كاتب الموضوع :
اسطورة !
المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
رد: زفرات ملتهبة ، للكاتبة : أنآت الرحيل
,‘,
الشعور وكأنك تقف على سطح من زجاج .. مرتفع حد السماء ... وترى الحجارة ترشقه من اسفله ..هو شعور قاسي .. يبعدك عن الراحة .. كان هذا شعورها في تلك الدقائق .. تعبت من تجاهل الحجارة المرمية كُل حين .. وهاهي إحداها وصلت الى قدميها .. ليهتز السطح .. كهتزاز بركة ماء راكدة بنسمة هواء قاسية .. ابتسمت وكأن في داخلها صوت يخبرها ان لا بأس .. ما سيكون سترضى فيه ..
ارتفعت اناملها العشرة الى وجهها تمسح ما انسكب .. وتحرر الشعر وتعود تأسره .. وهواء غزير اغدقته في رئتيها .. وهو فقط ينتظر في صمت تلك الدقائق .. ليأتيه صوتها وقد شبكت ذراعيها على صدرها وكأنها تخبر ذاتها ان القوة ستكون .. والضعف يجب ان يقبع بعيدا .. فلا مكان له الان في حضرة كشف المستور : قبل ما اتكلم .. وقبل ما اقول شو صار .. اريدك تعرف شيء .. اللي بتكلم عنها انسانه ميته .. انا بنفسي قتلتها ..
تزدرد ريقها تنظر بعيدا عنه .. تبلل شفتها السفلى بلسانها وتزمها مع شفتها العليا .. وتتابع بهدوء مصطنع : وهي فحياتي ذكرى سوده .. كل ما تمر علي احس اني محتاية ابعد عنها اكثر واكثر ..
ارتفع بصرها على حركة جسده .. ليفعل كفعلها .. وبخلافها اسند ظهره اكثر : عندك وقت تسمع ؟ لاني بقول كل شيء .. اشياء محد عرفها حتى اهلي .. لانهم قفلوا الموضوع ع الشيء اللي وصلهم .. ما حبوا يسمعوا مبررات مالها داعي .. لان الادلة كانت كافيه انها ما تخلي مكان ليّ انا عشان اتكلم ..
" تكلمي " .. أمر منه ازعجها .. حتى ذاك الهدوء المخيف الذي يحيط به يضغط على انفاسها .. ليعود نظرها ينخفض وكأن بها تريد إيهام نفسها ان لا احد هُنا الا هي .. لتبدأ الحكاية : انا درست نص سنة هني فالبلاد عقب ما خلصت الثانوية .. بس ما كنت راضية .. كنت اريد شيء يميزني .. شيء مختلف .. خبرت ابويه وامي الله يرحمهم اني اريد اسافر .. اريد ادرس برع .. نسبتي عالية وفلوسنا وايده والحمد لله .. بس ما رضوا .. لان يدي يقول البنات ما يطلعن بروحهن .. الموضوع وصل لفهد .. وقفني مرة وانا رايحة الجامعة .. كان نفس البيت يجمعنا .. عادي نسولف وييا بعض متى ما نريد بس باحتشام .. نعيش فقوانين اولها الاحترام .. وان صوت الصغير ما يطلع فحضرة الكبير الا اذا انأذن له .. بس حياتي مع اهلي واخواني كانت غير .. صح نفس البيت .. بس فقسمنا كان شيء مختلف ..
تنهدت لتصمت ثوان .. تستعيد ماضي تشوه لاحقا .. لتحرك يمينها على جانب رقبتها بهدوء وتعيدها بعد هنيهة لمكانها : كل البنات كانن يشوفن فهد واحد اناني ومتعنطز .. وانا منهن .. بس ذاك اليوم وقف وقالي .. تبين تسافرين وتدرسين .. مستعد اقنع يدي .. واقنعه – تنهدت بقوة - بس كل شيء راح خلاص ما بقدر اقول واتمنى الحين انه يا ليته ما اقنعه .. لان مستحيل نرد لورى ..
لينطق وكأنه يستحث سكوتها ليغادر : وسافرتي .. مثل اي طالبة رايحة تدرس برع .. متحمسة وخايفة فنفس الوقت ..
ابتسامة تراقصت على شفتيها .. أهي سخرية مما كان .. أم هي ألم تحاول أن تكبته فظهر بابتسامة باردة : هيه .. اول سنة كنت فحالي .. ما احتك بحد الا اذا هم بغوا شيء او انا بغيت شيء .. وتعرفت ع بنت من هني .. بنت ناس لهم وزنهم فالبلاد .. صرنا دوم وييا بعض .. كانت وايد تتكلم عن مشاعر الاعجاب للشباب اللي يدرسون ويانا .. ولقيتها فيوم تقولي عن شاب التحق بجامعتنا تقول انها حبته .. اصله من السويد ..
خرجت منها ضحكة : الله يستر عليها .. ما كنت راضيه ع تحررها .. بس حبيتها و كانت تضحكني وهي تتكلم عنه .. وكنت وايد انصحها انها ما تختلط وياه .. ولقيتها صارت ما تحب تتكلم وياي عنه .. يمكن نفرتها مني ومن كثر ما احن عليها بالنصايح ..
هي اتقنت الصمت الطويل ولم تتقن البوح يوما .. وهو اتقن الصمت مع الاسئلة المستفزة كُل حين .. متناقضان بعض الشيء في لحظة الاستماع .. وكليهما لهما من السكوت مهنة .. والآن هو يكابد ان لا يستصرخها لتُكمل .. وهي تُكابد في استصراخ الماضي ان تعال واركع على شفا لساني لانبذك .. لارميك في مسامعه وارتاح منك ..
نبرتها بدأت تخفت .. يتسربل بها وجع دفين : كل شيء كان اوكي .. دراستي وصداقتي معها وحتى هذاك اللي كان يلاحقني وكنت اصده ..واقوله ان الحب مب فقاموسي .. صديته مرتين .. والثالثة ما كانت بالحسبان .. يومها كنت متضايقه منها هي .. يتني تقولي انه يحبها وان علاقتهم تطورت ..
رفعت نظرها إليه : تعرف يعني شو .. يوم اتيك وحدة تقولك عاادي اسوي اللي ابيه محد بيدري .. واذا بغوا يزوجوني بيي هني قبل اسبوع من العرس وبسوي ترقيع .. وهم يظنون اني بسلم ع ربيعاتي ..
عقد حاجبيه واكفهر وجهه : وانتي مشيتي ع كلامها ؟
هزت رأسها مرارا تنفي ما يقول .. تختنق الكلمات في جوفها .. تشعر بها تجرحها حين الخروج : عصبت عليها .. خسرتها .. ما تصورت انها توصل فيها المواصيل لزنا .. للحرام بهالشكل .. ذاك اليوم تضاربت وياها وخليتها ورحت لمحاضرتي .. كان كل تفكيري باللي سوته .. كيف قدرت ؟ كيف خانت ؟ .. كيف استسهلت الموضوع ؟ ..
تشدقت بابتسامه ناظرة الى عينيه : شبيب انت متصور شو كان احساسي ذاك اليوم .. اني اتخيلها ....
يعود نظرها ينخفض .. لتزدرد ريقها .. مستطردة : عقب المحاضرة فالكوفي ياني خبرني انه يحبني واني اعطيه فرصة يثبت هالحب .. وانه معجب باخلاقي .. توقيته غلط .. صرخت فيه .. اتمصخرت على شكله .. ويهه المشوه ولحيته اللي تبان كانها منتوفه .. قلتله .. ما ناقص الا واحد مثلك احبه .. ضحكت الكل عليه .. عرب وانجليز اللي وصلتهم الترجمة من اللي فهموا كلامي .. عمري ما توقعت في ناس تحقد مثل حقده بسبب هذيج اللحظة ..
" وكل شيء بعدها تغير " قالتها بخذلان .. وكأنها تخبره انها لا تقوى على المتابعة .. لا تقوى على الغوص أكثر في بحر اسود كبحرها الذي كان .. هي ليست بسباحة ماهرة في ذاك اليم الأليم .. فكلما لاح لها ابتعدت عنه مهرولة .. والآن هو يطمس رأسها عنوة تحت سطحه .. يجبرها على التقاط وساخاته .. انطلقت منها تنهيدة قاسية .. وهو بداخله فضول تراوده رهبة .. شيء بين اضلعه امسى يوجعه .. ينتظر منها تتمة الحديث باختناق السكون الا من انفاسه التي ظل يحاربها حتى لا تُرهبها فتهرب متوشحة بالصمت الدائم ..
- صرت القوية .. وصاروا الشباب يحترموني والبنات يطلبن صداقتي .. سنة حسيت فيها اني مرغوبة من الكل .. معروفة .. ونسيت الاهانة .. وما دريت ان باله طويل .. وانه يطبخ طبخته ع نار هادية ..
- منو هو ؟ .. وليش محطيه كل الحق عليه .. شو اللي صار وياج بالضبط ؟
اغمضت عينيها لبرهة .. لتطلق ذراعيها اللذان انهكهما احتضان صدرها ..شبكت اصابعها لتتلاعب بابهاميها بعنف .. تعود تتجرع ريقها الذي وكأن به جفاف سنين : لانه عرف كيف يدخلي .. كيف يعلمني شو معنى الاهانة .. رسم كل شيء بهدوء .. حتى البنات اللي قدرن يمشني ع هواهن عرف كيف يمشيهن لهالشيء .. صارن مثل الشياطين يوسوسن فراسي .. محد يشوف .. محد بيعرف .. تقدرين تسوين اللي تبينه .. واذا رديتي بلادج ردي مثل ما هم يبون .. عيشي حياتج ..
" وعشتها غلط " .. نطقتها لتنسكب دموعها .. تتقوس شفتيها بارتجاف .. وتتوالى شهقاتها الخفيفة المنهكة .. احمرار انفها وسيلانه .. ليتذكر هو حالتها في اول ليلة .. ورجفت جسدها .. ينظر إليها تحتظنه وكأنها تقول له كف عن الارتعاش .. كُن قويا حتى انتهي .. لا يعلم لماذا شعر بانقباض صدره .. لتنقبض كفه اليمنى ..وبغصة : شو صار ؟
راغبا هو بشدة في سبر اغوار ماضيها .. يقطب حاجبيه لاهتزاز رأسها متمنعة عن المتابعة .. ليترك مكانه ويربض بجانبها .. يحيط كتفيها بذراعه .. كم هي نحيلة الجسد .. ينحني يهمس بخفوت : قولي كل شيء ..
