حين تغلق الصناديق على امر ما لفترة لا بأس بها .. وتعود لتفتح ليثار غبار الماضي .. نتنفس حينها ذرات ذكريات ترجعنا الى حيث كنا .. لألم تجرعناه يوما .. او سعادة لمحناها وعشنا تفاصيلها .. رجع ليفتح اوراق انطوت منذ ما يقارب الشهر .. فقط لانه تذكر ما حدث يومها .. حين اغتيل ذاك على غفلة منهما .. لربما يومها ضاع الحدس الذي يمتلكانه دوما .. ولعل القدر يضع بصمته رغما عن الجميع .. ليطيل النظر الى من سولت نفسه قتل صاحبه .. يثير زوبعة خوف بصمته ذاك .. والاخر رمى بنظره للاسفل .. يحرك مقلتيه بخوف .. صامت الا من تضارب انفاسه .. ولحيته التي نمت زادت من بشاعة وجهه المكفهر .. أيسأله عن شخص كان يومها معهم ؟ .. كيف والقضية قد اغلق التحقيق فيها ..
ضرب بقبضته على الطاولة بعنف حين لم يأته ردا من ذاك .. ليقف ويدور من حول المكتب ويجلس قبالته : رد .. منو اللي كان وياكم فذيج الليلة .. اللي عطاكم التحذير بوجودنا فالمكان ؟
ازدرد ريقه .. ليرفع نظره بخبث اتضح .. وهدأت انفاسه مع ابتسامة فاسدة ارتسمت على محياه .. وبهدوء : ما اعرف .
لتتسلل ابتسامة تبعد البركان الثائر في جوفه .. ويقف وظهره لذاك المجرم : اعرف انك بايعنها .. وقتلك لرجل شرطة معناته الموت .. بس اذا تكلمت بيكون هالشيء فصالحك ..
اعاد نظره للارض : ما عندي شيء اقوله .. والعمر واحد ..
وقف خلف مكتبه لينحني بجذعه مستندا على كفيه .. ونظره لذاك الذي استشعر منه الاضطراب : زين .. بنشوف الباقيين .. وساعتها محد بيندم الا انت .
بعد دقائق وقف ليساق الى زنزانته .. وذاك خرج بعدها يجر خطاه مبتعدا عن المكان .. فحديث قد وصله يجب ان يبت فيه الامر .. ليستوقفه جابر قبل ان ينطلق بسيارته .. ينزل الزجاج ويرد التحية : على وين ؟
سؤال من جابر اجبره على الابتسام : بخلص الموضوع وياهم ..
عقد حاجبيه .. وابعد نظارته عن عينيه .. وكأنه يرغب بشبيب أن يرى نظرته الجادة حين نطق : بروح وياك .. اصبر اخلص شغلي وبخاويك ..
هز رأسه ونظره رنا بعيدا عن زجاج سيارته الامامي : جابر خلك بعيد .. ما اريد اورطك مثل ما ورطنا خالد الله يرحمه وياه ..
شد بلطف على نظارته الداكنة : وتسمي اللي صار ورطة ..
التفت له .. ولا تزال تلك الابتسامة ترتسم باصرار : ورطة دام ان فيها عيد ..
يجلس بكل ثقة امامه .. فهو قد خطط لكل شيء .. سيبعدها ويستفيد من وراءها مئات الآلاف .. يراوغ في حديثه .. ويربكه ذاك الهدوء الذي يكتسي ذاك الجسد خلف الزي العسكري .. وعيناه وكأنهما تخترقان صدر عيد .. وتنظران الى ما في قلبه .. الى خططه المدسوسة هناك .. ازدرد ريقه : عاادي ياهل ومرضت ما فيها شيء ..
لم يتحرك الا شفتيه الناطقتين : عادي .. ما قلنا شيء .. بس انها تترقد يوم كامل وفوق هذا يقول الدختور ان البنت خايفه وفيها شيء .. فهذا ابد مب عادي يا عيد .. واللي ييت فيه من قبل ياي فيه الحين ..
بهدوء استغربه شبيب اجاب وهو يقف وكأنه ينهي ذاك اللقاء : خلاص مثل ما تريد .. بس خلها تخلص العدة .. وعقبها اللي تباه بتاخذه ..
" بس بنت خالـ.." ليقاطعه قبل ان يكمل جملته : بنت خالد عند امها .. البنت عندها الربو واللي صار شيء طبيعي – تحرك ليقترب من شبيب الذي كان واقفا بدوره – والخوف ترا كل اليهال يخافون .. لا تسوي فيها شغل الشرطة ..
