نرتمي على قارعة الطريق مرارا .. حين ينسل اليأس الى ارواحنا .. فنعيش سواد حياة .. نتوه .. ونضيع .. ويحملنا الحلم للبعيد .. الى حياة كانت .. الى تاريخ ماضٍ .. ويبقى رصيف العمر يخط حكاياتنا بصمت .. هدوء يسدل ستاره على حياته .. ويحيل جسده الى سكون مرغم .. ابتعد عن عمله خوفا على ارواح الغير .. اجازة مفتوحة .. فله رصيد اجازات لم يمس بعد .. وهرب الى سواد منزله الكئيب من بعدهم .. امه والده واخيه وثلاث من اخواته .. ايلوم نفسه انه لم يكن معهم في رحلة الموت تلك .. صلالة الموت هكذا ينعتها .. فعلى طريقها فارقت اسرته الحياة في يوم خريفي .. وهو قبع هنا .. فكان وقت اختبارات نهائية له .. وجاءه خبر الوفاة مع اقدام الانصراف من اخر اختبار دراسي في مدرسة ثانوية .. وانتهى الى حياة الوحدة القاتلة الا منه هو .. صديقه الذي لم يتركه .. يذكر وقوفه معه .. حثه على اتمام دراسته .. وتذكيره بحلم والديه بان يكون طبيبا ..
رحلت تلك الايام الا من تلك العلبة القابعة في يده في هذه الساعة من الفجر .. (Tramal ) اي شيطان هذا .. يعتصره في كفه .. علبته البيضاء المصبوغة بزاوية اخضرار .. تثير العين .. وتهلك اعصاب الروح رويدا رويدا .. انتشلها من احد الادراج .. لا يعلم كم مضى من الوقت وهي مسجونة هناك .. يكفي انها نادته في هذه الساعة لتبعث في نفسه نشوة عانقته ايام من بعد الفراق ..
يجلس على الارض الباردة .. وبنطال قصير لا يستر ساقيه المكتسيان بالشعر .. ظهره للجدار .. وذراعه اليمنى على ركبته و قابضة على تلك العلبة .. واليسرى استراحت بجانبه .. وشعره الاسود يتطوح امام جبينه الموجه للارض .. وابتسامة صفراوية ترتسم على وجهه .. هو ضعيف عند الفراق .. وطوق النجاة تسرب منه الهواء منذ ايام .. ليغرق ويغرق حد الانصياع لحبات هلوسة كانت ..
يدها على رأسه فيبتسم يرفع نظره اليها .. ويبتسم لها ويحكي : امايه صرت دختور .. بس شبيب خلاني .. امايه وين ابويه ليش ما يبتيه وياج .. تدرين بعرس عقب اسبوع ..
هز رأسه بعنف : لا لا لا .. مب اسبوع .. يمكن شهر .. يمكن سنة .. ومرت سنة ...
وتمتم بكلمات تلك الاغنية .. وضحك .. فاختفت .. ليتلفت في المكان : امايه لا تخليني .. كلهم خلوني .. كرهوني .. كرهوني .. كرهوني ..
وسقطت العلبة من يده .. وسقطت دمعة من عينيه .. ونام جسده على الارض كطفل صغير يبحث عن حضن قديم ..
لا يعلم لما راوده ذاك الاحساس حتى اجبره على زيارة منزله في هذه الساعة المبكرة من الصباح .. صلى الفجر في المسجد القريب من منزله وبعدها قرأ آيات من القرآن حتى نشرت الشمس اشعتها الباردة على البسيطة .. وبعدها حمل نفسه مبتعدا .. توقفت سيارته في ساحة المنزل الكبيرة .. ومشى نحو الباب .. واذا بهاتفه يهتز في جيبه .. نسيه على الصامت .. ليبتسم وهو يضعه على اذنه : هلا بغلاتي ..
جلست بتعب على الكرسي في المطبخ .. فالبارحة عادت والدة بعلها وابنتيها وشقيقه من السفر .. وهي لا بد ان تقوم بواجبهم هذا الصباح .. تنفست بتعب ليشعر بها : حبيبي تاخرت .. كل هذا بالمسيد .
تجهم وجهه ليتحرك مبتعدا قليلا عن الباب .. يواجه الهواء بظهره : حبيبتي شكلج تعبانه ..
ابتسمت : فالمطبخ اسوي ريوق ..
انفجر بها صارخا : كم مرة نبهتج لا تعبين نفسج .. انتي شكلج ناوية ع عمرج ..
يصرخ بها .. ليس من عادته هذا الشيء .. صمتت وشدت انفاسها : ما سويت شيء والشغالة تساعدني .. والتعب تعب حمل بس ..
