الجحيـــم
(88) و الأخيــــر
** لا تلهيـكم الروايـــة عن الصـــلاة **
تفآجأتُ من اختفاءِ صوت أصلان و من ثم من تواجدهِ في القبو الذي كنا نسمعُ منه أصواتًا حينما سكنا بالقصر
فكان خالي يتعذر بأن المنزل قد يكونُ مسكونًا لأنه جديد و يضعُ مسجل يرددُ آيات الله بالأسفل بأعلى صوت , بصوتٍ يُخفي الصوت الخفيف الذي كنا نسمعه
حتى اندثر الصوت و ما عدنا نسمعُ شيء فتيقنا أن المنزل قد كان بالفعلِ مسكونًا , و منذُ أن سكنا بالمنزل لهذا اليوم لم يُفتح ذلك البابُ قط
فلماذا فتحهُ أصلان ؟
ولكن إجابة التساؤل كان بصوتهِ المنادي : خالة
هنالك امرأة , هنالك امرأة !!
بكلِ جنون خرجتُ من المطبخ و أنا أجري و أخواتي يركضن من خلفي و هن يهتفن باسمي لكني لم ألتفت وصلتُ إلى المكان المقصود
و نزلتُ الدرجات درجتين درجتين و أخواتي خلفي
حتى وقعت عيني على ظهرِ أصلان
فتقدمتُ حتى صرتُ بجوراه و أخواتي من خلفي
و حينما وقعت عيني على الحيزبون أدركتُ من تكون
و كيف لأ أدركها و هيَ من أنجبتني : يمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـه
و ها هيَ الحيزبون تخرجُ من جحيمها
و من هيَ الحيزبونُ غير أمي
أمــــــــي بقيت في ذات المنزل
في ذات المنزل حبيسة
أمي صارت حيزبونًا في ذات المنزل الذي نمكثُ بهِ
تنامُ و تستيقظُ تحتنا و لا أحدَ منا أطلقَ سراحها
ننامُ و نستيقظُ محرومين منها و هي أسفلنا
أمي كانت معنا طيلةَ السنين
وضعت عُزوف يدها على رأسها و وجهها كالمجنونة هاجت عينيها بالدموع الغزيرة
أما هوازن فخارت قواها ولآمست ركبها الأرض و هي تبكي و تهزُ رأسها بالرفض و تضعُ يدها على قلادةِ أمي التي تلفُ رقبتها منذُ أن ودعنا أمي لتذهب للضريح
و ما كان ضريحًا , كان جحيمًا بقت فيه حتى صارت حيزبونًا , كان جحيمًا و ما أدركنا يا أمي , ما أدركنا يا أمي , و إلا والله لو أدركنا ما كنتِ ها هنا
تقدمتُ حتى جلستُ أمامها و ما أن وضعتُ يدي على فخذها حتى بكت بشدة بأنينٍ , آلمٌ للقلوب , قارصٌ للأجساد , و عنيفٌ أشدَ العنفِ على الروح
أمي تبكي تخافُ أن نقترب منها , أمي عاشت سنين حياتها حبيسة تحت الأرض لم ترَ أو تسمع أو تتحدث مع أحد
لم تتواصل مع العالم الخارجي ففقدت حاسةَ السمعِ و الكلام و ضعفُ بصرها ضُعفًا شديدًا و صارت تخافُ من الجميع بلا استثناء
لا سامحك الله يا أيها الزنديق , لا سامحك الله يا عبدالقوي فالله القوي لا أنت , الله القوي لا أنت
بصوتٍ مبحوحٍ باكي يلامسُ الجماد قبل البشر , بكاءً لم أبكيهِ بحياتي قط و لن أبكيه فأيُ شيءٍ قد يستحقُ البكاء
غير رؤيةِ أمي بهذهِ الحالة المزرية برداءٍ ممزق , برائحة كريهة و يبدو أنها تقضي حاجتها في مكانها
بتجاعيدٍ تملؤها حتى تفاصيلها الجميلة اختفت تمامًا , العينُ مملؤة بدموعِ الخوفِ من ابناءها الصوتُ لا وجودَ لهُ و السمعُ قد فارقها منذُ زمن
الشعرُ أبيضٌ بالكامل خفيفٌ أشعث و العينُ جاحظة الجسدُ نحيل كمرضٍ سلب كل قواها , مرض عاش بيننا سرق أمالكنا زوجنا أبناؤه
مرض لو لم يُولد بالحياة لو لم يكن خالي ما كان جمالكِ يا أماهُ فارقَ الحياة , ما كان حنانكِ اندثر بأرضٍ هيَ تحتنا لقد كنا نمشي فوقكِ يا أماه و لا ندري أن أقدامنا تدهسُ على طهرِ الأرض
أين انتِ يا أمي أين ؟! , والله لم أعرفكِ إلا من الشامة السوداء التي في عنقكِ لم أعرفكِ إلا منها و من لهيبِ أنفاسكِ الدافئة
نعم يا أماه أنفاسكِ من المحال أن تكونَ في غيركِ أنفاسكِ الحنونة : يمه الله يخليك أنا عُطرة بنتك الكبيرة , يمه يالغالية لا تخافي مني يمه لا تخافي الله يخليكِ .
لكنها لا تستجيب لا تستجيب , أماهُ لا تظني بنا سوءًا والله لو علمنا ما مسكِ ضرٌ قط , والله لو ندري لوضعنا الزنديق ها هنا وجعلناكِ بيننا , أماهُ أنظري إلينا يا أماه
أمي أرجوكِ يا أمي انظري أنا فتاتكِ الكبرى و تلكَ الجاثية على الأرضِ هوازن ابنتكِ المطيعة , و الأخرى صغيرتكِ الحبيبة انظري كيف نبكيكِ كيف نخافُ عليكِ
انظري إلينا يا أماه والله ما انسلخنا عن حُبنا لكِ قط , لم يُغير بنا الزنديق مقدار شعرة , لازلتِ بالقلبِ يا أمي .
