كفاه الغليظان يعانقان كتفيها ونظره لاسفل حيث وجهها : استهدي بالله .. هذي كلها ظنون منا ..
- حتى ولو .. قوم وصلني اشوفه ..
رفع معصمة لناظره .. لينظر لتلك الساعة الفاخرة المزينة لمعصمة مزدحم الشعر : بتنتهي الزيارة ما بنلحق ..
خرجت تلك من غرفة اختها حين سمعت صوت خالها وصوت والدتها ذي النبرة العالية .. بثقل جسدها مشت حتى انتهت من ذاك الرواق لتطل عليهما بابتسامة شاحبة : منذر ..
رفع رأسه لها ليرغم شفتيه على ابتسامة بسيطة .. فتلك الوحيدة التي تناديه باسمه المجرد دون كلمة " خالي " .. مشى تاركا اخته الجالسة بعد محاولة عقيمة معه لاخذها الى حيث شبيب .. امسك بيدها لتمشي معه : كنّه شو اللي يايبنج .. ؟
ساعدها لتجلس ..ويجلس هو بمقابلتها ومقابل اخته المتقوقعة بجانبها .. نطقت : لا تخافون علي .. والله ما في الا العافية ..
خوف جديد يتربع في قلوب من يعرفونها ويكنون لها حبا .. فمع كل حمل ترتفع الايدي داعية لها .. قطب حاجبيه على صوت اخته : قوم اتصل بحارب .. ما بقدر اصبر لباكر .. قوم ..
تنهد ليتحوقل بعدها .. فهو متعب جدا ولا يقوى على الجدال مع شقيقته التي يعتبرها ام له من بعد امه .. عيونه تنظر لـ كنّه وكأنه يرغب ان تسانده باقناع والدتها .. لتنطق : شبيب بخير ؟
اغمض عينيه فلقد مل هذا السؤال الذي لا يجد اجابة عليه الا ان يقول ما قاله لتلك المرعوبة .. وقف وزفرات انهاك تتكالب فارة من صدره : بخير .. ان شاء الله بيكون بخير – التفت لشقيقته – اختيه .. يام شبيب لا تسوين بمعرج جذا .. باكر ان شاء الله بوصلكم تشوفونه .. ولا تنسين ان المستشفى ما يهدى من اللي يزورونه .. من يوم صار اللي صار والريايل الا حد طالع وحد داخل .. وباكر يمكن حد من الشيوخ اييه .. بس بقول لحارب يدخلنا ولا يهمج ..
عيونها تحكي عتب لذاك الاخ .. ايقول لها ان تهدأ .. وكيف تهدأ وابنها لا تعلم بحاله .. او كيف ستمضي هذه الليلة عليها بعد ما قاله .. وقفت : كثر الله خيرك يا منذر ..
وبعدها اختفت .. جملة ضربته فـ الصميم .. ولكن لا ذنب له .. فما عساه يفعل .. سكن في مكانه لثواني واذا به يتحرك ليتبعها لتستوقفه : منذر روح ارتاح .. وامي انا بكلمها ..
كانت كلماتها ترياق له .. فهي قريبة من والدتها وجدا وستخفف عليها كثيرا .. خطواته تتلاحق للخارج .. ليرتد جسده للخلف بسبب كومة العظم التي صدمته .. يده تسرع لتمسك الجسد النحيل حتى لا يقع .. لينطق بغضب : ما تشوف ؟
ليرمي بسؤال خاله المتهكم خلف ظهره وينطق : اريد اشوف شبيب ..
نظراته تتفحصه من قمة رأسه الى اخمص قدميه .. شعر مغبر . ووجه كالح .. وملابس رياضية احيلت للون غير لونها .. وساقان بهت لونهما بسبب الرمل والبرد .. وحذاء رياضي فك رباطه حتى نام بجانبه على الارض ..
صرخ متأوه حين دعكت اذنه اليسرى باصابع خاله القوية : كم مرة قلت لك لا تلعب فالليل بهالرمل ..
- آخ آخ .. هدني يعور .. والله كلهم يلعبون فالليل
زاد من الشد ليصرخ الصغير من جديد .. ويشد هو على اسنانه : ما شيء روحه لشبيب الين ما تركد وتقر فالبيت فاهم ..
عكازها يسبقها .. وانحناء ظهرها دليل على سنوات عمرها .. لتشد بيدها على ذراعه .. توبخه : ما قلت لك لا تضرب هاليتيم ..
ارتعش جسده من مسكتها تلك .. ليفلت هاشل .. ويجري الصغير كطير اطلق من قفص .. ويرسم هو ابتسامة على وجهه ويحني راسها بكفيه ليلثمه : اليتيم يباله تربية .. والا لو كل مرة قلنا يتيم .. كان ما تربى ..