ظل مطوقا لكتفيها .. وهي تحكي احاديثها العتيقة بتعب .. حتى انفاسها كان يستشعرها لقربه منها .. يشعر بها تعتلج في صدرها مخلفة آه وتتبعها آه .. وفجأة مع آخر الاحاديث انسحب ذراعه .. شعرت به يتركها .. يتخلى عنها في تلك اللحظة .. واستمرت بالحديث .. لا ترغب بالتوقف بعد كل ما قالته .. لم تنظر إليه .. ولم تشعر لِـ إنحناء ظهره كرجل عجوز ارهقته السنين .. فانعكف كعرجون قديم .. لم تشهد قبضته التي كادت ان تخترق راحته باصابعه .. لم تشعر به الا وهو يقف .. يتحرك قليلا ويعود يقف .. لترفع رأسها تنظر إلى ظهره العريض .. تلمح كفيه الغاضبين .. انفاسه الحارقة بارتفاع كتفيه وهبوطهما .. سالت دموعها دون ان تتوقف .. وارتجفت شفتيها .. تطلب من الكلمات ان تخرج فتأبى .. ما بالها الآن لا تقوى على الحديث ..
حتى ركبتيها تجمدتا ولم ترغبا في ان تستقيم واقفة لتتبعه .. تستوقفه .. تطلبه العفو .. تخيلت نفسها تجري مهرولة تتشبث فيه .. تخبره ان لا يتركها .. لكنه اختفى .. وهي لا تزال قابعة مكانها تُغرقها مياه عينيها ..
,‘,
لاح جسده لوالدته لتناديه ولا يجيب .. فتقف من مقعدها امام التلفاز .. تتبعه للخارج .. فتراه وقد تسمر عند عتبة الباب الداخلي .. لتدنو منه : شبيب .. شو بلاك ما ترد علي .. وين رايح فهالساعة .. العصر باقي عنه وايد ..
آه يا أُمي .. لو تدركين عدد الخناجر التي اجتاحت صدري في تلك الساعة والنصف الماضية .. لما سألتي .. إن دمي يسيل .. الا ترين؟ .. أشعر وكأن جلمود صخر كبير يجثم على صدري .. لا والله انه لاكبر من ذلك بكثير ..
سحب انفاسه بقوة حتى اخافها .. لتترك خلفه وتجانبه .. تنظر لوجهه .. وبخوف : شو مستوي ؟
أسمحي ليّ يا أماه أن اكذب .. فأماناتي ثقيلة .. أسمحي ليّ واستغفري ليّ ذنبي .. لستُ قادر على البوح .. ولستُ قادر على الرجوع إليها .. أماه تلك اهلكتني .. رمتني برصاصات مسمومة وسُمها أخشى ان يطول ..
دنى منها فجأة قبل رأسها واطال اللثم .. ليدسه في صدره : عندي مهمة .. ادعيلي بالتوفيق .. بغيب عنكم ايام .. سامحيني مستعيل ..
ليبتعد عنها بخطواته .. ويعود ادراجه بسرعة حين تذكر انه لا يحمل مفاتيح سيارته .. وهي تجمدت في مكانها .. وبعد ثواني لحقت به .. دون استأذان ولجت من بعده .. فأي استأذان سيخطر على بالها في هذه اللحظة .. توقفت وهو تابع طريقه الى غرفته دون ان يلتفت .. نظرت الى تلك السابحة في دموعها .. لم تأبه لها .. واستوقفته قبل ان يخرج .. تسد الباب : شبيب لا تخوفني عليك .. انت فاجازه .. خل غيرك يروح مكانك .. اي مهمة الحين فذي الساعة .. ومن متى تخبرني عن مهماتك ..
ارتفع بصر تلك إليهما تلتقط الحديث .. تسمعه خافت وبه طنين مُريب .. وصوته وكأنه يخرج من بطن بئر : اميه خوزي عن الدرب .. وسلميلي عليهم .. وادعيلي ..
تنحت بفعل يده .. بعد ان قبلها .. وغادر .. بكل بساطة اختفى من المكان .. وقلبها كَـ قلب أي أم قرع طبول الخوف .. حتى لتكاد تقسم انه اوجع اضلعها .. تبادلتا النظرات في ضياع .. ومن ثم تركت والدته المكان .. وفي داخلها وجع لا تعرف كيف تتخلص منه .. يخيفها الغياب .. غاب ذات مرة وعاد بجثة ابن عم واصابة ساق .. وغاب قبلها كثيرا .. وكم ان خوف تلك الليالي لا يُطاق ..
لم تشعر الا بقدميها تدلفان غرفة والدتها المفترشة الارض .. تدس اسفل رأسها سجادتها بعد ان طوتها .. نائمة في سلام قبل صلاة العصر .. لتركع امامها .. تهمس بوجل : امي .. امي ..
" بسم الله الرحمن الرحيم " .. بفزع تبعثرت من ثغر الجدة وهي تحاول ان تجلس من مرقدها .. لترى وجه ابنتها المكتظ بالكثير : شبلاج ؟
- ما بقوى ع فراقه ياميه .. شبيب راح .. ويهه خوفني .. يقول مهمة ومن متى هو يخبرنا عن مهماته .. خبريني ياميه .. من متى ؟
تحوقلت .. تسحب عصاها من جانبها : وينه ..
" راح " .. قالتها ولم تأبه لها والدتها .. لتقف مستندة على رفيقتها .. تسمع ابنتها : وين رايحه .. اقولج راح ..
هي الاخرى شعرت بالخوف .. لم تعر كلام ابنتها اهتماما .. تابعت المسير .. منذُ يومين عانوا ما لم يعانوه قبلا .. وهي لا ترغب بالمعاناة من جديد .. ولجت الى قسمه .. الباب مشرع .. وتلك لا تزال في مكانها .. وكأن بها صنم .. صدمة ما احلت بها .. كيف استطاع ان يسمع كُل ما تفوهت به .. جميع تلك القذارة .. وتلك النجاسة التي عاشتها اطلقتها على مسامعه ليعيشها .. وكيف به احتمل حتى آخر حرف .. سحبت انفاسها وكأنها تفيق على صوت نداء تلك الواقفة امامها .. يرتفع رأسها .. تخر دموعها اقوى عن ذي قبل .. لم تجد نفسها الا وهي تنسل من كنف الكرسي الى الارض على ركبتيها .. وتحتضن بقوة العجوز من وسطها .. تدس رأسها في فخذيها ..
تترنح في وقفتها ولا تجد بدا من الاستناد اكثر على تلك العصا .. وكفها الاخر يحاول ان يلتقف رأس ريا .. تسمع نحيبها ومن ثم صوتها المبحوح : بموت ياميه .. حاسه قلبي بيوقف .. مب قادرة اتنفس ..
لتسمي عليها باسم الخالق وجدا .. وتتمتم بايات ربها وبالدعاء .. تستحث الاخرى لتجيب تساؤلاتها : شو اللي مستوي .. بلاكم انعفستوا ؟ .. وشبيب وينه ؟
لم تشعر الا بصوت ابنتها من خلفها : شبيب مب رايح مهمة مثل ما قال .. واي مهمة رايحلها بكندورته .. اكيد اللي فيه من وراها ..
لتصرخ وهي تتحرك تقف بجانبها : تكلمي .. شو اللي استوى بينكم خلاه بهالشكل .. كله من تحت راسها .. سوسه خربت حياة ولدي .. الله ياخذج ..
لتلجمها والدتها صارخة بها : بسج .. وشبيب ما فيه الا العافية .. ولا تحطين كل شيء ع راس هاليتيمة ..
تشد اكثر على ساقي تلك العجوز .. تقاوم الاصوات .. والاتهامات الصائبة .. تدس وجهها الحار لتخفيه وياليتها تخفي اذنيها حتى لا يسمعان .. لم تجد نفسها الا تبتعد فجأة .. تحرر العجوز من قبضتها وتقف .. تسمع شمسة وهي تديرها من ذراعها لتقابلها وجها لوجه : تكلمي .. شبيب شو بلاه ..
تدوس على اختناقها وضعفها : مثل ما قال .. عنده مهمة ..
لتتركهما وتبتعد مهرولة .. تلج الى الغرفة وتغلق الباب .. تدير المفتاح مرتين .. تنظر اليه.. تسمع صوتيهما .. صراخ شمسة بالدعاء عليها .. هي تستحق المزيد .. انتحبت .. وابتعدت للوراء بخطوات خائفة .. ترغب بتلك الاصوات ان لا تصل .. تسد اذنيها
بكفيها وتتابع الابتعاد .. حتى توقفت الاصوات فتوقفت ..
,‘,
الخوف ذاته الذي تشبث بصدر شمسة تشبث ايضا بصدر حفصة .. ولكنه اقل حدة .. تحاول ان تعلم سر مكوث مها في منزلهم اياما .. ولكن لا يأتيها جوابا يشفي ما يلتهب في فكرها من ظنون .. تقف تنظر الى تلك الخادمة التي امرتها ان تنظف الغرفة لتستقبل فيها ليلى وطفلها .. واذا بها تتنهد حين وقعا كفي مها على كتفيها من الخلف .. تطل من اعلى كتف خالتها اليمين : مستانسة انها بتطلع اليوم ؟
تنهدت براحة لتربت على كف مها : واايد .. ويالسه اتريا الساعة توصل خمس مب طايعة توصل ..
ضحكت وهي تبتعد عن خالتها : بتوصل .. ولا بتحسين الا وهم طابين عليج ..
تركتها وادبرت .. واذا بها تستوقفها .. تقترب منها وتمسكها من كفها حتى ابعدتها عن الباب تفوهت : مها .. مستوي شيء بينج وبين سلطان ؟ انتي قلتيلي فيه شيء ذاك اليوم فالدختر .. والحين تقولين ما مستوي شيء .. وعمج يدري ومب طايع يخبرني ..
ارتسمت على وجهها ملامح حزن .. لا تعلم بماذا ستسكت خالتها : خالتي .. كل السالفة ما قدرت افهمه .. قلت ابعد عنه شوي وافكر ..
" وان ما قدرتي .. بتطلقين ؟ " .. أي سؤال صعب قُذف من فيه خالتها .. ليضطرها للوجوم .. ظلت واقفة مكانها ترقب انسحاب حفصة .. تسمع صوت مبارك المجلجل بفرح .. ليلى هنا .. ابتسمت .. سحبت انفاسها مرارا .. لا ترغب بالتفكير في الموضوع الآن .. اصواتهم الفرحة تخترق ابواب المنزل .. صوت حمد المرحب وجدا بذاك الصغير .. وصوت خالتها .. ومبارك الصارخ بهم يرغب في حمله ..
زادت ابتسامتها وهي ترى دخول خالتها تحمل بين ذراعيها خالد .. وتلك من خلفها تمشي الهوينة وبها ضعف يكاد يبين .. وشحوب ارتسم على وجهها .. لتتحرك تنحني تقبل الصغير بين ذراعي جدته .. وتسارع تمسك ليلى وتقبلها : الحمد لله ع السلامة .. نور البيت بالحامل والمحمول ..
بادعاء السخط نطقت : يا سلام يعني الحين كل هالترحيب لامي وخلودي .. وانا مالي نصيب ..
لتضحك وهي تشد على كتفي ليلى احتضانا .. وتقبل وجنتها : انتي النور كله يا ام خويلد .. عاد المشكله اني عرست والا كنت بحجزه لي ..
