لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية


موضوع مغلق
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-04-14, 02:46 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Apr 2014
العضوية: 266201
المشاركات: 6
الجنس ذكر
معدل التقييم: محمد شلبي عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 13

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
محمد شلبي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : محمد شلبي المنتدى : ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
افتراضي رد: ألياذة العرب

 

الفصل الثاني
كانت أمة اليهود ومازالت أمة يكتنف تاريخها الغموض ويتعريه الكثير من المغالطات والإسقاطات واللبس بفعل ما أقدموا عليه من تزيف للحقائق وقلب للأحداث علي نحو يخدم مصالحهم وأهدافهم الدنيئة المستفزة لمشاعر الأغيار- وهم في نظرهم الأمم الأخرى من غير اليهود - ولقد أجمع الباحثين والمفكرين على أسباب عدة كانت خلف ما يلف اليهود من ضباب تاريخي منها مثلا ما ذكره الأستاذ محمد خليفة حسن في تقديمه لدراسة ( تاريخ يهود مصر) حيث سرد مجموعة من العوامل التي تجعل من توثيق التاريخ اليهودي توثيقا حياديا وموضوعيا مهمة شديدة الصعوبة منها قلة المتاح من المصادر حول التاريخ اليهودي ومشكلة تنوع تلك المصادر إذ أن أغلبها إن لم يكن جميعها هي في الأصل مصادر يهودية خالصة مما يضع مسألة الحيادية والموضوعية في سرد الأحداث التاريخية على المحك , هذا إلي جانب مشكلة خلط التاريخ بالدين لدي هؤلاء القوم وهو ما يقول فيه الأستاذ محمد خليفة حسن في المرجع السالف
" ويلاحظ هذا بشكل واضح في كتاب العهد القديم الذي تختلط فيه المادة التاريخية بالمادة الدينية. كما يتم فهم الأحداث التاريخية من منظور ديني خالص. وقد أثر منهج العهد القديم على المؤرخ اليهودي, فنجده يميل دائما إلي تفسير أحداث التاريخ تفسيرا دينيا لا يعترف فيه بالأسباب والعلل التاريخية الإنسانية."
ثم أضف إلي كل ما سبق أنه وعلى مدار التاريخ الإنساني المكتوب لم تتعدى جماعة العبرانيين أو اليهود أو بني إسرائيل أو أيما كان اسم تلك الجماعة, لم تتعدى كونها جماعة من الأقليات والطوائف التي كانت تحيا بين الشعوب المختلفة فغلب عليهم التبعية السياسية والتاريخية لتلك الشعوب ولم يكن لهم يوما دولة قائمة مستقلة لها تاريخها المستقل والمدون كباقي شعوب الأرض وبلدانه.
ولعل أبسط مثال على ما يكتنف ذلك التاريخ اليهودي من غموض وإبهام هو عجز الباحثين فيه عن رد تسميتهم بالعبرانيين إلي أصل تاريخي ولغوي واضح فنجد أن البعض قد ذهب إلي أن سبب تسميتهم بذلك الأسم يعود إلي عابر وهو الجد السادس لسيدنا إبراهيم عليه السلام كما جاء نسبه في العهد القديم فهو إبرام بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعد بن فالج بن عابر.
أما البعض الأخر فنجده ينسب الإسم إلي إبراهيم عليه السلام نفسه مستند في ذلك إلي أنه من عبر نهر الأردن في هجرته الأولى من ( أور ) إلي الأرض المقدسة فهو عابر ونسله من ولده إسحاق هم عبريين أو عبرانيين.
وهذا فريق ثالث يرد التسمية إلي كونهم كانوا جماعة رعوية غير مستقرة تمتاز بعبورها الدائم من أرض إلي أرض.
وعلى كل حال ومهما كان الأصل التاريخي لكلمة عبري فإن الأمر يتعدى ذلك بكثير, فاليهود بخبثهم المعهود يحاولون هنا قلب الحقائق التاريخية بما يخدم مصالحهم ذلك أنهم يدعون بأن العبرانيين هم فقط أبناء إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام في محاولة منهم للترويج لتلك الإكذوبة التاريخية الكبرى المسماه بنقاء الدم والجنس. إنهم يدعون بأن اليهود على مختلف أجناسهم وطوائفهم استطاعوا على مر التاريخ المحافظة على نقاء عرقهم فلم يختلطوا بعرق أخر وبقوا جميعا من نسل إسحاق عليه السلام وهو إدعاء كاذب وفرية سخيفة فمنذ قرابة الألفين عام قبل الميلاد وكلمة عبراني تستخدم للدلالة على الكثير من قبائل شبه الجزيرة العربية والشام وكانت العبرية لسانهم ولسان الكنعانيين وبعض قبائل شبه جزيرة سيناء. فلفظة عبراني إذن لا يمكن أن يكون معناها يهوديا فحسب.
ثم إن هؤلاء الجماعة كانوا دائما في حال من الترحال والتنقل بين شعوب المنطقة في تلك الحقبة من الزمن التي تلت سيدنا إبراهيم عليه السلام وحتي خروجهم مع سيدنا موسي عليه السلام في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني وهي حقبة تمد من 2000 قبل الميلاد وحتى عام 1211 قبل الميلاد أي حوالي 789 عاما. وهو عدد كاف من السنين لكي تندمج جماعات اليهود مع قبائل المنطقة في تلك الحقبة من الكنعانيين والآراميين والمصريين وغيرهم وأن يتأثروا بعاداتهم وتقاليديهم ولغاتهم. هذا إلي جانب أن من خرجوا مع سيدنا موسى عليه السلام لم يكن جميعهم من بني إسرائيل فحسب وإنما خرج معه جماعة ممن أمنوا برسالته من المصريين وممن كانوا مناهضين ومعارضين لحكم فرعون.