*
إنها أمي , أمي التي ولدت بي و رحلت إلى باريها , لم ترحل إنها على قيدِ الحياة كالميتة لا تتذكرهم و لا تتحدث ولا تسمع و حتى رؤيتها ضعيفة
هذهِ أمي زبيدة التي إن حكى عنها أبي ابتسم و كأنهُ يراها أمامه , إن حكى عنها ضحكت في وجهه الدنيا فضحكتُ و أنا لا أعرفها ولكن يكفيني أنها أمي و أنها وحدها و حدها من تستطيعُ إخراج أبي أصل
من دنياهُ للجنة , ذكراها قادرة على فعلِ كل شيء فكيف برؤيتها , نعم كيف برؤيتها ؟ بالرغمِ من مظهرها المخيف , إلا أنها دخلت إلى قلبي منذُ الوهلةِ الأولى
أمكَ على قيدِ الحياة يا أصلان أمك على قيدِ الحياة ها هوَ الله القادر على كلِ شيء جمعك بكاملِ عائلتك بعد طولِ سنين
مشيتُ لخارج القبو أصعدُ الدرجات أتشبثُ بالجدار لأُثبتَ أقدامي حتى لا أسقط و دموعي تنهمرُ بغزارة بكثافةِ المشاعر بداخلي
أمي على قيدِ الحياة بمظهرٍ تحنُ لهُ القلوب القاسية فكيفَ بقلوبِ أبنائها
أمي على قيدِ الحياة كالميتة تفتقرُ لكلِ شيء ولكنها تمتلكُ لقبَ أمي
لكنها من أنجبتني , لكنها الأمنية التي تمنيتُ رؤيتها
تخليتُها كثيرًا و أبي يحكي عنها فرأيتُ أن حنانها لا يضاهيهِ حنانه
و رأيتُ أن لا شبيه لها , رأيتُ أنها نورَ الأرضِ و جنة الدنيا .
*
سلمتُ من قيامِ الليل , و أخذتُ أدعو الله في هذا الشهرِ الفضيل و بينما أنا في روحانيةِ الإيمان دخل أصلان الحجرة و الدموعُ تملىءُ عينيه
وقفتُ من على السجادة و اقتربتُ منهُ و بتوجسٍ و خوف : أصلان وش فيك يبه ؟
قال بصوتٍ متقطع , نطقَ ما لا يخطرُ على الخيالِ قط , نطقَ حروفًا استودعتها الله في الجنة نطقَ حروفًا لو اجتمعت نبضَ كامل الجسد : أمي زبيــــــ.....دة تحـ...ت
بقيَ جسدي متجمدٌ بمكانه فهذا حالي حينما أسمعُ حروفَ اسمها , فكيف بما ينطقُ به , كيف وهو يقولُ أنها بالأسفل !
مدَ يدهُ و التقفَ يدي و هو يُمسكها بقوة و يقولُ بتأكيدٍ بصوتٍ قتلهُ البكاء : والله يبـ...ـه يمـ..ـه عايشة تحـ...ت
سحبني و مشيتُ معهُ , مشيتُ معهُ كالطفل الذي لا يدركُ أيُ سبيلٍ قد يذهبُ إليه
سحبني و ما كان مني إلا أن أستجيب دون أن أشعر فكلَ ما بداخلي ينبضُ لها
لعينيها النجلاء الكحلية , لصوتها الدافىء الذي يُلامسُ برودة الشتاء
لصدرها الذي تمنيتُ أن أموتَ بهِ , لكلِ تفاصيها التي أشتاقها
أن تتجسدَ لنا الخيالات كحقيقة , و أن نولدَ للحياة تارةً أخرى
أن تبتسم لنا الدنيا بعد سنين الشوقِ و الاشتياق
أن تهدينا الحبيب الراحل منذُ زمنٍ بعيد
أن نرى الدنيا مزدانة بالألوان يعني أن الحبيب قد حضر
يعني أن زبيدة ها هنا , أستنشقُ هواءً هيَ تخرجهُ من رئتَيها
هواءً كان في رئتيها صار فيَ , كم أن تخيل هذا وحدهُ يجعلني كالطيرِ في أعالي السماء
فكيفَ بكونها حقيقة ؟!
كانت أصوات فتياتي الباكية تملىءُ المكان و ما كان لعقلي أن يستوعب أي شيء حتى سحبني أصلان إليها وصارت أمامي
نعم حبيبتي غاليتي أجمل ما في دنياي , جلستُ على الأرضِ أمامها و أنا لا أستطيعُ استيعاب أن جميلتي كانت حبيسةٌ ها هنا كل هذهِ السنين
حبيسة في مكانٍ لا يليقُ بها , أميرتي في هذا المكان الموحش وحدها
أميرتي برداءٍ لا يليقُ بها , أميرتي تبكي و تصرخ حتى غاب صوتها ولا مجيبَ لها
أميرتي تصرخ فيعودُ صوتها إليها فتُجرح و تبكي حتى تفقد سمعها
أجمل أقداري وحيدة قد نادتني و لم أجيب
أنا بطلُها دائمًا لم أجيب , مددتُ يدي إلى كتفها فبكت و انزاحت لأقصى الركن تضمُ نفسها و يغيبُ وجهها الحبيب عني بين فخذيها
أخرجتُ الخاتم الذي يحتوي حروفًا لا يفهمها سوانا من بين أصابعي , و سحبتُ يدها و غرستُ الخاتم في أصابعها النحيلة
بعدما شعرت ببرودة الخاتم على إصبعها نظرت للخاتم نظرة طويلة حتى رأته , فزادت دموعها و ارتعشت شفاهها و من ثم بزغت من بينهما ابتسامة أقسمُ أني أدفعُ حياتي للجحيم حتى أراها
احتضنتُ يدها بيدي اليُمنى و باليسرى أمسحُ دموعها , و تبكي عيناي لبكاءها , جبيني يُلامسُ جبينها
وشفتاي تهمسُ لها بكلماتٍ نحفظها بكلماتٍ حُفرت في القلوب قبل الخاتم و القلادة
أسحبها رويدًا رويدًا إليَ واستجابت لي , أحتضنتُها كحلمٍ قد تحقق , احتضنتُها كسرابٍ صار حقيقة
احتضنتُها عاشقًا , احتضنتُها مشتاقًا , احتضنتُها أميرة في مملكةِ أصل
تبكي و أبكيها , تضحكُ و تضحكُ لي دنيايَ فأضحك
يالله يا أجمل أقداري إنكِ ها هنا في صدري إنكِ بين يدي
رفعتها بخفة صدرها يُلامسُ صدري أمشي بها لخارج القبو و بناتي و ابني خلفي
هذا الصدر مشتاقٌ إليكِ أميرتي و لن يخجل أن يدفنكِ بهِ أمام الجميع
و لن يتوانى عن دفنكِ بهِ , فقد كان مملكة بلا أميرة تُنير دنياه
فكيف لهُ أن يخطو خطوة دون أميرتهُ المدللة ؟!
