يمشي وكأنه في عالم غير عالمه .. لا يشعر بلسعات البرد .. ولا لرذاذ السحب .. أهي تبكي معه ؟.. لعلها دموعه التي لا تريد الانسكاب سكبتها السماء عوضا عنه .. مكث في سيارته طويلا .. ايراجع اخطاء ما فات من العمر ؟.. أيبحث عن غفوة روح لم يحتسبها يوما .. او ذنبا غفله ولم يستغفر عنه ..
المنزل ساكن .. الساعة ستقارب الثالثة فجرا .. لما الساعات تجري مهرولة هذا المساء .. اتستعجل الصباح وانتشار خبر الوفاة .. ام انها ترأف بحاله وترغب بتغيرها كما يتبدد الظلام بنور الضياء .. قصد باب قسمهما ليبتعد عن عيون قد سهرت تنتظره .. ليلج ويباغته عطرها .. رائحة البخور الذي تعشقه .. و كأس العصير على الطاولة قد قبل شفتيها عصرا .. تنهد ليستغفر ربه .. ويسحب خطاه الى دورة المياه (اكرمكم الله ) .. سيستحم .. ويتوضأ .. ويطلب الغفران والصبر من ربه .. ليس له الا ربه في هذه الساعة يشكوه فيسمعه ..
جلس طويلا على سجادته .. طويلا جدا دون ان يشعر .. هو راضي بما يقدره الله له .. ولكن هم هل سيكون الرضا له سبيل الى قلوبهم .. قام وهو يسمع اذان الفجر يصدح في الارجاء . يشق السكون بسكون جديد يريح الانفس .. تنهد وهو يقف وبيده يرفع سجادة الصلاة ..
يطويها ويركنها على كرسي " التسريحة " .. ويبتعد ليشعر بدوار غريب اجبره على الجلوس على جانب سريره .. اتعب عقله هذه الليلة .. واتعب جسده ايضا .. لم يشعر الا بطرقات خفيفة على الباب .. ليقف من جديد يشد خطاه .. ليفاجأ بها هناك واقفة .. تحاول ان ترى ارجاء غرفتهما من خلف جسده : متى رديتوا ؟ ولا تفكر ان عندك ام تحاتيك وانشغل بالها عليك ..
يده تحني رأسها قليلا ليلثمه ويصمت .. فتنظر له بامعان .. عيناه متعبتان .. وابتسامته تلك شحيحة جدا .. ليكفهر وجهها خوفا : شو بلاك ..
ليرغم الشفتين على التمدد ورسم ابتسامة : قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا .. كنه فالمستشفى .. الولد عطاج عمره من يومين فبطنها ..
يدها تمسك ذراعه بجزع : لا حول ولا قوة الا بالله .. الله يصبرك يا وليدي ..
وفجأة وكأن ذاك الحنان اندثر ليأتي مكانه وجه آخر تمناه ان لا يكون : قلتلك ما تصلحلك .. ربك ما يريدها لك .. حتى الظنا ما فرحتك فيه .. من باكر بدورلك الحرمة اللي تستاهلها ..
أهي هكذا ؟ ام انها تتعمد الدوس على الجراح .. الا تعلم بان ذاك المعلق بين اضلعه لا ينبض الا باسمها هي .. كيف له ان يأتي باخرى .. ايأتي بها ليظلمها فقط ليرضي والدته .. والاخرى هل سيقوى على عذاباتها بسبب ما ستقترفه يداه حينها .. طوح برأسه .. ليمشي من جانبها : اميه مب وقتها هالرمسه .. اسمحيلي بروح المسيد ..
,‘,
أتكوم الشر وقُذف ليضرب قلوب بعض البشر ويتشابهون في العمل لقض مضجع راحة الغير .. كتلك التي باتت لا ترى الا ذاك الرجل زوجا لابنتها .. لعله حلم قديم دُمر باقترانه بابنة عمه .. ولكن ها هي الاقدار تفرحها وتصب في شبكة صيدها .. اسرعت الخطى الى غرفة ابنتها لتدخل دون استاذان ضاربة بالباب عرض الحائط وتقف وهي تلتحف بعباءتها .. تشدها تحت ابطها .. وترفعها على رأسها بعجل : ياللا شهلي (اسرعي ) .. شو بعدج تسوين ..