وفي ذلك يقول المفكر اليهودي مكسيم رودنسون
" إن سكان فلسطين الذين هم عرب فلسطين تجري في عروقهم دماء من قدماء العبريين أكثر مما تجري في عروق يهود الشتات الذين لم يمنع إنغلاقهم من دخول كثير ممن أعتنقوا اليهودية إلي صفوفهم وترجع جذور هؤلاء إلي أصول جنسية مختلفة."
فكيف إذن يدعون بأنهم شعب الله المختار الذي أصطفاه بنقاء الدم وطهارة العنصر وصفاء العرق؟
وكما ذكرنا سالفاً فإن اليهود لم يعرفوا الإستقرار على مدار التاريخ ولم تكن لهم دولة قائمة بذاتها اللهم إلا في عهد النبي داوود وابنه من بعده سليمان عليهما السلام وهي دولة لم تقم إلا لقرابة السبعين عام ولم تدم بعد رحيلهما, لذا فليس هناك ثمة مصطلح يدعى تاريخ اليهود فحسب وإنما لابد وأن يتبع بدولة ما كانوا يوماً تابعين تاريخياً وسياسياً لها فيقال مثلاً تاريخ اليهود في الأندلس أو تاريخ اليهود في إيطاليا أو تاريخ اليهود في ألمانيا..على أن ما يعنينا هنا هو تاريخ اليهود في مصر..ولقد وجد اليهود في مصر من الحرية الإجتماعية والدينية والسياسية ما لم يجدوه في غيرها من أقطار العالم بل إنهم لم يشتموا للاضطهاد ريحاً وذلك لما جبل عليه المصريين من تسامح وطيب معشر.
ولقد أكسب ذلك اليهود ميزات قلما توافرت لهم في كثير من بلدان العالم التي عاشوا بها. ولعل نظرة خاطفة إلي حارة اليهود بالقاهرة تثبت صحة هذا القول.
لقد ألف اليهود الإنغلاق على أنفسهم في كل المجتمعات التي تواجدوا بين جنباتها فكان لهم أحيائهم الخاصة بهم التي لم يكن يقطنها سواهم..ولقد اتخذت تلك الأحياء أسماءاً مختلفة ففي أوروبا كانت تدعى ( الجيتو )..وفي المغرب العربي حي الملاح.. ولقد جرت العادة في معظم تلك البلدان على أن تحاط تلك الأحياء والتجمعات بأسوار مانعة لا يسمح لليهود بالنفاذ خلالها من وإلي المدينة إلا بإذن مسبق وهو ما يمكن وصفه بالاضطهاد بشكل أو بأخر وما لم يوجد بحارة اليهود بالقاهرة.
وفي الواقع فإن كلمة (حارة اليهود) إنما هي لقب مجازي فحارة اليهود التي كانت تمتد من حي الجمالية إلي حي الموسكي لم تكن مقتصرة على اليهود وإنما كان هناك مسلمين ومسيحين يعيشون معهم جنباً إلي جنب.. بل لقد كان هناك أحياء أخرى يغلب عليها المسلمون وما وجدوا يوماً غضاضة في أن يكون جيرانهم من اليهود.. أما أثرياء اليهود عادة ما كانوا ينتقلون للحياة بالأحياء الأرستقراطية بقلب القاهرة كحي عابدين.
كل هذا لأن مصر ما عرفت على مدار تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن التعصب الديني أو العرقي على الرغم من أن تاريخ بني إسرائيل حافلاً بذلك التمييز ليس بين الأمميين من غيرهم فحسب بل بين بني جلدتهم أنفسهم حتى أن حاخامات طائفة الربانيين كانت تحرم الزواج من طائفة القرائيين وهما الطائفتين التين كانتا الأشهر والأوسع أنتشاراً في مصر في القرن التاسع عشر.
ولقد جاء ذلك التحريم لما بين تلك الطائفتين من خلاف عقائدي ففي حين كان الربانيون يؤمنون بأسفار التوراة التسع وثلاثين والتلمود بشقيه ( المشناه ) و( الجمارا) كانت طائفة القراءون لا تؤمن إلا بالأسفار الخمس الأولى من العهد القديم وهي التكوين والخروج والتثنية والعدد واللاويين.. ثم لقد كانت الأولى تعتمد في تقويمها على الحساب بينما تعتمد الأخيرة على التقويم القمري مما جعل بين الطائفتين خلافاً في الأحكام الدينية والأعياد كأحكام يوم السبت وغيرها.
ولقد كانت (سارة بنحاس عازر ) من أجمل بنات الربانيين بل لقد كانت من أكثر بنات اليهود علي أختلاف طوائفهم حسناً.
..................................
القاهرة شتاء عام 1875 م.
قبل سبعة عشر عاماً من هذا التاريخ وفي حي الربانيين بحارة اليهود ولدت سارة في حلكة الظلام بمنزل متواضع قد بدت على جدرانه التي تآكلت بفعل الرطوبة والقدم أمارات فقر مدقع.. ومنذ صرخاتها الأولي وحتى تلك الليلة التي كانت تجلس فيها في مخدعها وحيدة قلقة مضطربة الخاطر والفؤاد لم تذق طعماً لغير الشقاء والعذاب.
كانت دموعها في تلك الليلة في غزارة الأمطار التي راحت تهطل ثقيلة لتضرب نافذة الغرفة كألف معول محدثة صوتاً ضاعف من خوفها وتوترها.