دفنتُ وجهي في شعرها أستنشقُ رائحتهُ التي لم تتغير , رغم أن الزنديق قد حاول أن ينشرَ رائحتهُ الكريهة بكِ وقد فعل لكن لازالت رائحتكِ على قيدِ الحياة يا أميرتي
ستغتسلي من قذارةِ الزنديق و ستبقى رائحتكُ عبيرًا يملأُ رئتي .
*
و نحنُ نخرج لاحظتُ ظانع و هو يخرجُ من الملحق الذي يسكنُ بهِ سريعًا و يتوجه حيثُ باب القصر
ركضتُ بأقصى سرعة , لخارج القصر و أنا أصرخُ بأعلى صوتي : أمسكوه أمسكوه
و الحراس من خلفي يركضون , دخلتُ من أحدِ الجوانب حتى آتيهِ من الوارء و الحُراس من الأمام و أضمن محاصرتهُ
و هذا ما حدث , ينظرُ إليَّ فإلى الحراس و من ثمَ إليَ و يقولُ مترجيًا : خلني أروح يا أصلان , أنا ما لي دخل كل الخطأ على خالك أنا أشتغل عنده بس
تقدمتُ نحوه و رفعتُ ياقةَ ثوبهِ و بعينين حادة : لك عين بعد تترجى بعد سوياك , تظن بتفلت لا والله , بتآخذ جزاتك ياللي ما تخاف الله
سحبتهُ للقصر و الحراس من ورائي و هو يترجى دون كرامة
هم هكذا يتجبرون و يطغون في الأرض فسادًا و هم أضعفُ خلق اللهِ و أقلهم شجاعةً و شهامة
كل مافعلتماهُ بأمي سيعودُ عليكم
لن تفلتوا من العقاب .
***
صباح يومٍ جديد على أرضِ المحكمة , قد جاء اليوم المنتظر يا عبدالقوي
جاء اليوم الذي سأأخذُ بهِ حقَ أميرتي منك بالكامل , جاءَ اليوم الذي ستعيشُ من بعدهِ حياةً جحيمية حتى الممات
جلستُ بالمكان المخصص و ذلك الزنديق يجلسُ في كرسي بعيدٍ عني مقابلاً لي و بجوراهِ المحامي
و أمامنا يجلسُ القاضي
بدأ القاضي الدعوة القضائية : المشتكي , أصل الحكمي .
و قفتُ من على الكرسي و بصوتٍ جهوري و عينيَ ترسلُ وعيدًا لمن لا يخافُ الله حتى في أختهُ : نعم
جلستُ فتم نداء الزنديق و أجابَ بنعم واقفًا و عادَ للجلوس
طلب مني القاضي تقديم الشكوى , فوقفتُ بثبات و عيناي لازالت على ذلك الذي لم يهتم إلا لذاته ولم يهمهُ في الدنيا سوى المال
لم يخاف الله في نفسه , لم يقل كيف سأُقابل الله بعد الذي فعلته : أشتكي على عبدالقوي الحكمي , في محاولته لقتلي مرتين و معي شاهد للمرة الأولى و الثانية و هو هزاع
و أشتكي عليه بمضرته لزوجتي و إلي تصير أخته بحبسها تحت البيت عشرين سنة متواصلة و إبعادها عن بناتها , وهذا كله عشان يسرق أملاكي , أطالب بأملاكي و أطالب بمعاقبته
خروجه خطر علينا .
قال القاضي : الشاهد
فخرج الضابط يُنادي في الخارج : هزاع , زبيدة و أصلان الحكمي , ظانع .
و غابت عيني عن الزنديق إلى هزاع الذي دخل و بجانبهِ سجانان و وراؤهُ أميرتي على كرسي متحرك يدفعها أصلان و ثالثهم الذي لايختلفُ عن عبدالقوي السافل ظانع و بجانبهِ سجانين
وقف هزاع في مكان الشاهد و قال بثباتٍ و صوتٍ جهوري : أقسم بإن كل إلي بقوله صحيح , و أشهد إن عبدالقوي الحكمي حاول قتل أصل الحكمي مرتين , مثل ما هوَ مبين عندكم في الملف , المرة الأولى كانت قبل عشرين سنة
شفته وهو يخرب سيارة أصل لكن أصل عاش فاقد للذاكرة بعد ما انفقد بالبحر , المرة الثانية أرسلني خصيصًا عشان أقتله لكني فضلت الحيلة و وقفت في صف أصل الحكمي لبراءته .