وهي تقف ترفع خصلات شعرها القصير الى اعلى : اوووف .. امايه شو بلاج اليوم متصربعه ( مضطربة ) .. كنا رايحين بيت الوزير .. الا بيت ليلوه
ضربتها على كتفها .. ومن ثم سحبت احد ادراج تسريحتها .. تجمع بعض ادوات " مكياجها " وتضعهن على السطح : اندوج (خذي ) حطيلج من هالازرق والاحمر .. تعدلي .. مالت عليج وعلى اللي يسوي فيج خير .. ياللا
وخرجت من عندها حتى ما وصلت الباب التفتت لها : بسرعة .. اترياج عند الباب ..
ملأت فيه بالهواء وزفرته بحنق .. وضعت بعض من " الروج" الاحمر .. وقليلا من " الكحل " الازرق على جفنيها السفليين .. وتركت المكان ترتدي عباءتها المفتوحة المزخرفة بنقوش سوداء .. ولفت " شيلتها" على رأسها مع ترك غرتها يعبث بها الهواء .. وخرجت .. حتى ما وصلت والدتها امسكت بيدها وسحبتها معها : سمعيني زين ..
تمشي لتقطع الشارع الفاصل بين المنزلين .. وتستطرد : من توصل عشر تتعذرين بالغدا واطلعين من عندنا .. وتخليني ويا ليلووه بروحنا ..
" عشان ؟" .. نطقتها بتملل وهي بالكاد تمشي بذاك الحذاء العالي .. لتكمل تلك وهي تقف عند بوابة المنزل ترفع عباءتها على رأسها بعد ان وقعت : يالخبلة .. جابر ينزل من دوامه عشر .. اباج تطلعين فويهه .. لا تخلينه الا وهو طايح فيج سامعتني ..
وضعت يدها على رأسها : اللهُ اكبر .. امايه انتي تشتغلين بالاستخبارات وانا ما ادري ..
تشد على اسنانها : آآآآآخ .. يا ربي ليش بليتني بهالبنت الخبلة .. هذا بدال ما تحمدين ربج ان عندج ام ادور مصلحتج ..
تشدقت وهي تشيح بوجهها : بس انا ما اريد جابر المعقد .. شرايج تزوجيني المهندس(ماجد المهندس)
تحتظن كفيها وتغمض عينيها بحب : فديته وفديت شكله .. وسيم ويطيح الصقر من السما ..
- يقولون يطيح الطير من السما مب الصقر .. بس ما اقول الا مالت عليج وعلى من يابج ..
يدها تضغط على الجرس وهي تثرثر بينها وبين نفسها بحديث لم تفهم منه تلك الـ نوال شيئا .. لتخرج لهما بعد دقائق الخادمة .. وتباشرها تلك وهي تدخل : وين ماما .. قوليلها جارتها هني .. ياللا جلدي( بسرعة) ..
لتكتم تلك ضحكتها على والدتها المتهورة .. وتمشي تتبعها بخطوات بالكاد تتزن معها .. لتخرج تلك الخادمة وتراهما في وجهها .. وتعقد حاجبيها بسخط : انت ليش يجي داخل ..
- هذا اللي ناقص بعد .. تعالي ضربيني ..
لتأتي ليلى وجسدها يزينه ثوب مغربي.. يزيد ذاك الحزام المرصع بالاحجار جسمها رشاقة .. وشعرها الطويل الى نصف ظهرها قد تمرد ليخرج من تحت وشاحها الذي اخذ لون ثوبها الزمردي .. ابتسمت لغضب جارتها لتخرج لهما : حيالله من يانا .. حياج خالتي قربي (تفضلي ) ..
- تسلمين ..
ويتبادلن القبلات .. وترحب بهما حتى الصالة الداخلية .. وبعدها تعتذر منهما لتخبر الخادمة بأن تأتي بما ستضيفهما به .. لتقرص تلك فخذ ابنتها .. وتصرخ : آآخ .. امايه يعور ..
تحرك يدها على فخذها .. وتلك تقترب منها وتهمس : لا اوصيج ع الساعة عشر تخلينا توقفين عند الباب من داخل من تشوفينه تتحركين صوبه .. ولا اوصيج سولفي وياه وسالي عن اخباره .. ولو تدعمينه واطيحي يكون احسن ..
فتحت تلك فيها بدهشة .. وعيناها تسمرتا على وجه والدتها .. لتضرب اسفل ذقنها باطراف اصابعها : سكريه .. الله يصبرني بس ..