ما أثقل الريبة علي القلب!!..وما أشد عذاب الروح!!.
لقد بدت سارة في تلك الليلة الظلماء بالرغم من حسنها الآسر كزهرة ذابلة ذهب بريقها وجف منها الرحيق وقد تقازفتها الحيرة ما بين الرغبة في حبيب لم تعرف سواه والرغبة عنه لقسوته وجفاءه.. ليتها ماتت قبل أن تعرف العشق.. إذن لما عاشت عامين كاملين تتلاعب بها رياح الوجد الهوجاء وتضرب بها صخوراً للشوق والحنين صماء.
قبل عامين وحين كانت في الخامسة عشر من عمرها تعرفت إلي ( إبرام باخوم ).. كان إبرام شقيقاً لصديقتها جان ثم إنه كان شاباً وسيماً شديد الجاذبية والذكاء فوجدت فيه ضالتها المنشودة وما أفتقدته طوال عمرها من حب.. ما أن وقعت عيناها عليه حتى داخلها إحساس عميق بأنه قشتها التي سوف تحملها إلي شاطيء الأمان.
لقد عاشت سارة حياة بالغة القسوة والمرارة منذ أن لفظها القدر إلي الدنيا ذلك أنها ولدت لأب فقير كان يعمل تاجراً جوالاً بين القري والمدن فكانت قليلاً ما تراه وتجلس إليه فما أدركت يوماً حكمة الأب وما ظلها حنانه.. حتى بعد أن أستقرت بهم الأمور وتبدل حال والدها وأستطاع بعد كد سنوات أن يتخذ لنفسه متجراً بالحارة وبات ميسوراً.. يومها ظنت أنها أخيراً سوف تحظى بأبيها الذي طال شوقها إليه ولسوف تنعم بترف العيش ورغد الحياة غير أن آمالها قد خابت وحال دونها إنشغال والدها الدائم بتجارته وبخله الشديد فعاد اليأس يدب في أوصالها وكاد أن يودي بها لولا أن بزغ إبرام كفجر جديد اضاء جنبات روحها المظلمه.
كان إبرام يكبرها بخمس سنوات ثم إنه كان ينتمي لطائفة القرائيين ولقد كان في ذلك ما حسبه أن يقضي على ما يداعب عقلها وفؤادها من رغبة في وصال حبيبها غير أنها لم تعبء بكل هذا ولم ترى فيه ما يحول دون ولعها بحبيب طال الشوق إليه وشغفها بطوق نجاة لطالما انتظرته على أحر من الجمر.
لم يكن يعني لها في كثير أو قليل كونه من غير طائفتها فهي لم تقم يوماً للدين وزناً ولم يكن أبدا في قائمة أهتماماتها.. بل إنها لم تخطو منذ أن وعت وأدركت خطوة واحدة داخل المعبد الذي لم يكن يبعد غير خطوات عن المنزل.. كل ما كان يؤرقها ويكاد يقتلها قلقاً أن يكون إبرام على طرف نقيض منها فتلقى منه صدوداً لتلك الإعتبارات العقائدية بيد أنه لم يفعل.
ولقد رأت في باديء الأمر أن تحجم عن مكاشفته بما يعتمل في قلبها من لواعج للهوى لا بدافع من الحياء ولكنه كان نوعاً من التمنع والدلال غير أن رايتها سرعان ما سقطت واستسلمت لناموس العشق فأطلقت لمشاعرها العنان وعزمت علي مطالعته بما تجده من وجد وشوق فانطلقت قاصدة منزله ومتعلله برؤية صديقتها جان.
عند باب المنزل كانت تظن أن وجه صاحبتها هو أول ما سيطالعها لكنها بهتت حين أصطدمت بابتسامته الساحرة علي أعتاب الباب وكأنه كان بإنتظارها.. مد يده إليها يصافحها فأحست بحرارتها تولد في جسدها رجفة عنيفة.
بغير إرادة منها همست له وكانا في منتصف المنزل الخالي إلا منهما
" أحبك.. أحبك حتى النخاع."
لم ينبث إبرام ببنت شفة أما هي فقد أُخذت حين أحتضنها بقوة وأقترب بوجهه منها يقبل شفتيها بنعومة سقطت معها حصون مقاومتها وقد أجتاحت حرارة العشق جسدها فاستسلمت له وهو يحيطها بذراعيه القويتين ويحملها إلي غرفته.
حين أفاقت من نشوتها كانت إلي جواره ممدة على فراش الخطيئة دون أن تكترث لما أقدمت عليه.
مدت يدها تطوق صدره العريض وهي تسأله:
" لما لا نتزوج؟"
صُدم لسؤالها غير أنه استطاع أن يحفظ رباط جأشه وأجاب مبتسما
" ليس هذا وقت الحديث عن الزواج يا سارة."
عادت تسأله بقلق
" لماذا؟!.. ألا تحبني؟!"
رد عليها السؤال قائلاً
" أترين سبب أخر غير حبي لك يدفعني لأن أشاركك الفراش؟"
همت أن تسأله مرة ثالثة لولا أن جائتها نظراته صارمة محذرة فابتسمت قائلة:
" إذن فلا أقل من أن تعدني بالزواج"
أطلق ظفرة حارة أحست بها تلفح وجنتها قبل أن يجيب
" حسناً.. أعدك يوماً أن نتزوج."
طبعت على خده قبلة أودعتها كل ما كان يجتاح صدرها من سعادة وقالت وهي تهم بارتداء ملابسها
" أري أن أنصرف الأن قبل أن تعود جان."