لتهز الاخرى رأسها تمشي الى الصالة حيث والدتها جالسة وفي حجرها صغيرها .. تلاعبه وكأنه يفهم ما تفعل .. تفر من عينيها دمعة على صوت ابنتها : ومن قالج بعطيج اياه .. هـ...
لتبتر حديثها على رؤية دمع والدتها .. تتخذ بجانبها مكانا : ياميه شو له الدموع الحين ؟
يلتفت مبارك لوجه والدته بعد ان كان منحنيا ينظر لخالد : ليش تصيحين ؟
تكفكف الدمع بطرف " شيلتها " .. وترفعه لتقبله : ذكرني بخاله ..
حتى افراحنا كثيراً ما تجلب لنا من ماضي الحزن حفنة .. تبعثرها فتدمع لها العيون .. وهو وإن غاب عن الوجود لا يزال في قلبها ساكنا .. ارتفع مبارك : بروح الميلس ..
ليحث الخطى للخارج وترقبه مها حتى اختفى .. لا تزال على وقفتها .. تنظر إلى حالهما كيف فجأة تغير ليكسو وجهيهما فرح ومداعبات .. وتقطب حاجبيها على صوت بكاءه .. وصوت خالتها الطالبة من ليلى ان تطعمه .. واذا بها تلتفت للوراء حين وصلها صوت حمد ينبأهم بأن جابر معه .. تعدل " شيلتها " متحجبة بها جيدا .. وتنحت بعيدا عن المدخل .. ليدخل ملقيا السلام وتجيبه بهدوء من ثم تنصرف ..
تصعد الدرجات وضحكاتهم تُجبر شفتيها على الامتداد .. حتى ما وصلت غرفتها وولجت .. وقفت لبرهة تنظر إلى هاتفها .. لا يكل من الاتصال .. ثلاثة ايام وهو يزعجها .. ابتلعت غصة داهمتها .. إيستخسر عليها ان تحيى حياة زوجة .. حياة أم ؟ حياة تمنتها قبل ان يصدمها واقعها ؟ ..
سحبت انفاسها مغلقة الباب من خلفها .. وتترك السرير يحتضنها .. لتمتد يدها تسحب ذاك القابع على الفراش الوثير .. تفتح سجلات الاتصال .. ومن ثم الرسائل .. لتبدأ بهن من آخر الوصول حتى البداية .. يبدو غاضبا .. يهددها في آخر رسالتين ان لم تجبه ليفعل ويفعل .. وفي أول ثلاث رسائل كان الرجاء واضحا .. تبسمت بهدوء .. تخط له : سلطان نسيت شرطي .. كل ما قربت انا ببعد اكثر .. والمدة بطول وبطول .. خلك ع قد الاتفاق وانت اللي بتربح .
ارسلتها لترميه .. وتقف تختار لها ملابس من دولابها .. ستستحم قبل دخول وقت صلاة المغرب .. وسترمي تلك الافكار التي تحوم حوله بعيدا .. رمت بما في يدها على السرير وتنهدت تنظر الى الهاتف .. صمته يخيفها .. ام هو الشوق الذي اربكها .. ليحركها وتسحبه تتأمله ليهتز في يدها مصيبا اياها برجفة خوف طفيفة .. تغزوها ابتسامة : وعليكم السلام .. هلا والله بكنون ..
على عتبات المطبخ جلست الاخرى .. ترقب تحرك قمم الاشجار بسبب الهواء المداعب لها : اخبارج مهاوي ؟
سؤالا ثرثرت تلك على غراره بالكثير .. تناست الوقت الذي بدأ يزحف مقتربا من ساعة الاذان .. تُحاكيها وكأن بها شوق لوجهه الممتعض .. ونظراته المستفزة .. حتى صوته بات يزورها وهي في منامها : ما اعرف لوين بنوصل يا كنه .. بخبرج بشيء ..
قطبت حاجبيها : شو ؟
- حاسه اني مشتاقتله .. شكلي بدون ما احس تعلقت فيه .. انج تكونين اربعه وعشرين ساعه مع حد وفجأة تبعدين .. شيء صعب .. انا احسه صعب ..
" بترديله ؟ " .. تبعثرت تلك الحروف من بين شفتي كنة .. لتصمت مها مطولا .. وتستطرد الاخرى : شو ؟ .. ليش ساكته ؟ ..
تغتصب ابتسامة فاترة .. وتبلل ريقها في محاولة للبحث عن جواب .. انفاسها تتزاحم مودعة الاكسجين في رئتيها لجزء من الثانية .. لتعود تلفظه بعيدا : لا .. لازم اتيي منه مب مني .. لازم يعرف غلطه .. شكه .. كلامه عني .. عقله المريض لازم يتعالج .. من الاسبوع الياي بداوم ..
" شو ؟ " .. اطلقتها الاخرى بحنق .. لتقف : لحظة مهاوي .. خلج وياي بروح حجرتي وبكلمج ..
تخطو مبتعدة نحو المنزل .. تلج واذا بصوت والدتها مع جدتها يصل اليها .. لم تكف والدتها عن الكلام منذُ خروج شبيب .. وكأن هناك خطب ما قد وقع .. وليس عملا مستعجلا اضطره للخروج .. طوحت برأسها وتابعت السير .. لتدلف الى غرفتها أخيرا .. تغلق الباب وتتربع بعد ذلك على سريرها : مهاوي بعدج ع الخط ؟
ليأتيها جواب مها .. وتتابع : شو اللي يالسه تسوينه ؟ .. يعني انتي مدبره لكل شيء قبل ما تخلينه .. صح والا لا ؟
- باقي توقيع العقد وببدا الشغل .. انا مخبرتنه قبل انهم طالبيني فالبلدية .. وانا ما درست عشان ابقى محبوسه فالبيت .. كل اللي ما كان يعرفه اني مطرشة اوراقي لهم ومنتهيه من كل شيء .. خليه يتفاجأ .. ينصدم .. يسوي اللي يسويه .. هذا شرط من شروطي وهو راضي فيهن كلهن ..
- خايفة تخربين حياتج بعنادج .. من شوي تقوليلي انج تعلقتي فيه .. بتقدرين ع الفرقى يا مها ؟ .. الفرقى مب سهله .. والنسيان صعب ..
قامت لتحث الخطى نحو النافذة تفتحها قليلا لعل صوت المؤذن للمغرب يتسرب إلى مسامعها .. وتستند بظهرها على الجدار .. متحدثة بهدوء : اذا حياتي بتنخرب فمنه هو .. واللي ربي كاتبه لي برضى فيه يا كنة .. صعب مب صعب كله باجره .. ببني حياتي وياه والا بدونه .. مب ضعيفة عشان استظل بريال دووم .. وان غاب ما اعرف اتصرف .. واثقة فقدرتي وهالشيء مسهل وايد اشياء علي ..
تسارع بالحديث لتنهي تلك المحادثة : كنون ياليت اللي يكون بينا محد يدري عنه .. ترا خالتي للحين ما عندها خبر باللي صار بين عمي وسلطان .. اخليج الحين .. أذن المغرب ..
,‘,
في البعيد تملكه غضب كاد ان يجهز به على اثاث شقته .. انفاسه ثائرة حتى وكأنها ستخنقه من كثرتها .. أتخبره بأن يلتزم ؟ .. وأن اقترابه يزيد الابتعاد من جهتها ؟ .. كيف لها ان تكون بهذه القوة التي لم يلحظها منذُ أن ظلهما سقف واحد .. مسح بيده على وجهه مرارا .. وقد استند بعدها على " التسريحة " التي خلت مما عليها الا من قنينة عطر تمسكت بها فلم تقع للارض ويتبعثر شذاها كرفيقاتها .. مغمضا عينيه .. يحارب تأجج أنفاسه .. ليفتحمها ناظرا الى انعكاس صورته .. شعره الاجعد المتبعثر على جبينه المتعرق .. واحمرار عينيه .. ارنبة انفه المتحركة سخطا ..
عاد بنظره الى كفه القابضة على هاتفه حتى كادت ان تهشمه .. ليبتعد بعدها راميا به على السرير وتاركا المكان للصالة .. وما هي الا لحظات حتى عاد على صوت رنينه مهرولا .. وكأن به متأملا اتصالا منها .. ليرفعه ناظرا الى الشاشة ويكتنفه تجهم .. لينبعث صوته بخمول : الو .. وعليكم السلام .. هلا ابويه .. شحالك وشحال امي واخواني ؟
غاضبا والده اشد غضب .. ويحاول ان لا يفجره في وجه سلطان : كلنا بخير ولله الحمد .. انت وينك ؟ من عرست لا شفناك ولا ييتنا ؟ عنبوك ولا كأن لك اهل .. ام تبي تشوفك واخوان يسألون عنك .. وبنت عمك ليش ما تيبها تزورنا .. مستكثر يومين في الاسبوع اتيي فيهم .. حتى اتصال ما تتصل الا اذا احنا اتصلنا ..
تشد انامله على شعره للوراء : مشغول .. ما احصل وقت .. والطريق مب هين ..
" لا تيلس تتعذر .. وكلام ما منه فايده " .. قالها بنبرة ساخطة .. يتلوها : عقب اسبوعين عندنا عزيمة هني .. وانت وبنت عمك تكونون اول الحاضرين سامعني ..
وبعد صمت : عطني اكلمها ؟
ليبلع ريقه .. مغمضا عينيه : مب هني .. راحت تزور خالتها ..
" يعني تعرف حق الزيارات اشوفها " .. ليأتيه صوت سلطان بعد ان ضاق ذرعا بحرب والده عليه : ابويه مها زعلانه علي .. ومخليه البيت من اسبوع .. كيف تباني ايبها لكم .. خبرني .. ترا والله مب عارف لبنت اخوك .. ما هقيتها بهالعناد .. لا وبعد تحط شروطها علي .. علي انا .. و....
ليقاطعه : انت شو مسوي ؟ .. ولدي واعرفك .. مأذينها ؟ مسوي فيها شيء .. يا ويلك يا سلطان اذا ضايمها ..
" أووهووو " .. قالها بعصبية .. مُردفا : الحين انا يالس اقولك اللي صار مب عشان اتهب في .. شوفلك صرفه وييا بنت اخوك .. مب انت اللي قايلها بتوقف وياها .. شوفها وين وصلت فيها بسبب كلامك لها .. شاده الظهر فيك ..
استغفر ربه .. ومن ثم تحوقل : اسمع يا سلطان .. الاسبوع الياي ان شاء الله انا عندك .. ومها ما تخلي بيتها الا اذا وراها شيء ..
ليغلق الهاتف .. ويرمي سلطان هاتفه من جديد على السرير .. مسقطا ظهره للوراء .. نافثا انفاسه : الله ياخذ الساعة اللي شفتج فيها .. الله ياخذج ..
يسد فيه بانامله التي ابيضت من قوة الضغط .. في داخله بركان ثائر .. لا يعرف لاخراجه من سبيل .. ليغفو دون شعور منه ..