لتقترب تلك من والدتها هامسة : الحين انتي من صدقج تبيني ادعم فيه واطيح .. وبالكعب .. لا والله الا تكسرتي يا نوال .. انتي شايفة جسمه كيف .. اعوذ بالله اعوذ بالله ..
تشد على اسنانها بغضب .. فتلك الابنة ان لم تقبرها يوما بغباءها فانها من المؤكد ستقودها الى الجنون .. لتشد على يدها وتدس النصائح في اذنها .. حتى ما اقبلت ليلى تبسمت نفاقا .. وتحدثت كثيرا .. وسألت عن الجميع حتى انها تطرقت للحديث عن حياة ليلى مع جابر .. لتقدم تلك صحن الفاكهة الذي قطعته امامها : اكلي خالتي .. نوال مدي ايدج ..
ستهرب من تلك الاسئلة بقدر ما تستطيع .. فاسرارها واسرار عائلتها شيء مقدس لا يجب ان يحكى عنه مع الاغراب .. نظرها يحدق في الساعة المعلقة .. لتلكز ابنتها بمرفقها .. وتلك بغباء غريب قالت : شو فيج اميه .. تراج عورتيني ..
لتبتسم تلك على مضض : قومي ردي البيت وسوي الغدا .. انا بتونس شوي وييا بنتي ليلى .. قومي ..
وكأن عقلها بدأ يعمل لتبتسم : ان شاء الله ..
منذ البارحة وهو يتصل به ولا من مجيب .. ترجل من سيارته بلبسه العسكري .. وقبعته قد احتضنتها انامل كفه اليسرى .. ليمشي وبيده هاتفه يخط فيها رسالة لذاك المختفي : شبيب من البارحة وانا اتصل ما ترد علي .. توني نازل من الدوام لو واعي اتصل علي ..
كان وجهه لهاتفه وتلك تحينت الفرصة لتمشي بخوف وتوتر طال ساقيها .. وكلام والدتها يرن في اذنها .. لتمشي دون اتزان .. ونظرها للارض تتمنى ان لا يوقفها .. دون ان تدرك بان ذاك قد انشغل فكره قبل عينيه بصاحبه .. لتصطدم به .. وتفقد اتزانها وما كان منه الا ان مد يده يمسكها كردة فعل منه .. ليستغفر بعدها مرارا ونظره للارض ويردف بغضب : ما تشوفين ..
ارتجفت وهي في مكانها تشد عباءتها على جسدها : ما .. ما انتبهت .. السموحة ..
وتتسمر نظراتها على وجهه .. لم تره بهذا القرب يوما .. ايعقل هذا الوجه له .. بلحيته المطوقة لذقنه .. وحاجباه الكثيفان .. وانفه الدقيق .. ايعقل هو جابر المعقد الذي لم تكن ترغب فيه .. انحنى ليلتقط هاتفه الذي سقط وابتعد عن المكان قليلا .. ووقف ونظره بعيدا عنها : انتبهي وانتي تسيرين .. واذا ما تعرفين تمشين بالكعب لا تلبسينه وتوهقين عمرج ..
وكتم ضحكة كادت ان تخرج .. لتذوب هي فيه وتتجمد في مكانها تتبعه بنظراتها حتى اختفى .. لم تشعر الا بيد والدتها تضربها على جانب ذراعها : شو فيج متبلعمه .. سويتي اللي قلته لج والا لا ..
" هااا " .. نطقتها .. لتستغفر تلك وتتحوقل مرارا وتسحبها معها للخارج .. اما هو ما ان القى التحية على ام نوال حتى صعد الى غرفته .. ليرمي هاتفه على السرير .. ويحمل منشفته التي جهزتها له مسبقا .. تهتم بادق ما يعنيه .. حتى ملابسه اخرجتها له .. توارى خلف جدران دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. وهاتفه بدأ يصدح من بعده ..
,‘,
وصلته نغمة الرسائل وهو يمشي في ممر المستشفى مع خاله منذر .. وتلك العجوز تمشي بهوادة معهما .. ليبتسم على خوف ذاك عليه .. وينطق : سبقوني بلحقكم ..
جاءه اتصال في الصباح الباكر من والدته .. تخبره بمكانهما .. فتلك الشقيقة استيقظت هادئة جدا .. واتصلت لوالدتها به .. وظلت صامتة حتى الساعة .. رفعت وجهها الشاحب نحو الباب حين دخلت جدتها يتبعها منذر .. لتبتسم لهما بتعب .. ويقتربا منها .. تقبلها جدتها وجدا .. وتواسيها بكلمات كثيرة .. ليقترب هو من بعدها يقبل جبينها : الله يعوضج فديتج ..