التفت أصابعه حول معصمها تستوقفها
" متى سأراكِ ثانية؟"
كانت تلك هي مرتها الأولي التي تشعر فيها بمثل هذه السعادة الغامرة دون أن يخالجها مما فعلت أي خجل فما كان ثمة رادع أخلاقي أو وازع ديني يردعها فاستسلمت لنزواته ونزواتها وذابت في عشق إبرام فأضحت ترى فيه مبلغ أمانيها.. كان كل ما فيه وكل ما يصنعه معها وبها يقتلها حبا وإعجابا..ابتساماته.. همساته.. نظراته.. وحتى أحضانه وقبلاته.. كل شيء كان يستصرخها أن تسلم قيادها له أكثر فأكثر.
كم كان يغرقها حباً وعطفاً.. كم كان يتحرق شوقاً للقاءها والتطلع إلي عينيها.. ولكن..
ولكن ما أبعد الأمس عن اليوم.. إنه لم يعد إبرام الذي عرفته ولم تعد ترى ابتسامته إلا فيما ندر.. لقد بات كثير التهرب منها وكأن الفتور قد أصاب منه الفؤاد فصده عن هواها وما عادت تحس لهفته لرؤياها وشوقه للقاها.. ولا غرو أن يخالجها ذلك الشعور المقيت وقد بات لا يسعى إليها إلا إذا حضرته نزوة من نزواته.
بدا لها الأمر وكأن حلمها لم يعدو سراباً في قفراء حياتها وأنها إنما خدعت بسم الحب .. وهاهو عقلها قد وقع نهبا للفكر وأخذ الريب بمجامعه متسللا إلي أعماقها كأفعى رقطاء راحت تبث سمومها في فؤادها المكلوم.
جرت دموعها وهي تجلس وحيدة في مخدعها.. كانت والدتها قد خلدت إلي النوم مبكرا كعادتها بينما هرع والدها لملاقاة الحاخام رابيين بعد أن وافاه رسوله في تلك الساعة المتأخرة من الليل المطير.. سرت في جسدها رعشة باردة بفعل ذلك البرد القارص وتلك الأفكار القاتمة التي لفت روحها ووجدانها معا بيأس ثقيل الوطأة.. كانت تجاهد بحثا عن مخرج لما هي فيه فواتتها فكرة لم تدم النظر فيها وإنما حملتها محمل التنفيذ فتخلت عن الفراش وأرتدت ملابسها على عجل متسللة إلي الطريق وقاصدة منزل إبرام غير آبهة بثقل المطر وبرودة الطقس فما كان يشغلها في تلك اللحظات سوى الوقوف على حقيقة مشاعره نحوها وما يكنه لها.. ولقد عقدت العزم على أن تستنطقه الحقيقة.
هذه المرة لن تستسلم لذراعيه ولن تخضع لنزواته.. لن ترضى بعد اليوم أن تجعل من جسدها مجرد محطة يمر بها دون أن يستقر عندها.
في طريقها إليه حملتها الذكريات إلي الماضي القريب.. قبل ساعات كانت قد عرجت إلي جان في محل عملها بأحد دور الصرافة تجالسها وتحادثها لعلها تقف منها على بعض أخباره وقد مضت أيام دون أن تراه أو تسمع منه.
سألتها وهي تحاورها:
" كيف حال إبرام؟"
لم تكن جان تعلم يقينا ما يجمع صاحبتها وأخيها من أواصر العشق وقد أحجم كلاهما عن مفاتحتها في الأمر بيد أنها كانت كلما تدبرت الأمر وعمدت إلي أستقراء ما يدور حولها وبينهما كانت تزداد شعورا بأنهما غارقان في الهوي حتي الأذقان لذا فما أن سمعت سؤال صاحبتها حتي أجابت بمكر من يبغي بواطن الأمور
" لست أعلم منك بحاله فلم أعد أراه كثيرا هذه الأيام.. لقد بات كثير التغيب عن المنزل ولا أظنه إلا عاشقا يلهث خلف فتاته."
جاهدت سارة أن تخفى ما طفا على صفحة وجهها من إمارات الخوف والغضب وتنبهت صاحبتها لذلك فابسمت وقد أيقنت مما يضطرم في فؤادها من عشق لأخيها وأرادت أن تصرف عنها بعض ما علق بها من حزن فقالت
" لا تحزني يا سارة ولا تركني لقولي فإنت تعلمين كم أحب المزاح."
رفعت سارة عينيها نحو صديقتها وقالت بصوت متهدج
" وما يعنيني في أمر إبرام حتى أحزن لقولك؟"
انفجرت جان ضاحكة فاستطردت سارة مغاضبة
" فيم ضحكك؟!"
" لا شيء يا عزيزتي.. لا شيء."
أرادت سارة أن تدير دفة الحديث بعيدا مخافة أن يفضح أمر هواها أكثر من ذلك فسألت
" كيف حال ذلك الشاب؟"
بدهشة سألتها جان
" أي شاب؟!"
" ذلك الذي قابلناه ذات يوم مصادفة وقد وقفت تحادثينه."
صمتت جان لحظات وكأنها تفتش في ذاكرتها قبل أن تهتف
" تقصدين بطرس؟!"
" لقد أخبرتيني من قبل أنه مسيحي."
" أجل."
قالت سارة بلهجة محذرة
" جان.. إياكي أن..."
قاطعتها جان
" لا عليك يا عزيزتي.. إنه مجرد صديق."
ما أن فرغت جان من قولها حتى دلف إلي المكان رجلا عجوزا ألقى عليهما التحية بصوت رفيع حاد أثار أنتباه سارة فرفعت إليه عين فاحصة لتتعرف فيه على خادم الحاخام رابين.