ابتعد عن مكان الشاهد و وقف جانبًا و بجانبيهِ السجانين
بينما وقف ظانع و الذي كان صباحًا قيدَ التحقيق و قد اقتنع أن الاعتراف قد يكونُ سبيلاً في تخفيفِ عقوبته و وافق أن يكون شاهدًا ضد عبدالقوي
قال بصوتٍ يظهرُ بهِ التردد و الخوف : أشهد إن عبدالقوي الحكمي , قبل عشرين سنة أمرني بحمل تابوت فيه أخته و أخته كانت داخل التابوت على قيدِ الحياة و نقلناها لجدة حبسناها تحت الأرض عشرين سنة
حتى فقدت حواسها و فقدت قدرتها على الحركة و هاذي هي قدامكم .
*
إنها أختي أميرةُ أصل و محبوبتهُ , جميلةُ الفتيات تجلسُ على كرسي مُقعدة لا تستطيعُ الحركة , صماءُ لا تسمع , بكماءُ لا تستطيعُ الدفاع عن ذاتها
لكن عينيها مصوبة اتجاهي كسهمٍ يخترقُ أقسى القلوب
أختي التي ما كلفتُ نفسي يومًا على رؤيتها و الإطمئنان عليها , فمنذُ ذلك اليوم الذي حُبِست فيه بالقبو لم أرها بتاتًا
بنيتُ لي حياةً جديدة و بنيتُ لها موتًا في الحياة
سلبتُ من زوجها الأموال و سلبتُ منها الحواس و من بناتها الثلاث حق اختيارِ الزوج
فقط لأعيش كما أريد كما كتبتُ قدري على الورق
و نسيتُ أن الله القادر على كلِ شيء
لم أحسب حساب اليوم الذي سأقفُ بهِ على أرضِ المحكمة أمام أختي و زوجها
ظننتُ أني حينما أكسبُ المال لن يُضاهني أحدٌ في القوة
و نسيتُ أن الله هو القوي الجبار المتكبر
ظننتُ أني سأردعُ كل من يحاول مجابهتي سأردعهُ بمالي
و ها هو المال يجعلني أقفُ ها هنا , ها هيَ الدنيا تقفُ ضدي بعدما كنتُ من المحبين و المخلصين لها
هل هيَ الفانية تبتعدُ عني و تخذلني
كما خذلتُ أميرةَ أصل و خذلته هوَ
بدأ المحامي الذي وكلهُ لي ذراعي الأيمن ماجد
و قد كنتُ أعلم قبل أن يبدأ بالحديث أن كفَ نجاحي غير وارد فكل الأدلة ضدي
و انتهى المحامي
فأصدر القاضي حكمهُ " حكمت المحكمة على الجاني عبدالقوي الحكمي و المجني عليهِ أصل الحكمي لمحاولتهِ في القتل و نظرًا لكون الجناية خائبة حُكم عليه بالسجن خمسةَ عشر عامًا وفقًا للمادة الثلاثون
و بالسجن خمسة أعوام , لحبسهِ شيقيقتهُ المجني عليها عشرين سنة , رُفعت الجلسة "
*
دفعتُ أمي بالكرسي إلى حيثُ الزنديق الذي حكم القاضي عليهِ بحكمٍ هو أقلُ كثيرًا أمام ما فعل
حكم عليه بعشرين عامًا مسجونًا , و والدتي بقيت مسجونة عشرين عامًا , و أبي فقدَ ذاكرتهُ عشرين عامًا
و أنا بُترت يدي , و أختي تربت مسيحية
وقف السجانُ أمامهُ يغلقُ الأغلال حولَ يديه
كانت أمي تنظرُ إليهِ بتركيز فقد عرفته , و كيف لا تعرفهُ و هوَ أكبرُ خذلانٍ في الحياة
أخوها رمى بها في الجحيمِ دون أدنى شعور
كيف فعل هذا بكِ يا أماه ؟! أيُ قلبٍ ذا الذي يتربعُ صدره ؟!
حتى مسمى قلب لا يليقُ بهِ , أختهُ أختهُ !!
و الله إني أرى أخواتي والجنة سواء
أرى منهن سعادةً أبدية , و آخرةً باقية
اقترب بخطواتهِ منا و انخفض بجسدهِ إليها
و أول ما انخفض ارتفعت يدُ والدتي الطاهرة و طُبعت على خدهِ بصفعة عبرت عن النار التي تأججُ في صدرها
عن الكلمات التي تودُ قولها ولا تستطيع
صفعة جعلتهُ كالجمادِ بلا حركة , كالتائهِ بلا هدى
صفعة حركت فيهِ جزءًا ميتًا , فنزلت من عينيهِ دمعة وحيدة
لا تساوي دمعة واحدة ذرفتها أمي الغالية في جحيمها وحيدة
منذُ الشباب حتى صارت حيزبونَ الجحيم
دفعتُ الكرسي بعيدًا عنهُ و رحلنا خارج أرضِ المحكمة أبي أمي و أنا .
*
صفعتني صفعة جعلت قلبي يحيا بعد الممات , جعلت دمعتي تذرف بعد الجفاف
جعلتني أُدرك أني عبدٌ ضعيف لا حولَ لهُ و لا قوة
أيُ حياة و أي دمعة و أيُ إدراكٍ بعدَ فواتِ الأوآن
بعد رؤيتي لابنائي معن و الكاسر ناجي فركاض يقفون بجانبِ باب المحكمة
يقتلوني بنظراتِ اللومِ و العتاب
و من ثُم يعطوني ظهورهم و يرحلون وراء شقيقتي و زوجها
و يُختم المطاف بزوجتي ساجدة تقفُ أمامي تمامًا و تقولُ بصوتٍ حادٍ صلبٍ قاسٍ لم أعتدهُ منها ولم أعتقد لوهلة أن صوتها قد يخرجُ بهذهِ الخشونة : الله لا يسامحك لا دنيا و لآخرة حسبي الله ونعم الوكيل فيك
أُختك وضريتها و أخوي و حاولت قتله فلوس ونهبتها , البنات و زوجتهم من عيالك غصب , أصلان و مي شتتهم في التراب واحد مبتور والثانية مسيحية , والله مو عارفة أودي عيني وين , مو عارفة أطالع في اخوي أستحي منه
لأنه زوجي انسان سافل , كرهتك كره والله ما كرهته لانسان برفع دعوة خلع و وافق , حياة بيننا مستحيل تكون موجودة .