حين هدأت روحه بعض الشيء .. وبعد أن صلى العشاء جماعة في أحد المساجد .. رفع هاتفه الذي لم يفتئ من الرنين بصمت .. تمنى لو انه لم يصلحه .. لكانوا عذروا له عدم رده .. يأتيه صوت والدته الخائف تستجوبة .. تهيل عليه كم من الاسئلة المعاتبة .. لينطق يحاول ان يستجلب نبرته المعهودة لهم : يا اميه شو بلاج قلبتي الدنيا .. هيه نعم ما كنت اخبركم .. بس هذي مهمة عادية ما تبالها سرية ومادري شو .. ولا هي خطيرة .. بس هذي كل السالفة ..
جميع الحواس كانت مشدوهة لها .. وهي جالسة تحادثه : انزين كم بتاخذ ؟ .. يوم اثنين .. اسبوع .. خبرنا عشان ما نحاتيك ..
- كمن يوم .. ما بطول .
يسمع صوت جدته تطلبها الهاتف ليبتسم .. ويأتيه صوتها الحنون : يا ولدي دير بالك ع نفسك .. وتوكل ع ربك ..
أغمض عينيه يستشعر دعاءها .. يرغب بكل كلمة تقولها .. يرغب بالتوفيق وسداد الخطى .. يرغب براحة البال .. وبالكثير الكثير .. انتهى حديثه معهما .. هو انهاه لان لا رغبة له بقول المزيد .. ولا يعلم إلى أين ستقوده الخطى في هذه الساعة .. قاد سيارته متخبطا في الطرقات .. وما إن وشك الوقود على النفاد حتى حول طريقه إلى أقرب محطة بترول .. ينتظر دوره مع زحمة المكان ..
يعود بفكره إلى ساعات ماضية .. إلى صوتها المرتجف .. وجسدها المنكمش .. يعود وكأن به هناك يسمعها من جديد .. تتوارد عليه كلماتها التي كانت ترمي عليه بسلاسل من حديد .. فتقيده عن كل شيء .. يشد على جسدها النحيل .. مستمعا لثرثرتها المهلكة لبقايا أمل يرتجيه : كل شيء كان غلطة .. غلطة ثقيله يا شبيب .. بديت اطلع شوي من شعري .. وشوي شوي طلعته بالكامل .. كل يوم اشوف نظرات الاستغراب من الكل .. حد يشجعني وحد بدا يبتعد عني .. بس ما اهتميت .. كان شيء فداخلي يقولي كملي .. ما فيها شيء .. عيشي مثل البقية .. بس لا تتمادين مثل غيرج .. وتماديت ..
تزدرد ريقها بصعوبة قاتلة : ماعرف وين كان عقلي .. وين كانت تربيتي .. وخوفي من ربي قبل كل شيء .. تماديت اكثر واكثر ... وصرت البس الضيق والقصير والفاضح .. حتى شخصيتي تغيرت .. انغريت .. اشوف اني واو وغيري ولا شيء .. نظرات الشباب لي كانت تعيبني .. تقولي اني مرغوبة .. اني حلوة وفي جمال ..
تتابع وكأن لا أحد بجانبها يتقطع غضبا من حروفها : صرت اميل للشباب .. ايلس وياهم اكثر من يلوسي وييا البنات .. تصير حفلات وكنت اروح وياهن .. فالبداية كنت اخاف من الحفلات المختلطة وكنت ما اروح الا لحفلات بنات بسيطة .. بس بعدين تجرأت ورحت .. وحسيت انهن شيء عادي مثل اختلاط الجامعة .. بس هني رقص وغنا ..
صمتت تشد على كفيها .. لتعقب : وشرب ..
القرع الخفيف على زجاج نافذة سيارته أعاده للواقع .. ليفتحها ومن ثم ينتشل محفظته من الصندوق الصغير بجانبه .. يُخرج مائة درهم .. ويناولها للعامل .. وما هي الا ثواني حتى اعاد له ما تبقى .. ليبتسم في وجهه شاكرا له .. ومن ثم انطلق .. ولا يزال لا يعلم هُدى لسبيله ..
,‘,
أما هي فلم تخرج من بعد ما حدث .. اغلقت باب الغرفة لتختلي بذاتها المتعبة .. جلست على سجادتها وجدا وهي تصلي العشاء .. شعرت بالخمول وبتنمل في اطرافها .. حتى ما اخذ منها الجلوس كُل مأخذ ، قامت لترتمي على سريرها .. تطبق بكفيها اسفل وجنتها اليمنى وتطلق العنان لدموعها .. يعود لها الماضي الذي القت به في مسامع ذاك المبتعد ..
منبوذة كانت .. الجميع ينظرون إليها نظرات الخزي .. نظرات بشعة لم تعد تقواها .. جالسة في نهاية ذاك الكنب الطويل .. متكومة على ذاتها .. فقط الصمت يلفها .. تشعر بدخول والدتها للمكان .. وجلوسها .. تنتظر منها ان تبعثر ما في صدرها من حديث .. كغضب الاخرين الذي لم يفتأوا برميه عليها ..
" عايبنج حالج وحالنا الحين " .. صوت والدتها اجبرها على أن تطأطيء رأسها أكثر .. لتستمع لباقي الحديث الجارح لها .. والطاعن لصدرها بقسوة : وين كان عقلج .. وين تربيتنا لج .. كل هذا نسيتيه .. ما هميناج .. اختج كل يوم متمشكله وييا ولد عمها بسبة اللي صار .. يقول بيطلقها ..
صمتت لتستغفر ربها .. وتتابع : تمنيت لو ابوج ما عطاج الا كف وسكت .. تمنيته ضربج بالعقال الين تحبين التراب .. بس شو نفع الضرب الحين .. طلعنا من البيت اللي عشنا فيه سنين .. ويينا هني .. اهل ابوج تخلوا عنه .. واختج ريلها بيخليها .. واخوانج الصغار .. هذيلا شو ذنبهم يربون لا يعرفون عيال عمهم ولا عيال عمهم يعرفونهم ..
" لا تزيدين عليها .. اللي سوته بيقى درس ما بتنساه طول عمرها " .. دخوله وصوته وجملته تلك جعل منها طفلة تخبيء وجهها بذراعيها وتبكي .. فقط تبكي .. لعل الدموع تغسل الذل وتطهرها .. لتفز على اصوات النداء في الخارج .. تعرف تلك الاصوات جيدا .. اعمامها هنا ..
تقف تمسح وجهها وترى ارتعاد والدتها .. وتحرك والدها لفتح الباب .. ليدفعوه اخوته الى الداخل : وينها ؟ .. وين بنتك اللي سودت ويوهنا .. وينها ؟
وصوت اخر يهدد بقتلها .. وهو يقف يمنع دخولهم اكثر .. لتدفعه اجسادهم حتى لاحت لهم في الصالة .. تقع عينيها في عيني غانم .. لتزلزلها رهبة تجبرها على الاقتراب من والدتها التي غطت وجهها بـ " شيلتها " .. يهجم عليها ويشدها من ذراعها تحت صرخاتها .. ليجد عيسى يمسكه ويسحبه عنها .. ويقف من جديد حائلا بينها وبينهم .. تتشبث بظهره بقوة .. تستشعر صراخ والدها في وجه اخوته الثلاثة : مالكم حق فيها .. البيت وخليناه لكم .. وبنتي وانا اللي بربيها ..
- لا والله وعرفت تربي يا عيسى .. ونعم التربية ..
سُخرية حديث .. وافواه تتكالب لتنهش لحمها .. ووعيد بقتلها لشفاء الغل الذي استحل الصدور .. يدور معها حتى اضحت في خارج الصالة وهم في داخلها .. وعيسى يسد الباب بذراعيه : خذي السويج من مخباي ( جيب ثوبه ) ..
يصرخ به احدهم : عيسى ابعد وخلنا نتصرف ..
ليصرخ هو بدوره فيها .. حين لم يجد منها استجابة : شلي السويج وطلعي يا ريا ..
ارتجفت لتفك قبضتيها من ثوبه بخوف .. تدس يدها المرتجفة في جيبه .. لتخرج المفتاح .. واذا بيد احد اعمامها تلتقط كفها حين غفلة من والدها .. فيسقط المفتاح من بين اناملها حين دفعه عيسى بعيدا .. وتنفجر هي باكية .. تسمع صرخات من والدتها : طلعي يا ريا .. طلعي .. شردي عنهم ..
هرج ومرج بين والدها واخوته .. وهي استغلت الوضع لتلتقط المفتاح عن الارض . وتهرول مبتعدة .. تصعد سيارة والدها وتنطلق دون هُدى .. الصورة ضبابية امامها .. والطريق ازدحم بالسيارات .. تنتحب وتقود بهلع ..
" صدق ابوي فاللي قاله " .. جملة اطلقتها بعد سرد ذاك الحدث .. مُردفة : يومها مالقيت نفسي الا فمركز الشرطة .. اصرخ فيهم .. بيقتلوني .. كنت فحالة ما يعلم فيها الا ربي .. هناك لقيت ابوك الله يرحمه .. ساعه كاملة يلس يحاول يهديني .. يحاول يطمني .. وتفاجأت لما طلع يعرف ابوي الله يرحمه ..
ابتسمت بخفوت : جمعهم فذيك الليلة .. قالهم ان صار في شيء ما يرده عنهم الا الحبس ..
يقاطعها : وكل هالشيء صار بس عشان انج كشفتي شعرج وجسمج ؟
سحبت احدى الوسائد لتضمها إليها وجدا : ياليتني ما كملت .. ياليتني ما جاوبتك ..
انتحبت وهي تستصعب تذكر ثرثرتها .. كيف استطاعت ان تبوح بسواد افعالها .. انهكتها الدموع فنامت .. لتستيقظ على صوت اذان الفجر الذي اخترق هدوء الغرفة الحارة .. متعرق جسدها وجدا .. لم تشعر بحرارة المكان .. كُل ما كانت تتمناه ان تنام وتفيق وكُل ما حدث يذهب ادراج الرياح ..
بعد الغياب هُلعت قلوبهم .. وتزاحمت على العقول التساؤلات .. لماذا ؟ ومالسبب ؟ .. و على مسامعه تُثار كلمات الخوف من شمسة .. كأن به يعلم أين هو صاحبه .. يقف ثم يتحرك في ذات المكان في ساحة منزله.. يأتيه صوتها القلق .. تنبعث منه رائحة الخوف من لا شيء : الله يخليلك خالد تخبرني وينه ؟
زفر انفاسه للمرة الألف في تلك المحادثة .. فتلك لا تستوعب مبرراته .. وهو ذاته لا يعلم كيف يستطيع استيعاب ما حدث : يا ام شبيب .. والله المهمة ما تخوف .. كم يوم وبيرد لكم سالم غانم ..
يرتفع بصره لشقيقه الذي اقتحم الساحة قادما من الخارج .. ليقف يقطب جبينه محركا رأسه كأن به يسأله ما الامر .. ليقف يستمع لبقية الحديث من فيه : لا حول ولا قوة الا بالله .. يا اميه شو بلاج .. لا تكبرين السالفة .. شبيب بخير ولا فيه الا العافية ..