ولقد كان مرئى العجوز مبعث دهشتها فما الذي يجعل حاخاما ربانيا يرسل خادمة لفتاة لا تنتمي لطائفته إلا إذا كان هناك ما يدبرانه في الخفاء؟.. هكذا تبادر إلي ذهنها وهي ترمق الخادم العجوز وقد أنتبذ بصاحبتها ركنا قصيا وراحا يتهامسان بصوت خفيض لم يبلغ مسامعها.. على أن ذلك لم يعنيها كثيرا مع ما كان يشغل بالها من وساوس الهوي وهواجسه بعدما أدلت لها جان بما أدلت فاثار ريبتها.
أيكون حقا قد شغل إبرام بغيرها؟!
كادت الحيرة والريبة أن تودي بعقلها وهي تدير الأمر على كل وجوهه فعجزت أن تزيح عن كاهلها ما كان يرزح تحته من وطأة الخوف والقلق فعادت إلي المنزل لتتفرد بأحزانها وعبراتها.
لقد وعدها إبرام بالزواج غير مرة ولطالما حادثته بشأن وعده هذا فكان دوما ما تأتيها ردوده صادمة ومرتكنة إلي اختلاف طائفتيهما.. كان دائما ما يبدو عابس الوجه وهو يخبرها بأن أمر زواجهما ما كان ليستقيم مع ما بينهما من خلاف عقائدي.. أما هي فما كانت تلقي بالا لمثل تلك الإختلافات وما كان يعنيها في الحياة غيره.. ثم...
ثم إنها كانت على أتم استعداد لأن تخسر الدنيا بأسرها في سبيل هواه لو أنه فقط أخلص إليها وأبقي على ما بينهما من عهود العشق.. كانت لتتفاني في عشقه مخلصة لولا ذلك الفتور الذي أصاب مشاعره وتلك القسوة التي ما عهدتها فيه من قبل.
لو أنه أوقفها على حقيقة ما يضمر لها من أحاسيس إذا لما باتت نهبا لكل تلك الظنون.
تدافعت كل هذه الأفكار بزخم وعنف في رأسها وهي تسرع الخطى في حلكة الليل وتحت وطأة المطر قاصدة منزل إبرام لتقطع الشك باليقين مستجلية الحقيقة.. ولقد جائتها الحقيقة سافرة كما أرادتها.. بل عارية تماما كتلك الحسناء التي كانت تشاركه ذات الفراش.. أحست بالأرض تميد تحت قدميها وهي ترى غيرها قد سكن احضانه .
عندما بلغت المنزل كان الباب نصف مشرعا فتسللت إلي الداخل لتلجم الصدمة لسانها وتلزمها مكانها ذاهلة لا تقوى أن تحرك ساكنا.. أنهالت عبراتها كثيفة فحجبت عنها ما تراه من خيانته لها وبقيت على حالها من الصمت والذهول حتى أنتبه إبرام لوجودها فهب من الفراش فزعا وأسرع يقترب منها
" سارة!!!... لا تسيئي الفهم.. إنها..."
قاطعته صفعتها التي هوت على خده حاملة كل حنق الدنيا قبل أن تندفع تاركة المكان وقد غام كل شيء أمام ناظريها فأسلمت قدميها للطريق وهي تجهش ببكاء أقرب إلي الصراخ.
الأن فقط باتت تمقته.. بين طرفة عين وأنتباهتها تحول عشقها إلي كره غريب لم تشعر به تجاه أحد من قبل وأنقلبت صورته في عينيها فاصبح أقرب إلي شيطان وغد منه إلي ملاك طاهر كما كانت تخاله.. أستحوذت عليها رغبة عارمة في الأنتقام وإن لم تكن تدري في تلك اللحظات العصيبة على أي وجه يكون انتقامها هذا.. كل ما كانت تتمناه الأن هو أن تذيقه ما أذاقها من كؤوس المرارة والهوان ولو كان دون ذلك قتله.
" ولم لا.. إن من كان مثله جبانا رعديدا لا يحرص على شيء حرصه على الحياة فلا مناص إذا من أن أسلبه إياها."
هكذا حدثت نفسها وقد تفردت بهمومها في مخدعها بعدما رغب عن أجفانها النعاس وراح مشهد خيانته لها يطارد مخيلتها بأصرار ضاق معه صدرها وضاعف من حنقها ورغبتها في الثأر لنفسها وفؤادها معاً.
كان كل شيء حولها ضبابياً مشوشاً وكأن عقلها بات عاجزا كلياً عن التفكير.. غير أن ما شاهدته الليلة من خيانة لها وما تفجر في أعماقها من غضب أهاج عنادها وولد في نفسها أرادة متفجرة وقدرة عجيبة على رباطة الجأش مكنها أن تدفن أحزانها في أعماقها وأن تبدو على طبيعتها وكأن طارئ لم يطرأ عليها حتى أن والدها لم يلحظ عليها من التغيير شيئاً حين أستدعاها في الصباح إلي غرفته.
كان والدها قد أصابه مرض شديد ألزمه الفراش بعدما عاد من زيارته الليلية للحاخام وبدا وجهه شاحبا ممتقعا على نحو أفزعها فأرادت أن تستدعي له الطبيب غير أن بخله غلب عليه فصاح فيها مغاضباً:
" طبيب؟!.. ما الأطباء إلا نار تحرق أموال الحمقي.. لا.. ليس لهذا أستدعيتك."