يعلم بانه قسى عليها بتلك الجملة التي اطلقها : خايف عليج فديتج .. وامي وخواتي بيقدرن وضعج .. لا تعبين عمرج وبعدين نتعب احنا ..
حياتهما على كف الاقدار .. وايامهما دعاء يتبعه دعاء .. فقط لينعما باسرة صغيرة سعيدة .. والخوف من تكرار الوجع الذي لازمهما طيلة سنوات زواجهما الاربع .. اغلق الهاتف ليرن الجرس مرارا .. يعلم بتلك الاجازة التي اخذها ذاك الحارب .. لا مجيب سوى صدى الصوت في المنزل الكبير .. ليتذكر حديثا قديما جمع الاصحاب هنا .. وصوته : ترا في نسخه من المفتاح تحت الحصاه اللي هناك .. اخاف بعد اموت ولحد يدريبي ..
التفت حيث اشار ذاك قديما .. ولا تزال ضحكته الساخرة من قدر الوحدة الذي حكم عليه يتردد في اذن فارس .. مشى حتى وصلها .. حجارة جبلية تزين المدخل .. وقف يتأملها وكأن به لا يود اقتحام المنزل بهذا الشكل .. او لعله لا يتمنى ان تكون شكوكه صائبة .. انحنى ليبعدها قليلا ويلوح له المفتاح المتسخ بشيء من التراب .. استغفر ربه وهو يبتعد متوجها نحو الباب .. ليديره بحذر .. او لعله الخوف من المجهول .. ليلج بعدها في جُب السكون .. فقط صوته اخذ يتردد منادي صاحبه .. مرة واثنتين وثلاث .. وهو يصعد الدرجات القليلة .. ثم الرواق بإنارته الخافتة .. واخيرا يقف بمواجهة باب غرفته .. ليقرعه بتوئدة .. لا صوت .. سوى صوت انفاسه المضطربة .. ليلج ويهوله منظر ذاك النائم على البلاط الصلد .. وعلبة دواء يعرفها جيدا تنام بجانبه .. يسقط امامه على ركبتيه .. ينتشله من هناك .. ويردد : حارب .. حارب شو سويت بعمرك ..
يثبته على صدره ليسحب العلبة .. يقلبها يبحث عن تاريخها . سنوات كثيرة مضت .. يذكره .. هي هي نفسها التي كانت تدمره عند المراهقة .. ليصرخ وهو يرميها : غبي .. تريد تموت عمرك .. لحبوب منتهي ..
ليتمتم ذاك بصمت : كلهم خلوني ..
يرفعه من تحت ابطيه .. يشده للاعلى .. ويجره معه حتى تحتك اصابع قدمه بذاك الصلد .. ليوقفه هناك .. وسبابته تتسلط الى فيه .. سيرغمه على القيء وهو يصرخ به : زووع ( تقيء)
ليكح بعنف ويفرغ ما في احشاءه في ذاك المرحاض(اكرمكم الله ) .. ويتنفس بعدها بتعب .. وذاك يجلس على ركبتيه بجانبه يسنده .. ويرفعه من جديد يوقفه على حوض " المغسلة " ويرمي بالماء على وجهه .. غرفة تتبعها الاخرى .. حتى تبلل قميصه وثوب فارس الاسود ..
ارتجف لبرودة الماء ليتمتم : ليش ؟ ..
- خل الاسئلة الحين ..
ويعود يسنده حتى يجلسه على سريره .. ينزع عنه قميصه المبتل ليبان جسده النحيل .. ويتركه ليعود وهو يحمل قميص قطني يلبسه اياه ويساعده هو قليلا : خبل انت .. تريد تقتل عمرك ..
رفع رأسه لينظر لفارس الغاضب : مالي ويه اشوفهم .. شوهت سمعتي بنت الـ..
قطع كلامه بقبضة يده التي رفعته من قميصه لاعلى .. حتى اضحى وجهه بوجهه .. وانفاسه الثائرة تضرب بشرته : حذاري تغلط يا حارب ..
لم يشعر الا برأسه يندفن في كتفه : مالي حد غير شبيب واهله .. خالتي ام شبيب اكيد عرفت .. طحت من عينهم .. طحت يا فارس .. طحت ..
سحب انفاسه بقوة .. لا يعلم ما عساه يفعل .. لعل هذا الذي اكله الضعف حد التهلكة قد ظُلم حقا .. ولعله لا .. ولعل ذاك لن يصفح عنه ابدا .. اجلسه على السرير .. ليدس يده في جيبه : بتصل بشبيب ..
لم ينتبه الا بيد ذاك تخطف الهاتف وترميه بعيدا .. صارخا : لاااا .. لا تخبره ..