نهرته لتتابع سيرها نحو الصالة : الا بنت اختك مالها شوفه من ايام .. شو بلاها .. والا تكبرت من بعد الملجة .. والا يمكن موت خويلد الله يرحمه ضربها فالعظم ..
ما بالها تتهكم هكذا .. فهو اعتاد على كلماتها . ولكن هل هناك ما تخفيه اضلعها عن الجميع .. ومن التي تقصدها .. كنّه كانت معه منذ دقائق خلت .. فلا بد ان المعنية شامة .. تنهد فهو ليس بحال تسمح له بالبحث في امور تلك المراهقة العشرينية .. رفع حاجبه وهو يرى تلك العجوز ترمي بفنجان القهوة بعد ان سكبته .. لتطال قطراته السجادة وبعض من النمارق القريبة : حشا ما شيء قهوة ..
كتم ضحكته .. وردد بعدها : الساعة بتوصل عشر .. خلج من القهوة وروحي رقدي ..
"يالسه ع راسك انا .. والا يالسه ع راسك " رددتها تلك العجوز لتردف : قوم روح خلهم يسون قهوة .. هذي بردت ..
رفع حاجبه : مب رايح ولا عندي خبر .. بروح ارقد ابركلي .. تصبحين ع خير ..
غادر المكان .. لتبدأ شفتيها المجعدتين بالحديث الكثير .. تحقد على ذاك المنذر .. لانه ابن لامرأة اخذت منها زوجها يوما .. فغاص وجع " العديلة " حتى استفحل .. واصبح مع الجسد كتوأمين .. ورضت .. ولكن ذاك المنذر لا يزال يذكرها بايام كانت .. لا تنكر ان مزاحه يعطي المكان فرح جميل .. وهي بحق افتقدته لايام مضت .. منذ ما حدث لشبيب وخالد .. ابتعد عنها وعن منواشتها .. تمنت لو بقى معها قليلا .. ولكن هو كوالده يكسرها حين حاجتها له .. تحوقلت وهي تنادي على ابنتها .. وعلى شامة ومرة أخيرة تعود لتنادي هاشل الصغير .. لتردد حين لم تصلها اجابة : حشا دياي راقديلي من المغرب ..
لتتحامل على نفسها بتعب وتقف .. تعود ادراجها لغرفتها القريبة من الصالة .. وهي تردد كلمات ساخطة على الوضع الذي بدأت تكرهه ..
اناملها تشد غطاء السرير باستغراب غريب تملكها من اعصاب والدتها الباردة .. ونظراتها تتبعها وهي تختفي خلف جدران دورة المياه ( اكرمكم الله ) وكلمات والدتها ترن في اذنها : قومي ردي بيتج .. وانا ما في شيء بقوم اصلي ..
اتطردها خوفا عليها من النفوس الحزينة .. او لعلها تخفي الم في صدرها .. لم تكن امها التي كانت كالكتاب المفتوح امامها ..تقلب في صفحاته يوما .. المنزل كئيب بالفعل .. حتى شامة طردتها من غرفتها بعذر الراحة التي تريدها .. وضعت كفها على بطنها البارزة .. لترتسم على شفتيها ابتسامة .. وتقف بعدها .. لن تغادر كما يرغبون .. لما الخوف عليها بهذا الشكل .. هي بخير .. وجنينها بخير .. ليس كباقي من سبقوه .. ولن يكون .. وقفت على عتبة الباب وهي ترى والدتها تخرج وتشد الخطى لتسحب سجادة الصلاة وتفرشها .. تأملتها لدقيقة ربما .. وبعدها ابتعدت مغلقة الباب بهدوء ..
,‘,
خطواتها تتلاحق .. تقف على اعتاب الباب لتتأكد من خلو المكان .. وتمشي من جديد .. تطوي المسافة الفاصلة بين المنزل ومجلس الرجال .. وتقف من جديد لعلها تلمح نعل غريب فتتراجع .. تنهدت وتابعت .. لتخلع نعلها الخفيفة وتدفع الباب بحافة الصينية التي تحملها .. وتبعثر نظراتها في ذاك المجلس الكبير .. قالوا بان بعض الشيوخ قدموا للعزاء .. ولكنها لا تهتم بحديث النسوة في صباح هذا اليوم .. ولن تهتم ..