لوهلة نست سارة ما همها وقض مضجعها لما أنسته في وجه أبيها من توتر زائد فسألته وهي تقترب منه
" ماذا ورائك يا أبي؟"
مد يده تحت وسادته ليخرج مظروفا مغلقا ناوله أياها بيد مرتعشة وهو يشرح لها بما يشبه الهمس ما أوكله إليها وما كان عليها أن تفعله.. كان عليها أن تذهب للقاء السيد (روبرت كوبرفيلد).. هو رجل إنجليزي مهذب طويل القامة ذهبي الشعر ذو عينان زرقاوان.. هكذا وصفه لها أبيها قبل أن يخبرها باسم الحانة المتواضعة التي كان عليها أن تقابله فيها.
" إن السيد كوبرفيلد سيكون في إنتظاري هناك بعد نصف ساعة من الأن.. عليك أن تسلميه المظروف وأن تخبريه أن ما حبسني عن لقاءه هو المرض."
كانت سارة دهشة لا تدري بما تجيب والدها غير أنها لم تجد بدا من الأنصياع لأمره فاستدرات لتغادر الغرفة حين جاءها صوت أبيها محذرا
" سارة.. حذار أن يعلم أحد بأمر هذا الخطاب."
ارادت أن تسأله عن ذلك السيد الإنجليزي وعن فحوى هذا الخطاب وما السر خلف هذا القاء المريب في حانة متواضعة وفي مثل هذه الساعة من الصباح علي أنها لم تفعل بالرغم من فضولها الذي كاد يقتلها ذلك أنها كانت تدرك يقينا أن أباها ما كان ليبوح لها وإن استنبطت أن لذلك الخطاب علاقة ما بلقاءه في الليلة الماضية مع الحاخام رابين.
تذكرت فجأة ما رأته أمس من زيارة خادم الحاخام رابين لصديقتها جان في محل عملها وتسائلت في أعماقها عما إذا كان لتلك الزيارة علاقة بما يحدث الأن؟
أي مؤامرة تحاك؟.. ثم لمن تحاك تلك المؤامرة؟.. وكيف تجمع مؤامرة هذه الأطراف المتناقضة؟
حاخاما ربانيا.. وفتاة قرائية.. وسيد إنجليزي مهذب.. ورجل بسيط ومريض مثل أبيها.. ثم ها هي باتت طرفا في مؤامرة لا تعلم عنها شيئاً.
مؤامرة لا تعلم عن غاياتها شيئاً.. ولو أنها وقفت علي أهدافها لأدركت أنها مؤامرة كبرى.. مؤامرة تحاك لبلد بأسره وشعبا بأكمله.
............................................
أحست سارة بالتوتر ينساب في أعماقها مع بلوغها الحانة , ذلك أنها كانت مرتها الأولى التي ترتاد فيها مثل هذا المكان , على أنها سرعان ما تمالكت نفسها وبددت نظرتها الأولى لقاعة الحانة الضيقة ما كان يعتمل في فؤادها من خوف وقلق. لقد كانت تظن أن نواظرها إنما ستصطدم بجمع من المخمورين المترنحين وأن ضحكاتهم الماجنة ستصطك بأسماعها , غير أن ما بعث في نفسها الراحة أنها وجدتها على غير ذلك .
كانت القاعة الضيقة للحانة خالية تقريباً من روادها وقد جد أحد العاملين فيها في تنظيفها وتنظيم المقاعد والموائد بعد أن غادرها زبائن الليل في هذه الساعة من الصباح فباتت موائدها شاغرة إلا مائدتين أو ثلاث ألتف حولهم رهط من الرجال , ثم مقعد هناك في أقصى القاعة حيث الساقي واقفاً يلبي رغبات ذلك الأشقر الممتليء الجسم وقد تراصت خلفه زجاجات الخمر على بعض الأرفف القديمة المتهالكة.
وما أن وقعت عيناها على ذلك الأشقر وكان مولياً الباب ظهره حتى خالجها الشعور بأن فيه بغيتها فانطلقت نحوه بخطوات متعثرة بين الموائد الشاغرة حتى إذا بلغته نادته بصوت أقرب إلي الهمس
" السيد كوبرفيلد؟"
كان صوتها ناعماً كنغمات القيثارة فالتفت نحوها باسماً
" هو أنا يا عزيزتي"
حملت ابتسامة الانجليزي مغزاً وقحاً لم يخفى على سارة حين وقع بناظريه عليها, لقد كان ما يتوقعه حقاً أن يطالعه بنحاس بوجهه الدميم وصوته الأجش , أما أن يرمي القدر في طريقه بمثل هذه الفاتنة وأن يلتقي بمثل هذا الحسن الباهر في هذا المكان وتلك الساعة فهو ما لم يكن في حسبانه وما لم يجل بخاطره قط.
" إن أبي يعتذر لك , فقد حبسه المرض عن لقائك "
مدت يدها بالخطاب فتناوله منها دون أن يحول عينيه الزرقاوتين عن وجهها الفاتن وقال بعريبته الركيكة
" لست أدري لأيهما أدين بالشكر , لوالدك أم للمرض الذي حبسه عني؟"
تطلعت إليه عابسة إذ لم ترق لها عبارته, فما كان لها أن تقبل مثل هذا الغزل الرخيص مع ذلك الجرح الغائر في قلبها الذي ما برح ينزف بأحزان أثقلتها.
خيم الصمت عليهما هنيهة وقد بدا لها الإنجليزي بالرغم من وسامته كتمثال قُد من صخر فخلا من كل ما قد يخالج بني البشر من مشاعر.