يتجهم وجه بطي اكثر وهو يستمع لصراع جابر في اقناع شمسة .. حتى ما انتهى مغلقا الهاتف : شو اللي صاير ؟ شبيب شبلاه؟
ترتفع يساره تدلك صدعيه بتعب : من امس ماله حس .. طلع قبل العصر من بيتهم ومخبرنهم ان عنده مهمه .. وطرشلي مسج قبل المغرب وانا فبيت عمي يقولي اييب كلثم من بيت امها واخبر اهله ان عنده مهمة .. سكر فونه عقبها ..
- هو مب فاجازة ؟
- هيه .. ما ادري عن اي مهمة يتكلم .. اصلا اذا في شيء اكيد بيكون عندي خبر ..
يرن هاتفه فجأة ليمتعض راميا به في كف بطي : رد عليه .. ذلوني بالاسئلة .. بقوم اتلبس اروح اييب كلثم ..
" تعال " نطق بها بطي حين ولاه الاخر ظهره .. ليتنهد مجيبا : وعليكم السلام .. حيالله منذر ... على حد علمي ما شيء اخبار عنه للحين ...
يقود سيارته بين الازدحام : كيف يعني ما شيء اخبار .. وين يابر .. هو يشتغل وياه واكيد يعرف وينه .. ترا البيت معفوس .. وشمسة مقومة الدنيا وما قعدتها .. مب فايد وياها كلامنا .. انا من صوب وامها من صوب .. حتى بناتها ما قصرن .. وراسها والف سيف الا صاير وياه شيء ..
" لحظة " .. قالها بطي وهو يشد الخطى للمنزل ليلتقي بجابر خارجا .. يمد له الهاتف : كلمه انا مب فاهم اي شيء ..
" هلا منذر " .. ويأتيه صوت ذاك : توني مكلم حارب وفارس .. يقولون ما شافوه .. باللا وين راح ذا .. عمره ما سواها .. الا يكون عندك خبر او عندي .. حرمته تدري عن شيء .. مسكره ع عمرها الباب من امس .. وشمسة تقول هي السبب .. والله يا جابر فرولي راسي .. والحين يالس ادور فهالشوارع كني ادور ياهل مب ريال طول بعرض ..
تحوقل .. وتنهد : مادري شو اقولك .. انا رايح اييب كلثم ..
" لا تروح " .. نطق بها واردف : بتردها البيت وهو معفوس .. خلها فبيت امها الين تهدى الامور .. انا بروح عند حارب اشوفه .. يمكن يدري عن شيء وما خبرني ..
يقف ساكنا بعد ان انهى المحادثة .. ليأتيه بطي : ليش جي صاير فيكم ؟ شبيب مب صغير تدورون عليه وتخافون عليه ..
لينظر إليه : بس شغله يخوف ..
ليتركه مبتعدا .. تتكرر الجملة في ذهنه مرارا .. هل يعقل ان احد المجرمين قد أذآه انتقاما منه ؟ .. تنهد وتحرك مهرولا خلف جابر .. ليصعد السيارة معه : بروح وياك ..
بعد اقل من ساعة تعج الصالة في منزل حارب باجسادهم .. متوترون وقلقون .. يبعثرون الاتصالات على من يعرفون .. ولكن لا شيء .. لا خبر يطمئن القلوب .. تنهد فارس وقد انحنى بجسده للامام قليلا .. ناظرا لجابر الذي اغلق هاتفه : ما شيء خبر ؟
ليهز رأسه : ما راح الشغل .. ما شافوه .. قلت يمكن يروح يقلب فهالقضايا المعلقة .. لو بس اعرف شو مستوي وياه بالضبط ..
يضرب بكفيه على فخذيه واقفا : انا بروح البيت .. وشمسه الظاهر مكبره السالفة .. اختي واعرفها .. واحنا مثل الميانين مصدقين ان شبيب فيه شيء ..
"وصلني فطريقك " .. بعثرها بطي .. تركا المكان .. ليبتسم حارب بخفوت : شبيب ما ينخاف عليه .. وصدقه منذر .. الظاهر احنا مكبرين السالفة عشان ولا شيء ..
زفر جابر انفاسه : المصيبة عمي دخل ع الخط بعد .. كل شوي يتصل علي يريد يتطمن .. الله يسامحك يا شبيب ع هالسواه ..
ليترك هو الاخر المكان بعد حين .. ويبقى الصمت رفيقا ثالثا لحارب وفارس .. هدوء مخيف يجمعهما .. ليبعثر فارس الصمت اخيرا : اقنعت ابوها نسوي ملكة الحين والعرس بعدين ..
" احسن لك " .. نطقها .. وسكت .. ومن ثم نطق : وين ممكن يكون ؟
ليلتفت له فارس : تقصد شبيب ؟
- هيه .. ما يختفي بهالشكل الا اذا في سالفة كبيرة .. وشيء عود صاير مب قادر يحمله .. المشكلة ان شبيب ما يتكلم .. ما يقول شو فيه .. مب مثلنا اذا ضاقت فينا الا نقول عشان نريح اعمارنا ..
" تاخر الوقت " .. قالها فارس .. ليقف : اشوفك ع خير ..
خلى المكان الا من جسده وافكاره .. يرتفع بصره ناظرا لساعة الحائط التي قاربت على منتصف الليل .. ها هو من جديد يعود لوحدته الخانقة .. لافكاره التي تدمره .. والليلة لا رغبة له بالبوح لمعشوقته .. تنهد ليقف .. واذا بصوت جرس الباب يضج في المكان .. يصيبه الوجل .. وشيء من خوف يضرب صدره .. ليهرول يفتح الباب .. ليلتقي بذاك مبتسما : تستضيفني ؟
أي سؤال أحمق يا شبيب تطرحه علي ؟ .. اتستأذن مني استضافتك ؟ .. رباه ما بال وجهك شاحبا .. وعيناك وكأن بهما وجع مميت ..
ابتسم : خوفتنا عليك .. البيت مقلوب عندكم .. وحـ.....
رفع كفه يسكته عن الحديث : تعبان يا حارب .. ما اريد اعرف اي شيء .. ولا اريد اقول اي شيء .. ولا اريد اي حد يعرف اني هني ..
تحتضنة الغرفة الخالية بعد دقائق .. يتركها ليلج الى دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. منذُ الامس لم يطعم الراحة .. يرغب بها ولا يجدها .. تثور فيه احاديثها كلما طلب اغفاءة .. يغسل جسده بسيل من المياه .. وهي لا تزال تزوره مرارا .. صوتها يخنقه كلما مر على مسمعه .. ليته لم يسألها ذاك السؤال .. وليته أكتفى بما اخبرته وانتهى ..
يعود إليه صوتها المكسور .. انتفاضة الماضي في صدرها .. سؤاله عن السبب لما حدث .. و صمتها الطويل بعد السؤال .. وحركة كفيها لتمسح دموعها .. يحثها من جديد على المتابعة : ريا ؟ ..
اهتزت شفتيها .. مهتزة معهما نبرة صوتها : خايفة .. حاسه انك تسمعني غصب عنك .. اذا خبرتك بالباقي ...
عاد السكوت يسكنها ويسكنه ... يكابد الغضب .. حتى الآن لا يتخيلها حاسرة الرأس أمام الغُرب .. ملتفة بالضيق والفاضح .. وعيون الرجال تسطر جسدها بلهفة .. حتى الآن يشعر بأن ما قالته ما هو الا حلم لا يصدقه .. فكيف بالباقي الذي اصمتها عن المتابعة .. ارجف جسدها بقوة من تحت ذراعه .. سحب انفاسه بهدوء .. ليشد بكفه على ذراعها يقربها لصدره اكثر : قولي الباقي ..
تؤلمني يا شبيب .. أناملك قاسية .. نبرتك حارقة .. وبيّ تصدعات ترهقني .. ألا يحق لي براحة دقائق ؟ .. يتعبني البوح وجدا .. يسكنني الخوف .. وذراعك القاسية تزيد منه في نفسي .. لما الآن أنت بهذا القرب الصعب ؟ .. لا أرغب بقول الباقي .. فلتدعه في كنف النسيان يا شبيب .. لندعه ارجوك ..
" ريا " .. يناديها لعله يبعثر صمتها الذي يخنقه .. لتنطق مرتجفة الصوت : الحفلات .. ادمنتها .. بس كنت مجتهدة فدراستي .. كل اللي صار وياي كان يخليني دايم فخوف من الفشل فالدراسة ..
شدت بانفاسها شاهقة بعنف .. وكأن جسدها يطالب بالكثير من الاكسجين : مب قادرة .. والله مب قادرة اقول .. احس اني ..
تنتحب ببكاء زاده هلعا على هلع .. لينحني مع انحناءها على ركبتيها .. تصارع البكاء الذي اجتاحها .. يهمس في أذنها : الله يخليج يا ريا .. خبريني ورسيني ع بر .. اللي تسوينه يزيد من النار اللي فصدري .. تكلمي ..
بصوت عالي مكتوم : شربت الخمر يا شبيب .. شربته .. ما قدرت اقاومهم .. شياطين .. وربي شياطين .. صاروا يحتضنوني .. يحبوني (يقبلوني ) .. ايديهم .. انفاسهم كل شيء كان يلمسني وانا صرت مع الوقت عادي ... عادي ..
انتحبت بقسوة .. وهو زاد اعتلاج الانفاس بين اضلعه .. كحرب شنعاء تدوي اصواتها في رئتيه .. مهلكة لقلبه .. يسمعها تتابع بنبرة لا تزال مكتومة خلف اختباء وجهها بذراعيها : صورني وياهم .. لقطات صعب اوصفها لك ..
ارتفع وجهها .. تقاوم ثقل ذراعه على ظهرها لتنتصب في شبه استقامة : صرت ما ادري شو يصير وياي .. اقوم الصبح مرات فشقتي .. ومرات ...
" فقدتي اثمن شيء عندج ؟ " سؤال بنبرة مخيفة اسقطه في مسامعها .. لتطوح رأسها : مادري .. ما ادري عن اللي صار وياي عقب الشرب .. اقوم وانا مب متذكره شيء .. اكثر من مرة رحت العيادة بس خوفي يمنعني اكمل .. حلفت لاهلي اني بنت .. حلفت – يتقطع صوتها خلف بكاءها – وانا مادري عن شيء .. كنت خايفة .. لو صدق راح كل شيء شو بتكون حياتي .. للحين .. عايشة فخوف .. خوف صعب يخليني ..
ابتعد عنها .. يحاول ان يكذب الاحاديث .. الصور المتزاحمة على مخيلته .. جسدها العاري .. قربهم منها .. و نومهم معها .. شعر بان هواء الغرفة ارتحل من هول ما قيل ..