وقهقه في وجهه ليشيح به مشمئزا من رائحة ليست بغريبة عنه ابدا .. ليبتعد بخطوات رتيبة ويقف عند باب المجلس .. ليبتسم وينطق ولا يزال ظهره لـ عيد : ما باقي شيء ع العدة .. خلها تجهز ..
ليس بذاك المتعنت .. ولا ذاك القاسي .. ولكن ما يحدث يستدعيه ان يكون حازما .. قاسيا .. وقويا .. لو لم يكن هناك طلبا قد حُمل به عنقه لما اهتم .. وتابع حياته بعيدا عن عيد وتفاهاته ..
احتقن بغضب .. ليمتقع لون يده بسبب اناملة التي شدت عليها .. ويخرج بخطوات غاضبة .. تراه هي فتتبعه وفضولها يرغب بما جاء به شبيب ..وما ان وقف ببابها حتى فتحه على مصراعيه .. لتهب بخوف من جانب ابنتها التي نامت منذ دقائق وهي تمسح على شعرها الاجعد .. ارتجفت اضلعها حين صرخ باسمها .. لتترجل من على سريرها .. وعينها على ابنتها .. لتقترب منه واطراف كفها تربت على شفتيها : اااااش .. ما صدقت انها رقدت ..
لتدفعه بعدها للخارج وتغلق الباب .. وتردف بصوت خافت : خير يا عيد .. ولو انه ما بيي من وراك اي خير ..
ليرد بغضب : الخير يابه شبيب وياه – يده تعانق ذراعها بقسوة – سمعي اول ما تخلصين العدة بينكتب كتابج اذا تبين بناتج وياج ..
نفض ذراعها وابتعد .. لتغلق عينيها بانكسار وضعف .. اخذت انفاسها مرارا .. وتبعته حيث جلس وتلك بجانبه تسأله آخر الاخبار .. وقفت لينظرا اليها .. وينطق هو : خير ..
ازدردت ريقها بغصة : اسمع يا عيد .. عرس مب معرسه .. وبناتي محد بياخذهن مني .. اصلا اهلهن ما يبوهن .. ولحد له حق ياخذهن دامني ما عرست ..
تشدق وهو يعتدل في جلسته : بس اهمالج بيكون ورى خسارتهن ..
اقتربت صارخة : اي اهمال ؟..
حاجباه يرتفعان .. ليقف وتتراجع هي للخلف : صوتج ما اريد اسمعه .. وتسألين أي اهمال .. البنت راقدة فالبرد وانتي ما تحركتي تدورينها .. وتقوليلي اي اهمال ..
" بس انا فالعدة " .. قالتها لتقف تلك ناطقة : العدة ما قالتلج هملي بناتج .. الحريم يعتدن وما شفنا منهن اللي تسوينه انتي .. اربع وعشرين ساعة منكنة فحجرتج ..
ارتجفت شفتيها : هذا اللي تعلمته من امي ومن يدتي .. يشرن رضا ربهن قبل رضاهن ..
تشدقت شيخة لتعود وتجلس حيث جلس عيد : الدين يسر مب عسر ..
ابتسم وهو ينظر لزوجته التي ظهرت ثقافتها فجأة .. ليردف على كلامها : هيه صدقها الدين يسر .. ويسرلج العرس من بعد العدة .. بعد شو تبين ..
ايتحدثان عن التيسير في الامور ؟ وقفت ترى تبادلهما لحديث خافت .. لربما خطة اخرى يبحثان فيها عن نقود .. لا تعلم من اين جاءتها الشجاعة وهي واقفة تلك الوقفة .. لتسحب ذرات الاكسجين وتزفرهن بعنف : اسمع يا عيد .. وانتي بعد يا شيخة ..
نظرت الى عيونهما التي كادت ان تخرج من مخدعها .. يبدو عليهما الخوف او لعلها تتخيل ذاك .. لتردف : انتوا تقولون الدين يسر .. صح ؟
الصمت فقط ما جاء منهما .. لتردف وهي تدبر مولية لغرفتها : عيل بيسر ع عمري ..
لم تشعر الى بيده تنغرس في ذراعها بعنف .. وجسدها يتغير اتجاهه .. وانفاسه القذرة تلفح وجهها : تهدديني يا بنت عويش ..
لا تعلم تلك القوة الى اين فرت حينها .. ليرتجف قلبها خوفا منه .. ليردف متابعا حديثه الغاضب : خذي مني باللي يرضيج .. ان سويتي شيء ما يرضيني بناتج عمرج ما بتشوفيهن .. وعيد اذا قال شيء يسويه ..