و قبل حتى أن أستوعب كان الكاسر يقفُ خلف ساجدة ويقولُ لها دون النظرِ إلي : يمه يالله مشينا
ناديتهُ برجاء : وليدي الكاسر
فنظرَ لي نظرة لا تنتمي لقلبِ الكاسر : للأسف إنك أبوي
ابتعدوا و صاروا سرابًا فشعرتُ بألمٍ شديدٍ في قلبي و تشنجٍ في عضلاتي وضعتُ يدي على قلبي و ما استطعتُ تحريك أقدامي
تعالت أصوات السجانَين : نادوا الإسعـــــــــــاف
كذلك اليوم الذي صدحَ فيهِ صوته : ازهب يا ظااااااااانع التابوت خيتي رحلت رحلت زبيدة رحلت الغالية من ريحة اميمتي
ها هيَ الأصوات تصدح بهذا اليوم نجدةً لإسعافه
في ذلك اليوم في القبيلة التي تمقتُ النساء في الزمنِ القديم في جهل الجاهلية
في بغضهم للنساء في وجهِ عبدالقوي الذي ظلَ مسودًا و هو كظيم
أبلغَ أُخته كذبًا أن أبو أصلانَ قد فارق الحياة , لتنزف روحها و تسقطَ أرضًا فيأتي بولآدةٍ قد اتفق معها من ذي قبل
تلدُ زبيدة على خير بتوأم , فتاةٌ تُضَمُ بجانبِ أميراتها الثلاث لتصبحن أربعة و فتى سيكون سندًا لهن
و هذا الذي لم يتوقعه , قد ظنَ ككلِ القبيلة الجاهلة أن زُبيدة لا تُنجبُ سوى البنات و تفاجىء بالفتى فما كان منهُ إلا أن يُصرح بإنجابها بالفتاة و يُخفي حقيقةَ الفتى
و يطلبُ من الحُر دفنهما , يُبررُ دفنهُ بالفتاة بأن أصل قد وعد رجال القبيلة لو أن زوجتهُ أنجبت فتاة سيدفنها و هوَ قد كان كاذبًا في وعده
فهو لن يكسر جناح أميرتهُ و يمنعها عن الطيران , هوَ لن يرضى أن يدفن ابنتهُ تحتَ التراب
أما الولادة فقد قامت بإعطاءِ زبيدة مخدرًا جعلها تنامُ نومةً طويلة
نومة حملتها على التابوت , نومة جعلتهُ ينشرُ خبر موتها في الحياة
وضعها في التابوت و نادى ظانع و الحُر و حمدان في مساعدتهِ لحملِ التابوت الثقيل
و المعروف أن الميت يكونُ خفيفًا في الحمل
و هوَ خاف أن يكشفهُ من في القبيلة حينما يحملون التابوت معه
لذلك استعان بمن يعرفهم
و راح بها للجحيم إلى منزلٍ في جدة وضعها بهِ حتى اكتمل بناء القصر
كانت قد بكت في ذلك المنزل حتى خفَ صوتها عن ذي قبل , حتى يئِست روحها من الخروج
و من ثمَ نقلها للجحيمِ الأبدي في القصر حتى صارت حيزبونُ الجحيم
نادت كثيرًا فوضعَ صوتَ قرآنٍ عالي يُغالبُ صوتها
صرخت يومًا فيومين ربطوا فمها حتى يئست لكنها كانت تُعيدُ المحاولة ما أن يُفتح فمها لتناولِ الطعام
لكن بلا جدوى فصوتُ آياتِ الله تغلبها في العلو
حاولت و حاولت حتى أصابها اليأس
و دعها الجميع و بقت وحيدة
فقدت صوتها فليس هنالك من تتحدث إليه
فقدت سمعها فليس هنالك من تستمعُ إليه
فقدت جزءًا من رؤيتها فليس هنالك ما تراه
فقدت حركتها لكنها لم تفقد ذاتها
لم تفقد ابناءها
لم تفقد بطلها أصلُ الحبيب .