خرج من دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. لا يستر عورته الا ملابسه الداخليه التي اعاد ارتدائها .. ليسحب ثوبه الذي رماه آنفا على السرير .. يرتديه ويستقبل القبلة بعدها .. سيطلب من ربه ان يهديه سواء السبيل .. أن يلهمه الصواب .. أن يبعث في روحه الراحة ..
في الخارج .. يستلقي على الكنب في هدوء .. وجهه لسقف الصالة المزين بالجبس والثريات الانيقة .. يرغب في اقتحام خلوة صاحبه ولا يقوى .. أخبره أن يتركه مع ذاته .. أغمض عينيه .. لم يرى صاحبه بهذا الحال يوما .. وليس باستطاعته ان يسأله .. سحب انفاسه وزفرهن .. لينزل ساقيه ويقف بعدها يحث خطاه الى تلك الغرفة .. يصل ويقف يراجع نفسه .. أيدخل .. أم يعود ادراجه ؟ ..
فتح الباب بهدوء ليلوح له جسد صاحبه المستلقي على السرير .. يخبيء وجهه بذراعه .. والاخرى ربضت على بطنه .. تسربلت على شفتيه ابتسامة هادئة .. ليسحب الباب وقبل أن يغلقه يأتيه صوته : حارب ..
ليعود يفتحه ولا تزال يده ممسكة بمقبضه .. لم ينطق وفضل الصمت ليستمع : شو يعني أنك تحب ؟
ترك الباب ليتقدم يربض على طرف السرير .. يشبك كفيه بين ركبتيه : يعني انك تمتلك انسان .. تكتب عقد بينك وبين قلبك انك تصونه .. تحميه .. تسعده .. حتى لو على حساب نفسك .. انك تخاف عليه من نسمة الهوا .. تغار عليه من نظرة عين .. من لمسة ايد ..
ضحك بخفوت .. ضحكة قصيرة : تحس ان يومك بدونه ولا شيء .. غصب عنك تفكر فيه ليل ونهار ..
" الغيرة " .. قالها وصمت .. ليلتفت له حارب وقد قطب جبينه: شو بلاها الغيرة؟ ..
- مثل غيرتك ع خواتك .. ع محارمك ..
لا جواب .. وكأن السؤال صعب العثور له على تفسير .. وذاك لن يتخلى عن السكوت .. لن يبوح بما في صدره .. لن يثرثر ويملأ المكان بالصراخ والهيجان ليرمي ما يقبع على صدره ويكتم انفاسه .. وقف وتحرك نحوه .. ينظر إليه من علو : شبيب .. صعب علي اشوفك بهالشكل .. اذا اللي صار وياك مب قادر تتحمله حاول تهونه .. لا تفكر فيه وايد وحط له مبررات وحلول .. حتى لو حلول فاشله .. بس المهم خله يطلع من صدرك ..
ينحني يربت على كتفه هامسا : ارتاح .. تصبح ع خير ..
واحة غناء .. وينابيع تتدفق دون هواده .. وصوت ضحكاته في المكان .. يخبره انه بخير .. يمشي بجواره وشعاع نور خافت ينبعث من جسده .. وصوته وكأنه معه حقا : ربك ما يريدلك الا الخير ..
فتح عينيه مناديا باسمه : خالد ..
قبض كفه وكأن به لا يزال يشعر بكف ذاك الفاني ممسكا بها .. أهي رؤيا .. ام اضغاث افكار .. ابتسم بهدوء .. وراحة تمشي الهوينة مخترقة صدره .. لينهض ساحبا ساعته عن " الكوميدينو " .. الوقت فجرا .. ستصدح مكبرات الصوت بالاذان بعد دقائق .. قام ليستعد .. وما هي الا دقائق حتى خرج .. ليرى صاحبه مستلقيا في تلك الصالة القريبة من الغرفة .. هل هو خائف عليه لهذه الدرجة ؟ .. تبسم واقترب منه : حارب .. حروب ..
فز من مرقده يمسح بظهر كفه عينيه : شبيب .. فيك شيء؟
" ليش راقد هني ؟ " .. ابتسم وفقط .. لا داعي ان يخبره بان القلق جعله ينتظر هنا طوال ليلته .. وغافله النوم ليسحبه بعيدا دون شعور منه .. ابتسم الاخر له : بيأذن الفير .. بسبقك ع المسيد ..
هز برأسه وقام واقفا .. حتى هو داهمته الراحة لوجه شبيب الفرح .. لعله وجد الحلول التي قال عنها له آنفا ..
يمر الوقت ليجتمعا على مائدة الافطار الذي اعده عبد الغفور .. يرقب شبيب وهو يأكل .. به شرود يشعره بالخوف .. يرتشف من كوب الشاي ويتسائل بعدها : عادي نخبرهم ؟
ليرفع الاخر بصره لوجه حارب .. وفي يده قطعة خبز يغمسها في كوب الشاي .. ليلتقمها .. حتى ما ابتلعها : قالبين الدنيا صح ؟
تحرك يتربع في جلسته .. يستند على ذراعيه .. شاد جذعه للخلف : تقول مغيبين ياهل ..
انفجر بالضحك .. يتخيل اشكالهم .. لينطق : مب مشكلة .. بتصل عليهم عقب شوي ..
فجأة اقتحم عليهما المكان .. ساخطا .. وصارخا فيهما دون ان يلقي التحية .. يقف بعصبية زائدة لم يعهدوها منه يوما : يا سلام .. انت هني واحنا قالبين عليك البلاد من امس .. وانت – ينظر لحارب- مب قايليك تخبرنا .. من متى وانت هني ..
يعود يرمي شبيب بالغضب : امك طالعة نازله تحاتيك .. وانت ولا همك .. لا وياكم مرتاح ولا بعيد عنكم .. كل شوي متصله ما خلت دعوة ما دعتها علي .. تقول ياهل ما كانك ريال عود وادبر عمرك .. تسوي السواه وانا اللي اكلها ... خاله وخاله .. كأني مسؤول عنك .. شو شايفيني شيبه .. ابوكم ؟ .. ما كاني من عمركم ..ولولا سيارتك الواقفة برع ما عرفنا انك هني ..
ليصرخ بعد أن رأى الصمت منهما : قوم روح البيت .. والا اتصل عليهم ..
تأتيهم التحية فتختلط الاصوات بالجواب .. ليزفر انفاسه حين ربت فارس على كتفه من وراءه : وعليكم السلام ..
" هدي يا منذر " .. قالها ومن ثم نظر لشبيب الذي لا يزال جالسا : الحمد لله ع السلامة .. والله وعرفنا غلاتك فقلوبنا باللي سويته ..
" السموحه منكم " .. ومن ثم قام واقفا .. ليبعثر الكلمات : ما دريت عن نفسي .. كنت اريد اكون بروحي .. مستخسرين هالشيء علي ..
لينطق منذر بحدة : يوم ما تكون امك شمسة ساعتها ما بنستخسر هالشيء عليك ..
يقف حارب : منذر شبلاك شاب علينا .. الريال ياني نص الليل .. وبغى يرتاح .. وتوه قبل لا تدخل كان بيقوم يطمنكم .. عنبوه ما خليت كلمة ما قلتها ..
" ما ينلام " .. قالها فارس وهو يترك الوقوف ليجلس .. ويسكب له من الشاي .. ويقتطع له من الخبز .. مردفا : حياكم كملوا اكل ..
لتنتشر الضحكات الخفيفة في المكان .. وينحني منذر رابتا على كتف فارس : عليك بالعافية .. وراي دوام ..
وبحزم وهو يستقيم : وانت الحين تتصل على امك تطمنها .. واتصل ع عمك بعد .. الريال مب حمل يحاتيك .. وانت تدري هالشيء ..
يتحرك خارجا .. واذا به يلتفت : ولا تسويها مرة ثانية ..
تبعثر الحلم كفتات ورقة يابسة هشمتها الاقدام .. وذرتها الرياح في طريقها .. كُل شيء اضحى في مصاف المستحيل .. وحياته بذرة عارية من قشرها لن تقوى على النمو .. ولج الى منزله بعد ان غاب ساعات الصباح .. يلقي التحية على والدته .. يقبل رأسها ويجلس في سكون .. لتخاطبه : رجع حرمتك يا سالم .. عيالك محتايينك ..
طوح برأسه : ما بترد يا اميه .. وانا خلاص عفتها ..
" وعيالك ؟ " .. قالتها وتحركت تقبض على رسغه باناملها : يا ولدي دوس ع عمرك عشان هاليهال .. والله صورة كنة للحين ما تخوز عن بالي وهي تصيح ما تبي تروح ..
أماه لا تذكري اسمها .. فان به يُقلب حكايات احلامي من جديد .. ويرميني في يم خيبة لا اقواها .. اعدموا حلمي الوحيد يا امي .. اعدموه وقلبي لا يزال ينبض باسمها ..
التفت لها .. يساوره التردد فيما سيقوله .. ليتنهد بخفوت : اميه .. انا لقيت شغل فالشارقة.. ولقيت بيت بعد .. آخر هالاسبوع بننقل مني ..
" شو ؟ " .. صرخت بها .. مبعدة كفها عنه : وعيالك .. انت شو اللي صابك يا سالم .. كنه خبلتبك .. من اول مالك نصيب فيها .. يالس تركض وراها وهي مب لك .. والحين بتخلي كل شيء .. عيالك شو ذنبهم خبرني ..
استغفر ربه .. واردف : اميه فهميني .. كنت عايش ع امل انها فيوم بتكون لي .. والحين مب قادر اعيش هني وهي هناك ما بينا الا شارع .. وعيالي لي الحق ازورهم .. ومن يكبرون باخذهم عندي .. واصلا من تتزوج اللي ما تسمى ما بيكون لها حق فحضانتهم ..
بهدوء وهو يحاول مسك كفها فتتمنع : اميه البعد بيريحني .. الله يخليج ريحيني .. ما بقدر اروح واخليج هني .. خلينا نروح الشارقة .. نبدا من يديد بعيد عن هني .. تحمليني ياميه .. تمحليني .. والله هالاسبوع احس فيه كانه سنين .. راكضت فيه الين لقيتلي شغل غير شغلي .. ولقيتلي بيت .. ساعديني انسى الله يخليج ويطول فعمرج ..
نزلت دموعها .. لتمسحها بطرف " شيلتها " .. تختنق الكلمات ولا تقوى على لفظها .. ليتابع هو : عيالي ما بخليهم .. والحين الحق لها فتربيتهم .. بس صدقيني بيردولي .. غصب عنها بيردولي .. هدوي فراسها شيء وبتسويه .. راكضة ورى واحد ما بغاها ..
ابتسمت ساخرة من قوله .. فهو يرى عيب طليقته ولا يرى عيوبه .. تنهدت : الله يساعدك ..