بلعت ريقها وهي تراه .. حزينا جدا وكأن به كبر عشرين سنة على سنواته الخمسة والاربعين .. اهتزاز جذعه الخفيف وتمتمته ببعض ايات الله كان شيء كفيلا لاسالت دموعها .. لم يتحرك حتى بوصولها اليه .. انحنت تضع الصينية امامه وتقبل رأسه .. وتمسح دموعها قبل ان يراهن .. لتقع على ركبتيها جالسة بجواره .. تمد يدها لرغيف الخبز تقتطع منه قطعة .. وتغمسها في مرقة اللحم .. يدها تقف عند فيه : ياللا يالغالي .. تراك من البارحة ما ذقت شيء ..
انامله تعانق رسغها ليبعد تلك اللقمة عنه : النفس طابت يا بنيتي ..
رفعتها من جديد : عشان خاطري .. والا بنتك ليلووه ما لها خاطر ..
نظر اليها بعيون تغوص في بحر حزن لم تره يوما : امج كلت ؟
ابتسمت دون ارادة منها .. فحب والديها غريب بالفعل .. ها هو يفكر فيها حتى في قمة الوجع :قبل لا اييك كنت عندها .. تعشت الحمد لله .. وخليتها وهي تصلي ..
- الله يزاج الخير يا بنيتي ..
وضعت اللقمة في زاوية الصينية .. لتمسك كوب الحليب تمده له : دامك ما تبي خبز وصالونة .. اندوك اشرب هالحليب .. حطيت فيه زنجبيل ولا كثرت شكر (سكر) .. سويته مثل ما تحبه ..
اغمض عينيه .. ليفتحهما ويده ترتفع لتقع على رأسها : عشانج فديتج .
ابتسمت وهي تراه يرشف من الحليب .. وما هي الا لحظات حتى ترك ما في يده وهو يرفع نظره للواقف عند عتبة الباب : شخبار شبيب ؟
اغتاض من سؤال والده .. حتى تشابكت الشعيرات الخفيفة بين حاجبية .. نظرت هي اليه مليا .. كبر ذاك الـ مطر .. وبان على شفته اخضرار غض .. وعلى جانبي وجهه تبعثرت الشعيرات .. ليتجهم وجهها على رده : ما اعرف عنه شيء .. ولا اريد اعرف ..
ليترك المكان بعدها .. التفتت لوالدها الذي تحوقل ووقف بعدها .. لتقف : ابويه ما تعشيت ..
لا رد يصلها منه .. لتزفر انفاسها .. هناك في جوفها غصة لا تستطيع اخراجها ولا تستطيع ابتلاعها .. هذا حالها منذ ما حدث .. حملت تلك الصينية لتركنها في المطبخ .. وتحث الخطى لغرفة اخيها .. فتحت الباب لتجده يخلع ثوبه ويرميه على الارض بغضب : انت شو بلاك ؟ هذا بدال ما تداري ع ابويه ترد عليه بهالرد ..
صرخ بها معنفا : لا تدخلين .. ابويه للحين حاسب حساب لشبيب .. حتى واخويه ميت يفكر فيه .. يعني محد يهمه الا هذاك ..
لتلتفت على صوت مبارك الذي وقف عند الباب صارخا : ما احبه ما احبه .. ياليته هو اللي مات مب خالد .. هو اللي قتل خالد .. هو ..
ليجري بعدها .. وتقترب هي من مطر ترص على اسنانها : انت شو قايل لاخوك عن شبيب ..
يده تتحرك في دولاب ملابسه وظهره لها : اخوي مب صغير
بيده يتعلق ثوب نوم خفيف قصير الاكمام .. وهو يرتديه اردف : الرياييل ما عندهم سيره الا هالسالفة .. تقول يالسين فقهوة مب عزى ..
طوحت براسها وخرجت دون ان تنطق ببنت شفة .. لتتسارع خطواتها لغرفة اصغر اشقاءها .. فتحت الباب لتجده على سريره يبكي .. نائما على بطنه وذراعيه تشابكا تحت وجهه .. متعلق بخالد كثيرا .. وعقله الصغير لم يعد يتحمل ما يحدث .. جلست بجانبه لتغوص اناملها في شعره الكثيف : بروك حبيبي .. مب زين تصيح بهالشكل .. لازم تفتخر ان خالد اخوك .. وترفع راسك فوق ..
بصوت مكتوم دون ان يتحرك : شبيب قتله .. هو السبب .. ما احبه .. ولا احب هاشل .. ومب لاعب وياه مرة ثانية .. ولا بروح بيتهم ..
انحنت له ولا تزال اناملها تلعب في شعره : حبيبي لا تقول هالكلام .. ترا خالد بيزعل منك .. انت ما تعرف ان خالد يحب شبيب واايد .. واذا انت كرهته وكرهت هاشل خالد بيزعل .. يرضيك خالد يزعل منك ..