ليستلقي بعدها على السرير .. يطوي ركبتيه الى صدره .. ويغطي شعره وجهه .. لعل ذاك الشعر ايقن بان عينيه ستبكي .. وهو سيخفي هذه الدموع .. نظر اليه مطولا .. وبعدها انسحب الى حيث وقع هاتفه .. ينحني ليرفعه وينظر اليه .. واذا بشرخ استوطن شاشته .. وخدش على جانبه .. ليهتز في يده ..
,‘,
تجلس بجانب ام زوجها وعلى وجهها ابتسامة .. وبيدها هاتفها بعد الحاح تلك عليها بالاتصال بـ فارس .. المكان يضج بصوت التلفاز الذي تقبع امامه الابنة الكبرى لام فارس .. انهت الثانوية وفضلت المكوث في المنزل .. هذا ما تردده والدتها على مسامع النساء .. دون ان تخبرهن بان تلك لم تحصل على نسبة تؤهلها لاكمال التعليم .. التفتت لكنة : ها .. وينه من الصبح ؟ ليكون مزعلتنه ومخلي البيت بسبتج ..
ابتسمت على مضض : لا يا خالتي .. اموت ولا ازعله .. بس مشغول شوي .. بيي ع الغدا ان شاء الله ..
نحنحة عند الباب لتعدل هي من " شيلتها " .. وتنطق تلك : حياك يا وليدي .. محد غريب الا حرمة اخوك واختك ..
ولج بجسده الضخم .. وثوب ابيض قد قصّره بمسافة شبر عن مفصل القدم .. ولحيته الطويلة التي تصل الى صدره .. ليلقي السلام .. ويردنه .. وتنطق تلك : الحمد لله ع السلامة ..
- الله يسلمج .. فارس وينه .. طلع قبلي من المسيد وسيارته مب مويوده ..
- عنده شغل ..
قالتها وقامت تستند على يدها : بروح اسوي الغدا ..
لتفاجأ بأم فارس تمسك يدها : يلسي ..
وبعدها تصرخ على ابنتها : نوره .. قومي سوي الغدا ..
لتصرخ تلك بسخط : شو .. ومن متى انا اسوي الغدا .. وكنه ليش ما تسويه .. تعبانه ولا في حيل ..
لتقف بهلع بعد صرخة من اخيها : تراددين امج ياللي ما تستحين .. بتقومين والا شو ..
- ان شاء الله .. بقوم ..
وابتعدت عن المكان تثرثر بحديث غاضب .. فهي تخاف شقيقها المتدين .. بل انها تمقته احيانا كثيرة .. ظل واقفا ليخاطب والدته : لا تهلكونها بالشغل مثل كل مرة وبعدين ترمون عليها الذنب .. الرحمة زينه يا ام فارس ..
انتفضت في مكانها : ما قلت شيء .. وانا يلستها عشان هالشيء .. زين الحمل ثبت للحين .. مناي اشوف ولد ولدي واشله بيديني ..
- الله يقومج بالسلامة .
لتتمت ردا عليه : الله يسلمك ..
وتنظر اليه منصرفا من المكان .. تشعر بالخجل مما حدث .. معاملتهما مختلفة .. هل تلك السفرة التي استمرت شهرا ونيف غيرت فيهم شيء .. اما انها لحظات قد تتشرب منها لاحقا الما مرا .. ضلت صامتة في مكانها .. فذاك العُمر اغرقها في حياء من حديثه ذاك .. تنفست وهي ترى ام فارس تبتعد لتنزع سماعة الهاتف من مرقدها وتبدأ بالاتصال بجارتها .. لعله الشوق يشدها للحديث المطول معها .. وكلمات عن العلاج وفحوصات خضعت لها طويلا .. وتذمر من ان لا شيء ينفع .. التفتت للتلفاز وبها شيء من تأنيب الضمير .. لتقف وتترك المكان الى المطبخ .. وتسمع تلك تقلب ما في القدر وتثرثر بحنق : الله يعيني الحين ما عندهم الا نوره .. نوره شلي ...نوره حطي .. نوره طبخي ... نوره غسلي .. اووف ..
كتمت ضحكتها وتابعت مسيرها لتقف بجانبها .. وتصمت تلك .. ابتسمت : خلي عنج انا بكمله ..
وهي تحرك الملعقة الخشبية في القدر التفتت لكنه مبتسمة : لا فديتج .. روحي ارتاحي .. بعدين يسولي سالفه وانا ما اقدر ع كلامهم ..
استشفت من بين حروف تلك حقد تحاول ان تخفيه : ما عليج منهم .. بطبخ وبقولهم انتي اللي طبختي ..