***
و انتهى الشهرُ الفضيل بما فيهِ من أحداث , و حلَ علينا العيد بحلتهِ البهية
كان عيدًا سعيدًا لأولِ مرة منذُ عشرين عامًا قد مضت , أخي يجلسُ على كنبةٍ مفردة و حولهُ أبنائي و أبناءُ هوازن ينتظرون العيدية منه
و هوَ يخرجُ محفظتهُ من جيبه و يقومُ بتقسيمها عليهم يُضاحكهم و يضحكون لخالهم بسرور
خالهم الذي يحبهم و يقدرهم أخي و خالهم أصلان
ليس كالذي يستلقي على السريرعلى بعدٍ منا تحتَ النافذة , دموعهُ تجري بخديهِ و هوَ ينظرُ لنا
جزءٌ منهُ يتحرك و آخر دون حركة أصابهُ الشلل النصفي
فتمَ تخييرنا ببقائه معنا أو في السجن , وقد اختار أبي أن يبقى معنا
و هذا هوَ الاختيار الأفضل ليس محبةً بهِ ولكن ليرى اللوم و العتبَ في عيونِ الجميع
ليرى أختهُ التي تقعدُ على بعدٍ منهُ بجوارِ حبيبها و أبي أصل
تجلسُ على الكنبة بعدما كانت مقعدة تسمعُ لنا ولكن ينقصها النطقَ فقط
أما هوَ فقد الحركة , فقدَ القدرة على الكلام
و تبقى لهُ السمع ليسمع أصواتنا و نحنُ نضحك و هوَ وحيد لا أحدَ بجواره
بقيَ السمعُ إذلالاً لهُ , ها هوَ يا خالي ما قد فعلتهُ عادَ عليك
ماذا كنتَ ستخسر لو حببتنا بك كما أخي أصلان يُحببُ أبناءنا بهِ و يُحبنا كل الحب
هل كنت تظنُ أن المال كل الدنيا ؟! انظر ماذا فعل الطمعُ بك
*
أجلسُ بجوارِ أميرتي مدللتي جميلتي و أجملَ أقداري
مددتُ يدي إلى العقد الموضوع بجانبي على الكنبة العقد الذي طوقَ رقبةَ هوازن حتى عادت أميرتي و حان الوقت ليعودَ إليها
ليعانق شموخَ رقبتها بهاء عنقها , اقتربتُ منها حتى التصق جبيني بجبينها أنفاسي تخالطُ أنفاسها الدافئة
يالله أجمل أعيادي أنتِ , إنني أتنفسكِ إنني أستنشقُ عبير رائحتكِ إنكِ بالجوار
شهرٌ قد مضى و أنتِ في صدرِ أصل كحلمٍ صعبَ المنال
في كلِ يومٍ أخافُ أن أستيقظَ فلا أجدك , و لكن أجدُ رأسكِ يغمرُ صدري سعادةً فتبتسمُ ليَ دنياي
عانقت برودة القلادة بياض عنقها الناصع في عناقٍ لن يزول بإذن الله حتى الرحيل للباري جلَ جلاله
وضعت يديها الدافئتين بأطرافها الباردة على رقبتي و همست و أنفي يُلامسُ أنفها همست لأولِ مرة منذُ شهر , همست بالحروف الذي لا يحظفها سوانا و لا يقرأها سوانا أبياتُ ابن سهل الأندلسي
التي كُتبت لها و لأجلها فهيَ لا تليقُ بسواها ولن تليق : لما رآني في هواه متيما .. عرف الحبيب مقامه فتدللا , فلك الدلال وأنت بدرٌ كامل .. ويحق للمحبوب أن يتدللا.
قالتها بصوتها الحبيب , قالتها مدللتي حبيبتي و بدري الكامل
ليتني أستطيعُ معانقةَ هاتين الشفتين بقُبلة أشتاقها كثيرًا بعد سماعي لصوتكِ المترفُ بالفتنة
و لكن فتياتكِ و ابنكِ يجلسون على صدري قبل المكان
و زادَ الطينُ بلة اقترابُ عُطرة منا و جلسوها بجواركِ , إلا و يأخذوكِ مني يا أميرتي
*
كنتُ سأبعدُ عيني عن أبي و أمي حتى لا يشعر أبي بالضيق أو تشعرَ أمي بالحرج
ولكني رأيتُها تحركُ شفتيها , فأحببتُ أن أتأكد مما رأيت هل من المعقول أنها تكلمت
يالله ما أكبرها من سعاة تزنُ الأرضَ بما فيها
قعدتُ بجوراها و سألتُها بمصداقية و كلي شوقٌ لإجابة تزيدُ عيدنا فرحة : يمه شفتك تحركي شفايفك , اتكلمتي يمه ؟
ابتسمت لي بحنو , ابتسامة من أجملِ ما رأيت ابتسامةُ أمي و ابتسامةُ أبي ابتسامتين لا جمال يضاهيهما : عُطرة
رفعتُ يدي خلفَ ظهرها و عانقتُها بشدة و انا أضحكُ بسرور : جنتي يمه جنتي إنتِ
فتقدما كلاً من أصلان و هوازن نحونا متسائلين عن سبب ضحكي
فنطقت أمي اسميهما فطنقت الدنيا سعادةً دائمة
تحتضنُ لصدرها كليهما بسعادةٍ غامرة
تحكي لنا كلماتٍ بخلجاتها : هوازن بنتي المطيعة , عُطرة بنتي المتمردة , أصلان ولدي إلي تمنيته سنين .
فقال أبي و هوَ يرفعُ أحدَ حاجبيه : و أصل ؟
ضحكت أمي و ضحكنا جميعنا : أصل يعرف قدره و مكانته بقلب زبيدة .
رنَ هاتفُ أخي أصلان , فأخرجهُ من جيبه و تحدث قليلاً و من ثم قال : يلا هما في الطريق بسرعة استعدوا .
*
أن نتمنى أمنية و ندعو الله أن تتحقق سنينًا طويلة
فيُصيبنا اليأس و لكن نعودُ للدعاء مرةً فمرتين حتى تتحقق
و أن يُحقق الله امنيةَ عبدٍ من عبادهِ بين أمنياتٍ كثيرة شيئًا من المُحال أن يُوصف , شعورٌ فوقَ كلِ شعور
خرجنا من السيارة فذهبَ ناجي إلى " بيتِ الشعر " الذي يجتمعُ بهِ جميعُ إخوتُه ركاض و الكاسر و معن
بينما أنا صعدتُ الدرجات بسرعة و سعادةً غامرة و أنا أضغطُ على الجرس
فتحت الباب ريتاج الصغرى ابنةُ هوازن , قرصتُ خدها برفق , فقالت بصوتٍ طفولي يعشقهُ قلبي و هيَ تمدُ يدها : أبغى عيدية
ضحكتُ بصخب و أنا أُشير إلى عيني : من عيني ذي قبل ذي .
أخرجتُ محفظتي بنيةَ اللون من الحقيبة و وضعتُ بيدها خمسمائة ريال
تقدمت للداخل فدخلتُ من وراءها و أغلقتُ الباب و ما أن التفت حتى صرخ الجميع من الدورِ العلوي : مبــــــــــروك عليـــــــــكِ البيبي
ضحكتُ بسعادة و أنا أضعُ يدي على فمي
و صغار عُطرة و هوازن يرمون البالونات الوردية و الزرقاء من الأعلى فجنسُ المولود غيُر معروف
صرختُ بفزع و أنا أشعر برذاذٍ بارد يُنفثُ علي
فالتفت للوراء فإذا بهِ أخي أصلان يقول : مبروووك يا خوافة
احتضنتهُ بشدة : وجع مرة ثانية لا عاد تتخبى زي كذا
في الوقت الذي نزلوا بهِ من الأعلى , تقدم أبي نحوي و احتضنني إليهِ مُقبلاً رأسي : مبروك يا غالية مولود السعادة .