لتقف مستندة على كفيها .. تتركه في مكانه .. مع تنهيداته المسموعه .. يجول بعيدا مع افكاره التي لا تفتئ في زيارتها له .. ليتحرك فجأة يدس يده في جيب ثوبه مُخرجا ذاك المزعج برنينه .. يقطب حاجبيه لرؤيته اسم المتصل : خير ؟
ليأتيه صوتها المضطرب : الحق على بنتك يا سالم .. طاحت وما تتحرك .. وخوالها محد هني .. تعال بسرعه ..
بعثر الدعوات عليها من فيه .. وهرول خارجا .. ليقتحم بعد حين منزل اهل طليقته .. ثائرا في وجهه والدتها : وينها ..
" داخل " ما ان نطقتها حتى اسرع الخطى ليلج ويرى صغيرته الفاقدة للوعي على ارضية المطبخ .. ورأسها ينزف في كف والدتها التي تحاول ايقاف النزيف بقطعة من الخرق ليصرخ بها وهو ينحني يرفعها عن الارض : لا بارك الله فيج .. شو سويتي فيها ..
يهرول مسرعا وقد تلطخ بدماءها .. وتلك من خلفه صارخة : اصبر بيي وياك ..
لتدبر واذا بصوت عجلات سيارته تصرخ في المكان .. لم يدع لها مجالا لتعود بعباءتها .. لتقع على ركبتيها في ساحة المنزل : كله منك يا سالم .. الله ياخذك .. كرهتني فيها .. الله ياخذك ..
يتخبط في ممرات الطواريء مناديا على طبيب .. لتتحلق حوله عدد من الممرضات يلتقطنها من بين كفيه .. ويختفين معها خلف الجدران .. ليسند ظهره بالجدار : يا رب تنجيها .. يا رب تنجيها ..
يمر به الوقت قاسيا .. يشبر المكان بخطواته ذهابا وايابا .. حتى ما ظهر له الطبيب المناوب .. هرول اليه : طمني .. عساها بخير ..
- الحمد لله .. بتبقى عندنا اربع وعشرين ساعة نطمن عليها اكثر ونسوي لها اشعة .. ديروا بالكم ع عيالكم وهم يلعبون .
عاد هاتفه يرن من جديد .. ليسحبه مجيبا بعنف : نعم ؟
تبتلع ريقها : وين انتوا ؟
وبفحيح غضب : خذي مني باللي يرضيج يا هدى .. ان سمعت ان بنتي صابها شيء والله ما بتشوفيها ليوم الدين .. سامعه ..
,‘,
ساكنة في مكانها منذ ساعة .. تتذكر حديث هاشل لها عن شبيب . وبانه اتصل بوالدته وهو بخير .. لكنه لن يعود الآن .. وذنب بدأ يكبلها.. يعلق لها مشنقة ويخنقها .. لم تخرج من قسمها منذُ تلك الساعات المشؤومة .. المشتته لرمال دفنت الماضي تحتها .. فخرج على السطح مدمرا التواصل الذي سعت إليه جاهدة ..
إستقامت واقفة .. تتحرك نحو الثلاجة الصغيرة في مطبخها الصغير .. كانت مخزن طعامها الذي بدأ ينضب .. ولم يبقى بها الا بضع قناني ماء .. سحبت احداها .. لترتشف منها .. واذا بها تلتفت لصوت الطرقات على باب الصالة .. ومن ثم دخول كنة و شامة ..
تتحرك وتضع الصحن على الطاولة الصغيرة : مسوين فطاير ولازم تاكلين منهن .. صارلج كم يوم لا تتغدين ولا تتعشين .. وما ندري عنج تتريقين ولا لا ..
صوت شامة اجبرها على الابتسام بهدوء .. وتتحرك من مكانها .. لتجلس بمقابلهما على الكرسي المنفرد : مشكورات .. بس مالي نفس ..
" تراه شبيب بخير " .. قالتها كنة واردفت : امس اتصل على امي .. واليوم بعد اتصل يطمنها ..
وبتردد : شو اللي استوى بينكم ؟
زمت شفتيها : سوء تفاهم .. للحين هو ما يعرفني وانا ما اعرفه زين ..
" سمعتي ؟ " .. قالتها وهي ترمق شامة بنظراتها .. لتنظر تلك اليهما .. مستمعة لحديثهما : شبيب وريا غير .. وانا غير .. والمؤمن ما ينلدغ من جحر مرتين .. والا شو رايج يا ريا ؟
هزت رأسها : شو السالفة ؟
لتنطق كنه مجيبة لها : السالفة ولد عمها خاطبنها .. وللحين ما عطت رايها .. وامس تقولي اذا بوافق فبشرط ان تكون الملكة والعرس فنفس اليوم ..
" عادي ما فيها شي " قالتها ريا وهي تمد يدها لتأخذ قطعة الفطائر من يد شامة التي نطقت بدورها : سمعتي .. يعني السالفة عاديه ..
- لا مب عادي .. لازم تفهمون بعض .. تيلسون وييا بعض .. تعرفينه ويعرفج .. مب جذي خبط لزق .. شوفي ريا وشبيب .. للحين مب باين عليهم انهم معرسين .. كل واحد فوادي ..
- بس انا وشبيب غير يا كنة .. وهذا ولد عمها فاكيد تعرفه وتعرف اطباعه ..
تنهدت وهي تلتقف من الصحن قطعة .. وتقضمها .. وبصوت مليء بالمضغ : بطي محد يعرفه زين .. الاحسن لها اذا وافقت تخلي الملكة قبل العرس بكم شهر ..
" بس انا للحين ما وافقت " .. قالتها شامة وهي تقف .. تنظر لكنة : ومابي سوالفنا توصل لشبيب اوكي .. انا ما اريد اللي صار وييا حارب يتكرر وييا بطي ..
قطبت ريا حاجبيها .. تترك نصف الفطيرة في الصحن : بس مب الكل نفس بعض يا شامة .. لا تخلطين المواضيع فبعضها .. خذي وقتج وفكري زين .. واستخيري ان شاء الله تستخرين شهور .. دام عندج الوقت فكري ..
تركتهما .. لتطوح كنة برأسها : عنيدة .. ما كنت اريد اقول السالفة .. بس اشوفها ما تقولج شيء .. قلت احطج فالصورة يمكن تساعدينها .. الا صح .. امايه العودة تسأل عنج .. ما شافتج ع الغدا .. ولا ع العشا ..
" شفتها الصبح " .. نبرتها خافتة .. تعيدها للهرب بافكارها بعيدا .. لتبتسم كنة رابتة على فخذها : لا تحاتين .. كل شيء ان شاء الله بيتعدل .. واذا ع امي .. ترا هذي امي تحمليها ..
تعود لوحدتها بعد ان غادرت كنة .. نزلت دموعها فسارعت لمسحها .. تشعر بثقل فعلها يجثم على صدرها .. يصلها دوما حديث شمسة العالي .. وكأنها تتعمد الدعاء عليها كلما مرت بجانب قسمها .. حررت شعرها لتخلل فيه اصابعها وتنفشه مرارا .. وتعود تشده بالمشبك .. لتقف ويرتفع نظرها لساعة الحائط .. الساعة ستقارب العاشرة ليلا بعد جزء هين من الساعة .. تحركت بخطوات بها شيء من الخوف .. لتخرج وتشد المسير نحو غرفة تلك العجوز .. تطرق الباب ويأتيها صوتها الآذن لها بالدخول ..
تلج مغلقة الباب من خلفها .. تُسرع الخطى لتقبل رأس الجدة .. ومن ثم تمسك كفيها وبرجاء باكي : الله يخيلج ياميه .. خبريه يرد .. قوليله اللي يبيه بيصير بس يرد .. مب قادرة اتحمل انه غايب بسبايبي .. والله مب قصدي والله كل اللي قلته هو جبرني اقوله .. انا .. انا ما اريد اي شيء .. ما اريد اي شيء .. بس لا يحملني دعاوي امه علي ..
تحوقلت مرارا .. وتلك لا تدع لها فرصة لتنطق .. لتتكلم اخيرا حين كبلتها شهقتها عن المتابعة : يابنتي لا تسوين بعمرج جذي .. شبيب عاقل ما ياخذ بكلام الحريم ..
- بس هذا مب كلام .. هذا شي صـ ..
تضع كفها على ثغرها : لا تقولين شيء .. اللي بينكم ما يطلع يابنتي ..
مسحت دموعها : انزين اتصلي عليه .انا ما عندي فون اتصل .. والله .. اللي يريده بسويه .. بس يرد البيت .. خواته وامه وانتي محتايينه .. دوم كان وياكم .. ما اريد اكون السبب اللي يخليه يخليكم .. ويخلي بيته ..
مسحت على رأسها : ان شاء الله ما يصير الا الخير .. قومي صلي لج ركعتين قبل ترقدين .. وادعي ربج ..
" بتخبريه ؟ " .. رجاء منها ابتسمت له تلك العجوز .. لتبتسم هي من بين دموعها .. تحني رأسها تقبله : تصبحين ع خير ..
- تلاقين خير .
راقبتها بنظراتها حتى خرجت .. لتنطق : تعال يا شبيب ..
كان هناك في دورة المياه ( اكرمكم الله ) بعد ان تناول بضع تمرات من الوعاء القابع بجانب جدته .. ظل في هدوءه مستمعا لها .. وكان قبلا جالسا حيث كانت .. يبعثر الكلمات على مسامع العجوز .
دنى منها ليجلس .. يسمعها : البنت حتى لو غلطت باين انها اصيله ياولدي .. لا تخلي كلام اهلها يغيرك عليها .. ما اعرف شو صار بينكم .. ولا شو قالتلك .. بس من يوم يومك تحكم عقلك .. فلا تخليه بعيد الحين .. هذي حياتك وحياتها وياك ... ولا تنسى ان مالها حد من بعد ربك الا انت .. اكسب فيها أجر ..
قبل رأسها وغادر بعد ان تمنى لها ليلة سعيدة .. خطوة نحو الحياة تلك التي سيقوم بها هذه الليلة .. وتلك الجملة من فيه خالد منذُ ليلتين تزوره كثيرا .. تبث في نفسه طمأنينة غريبة .. ولج الى قسمه من بعد ان مر على والدته في الصالة مقبلا رأسها هي الاخرى ومتمنيا لها ولشقيقتيه صباح يحمل في طياته الخير .. وحث خطاه الى الغرفة ذات الباب الموارب .. سحب انفاسه ودخل لحظة خروجها من دورة المياه ( اكرمكم الله ) .. نظرت إليه تتأكد بأنه هو لا خياله الذي ينظر إليها .. شُلت عن الحركة .. تمنت لو خطت نحوه تتبين حقيقته .. لو انها احتظنته وبكت مترجية ان لا يتركها .. لو ان الحياة لا تُخسرها اكثر ..
في شرودها ذاك التقفت يده كفها البارد .. لتشهق بخفوت وكأنها تعود إلى واقعها .. تسمعه بنبرته الخافتة : متوضية ؟
لم تجد الكلمات سبيلا لتخرج من فيها .. لتهز رأسها بنعم .. لتجد نفسها بعد ثواني تقف معه في استقبال القبلة .. تصلي معه ركعتين .. تسمعه يتمتم بالدعاء : اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي في، اللهم ارزقهم مني وارزقني منهم، اللهم اجمع بيننا ما جمعت في خير وفرق بيننا إذا فرقت في خير..