تركها لتعانق مكان يده بكفها .. آلمها وجدا .. تشعر بان العظم قد تحطم من تحت اللحم .. وآلم حديثه روحها .. هو من بقي لها من اهلها .. وهو اضحى اقسى من عدو تجاهها .. دنت منها شيخة ولا يزال نظرها متسمرا على نقطة واحدة .. فتلك الصدمة جمدت حواسها .. تحركت شفتيها ناطقة : طيعيه .. ترا عيد ان قال سوى .. وخذي الريال اللي يابه لج .. ع الاقل راضي ببناتج وبياخذج بعيد صوب الفجيرة ولا شبيب ولا غيره بيعرف مكانج .. وانتي تدرين البنات اهلهن ما يبوهن .. حتى لو عطيتيهم اياهن ما تدرين كيف بيعاملوهن .. تحت عينج ابرك لج ..
يدها تعانق كتف تلك المتسمرة .. وتردف : فكري زين .. ما باقي الا شهر وشوي .. فكري ببناتج وبحياتهن اذا راحن بعيد عنج .
رمشت بعينيها مرارا .. وتلك ابتعدت .. كلامها مقنع بحق .. تبعثر حديثها كثيرا بين جدران عقلها .. ان وافقت فستكسب ابنتيها معها .. وان رفضت ستخسرهما للابد .. وكلى الامرين صعب ..
,‘,
من الصعب ان توضع بين امرين كلاهما سكين تغرس في صدرك .. بل في منتصف قلبك لتحيله الى ميت رغم نبضاته المتتابعة .. انقضى وقت الغداء منذ ساعتان فحوت تلك الصالة جسديهما .. يتابعان الاخبار على قناة اخبارية .. يثيرهم ما يحدث في العالم .. ليشرد عقله بعيدا حيث حبيبته وساكنة روحه .. قالت على نهاية الاسبوع ستعود .. ستعود لتنير غرفته التي اظلمت من بعدها .. يقسم بان حتى الهواء في بعدها لا يطيقه .. التفت له شقيقه المستند على احدى النمارق القاسية ومفترشا بجسده تلك السجادة الايرانية المزخرفة .. ابتسم : فارس اكلمك ..
ابتسم بدوره ونظر لشقيقه وهو يعتدل في جلسته .. يربع ساقيه ويشدهما بكفيه : خير ..
عاد بوجهه للتلفاز يتجول بين قنواته .. ليقع على قناة غنائية .. لتثار روحه صارخا : هذي منو طلعها .. مب انا حاذف هالقنوات السم ..
- يمكن نسيت تمسحها .. عاادي تصير ..
اعتدل وهو يكتم الصوت .. حتى بدت تلك الافواه لا يعلم منها شيء .. ليصرخ باعلى صوته مناديا اختيه ..
اغلقت الباب وهي تكاد تسقط من ارتجاف اوصالها .. لتفزع تلك من دخول شقيقتها ذات الاربعة عشر ربيعا .. لتضع المشط من يدها .. وتلك تجري ناحيتها مرددة : لحقيني .. لحقيني ..
تتشبث بها وتنفضها تلك : هندووه شو بلاج .. قومي عمر يزقرنا ..
بخوف رددت : لا لا ما اريد اروح .. اكيد درى اكيد لقاها ..
دنت منها لتقع عينيها في عيني شقيقتها : شو هي اللي لقاها ..
ازدردت ريقها : القناة .. امس نسيت امسحها ..
" قناة شو ؟" نطقتها وحاجبيها منعقدان ..وقبل ان تجيب جاءهما صوته صارخا بغضب .. لتمسك بيدها تجرها معها وهي تردف : سكتي ولا تتكلمين .. بس يا ويلج ان عدتيها ..
ترتجف من خلف شقيقتها التي وقفت بعد ان ولجت بخطوتان الى داخل الصالة .. ليستقبلها هو بعيون حمراء يقدح منها الغضب .. ويشير بيده التي تحمل جهاز التحكم الى الشاشة : منو مطلع هالشياطين .. مب انا قايل ما اريد اشوف هالقنوات ..
لفت انتباهه رجفة هند .. حتى تكاد تقع .. يشفق عليهما .. فـ عُمر قاسي جدا في امور الدين .. ويطبق كل ما يتعلمه في كلية الشريعة والدراسات الاسلامية .. التفت لشقيقه قبل ان تنطق نورة بجوابها .. ليقاطعها : انت اللي طلعتها يا عُمر ..
" شو ؟ " ..قالها وهو ينظر لشقيقه الاكبر .. ليردف براحة تامة : هيه انت .. قايم عليهن قومه .. كل شيء ممنوع .. تريد تنصحهن انصحهن باللين مب بالغصب والتهديد والوعيد – ينظر لشقيقتيه – شوفهن حتى عيونهن ما يقدرن يرفعهن فعيونك .. ترا هذا مب احترام يا عمر ..