ابتسمتُ لهُ و أنا أُقَبِلُ يديهِ و رأسه : الله يبارك فيه يبه .
و من ورائهِ أمي سلمتُ على يديها و رأسها بسعادة و أنا احتضنها و أحكي لها عن سعادتي حتى و إن كانت لا تسطيعُ الردَ علي : يمه بصير أم يمه , مرة فرحانة يمه .
فتفآجأتُ بها و هيَ تقول : عساه يكون بار فيك مثل برك لي يالغالية .
شعرتُ أني سألحقُ لفرطِ سعادتي قبلتُ جبينها بقوة و بلا تصديق : تتكلمي يمه , صرتِ تتكلمي الحمدلله الحمدلله
ثم هوازن و أختي عُطرة , فأبناءهم الصغار
و من ثم سحبني أخي أصلان إلى طاولة مستديرة عليها كعكة بيضاوية الشكل نصفها وردي و الآخر أزرق رُسم عليها امرأة حامل و كُتب تحتها " خالو ينتظرك "
قهقهتُ ضاحكة و أنا أهزُ رأسي بالرفض : مو من جدك .
فقالت هوازن و هيَ تتقدم نحونا : شسوي فيه بالله من أول أقوله نحط دعاء و لا عبارة تهنئة حلوة يقول لا خالو ينتظرك .
فقال أصلان ضاحكًا : فرحان فيه أو فيها وش دخلكم إنتم و بعدين الكيكة على حسابي أكتب فيها إلي أبيه و يلا تعالي يالحامل قطعي الكيكة .
أمسكتُ بالسكين و قطعتُ الكعكة و الجميعُ يصفقُ بسعادةٍ و سرور .
***
أجلسُ على الكرسي أمامها قريبًا منها , أوزعُ الجل على بطنها و أحركُ الآداة فوق بطنها و هي تنظرُ إلى ما يعرض بابتسامةٍ مشرقة
مع أن لا شيء واضح فهيَ في بدايةِ شهرها الثاني , لكنها أصرت على إجراء السونار و بما أن لا ضرر من إجرائه وافقتُ على ذلك , مسحتُ الجل عن بطنها
فقالت بدلعٍ عفوي يليقُ بها : نااااااااجي متى يبان جنسه
احتضنتُ يدها بين يدي و بابتسامة واسعة : بيبان على الشهر الرابع إن شاء الله ونجي نشوفه سوا .
جلست بعد استلقاءها و عقدت حاجبيها بتساؤل : إنت وش تبي ولد ولا بنت ؟
شددتُ على يدها , و بمصداقية : إلي يجي من ربي حياه الله , لكن حقيقة أبيها بنت في جمالك أبيها شبيهتك أبي أحبك مرة ثانية و أبي غيرها ثلاث عشان أحبك خمس مرات
قبلتُ بطنها بعمق , فوضعت يدها على شعري وقالت بخجلٍ كبير : ناجي احنا بالمستشفى .
اسندتُ ذقني على بطنها و أنا انظرُ لعينيها الآسرة : عارف إني بتهور عشان كذا خرجت الممرضة من أول .
قالت وهي تقلبُ عينيها : بس ترى زعلتني
ابتعدتُ عن بطنها و مددتُ يدي إلى شعرها : أفا , معزوفتي قارورتي مهجة روحي وبهجتها زعلانة مني ؟! وش مسوي لقارورتي أنا ؟
أزاحت عينيها عني للبعيد و قالت و هيَ تلوي شفتيها بطريقة أغرتني حتى الجنون : تبي تحب مني أربع نسخ ؟ , أنا أبي حب الأربعة كلهم يكون لي وحدي .
أغلقت فمي المفتوح و هي تضحكُ بصخب و تغطي بطنها و تقوم : يالله يا ناجي فهمت إنك ميت على نفسك .
نظرتُ لها بحنق : إنتِ بطلي حركات فمك المغرية و ريحي ناجيك , حتى في الشغل ما رحمتيه .
*
قال الكاسر لي : أضربه على كتفه يا ركاض يمكن يحس .
ضربتهُ على كتفه فانتفض و عدلَ من جلوسه فقال معن ضاحكًا : وين مسافر يا أخ ناجي ؟ هذا كله فرحة بالطفل الله يخليه لكم
و قبل أن يرد كانت أمي ساجدة تدخلُ " بيت الشعر " فقمنا نسلمُ على يديها و رأسها فقالت : سويتلكم درب أدخلوا شوفوا أبوكم
فخرجنا متوجهين لداخلِ القصر , حيثُ يستلقي أبي على سريرٍ في الصالة
*
بينما أبنائي يتقدمون حيثُ يستلقي والدهم , انسحبتُ عن المكان كعادتي ولكني سمعتُ صوتًا يناديني بهدوء و قد عرفته و كيف لا أعرفه وهو الصوت الذي أحاول تحاشيه شهرًا كاملاً
خجلاً منهُ على ما فعلهُ زوجي بهِ و بزوجتهِ , أجبتهُ دون أن أستدير و أراه : نعم
فأمسك يدي بين يديهِ الحانية حتى استدرت وصرتُ أُقابلهُ و بالرغم من هذا لم أستطع وضع عيني بعينيه , فقال بحنانٍ أخوي : ساجدة يالغالية من رمضان و إنتِ تهربي مني , لكن كنت مشغول بزبيدة و أمور أصلان
من الهوية للمدرسة للمستشفى , إلي سواه زوجك يالغالية زوجك إلي سواه إنتِ مالك دخل , لو بنحاسب الناس على أخطاء غيرهم بنظلم كثير .