قفز من مرقده لتبعد يدها هي بخوف : انا مب صغير تضحكين علي .. وخالد مات يعني ما بيزعل ..
تمد كفيها تحاول ان تلمس وجهه فيبتعد صارخا : لا تصكيني( تلمسيني ) .. وطلعي اريد ارقد .
حتى مبارك لم يعد مبارك الصغير الذي كانت تعتني به .. لتبتسم له دون اكتراث لاعصار الغضب الصغير الذي يجتاحه : انزين بطلع .. بس دامك صرت ريال وكبرت .. لا تفكر مثل اليهال .. الحين ما انت تقول انك مب صغير ..
نظرته حادة تكاد تخترقها .. ادركت بانه بدأ يستمع بتركيز لها .. يقف على ركبتيه يتأملها بقسوة .. وهي تبتسم بهدوء لتكمل : الكبار لازم يفكرون زين .. الحين اذا واحد يحب انسان هالحب كله معقوله يروح يقتله ؟ .
كتف ذراعيه على صدره وربع ساقيه جالسا وظهره لتاج سريره : ما اعرف ..
قامت واقفة : لازم تعرف .. تقول انك صرت عود .. خلاص فكر فكلامي وانت بتعرف انزين .. والحين ارقد ولا تيلس تسمع لكلام الناس اوكي حبيبي ؟
خرجت دون ان تنتظر منه اي جواب .. ابتعدت تداري عيونها عنه فان رآها لن يصدق شيء مما قالته .. تركته ليستلقي على سريره ويغرق في النوم بعد كلامها الذي هاج في نفسه لدقائق .. اما هي فوقفت تنظر الى غرفة مها .. تقدم رجل وتؤخر الاخرى .. فهي لن تحتمل صرخة من تلك القاسية .. ولن تسمع لها كـ مبارك الصغير .. وقد تُسمعها كلمات جمة .. ففضلت الانصراف الى غرفتها .. ليستقبلها رنين هاتفها .. فتلتقطه وتجلس بتعب على حافة سريرها .. كم تحتاج له في هذا الوقت .. ابتسمت لاسمه .. لترد بتعب اتضح في نبرتها .. ليسارع هو بالسؤال : ليلى فيج شيء ؟
طوحت برأسها نافية .. وكأنه امامها ويراها لتنطق : تعب العزا بس ..
زفر انفاس الراحة .. ادار مقود السيارة يسارا : ليلى جهزيلي فراش برقد عندكم الليلة .. ما اقدر اخلي عمي بروحه يمكن تحتايون شيء ..
كم ان ذاك الخبر اسعدها .. لتقف بعد ان اغلقت الهاتف .. تسرع الخطى للاسفل .. وتخرج فراش له هو من ملك قلبها سنين .. حملت " الدوشق" ( مرتبة سرير ) .. وما ان فتحت الباب حتى هاجمتها ريح باردة ارجفت اضلعها .. وبريق في السماء أكد لها بان هذه الليلة ستكون ماطرة .. ابتعدت بسرعة تجر تلك التي بيدها لتضعها في الصالة الصغيرة المجاورة لمجلس الرجال .. وتعود بعدها راكضة تحمل وسادة وبطانية ثقيلة .. بدأت دموع المطر تتساقط رويدا .. اسرعت حتى كادت ان تقع .. لتلج الى تلك الصالة وترمي ما بيدها بتعب .. لم تنتبه الا بمن يقف امامها .. لترفع نظرها اليه : انت هني ؟
ارادت الهروب من عينيه فاردفت وهي تنحني تلتقط الغطاء : خلني ارتبلك الدوشق عشان ترقد ..
ينظر اليها وهي تتحدث ..تحكي له عن مبارك ومطر .. وبالاكثر عن مبارك الذي اشغلها .. لتقف بعدها وتستدير له : تعشيت ؟
اقترب منها .. صامت كان .. وصمته ذاك يزعزع ثبات روحها .. لترتجف من برودة انامله التي تداعب وجنتيها .. وتنسل مبتعدة لتوقع " شيلتها " .. انكسرت نظراتها لقرب انفاسه الافحة لبشرتها الحنطية : ويهج شاحب .
ما ان نطق حتى هلت دموعها كسيل على خديها .. لترفع راسها له : تعبت يا جابر .. حاسه بغصة فحلقي – شهقاتها تتلاحق – امي حالفة ما تريد تشوف دموعنا .. وابويه حالته حاله .. واخواني احس انهم بيضيعون .. تعبت ..
سحبها اليه ليدفن وجهها في صدره العريض .. وكفه الايمن على رأسها وكأنه لا يريدها ان تبعد رأسها ابدا : صيحي .. صيحي الين ترتاحين ..
,‘,
يــتــبــع|~