اصابتها رجفة باردة سرت في اوصالها .. ولسانها يأمن من خلفه في خفوت .. يغدق بالدعاء لربه .. فتسيل دموعها خوفا .. كانت كالمغيبة .. لم تشعر به وهو يستدير نحوها .. الا حين وضع يده على رأسها .. طأطأت بنظرها لركبتيها .. يتمتم من جديد : اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ..
بكت .. لترتجف شفتيها .. وبنبرة مبحوحة : خايفة ..
تبسم .. يرفع وجهها المبتل .. ينظر إليها لبرهة : بنت او مب بنت .. مب مهم .. المهم انج تبتي لربج توبة نصوحه ..
تقوست شفتاها .. لا تعلم لما صارت معطاءة لدموع بهذا الشكل .. هل دموع الماضي التي لم تسقط استفزتها لحظات المصارحة فقامت من سباتها الطويل .. ام ان الوضع يستدعي ان تضعف بين ذراعيه .. وهو لا يعلم لماذا لثم جبينها مطولا .. لعله يبحث عن القوة لمسعاه .. او لعله يستمد الهدوء من ضعفها ..
,‘,
الفرحة تعتلي وجهها البريء .. تثير الغضب في جنبات والدتها من تصرفها .. تزجرها مرارا لكن دون فائدة .. لم تنم هذه الليلة باكراً كما اختها .. فقبعت بجوار والدتها تنتزع الملابس من الاكياس .. تقيس هذا وترمي ذاك .. وتثرثر : أماية سويلي نفس هذا ..
تركت يد الماكينة لتنظر لكلثم وقد زفرت انفاسها .. تحرك جسدها لتنزع القميص عن كلثم : حبيبتي هذي ملابس ناس .. بعدين تتوصخ ..
تضعه جانبا .. وتعود لعملها ليضج الصوت الصاخب في ارجاء الغرفة .. وتعود تلك الصغيرة تبعثر الاقمشة : ما بتتوسخ ..
ترفع فستانا وتقيسه على جسدها : شوفي أمايه .. ايوزلي .. البسه ؟
بعثرت انفاسها بقسوة .. لتشد الفستان من بين كفي صغيرتها : كلثوم تراج مصختيها .. قومي روحي رقدي وخليني اشوف شغلي ..
تقوست شفتاه قليلا .. لتجلس القرفصاء : ما بسوي شيء ..
وتعود الاخرى من جديد تحرك الماكينة وتثرثر : حبيبتي بعدين الناس بيزعلون امج اذا توصخت ملابسهم .. تبينهم يزعلوني ؟
هزت رأسها بلا .. ومن ثم نطقت : متى ارد البيت ؟
سكنت عن الحركة .. هدأ المكان .. لا شيء سوى صوت احد الاكياس تحركه كلثم باناملها الصغيرة : قلت حق شبشب يومين .. الحين كم صارن ؟
" ستة " .. قالتها بدرية بخمول طوقها .. لتتتابع الصغيرة : بيزعل مني ..
انسكبت دموعها : وانا عادي ازعل ؟
رفعت نظرها لوالدتها .. لتقف وتدنو منها تحتضن وجهها بكفيها الصغيرين .. تديره باتجاهها : ليش تصيحين ؟
شدتها الى صدرها بعنف .. وكأنها تدمجها بجسدها المنهك شوقا : اريدج وياي .. مشتاقتلج تكونين عندي مثل قبل .. ما اباج تروحين .. لا تقولين ان بيت شبيب بيتج .. هذا بيتج .. هني امج واختج .. هني مريوم اللي تلعب وياج دوم ..
بصوت يشوبه الفرح وبراءة طفلة : هناك بعد هاشل يلعب وياي دوم ..
ابعدتها عن صدرها .. ناظرة الى وجهها : بس انا اباج هني .. ما اباج تروحين عندهم .. خبريهم انج ما تبين تردين .. خبريهم انج تبين تيلسين هني ع طول ..
صمتت الصغيرة تنظر لوجه والدتها .. لتصرخ بها فجأة : خلاص روحي .. اصلا غسلوا مخج .. صرتي ما تشوفين الا هم .. نسيتيني ونسيتي مريوم ..
دفعتها من صدرها عنها : روحي ..
وتعود تنهمك في عملها .. متجاهلة صوت صغيرتها : امايه لا تزعلين .. خلاص مابروح .. لا تزعلين ..
يسكنها صوت الطرق على باب المنزل .. وصوت الجرس الذي صرخ يثير الرعب في قلبها .. تسمي بالله وجدا .. وتقف تشد غطاءها .. وتبتعد عن المكان ومن خلفها تمشي صغيرتها الباكية التي توقفت عند باب الغرفة تنتظر عودة امها .. حتى ما وصلت تلك لباب المنزل .. وبخوف : منو ؟
" فتحي يا بدرية " .. شهقت بخوف .. وتمتمت : عيد ؟
ليصرخ بها من جديد ان تفتح .. لتستجيب له .. وما ان ولج حتى شدها من ذراعها معه الى الداخل بعد ان اغلق الباب .. يدفعها الى الصالة : عايبنج الحين ؟ منو قالج تخبرين عن عوض ؟
لتصرخ به : يستاهل .. يزاه واقل من يزاه ..
تثور انفاسه بغضب .. وتتحرك شفتاه بقسوة .. لينفث كلماته : عطيني فلوس ؟ محتاي فلوس ؟
" ما عندي " .. قالتها بحزم .. ليلطمها على وجهها وتصرخ به : الله ياخذك ..
يشد على ذراعها يهزها بعنف .. يلفح وجهها بانفاسه : والله يا بدرية ما بتشوفين خير .. اقولج عطيني فلوس ..
لم يشعر الا بصوت كلثم الصارخة وهي تدفعه بكفيها بعيدا عن والدتها : خوز عنها .. خوز ..
لم يكترث لها . فقوتها كذبابة لا تحرك منه شيء .. شد باصابعه على فكها : اللي سويتيه ما بيعدي بالساهل يا بدريوه .. عوض ما بيسكت عن حقه .. بيدمرج وبيدمرني وياج ..
صرخ باقسى ما يستطيع حين غرزت كلثم اسنانها في ذراعه .. ليحرك ذراعه بكامل قوته .. ويدفعها بعيدا لتصطدم بالجدار وتسقط على الارض متكومة .. تضج صرخة من بدرية باسمها في الارجاء .. وتدفعه مهرولة نحوها تلتقفها ,, وتشدها الى صدرها : قتلتها .. الله لا يبارك فيك .. الله ينتقم منك ..
ليصيبه الهلع بسبب صراخ بدرية ودعواتها عليه .. يهرول مبتعدا من المكان .. لا ينقصه مصيبة اخرى توضع مع مصائبه ..
,‘,
الفجر بهدوءه يبعث الراحة في الانفس .. أفاقت من مرقدها .. تشتت نظرها على السرير .. هو ليس هنا .. تذكرت ما حدث بينهما .. فسحبت انفاسها لتستقيم جالسة .. خوف اعتراها فجأة .. تمتمت بهدوء : يا رب ..
لتترجل وتقف لتضيء الغرفة تتأكد من الوقت .. الفجر مر عليه ربع من الساعة وشيء من دقائق اخرى .. اختفت خلف دورة المياه ( اكرمكم الله ) لتغتسل .. ومن ثم تفرش سجادتها وتصلي .. مرت الدقائق قاتلة لها .. وهو لا اثر له .. هل عاد ليختفي بعد ما اكتشفه ؟ هل عذريتها مفقودة منذُ سنين ؟ ..
تحركت خارجة من الغرفة .. تحاول ان تشغل نفسها باي شيء حتى لا تفكر بالامر .. تنتشل لها كتابا في علم النفس وتجلس لتقرأه .. لم تشعر الا بعقلها يثير آلآف التساؤلات .. غيابه لا مبرر له الا انها ليست بعذراء .. مؤكد انه غاضب وجدا .. لا يوجد رجلا يقبل ما مرت به هي .. تدحرجت دموعها لتخبيء وجهها بكفيها .. متناسية الكتاب الذي سقط ارضا .. وسرعان ما تشد على فيها باناملها .. اهانة تستشعرها .. هي زانية اذا .. ظلت في شكوكها سنوات طوال .. تمني النفس بالعذرية ..
لم تستغفر يوما عن جريمة زنا .. لم تطلب العفو لغلطة شنعاء مثل هذه .. وقفت لتحث خطاها لداخل .. تفترش سجادتها بخوف يرجف اطرافها وكأنها عارية في اجواء صقيعية .. سجدت واطالت السجود منتحبة .. تردد : اللهم اعفو عني ..
مرارا وتكرارا .. اجهشت بالبكاء تختنق بالكلمات .. تتخبط في الدعاء .. كم ان الشعور بالذل قاسي .. استحلت ما حرم الله حتى وصلت لامر تقشعر له الابدان .. غرقت في النحيب الذي اتعبها وجدا ..
هاله منظرها وهي ساجدة مستميتة في البكاء .. ليتحرك نحوها راميا الكيس الصغير الذي كان في يده على السرير .. ليقبع بجوارها ينحني يمسكها من كتفيها ينتشلها من سجودها : ريا شو بلاج ؟
ارتجفت بين كفيه .. لا تقوى على النطق .. تنظر الى وجهه الذي لا تكاد ترى معالمه . ليعود ينطق : بسم الله عليج .. شو مستوي ..
تحاول ان تنطق ولا تقوى .. لتتحرر اخيرا الحروف بتقطع يثير في داخله الهلع : مب .. مـ..
يتركها مكانها ويبتعد ينتشل قنينة ماء من على " الكوميدينة " ويعود اليها يسقيها منها .. ويعاود سؤالها : شو فيج ؟ يا بنت الناس طيحتي قلبي ..
انتحبت من جديد : ما كنت اظن اني ..
تحوقل .. ليضع ما في يده جانبا .. يعود يمسكها من كتفيها يهزها : ريا .. انتي بنت ..
تهز رأسها بعنف تضحك من بين دموعها وتعود تبكي : لا تكذب علي .. لا تكذب .. ليش رحت وخليتني اذا بنت .. قول انك – تبتلع ريقها بصعوبة وتتابع – انصدمت ..
يحتضن وجهها بقوة بين كفيه حتى انضغطت شفتيها .. يبتسم في وجهها : محد لمسج قبلي .. والله محد لمسج قبلي ..
توالت شهقاتها .. ولم تشعر الا وهو يدسها في صدره .. يحلف لها أيامين مغلظة بانه صادق في كلامه .. لتختلط دموعها بالضحكات ..
,‘,
هُنا أقف .. متمنية لكم شهر تكونون فيه من العتقاء من النار ..
وموعدنا باذن الواحد الاحد في شوال ..
كل عام وانتم بخير
|