وقف وكأن لا يريد للاخر ان يتكلم من بعد حديثه .. وقف امامهما وهو ينظر لهند : لا تعيدنها ..
" وايد عليك " صرخ بها عُمر وهو يحاول يحذف تلك القناة .. ليردف : طبطب عليهن وامسح ع روسهن بعد ..
رفع حاجبه وهو ينظر لشقيقه المتأفف .. برغم قسوته الا انه حنون جدا .. ليعود وينحني حيث كان جالسا .. يلتقط هاتفه وسماعته : خلك رحيم فيهن .. وهن بيطيعنك بدون اوف ومرادد ..
حث خطواته خارجا اذا بها تقف حائل بينه وبين باب الصالة .. وتتابع سيرها داخلة وهي تدعوه لدخول : تعال اريدك فسالفة ..
لتجلس في صدر الصالة .. ويعتدل عُمر في جلسته احتراما لها .. ويدنو هو بوجل من وجه والدته الجاد .. ليجلس على مقربة منها .. وتبدأ حديثها لتشل نبضاته رويدا رويدا : سمعوني انتوا الاثنين .. لو تعزوني وتحبوني وتبون راحتي ما تعارضوني باللي يايه فيه ..
تبادلا النظرات .. وخوفا غزى روحه بخلاف اخيه الهادئ .. لينطق : خير يالغالية .. شو السالفة ؟ وان شاء الله ما بنخالفج ..
لتنظر اليه : ما بتخالفني يا فارس ؟
شيء ما شد ع قلبه العاشق .. حديث والدته له بالتحديد يجبره على ان ينتفض كعصفور صغير في يوم ماطر .. يشعر به يرجف بين اضلعه .. ما كان يخافه أتى .. ستخيره بين غضبها وبين زواجه على معشوقته .. أواه يا والدته ما ستجني يداك بقلبه المسكين ..
صمت وفقط .. ادرك ما تريده .. ليبتسم مرغما .. وعيناه تحكي وجع احتله .. لتردف بعد دقيقة او لربما كانت دقيقتان : امس فعرس ولد ييرانا .. شفت بنتين يقولن للقمر قوم وبنيلس مكانك .. جمال وادب واخلاق .. خوات .. الكبيرة مخلصة ثانوية ويالسه فالبيت .. والصغيرة الحين ثالث ثانوي .. وكلمت امهن والحرمة طيبة ما قالت الا الشيء الزين فيكم ..
تنحنح عُمر مقاطعا لها : اميه من صدقج بتزوجين وحدة ياهل ..
ردت عليه بحنق : لا ياهل ولا شيء .. اللي كبرها مازرات البيت عيال .. سمعوني يوم اليمعة تروحون وييا اعمامكم واخوالكم وتقصون الحية .. انا كلمت الحرمة وكلمت ابوهن .. ويتريونا يوم اليمعة ..
صمتت تنتظر كلمة من ذاك الواجم .. لو نطق فستنطق بما لا يرضاه .. لتحثه على الاجابة : ها شو قلت يا فارس ؟
عاد يرسم ابتسامته بألم : مابا العرس .. وغير كنه ما بتكون حرمة لي ..
لتصرخ بغضب : هيه الساحرة ماكله عقلك . ولا همك امك وشو بيقولون عليها العرب عقب ما اتفقت وياهم ..
قاطعها عُمر وهو يزحف ناحيتها ليجلس امامها يمسك كفها : اميه السالفة مب جي .. يعني انا مب مستعد للعرس توني متخرج ومن شهر بس ماسك وظيفتي .. وتبيني اعرس ..
وقفت : سمعوني زين انت وياه .. تبون رضاي يوم اليمعه اشوفكم زاهبين ورايحين لبيت العرب وتقصون الحية .. والا والله غضبي عليكم بيكون ليوم الدين .. سامع يا فارس ..
شدت خطاها مبتعدة .. بعد ان اغتالته .. بل انها حكمت عليه بالاعدام .. شد بقبضته على هاتفه الذي لا يزال بين انامله .. وذاك يطوح برأسه ناظرا اليه .. ليته كان يستطيع ان يقف معه .. ولكن هي ام .. رضاها من رضا رب العباد .. قام واقفا .. وكأنه لمح دمعة في محجرة .. ليبتعد جسد دون روح من تلك المحكمة الظالمة .. اتجبره ان ياخذ في احضانه امرأة غير محبوبته ؟ .. أترى الامر سهلا عليه ؟ .. بل كيف سيكون عليها هي ؟ ..