قال كوبرفيلد متزلفاً وقد لمح تلك المسحة من الحزن التي كست ملامحها
" تُرى ماذا يقف خلف هذا الحزن العميق؟ "
" ليس هذا من شأنك "
أجابته بجفاء وهي تستدير تأهباً للانصراف فاستوقفتها أصابعه القصيرة المكتظة وقد أمسكت بمعصمها فالتفتت تصوب إليه نظرة غاضبة زادت من حسنها
" أخبريني أي أحمق هذا الذي أثار حنقك ؟ "
بُهتت سارة لقول الرجل فما كانت تتوقع أن يسبر غورها على هذا النحو وأطلت من عينها الدهشة وهي تحاول أن تُبدي أعتراضاً على ما هو مقدم عليه بيد أنه بادرها مردفاً
" لا تتعجبي يا صغيرتي .. فليس أقدر على إثارة سخط الملائكة منا نحن معشر الحمقى من الرجال"
" دعني أنصرف يا سيد كوبرفيلد "
قالتها مشيحة بوجهها بعيداً وكأنها تحاول الفرار من نظراته المطاردة لها
"معذرة يا عزيزتي فقلما يتيح القدر لأمثالي لقاء مثل هذا الحسن "
"قلت لك دعني أنصرف"
قال ملحاً
" أنا على أهبة الاستعداد لأن أساعدك ولكن بشرط ."
أطلت من عينيها نظرة متسائلة لم يأبه لها وشرع يملأ كأساً من الخمر مستطرداً
" أن تشاركيني كأساً من الخمر "
قالت متعجبة لجرأته
" ولكني لا أعاقر الخمر "
كان ما يعتمل في صدرها من توتر جلياً في نبراتها وكلماتها التى خرجت خافتة ومتلعثمة وتلك الحمرة التى علت وجنتيها حين مد يده إليها بالكأس المترع ثم تلك القشعريرة الباردة التى سرت في جسدها وهو يجذبها برفق إلي المقعد المجاور له
" كأساً واحداً لن يقتلك .. بل قد يقتل أحزانك "
جلست مرغمة إلى جواره فالتفت نحوها بجسده البدين مدنياً الكأس منها وكأنه يحثها على تناوله
" فقط اخبريني عن ذلك الأحمق الذي خدعك لعلي أعاونك على الثأر منه "
أحست سارة وكأنها مسلوبة الإرادة أمام نظرات الرجل وابتسامته وتلك القدرة العجيبة لديه على النفاذ إلي مكنونها فاطبقت شفتيها برهة أعملت فيها الفكر وتساءلت في أعماقها إن كان حقاً قادراً على معاونتها فيما ترنو إليه , كان كوبرفيلد يبدو لها من ذلك النوع من الرجال ذوي السلطة الذين يتمتعون بثقة في النفس تقارب حد الغرور فلما لا يكون القدر هو من دبر لها هذا اللقاء لتبلغ ما تهفو إليه من ثأر لقلبها وعرضها ؟
هذا ما كانت تشعر به وهي جالسة قبالته الأن , غير أنها لم تكن لتركن إلي مثل هذا الشعور الغامض وحده لتمنحه ثقتها وتبثه ما يؤرقها ويثير حنقها , لذا فلقد كان عليها أن تذهب إلي أبعد من هذا لتيقن أنه اهل لما ستوليه من ثقة
" سيد كوبرفيلد .. من أنت؟ "
أفلتت من كوبرفيلد ضحكة مجلجلة تردد صداها في أرجاء الحانة ثم أجاب مناوراً
" لقد ناديتني باسمي للتو "
كان كوبرفيلد على قدر من الذكاء ليدرك ما ترمي إليه الفتاة غير أنه أراد مداعبتها حتى إذا أطلت من عينيها الصافيتين تلك النظرة التى تحمل شيئاً من الاستنكار واللوم أردف بنبرة جادة
" حسناً أنا مبعوث المحفل الماسوني الأعظم بانجلترا إلي الحاخام رابين "
صدمتها صراحته التي لم تكن تتوقعها فالتزمت الصمت للحظات ثم عادت تسأله
" أنت إذن يهودي ؟ "
" ليس بالضرورة يا فاتنتي "
لم تقف سارة طويلاً عند جوابه السالف فلقد كانت على علم بأن الديانة اليهودية لم تكن شرطاً يتوقف عليه الانتساب إلي المحافل الماسونية التى كانت تضم بين جنباتها يهوداً ومسيحيين بل وبعض المسلمين أيضاً
" وما سر هذا الخطاب ؟ "
" هذا ما لا يمكنني البوح به "
نظرت إليه بريبة وهمت بالنهوض مغاضبة لولا أن قال مستدركاً
" إنني حقاً لا أملك أن أطلعك على هذا السر. "
أحست في نبراته بالصدق وهمت بأن تلقي عليه تساؤلاً أخر غير أنه بادرها ملوحاً بالكأس
" لقد تعبت يدي من حمل الكأس فهلا أرحتها ؟ "
تناولت الكأس من يده لترفعه إلي شفتيها الرقيقتين وهو يسألها
" ألن تخبريني ما اسمك ؟ "
" سارة "
أدرك كوبرفيلد أنه قد أحكم سيطرته على فريسته وأنه وإن كان قد وقع أسيراً لجمالها مرغماً فإنها إنما أسلمت له قيادها طواعية فناولها كأساً أخر
" وذلك الأبله الذي أثار غضبك ؟ "
أحست سارة بغصة شديدة حين أتى على ذكر إبرام فتجرعت الكأس بشيء من الغضب المشوب بالحزن وغالبت دموعها فغلبتها وأبت إلا أن تنهمر لتبلل وجنتيها الورديتين فاشاحت بوجهه بعيداً.