هل دموعها جفت .. ام ان احساسها بالفقد بعيدا عنه قد نضب : وين شبيب ؟
قالتها ليدخل هو يخبيء هاتفه في جيبه .. فذاك الجابر لم يجب عليه .. يقترب بلهفة كبيرة نحوها : يحتضن وجهها ويقبل جبينها : الله يعوضج باللي احسن منه .. قولي اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ..
لا تعلم لماذا هدوءه اثار نفسها لتتشبث به .. تمتمت ما قاله لها .. وتفرج عينيها عن دموع احتبست طويلا .. وتتمت له بحديث لا يسمعه غيره .. وهو منحني عليها حتى ان ذقنه لامست قمت رأسها : خلاني وراح .. ما اقدر اعيش بدونه .. زعلان مني ادري .. بس مب ذنبي .. والله مب ذنبي ..
انحنى اكثر ليصل فيه الى اذنها : لا تلومينه .. هو بعد تريا هالياهل .. بيي .. صدقيني بيي .. فارس ما يقدر يبعد عنج ..
- شبيب تراها رافضة تاكل اي شيء .. تعبت وياها وانا امك ..
لتقدم تلك العجوز بعكازها وتضع كفها على رأسها : بنيتي كنه بتاكل من الريوق اللي سويته لها .. وسويتلج حريروه ترم عظمج ..
الحريروة : حساء تستخدم فيه الحبة الحمراء وله اكثر من طريقة لطهي ..
يعطى للمرأة في فترة النفاس ليعيد اليها صحتها
لتبتعد عن حضن شقيقها .. تمسح دموعها وتلتقف كف جدتها تقبلها : الله لا يحرمني منج ..
ليتحدث ذاك : يعني محد الا شبيب ويدتج – ينظر الى شمسة – شموس فديتج قومي نظهر كرتنا احترق ..
لتضحك رغما عنها ويضحك الجميع معها .. ويردف هو : هيه جذي .. اضحكي ما بناخذ من الدنيا شيء .. وربج له حكمة .. واذا حب عبده اختبره ..
تمتمت : والنعم بالله .. الله لا يخليني منكم ..
ابتسم شبيب لينطق وهو ينظر لعينيها المتعبتين : ترا هشول ما طاع يروح المدرسة .. يقول اريد اشوف كنه .. عطوني اجازة مثل قبل .. يظن ان السالفة حلاوة ..بس ما قصر فيه خالي ..
بغضب اكملت العجوز ذاك الحديث : ما ناقص الا يضربه ..
- والله عاد هذي تربيتي له .. والدلع مب زين .. شوفوا اخته كل ما نقولها شيء تقول ما اريد ..
اختها تذكرتها الآن لتنظر الى والدتها .. التي ابتعدت متعذرة بدورة المياه ( اكرمكم الله ) .. وبعثرت نظرها عليهم .. يتحادثون بضحك وهي تجبر شفتيها على الابتسام .. ليقع نظرها على شبيب .. هل سيحتمل ما وقع منه في حق صاحبه .. هل سيغفر لشامة ما فعلته .. ؟ .. لتنتبه لنفسها حين شد على وجنتها بانامله : شو بلاج اطالعيني جذي ..
هزت رأسها واذا بنحنحنة على الباب .. لتبتسم حين دخل .. ودموعها لا تعلم لماذا تنزل دون استأذان .. القى التحية عليهم .. وما كان منهم الا الانصراف .. ليبقى هو وهي فقط .. وعيونهم تحكي بصمت .. تنظر اليه متجهما .. كسرت حلمه دون قصد منها .. هو كان حلمها ايضا .. طال الصمت وهو يرى انسكاب الدمع دون هوادة .. ليقترب يرسم ابتسامة على ثغره الواسع .. ويجلس على طرف السرير امامها .. كفاه تحتضان وجهها .. وابهاميه يمسحان دوعها .. ليشد رأسها اليه يقبله ويدفنه في صدره : قدر الله وما شاء فعل ..
لتنتحب هي وتردد : لا تخليني .. بدونك والله اموت ..
يشدها اكثر اليه : وانا بدونج اضيع فديتج ..
,‘,
يــتــبــع|~