فتح ذراعه و هوَ يقول : تعالي يالغالية , تعالي لحضن أخوك
رميتُ بجسدي عليهِ فعانقني بشدة , عناقًا طويلاً حكى لي أنهُ أخي مهما حدث .
*
أبي بجبروتهِ وقوتهِ صار لا يقدرُ على الحراك مستلقٍ على الفراش طيلةَ الوقت نتناوبُ على إطعامه و إدخالهِ دورة المياه
حتى أمي جزاها الله خيرًا تُساعدنا في ذلك بالرغم من قسوتهِ عليها فيما سبق
هي سامحتهُ على ما فات و بانسانية قامت بأمورهِ لا محبةً لهُ فلازالت تكرهه و تخجلُ من أفعالهِ الشنعاء
كلهُ لأجلِ المال و ها هوَ المالُ كله قد عادَ لصاحبهِ و هوَ خالي أصل
و نحنُ كلٌ منا يعملُ بعرقِ جبينه العمل الذي كان عليه سابقًا , أنا ضابط و أخي ناجي طبيب و معن لازال يعملُ في الشركة
فبرغمِ أفعال أبي , خالي أصل لم يتخذ موقفًا ضدنا بل كل حنقهِ و كراهيتُه لأبي
أبي سقطت أجفانه و جفت عينيه و فاضت بالدموع , الدموع التي مقتها طيلةَ حياته ما صارت تتوقفُ عن الانهمار
سقطت زاويةُ فمه و لعابهِ يسيلُ بلا إرادةٍ منه حتى إحساسهُ بالطعم فُقِد
لأنهُ سامحهُ الله لم يدرك أن طعم الحياة هوَ العمل للآخرة , بل كان يعيشُ الحياةَ الدنيا لهوًا ولعبًا
قبلتُ رأسهُ وقد كان يبكي لاصوت ولا ردة فعل فقط يتنفس و يدرك هذا هوَ أبي في الحياة
و إدراكهُ هذا هلاكٌ لهُ , هلاكٌ لهُ حينما يرى من حولهُ ينظرون لهُ بنظرةِ اللومِ و العتب
لكن ماذا كنتَ تنتظرُ يا أبي ؟! هذهِ هيَ الدنيا تعودُ عليكَ ذاتَ يومٍ في غفلةٍ منك إن لم تتدارك نفسك
جلسنا حولهُ نحاولُ إدخال الفرحِ لقلبهِ بشتى الطرق
فمهما كان ومهما فعل يظلُ أبي .
***
أن يقعا في الفاحشة فتقعُ الطامة الكبرى على رأسيهما بابنِ الحرام
فيكونا مخيرين إما بإجهاضه و إما بولادتهِ و الزواج قبل مولدهِ هذا خيالُ المسلسلاتِ فقط
ففوق الكبيرة التي ارتكباها معًا , الإجهاضُ محرمٌ و لا يصح , فابنُ الحرام ليس عذرًا للإجهاض
و هذا من حكمتهِ عزوجل حتى لا يستسهل بنو البشر الزنا
و أما الزواج قبل وضعِ الحمل فعلى خلاف منهم من قال تتزوج بهِ و منهم من قال لا يجوز حتى تضع حملها
و لكن بكلتا الحالتين لا يصحُ انتساب الطفل لوالدهِ إنما يُنسبُ لأمه و يكون ربيب الزوج
قد يضعُ بعض الكتاب لحالتي نهايةً سعيدة لكنها لا تمت للواقعِ بصلة
فيجعلان الزاني و الزانية يتزوجان و ينسبان الطفل لأبيه
و هذا لا يصح , يكفي أني نُسبت لعائلة لستُ منهم و هذا تبني و التبني لا يصح
لكن قد تكونُ نهايتي السعيدة هيَ توقيعي على الورق التوقيع الذي سيُغيرُ حياتي مع انسانٍ آخر
انسانٍ يتيم نُسبَ لاسمٍ عام رضيَ بيَ و غيرَ من لقبي لأنسبَ لأمي كما الدينُ أراد
فهو يتيم و اليتيم دائمًا ما يُخيلُ لهُ أنهُ ابنُ حرام , وقد عاش تفاصيل ألمي كما عشتُها تمامًا و رضيَ بحالي
لأنهُ الوحيد الذي يعلمُ عن حالي
أمي شكران سعيدة توزعُ " الشربات " على خالاتي
و خالتي جيلان " تزغرطُ " بسرور
ولدتُ في مصر ونسبتُ لأمي و تزوجتُ من مصري
فموطني هوَ مصر , أما أبي هزاع فسامحتهُ على ما فعل لكن من الصعب أن أعيشَ حياتي معه
و من المحال أن تتزوجَ أمي منه , و من الأساس لا فائدة من هذهِ الزيجة لأني لن أنسبَ لهُ فالدينُ يرفضُ ذلك
لذلك أُسامحهُ على كلِ ما فعل و أبدأُ حياتي بالحلال مع انسانٍ يفهمني و يُقدرني كفتاةٍ لا ذنبَ لها بما حدث في الماضي الراحل .
*
و ها هيَ صغيرتي تتزوجُ بالحلال زواجًا صحيحًا
و ستذهبُ مع من يستحقها و تستحقهُ يُقدرها و تقدرهُ
قد سامحتُ هزاع و قد سامحت هيَ أباها
و قد بدأنا الحياة من نقطةٍ جديدة
أساسها عدم المبالاة بأقوالِ الناس
فهيَ نُسبت لي كما أراد الدين , و لا دخل لأحدٍ في ذلك
و يكفيها أنها تعيشُ مع انسان سيشدُ من ازرها و يُذكرها دائمًا بأن اللهَ معها
فهوَ حافظٌ لكتابِ الله متمسكٌ بدينه .
***
يُتبـــــع الرجــاء عدم الرد