مد كوبرفيلد يده ليمسح عن وجنتيها عبراتها السخينة التى تألقت كحبات لؤلؤ زادتها حسناً فأيقنت سارة أن جمالها قد أسر منه النفس وملك عليه الفؤاد وراحت تقص عليه ما كان من أمرها مع إبرام وما كان من خيانته لها وهو ملتزم الصمت تاركاً لها عنان البوح بما يعتمل في نفسها حتى إذا ما فرغت من حديثها كان السُكر قد سلبها ما بقي لها من وعي
" دعي أمر هذا الخائن لي "
كانت كلماته تلك هي أخر ما تسلل إلي مسامعها وهو يعاونها على النهوض وقد احاط كتفيها بذراعه ليغادرا الحانة.
لم تدري سارة كم من الوقت مر عليها حتى إذا ما أفاقت كان ثمة دوار خفيف يلف رأسها وألم رهيب يكاد يفتك به وهي تهزي بسم إبرام. وما أن فتحت عينيها حتى أطل منها الذعر وأنفلتت من بين شفتيها صرخة لم تستطع أن تكتمها , ذلك أنها كانت ممددة على الفراش على نحو يوشى بما حدث, بينما جلس كوبرفيلد قبالتها يحدق فيها بعينيه الزرقاوتين من خلف الدخان المتصاعد من سيجارته
سألها كوبرفيلد ببروده الإنجليزي
" لما كل هذا الذعر ؟ "
تطلعت إليه بنظرة يملؤها المقت والغضب
" إن ما حدث سيبقي طي الكتمان .. أعدك بذلك "
لم تنبث سارة ببنت شفة وتشاغلت بارتداء ملابسها على عجل قبل أن تندفع قاصدة باب الغرفة فاستوقفها سؤاله
" أمازلت ترغبين في الأنتقام منه ؟ "
التفتت نحوه وبدا لها وجهه قبيحاً ومشوشاً من خلفف دموعها
" أكثر من ذي قبل "
كانت كلماتها بالرغم من ذعرها وحزنها المتفاقم تفوح منها العزيمة والإصرار على نحو أثار دهشة كوبرفيلد
" حسناً .. ستجدين في ثيابك رسالة لوالدك .. امنحيه أياها ودعي الأمر لي "
في طريقها إلي المنزل شعرت سارة وكأن الدنيا قد أظلمت في وجهها وتولدت في أعماقها رغبة جامحة في الإنتحار والتخلص من كل عذاباتها التي كبلت فؤادها واستباحت روحها فراحت تمزقها بضراوة وبلا رحمة. كانت الشمس قد مالت نحو الغرب حين دلفت إلي غرفتها مدعية المرض لتنفرد بهمومها ودموعها التي انهمرت كسيل لا ينقطع.
كم تمنت أن تصرخ بكل ما أوتيت من قوة في تلك اللحظات بيد أنها لم تستطع فراحت تئن وتتأوه وهي تهمس منادية إبرام بين الفينة والاخري. ذلك الذي ظنته يوماً ملاذها الوحيد , كم تمنت لو انطلقت إليه لترتمي بين أحضانه وتشكو إليه ما يعتريها ويفت في روحها المتهاوية تحت وطأة الكمد والأسي.
" لا وألف لا. كيف أعاوده وأثر خيانته لا يزال على جدار قلبي يدميه؟ .. ذلك الخائن التعس .. يا إله السموات .. لتنزل لعنتك عليه وليتجرع كأس الذل والهوان حتى الثمالة .. لقد خانني وما كان جزاء حبي وإخلاصي إلا غدراً منه وطعنة استقرت في حشاشة قلبي."
" ولكن مهلاً يا سارة .. ألم تقترفي من الذنب ما أقترف؟ .. ألم تشاركي ذلك الانجليزي الفراش؟ .. ألا تعد هذه خيانة له أيضاً؟ .. كيف إذاً تسعين للأنتقام إذا ما كنتما في الجرم سواء؟"
" لا .. ليس صحيحاً .. لقد غرر بي ذلك الثعلب الأـشقر .. لقد كنت ثملة حين حدث ما حدث .. ثم .. ثم لولا خيانته لما كان ما كان .. هو من دفع الأمور أن تؤول هذا المآل .. لابد من الانتقام فما عادت الدنيا تتسع لكلينا."
"رباه .. أي جنون هذا؟ .. عقلي يكاد أن يذهب"
قضت سارة ليلتها في ذلك الهذيان لا تكاد تستبين من الأمر شيئاً وقد ذهل عقلها ولم يعد جسدها يشعر بذلك البرد القارص الذي تسلل إليه فراح يرتعش كعصفور بلله القطر , حتى إذا ما بزغ الفجر كان التعب قد أخذ منها كل مأخذ فخلدت مرغمة إلي النوم دون أن يدور بخلدها أن السيد كوبرفيلد قد شرع منذ اللحظة الأولي التي غادرته فيها في التدبير وإحكام المؤامرة للإنتقام من إبرام والتخلص منه.

 
 

 

عرض البوم صور محمد شلبي  
قديم 12-08-15, 02:51 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2014
العضوية: 271387
المشاركات: 11,112
الجنس أنثى
معدل التقييم: bluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميعbluemay عضو مشهور للجميع
نقاط التقييم: 13814

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
bluemay غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : محمد شلبي المنتدى : ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
افتراضي رد: ألياذة العرب

 
دعوه لزيارة موضوعي

تغلق إلى حين عودة الكاتب

 
 

 

عرض البوم صور bluemay  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ألياذة, العرب
facebook




جديد مواضيع قسم ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 03:08 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية