى يا ليزا!
ثم حملها و سار بها إلى النافذة كى يتمكن من رؤية وجهها المضطرب و تابع:
ـ جئت لأخبرك أنى أحبك. اضحكى أن شئت أنما لا تبكى, أرجوك.
ما هذا الذى يحدث؟ هل حقاً همس لها بحبه؟ هنا أحست أن كل ذرة من التعقل و المقاومة ترحل عنها إلى غير رجعة. لن تستطيع محاربته بعد اليوم و لا تريد ذلك...فالفرح يتدفق فى جسمها كتيار جارف و ليس و ليس هناك أى مجال للمكابرة, طوقت عنقه بذراعيها البضتين و همست بفرح متقد:
ـ سيمون.....حسبت أن قلبى كان سيتحطم.
ضحك بلطف و قال بتلك السخرية القديمة:
ـ كلا, قلبى الذى كان يتحطم و أنت لم تعطفى عليه البتة!
ـ اعتذر عما حصل ليلة أمس. كنت غاضبة جداً بسبب مشروعك الأسكانى فلم أتوقف لأفكر.
ـ يسرنى أنك لم تفعلى فلحظة الجنون قد تكون تجربة رائعةىفى بعض الأحيان.
ـ لكن الأشياء التى قلتها لك....
أخجلها التذكر فتهدلت عليه بقنوط. أعاد رأسها إلى كتفه و قال باسماً:
ـ استرخى يا طفلة الحبيبة. بالنسبة إلى المشروع الأسكانى فأن سيلاس كان تقدم بطلب ترخيص له قبل وفاته, لم أكن المسؤول الأساسى عن ذلك.
ـ سيلاس.....؟
ـ هناك اشياء كثيرة قد تستعصى على فهمك يا ليزا. اشياء كنت أرجو ألا تعرفيها ابداً خصوصاً أن الآنسة براون عرفت الكثير عنها, لا أقصد أنها مسؤولة عن أى شئ لكنى استنتجت من رحيلها السريع لدى وصولى أنها خشيت أن أطرح عليها بعض الأسئلة المحرجة.....فـ سيلاس كان غارقاً فى الديون حتى أذنيه إذ يبدو أنه اساء إدارة الشركة فى السنوات الأخيرة. لقد رهن كل أملاك هولوز آند و أغلب الظن أن مشروع التعمير كان أمله الأخير لأنقاذ الووضع.
شهقت ليزا من الصدمة و سألت بذهول :
منتديات ليلاس
ـ لكنك قلت أن الأوضاع كانت جيدة؟
ـ ظاهرياً, فى حينأثبتت الدفاتر عكس ذلك. أعتقد أن تدهور صحته هو السبب, مع أنه لم يقر بذلك.
ـ كان يجلس فى مكتبه و يحدق فى الفضاء.
ـ هذا الدليل الدافع على يأسه.
تململت بحزن و تذكرت الماضى بقولها:
ـ لم يكن لين المرأس. كنت أطمح إلى امتهان رقص البالية لكنه رفض مساعدتى.
ـ إذن هذا هو سبب العداء البسيط بينكما. ربما تدهور صحته جعله يرغب فى احاطة نفسه بعائلة حوله لأن امتهان الرقص كان سيبعدك إلى لندن.
فهتفت بصوت منفعل:
ـ لكنى لم أكن قريبته! بالمناسبة, كيف عرفت ذلك؟
ـ لورا اخبرتنى بعد أن عرفت الأمر من أقرباء لها كانوا يعرفون والدك. كذلك أطلعوا على قصة التبنى.
ادارت رأسها و نظرت إلى اللوحات قائلة:
ـ ثم جئت إلى هنا؟
ـ أجل, تذكرت ما قلته عن اللوحات فأملت أن أستخلص منها شيئاً. لكنى جئت مدفوع بحبى لك و ليس بسبب ما قالته لورا.
خفق قلبها بعنف.....فهذه ثانى مرة يعترف لها بحبه و قد بدأت تصدقه.....
قال و هو يضغط على كتفيها متوعداً:
ـ أهذا كل ما لديك من كلام بعد كل تلك الأسابيع التى عجزت خلالها عن التركيز لأنشغالى بحبك؟
أجابت باختناق:
ـ سيمون, لابد أنك حزرت مدى حبى لك؟
ـ أككثر من حبك لـ بيل رايت؟
ـ لم أكن أحب بيل أو أى شاب آخر و ما تظاهرت بذلك ابداً. لكنى شككت فيك كثيراً. حسبت أنك قصدت طلب الترخيص كى تتخلص منى و من أمى, و عندما أخبرتنى لورا ذلك, ثارت ثائرتى.
قال ضاحكاً بلطف:
ـ لقد هجمت علىّ كالأعصار, إنما لو كنت أبغى التخلص منكما فعلاً لما لجأت إلى تلك الطريقة. كنت اعتزم اطلاعك على المشروع بنفسى, أما لورا فقد سمعت الخبر من أبيها حين بحثه معى و لم يكن سراً الواقع. ثم تدخل عامل الوقت إذ اضطررت إلى حضور اجتماع لمجلس الأدارة فى لندن. من ناحية أخرى, كان مهماً أن يسكن أحد هولوز آند لبينما أقرر مصيره, و لم أفعل ذلك بددافع الأحسان كما اتهمتنى. اعتقد أنى سأعود إلى لندن فى نهاية المطاف بسبب اشغالى الكثيرة هناك.
ـ بالنسبة إلى أمى........
ـ حبيبتى, لا دادعى لأن تقلقى على مونيكا بعد اليوم. ألتقيتها أمام البيت هذا الصباح و كدت اصدمها بسيارتى لفرط استعجالى فى الوصول إليك, و قد جرى بيننا حديث طويل.
ـ هل أخبرتك عن اوستراليا؟
ـ بالتفصيل...كذلك أخبرتنى كل شئ عنك, كيف أنها ارغمتك على كل تلك التصرفات بعد وصولى. لقد شككت فيها فى حينها و فى تصرفات أخرى كثيرة, أنما يمكننا أن نسى كل هذا بسهولة.
ـ سيمون........
لم تقل أكتر من هذه الكلمة لأنه اسكتها......و لم يتوقف عن عناقها إلا حين أحست برأسها يموج فى حلم عاصف الروعة. أنه دنياها و حياتها و لا تريد إلا أن تبقى بين ذراعيه حيث تجد كل ما تحتاجه و تصبو إليه. قد تطلب إليه أن يفسر لها أموراً أخرى أنما ليس الآن......هناك كل الوقت لذلك.
ثم أجلسها على المقعد الخشبى المستطيل و قال:
ـ سنتزوج قريباً يا حبيبتى, قبل أن تسافر أمك, و حين يصفى ذهنه سأتمكن من أتخاذ بضعة قرارات و خصوصاً بالنسبة إلى مكان سكننا. هل ستتضايقين إذا اضطررت إلى مغادرة هولوز آند؟
تحرك فيها الألم فنظرت إليه بعينين دامعتين. لا شئ و لا أحد يقف بينهما بعد اليوم, لا بيل برايت و لا لورا تنسون, و لا بيتاً متعدد المشاكل. كل شئ يبدو رائعاً إلى حد يصعب معه تصديقه. لكن كيف لها أن تشك فى حدوث معجزة كهذه أو أن تعارض قدراً مجيداً كهذا؟ لا يهم مطلقاً فى أى مكان يسكنان.
و غمغم سيمونبنظرة مركزة:
ـ ليزا, لقد طرحت عليك سؤالاً.
ـ أجبتك عليه دونما حاجة إلى الكلام.
ثم عانقته بحرارة و همست بقلب خاف:
ـ أينما تذهب أذهب معك ما دمنا نسير على درب واحدة.
أجابها برضاء فائق:
ـ أنه جواب شامل.
جذبها إليه ثم خيم الصمت حولهما إلا من الريح العابثة بشجرة الدردار التى تحرس المرج فى الخارج.
تمت بحمد الله