لتتجمد على صوت عمتها المنادية باسمها .. وتقترب تلك منهما : روحي ارتاحي يا كنه .. ما فينا بعد تقتلين ولد ولدي مثل غيره .. يوم ايي بالسلامة ساعتها سوي اللي تبينه .. ولا بنقول لا ..
اذا فهي لا تهتم الا بالحفيد المنتظر .. لا تهمها تلك الحاملة له .. ابتسمت مرددة : تسلميلي .. عن اذنكم ..
لتحتضنها بعد دقائق غرفتها .. ووجع يذهب ويعود زائرا احشاءها .. تقلصات اتعبتها منذ الصباح .. لا تشعر بالراحة وقلقا من القادم يعبث في نفسها .. صوت ساعة الحائط تشرخ الهدوء .. لتلتفت لها تشير الى الثانية عشر والاربعين من الدقائق ..قامت متحاملة على نفسها لتتوضأ .. وما هي الا ربع ساعة حتى دخل ليجدها تطوي سجادتها وتبتسم له .. تحث الخطى اليه ليباغتها : ليش مب يالسه وييا اهلي .. والا عيبتج اليلسة بروحج ..
يتهكم بها .. مثل والدته واخته .. ما بالهم اليوم عليها .. او لعلها هي اصبحت ترى الامور بمنظار الحساسية : ليش تكلمني بهالشكل .. امك اشتكتلك .. قالتلك اني ما يلست وياهم .. وما خدمتهم .. رجعنا ع طير ياللي ..
انتزع " الحمدانية" عن رأسه ليرد عليها بغضب : شو هالرمسة اللي اسمعها ..
انذار الدموع لاح في مقلتيها لتنطق بحشرجة : مادري عنكم واقفيلي ع الوحدة اليوم .. حتى انت متغير من كم يوم .. اسألك شو فيك ولا ترد علي .. من يوم ما رحت لحارب وانت غير .. شو مستوي ..
شعر بضميره يؤنبه .. الا هي لا تستحق ان يقسى عليها .. ويرمي عليها بضغوط الحياة التي تواجهه .. اقترب منها يحتضنها .. فتبعده عنها : شو اللي مستوي يا فارس .. انا مب غبية ولا مدمغة عشان ما احس ان في شيء .. صوت امي .. تصرفات اخوي ومنذر .. حتى انت تغيرت .. وكله من ذاك اليوم اللي تحدد فيه عرس شامة ..
يده تمسك بيدها ويبتسم : تعالي ..
مشى معها ليجلسها على طرف السرير ويجلس بجانبها .. سيحكي لها عن معاناة حارب وعن قصة ذاك الموعد الذي حدده شبيب .. سيحكي لها سر نظرات منذر وصوت والدتها المتغير .. سيعلمها بان رباط الصداقة قد قطع بسبب تهور من اختها وحارب .. وان شبيب لم ولن يسامح .. سيضعها في معمعة الاحداث خوفا عليها من هواجس الفكر .. لتستمع له بانصات تام .. وتنطق بعد ان صمت : لحظة .. انت شو تقول ؟ .. وشو يأكد لكم انها حامل .. شو عرفها اصلا ..
كفيه تعانقان كفيها : تحلف انه اعتدى عليها .. وحارب حالته لا تسر عدو ولا صديق .. واخوج راسه والف سيف الا يتزوجون ويدارون هالفضيحة ..
" فضيحة شو " .. قالتها والدته وهي تقف على الباب .. ليعقد هو حاجبيه .. وتردف هي : السموحة الوقت الظهر واكيد مب راقدين .. يايه اقولكم الغدا زاهب ..
تعتصر كفها بغضب اتضح له .. ليقف ويحث الخطى خلف والدته : اميه مب حلوة انج ادشين علينا الحجرة بهالشكل .. حتى ولو الوقت مب وقت رقاد .. شيء اسمه باب ..
لتقف صارخة به : والله وطلعلك اللسان .. وتعلم امك السنع ..
استغفر ربه .. وقبل رأسها : السمووحه يالغالية .. بس ما يصير هالشيء ..
- توبة اعيدها .. ارتحت .. روح استسمح من الشيخة عن تزعل علينا بعد ..
هذه هي الحياة التي ابتعدت عنها شهر وشيء من الايام .. وهاهي تعود من جديد .. واليوم هي اضعف عن ذي قبل .. لن تحتمل كما كانت .. وحملها يتعبها وجدا .. سمعت الحديث الذي كان بين فارس وبينها .. ساخرة منها .. الا يكفي انها هي ايضا تعاني في كل مرة تنتظر فيها مولودا لا تكتب له الحياة .. اوليست ذات احساس .. تنهدت وتبعت خطاهم ..
,‘,
يــتــبــع |~